كلنا ذوو خطأ


الحلقة مفرغة

الحمد لله الواحد الأحد الكريم الوهاب، الرحيم التواب، غافر الذنب وقابل التَّوب شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو، يحب التوابين ويحب المتطهرين، ويغفر للمخطئين المستغفرين، ويقيل عثرات العاثرين، ويمحو بحلمه إساءة المذنبين، ويقبل اعتذار المعتذرين، لا إله إلا هو إله الأولين والآخرين، وديَّان يوم الدين، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه، يوم لا ينفع مال ولا بنون.

اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يُرجع الأمر كله. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6] يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات، ويعلم ما تفعلون.

وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين؛ فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وأسأل الله الكريم، رب العرش العظيم أن يجمعنا وإياكم في هذه الحياة على الإيمان والذكر والقرآن، وأن يجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله، ثم يجمعنا بكم سرمدية أبدية في جنات ونهر بحبكم فيه.

واسأله أن يظلنا وإياكم تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله، اللهم لا تعذب جمعاً التقى فيك ولك، اللهم لا تعذب ألسنة تخبر عنك، اللهم لا تعذب قلوباً تشتاق إلى لقاك، اللهم لا تعذب أعيناً ترجو لذة النظر إلى وجهك، يا أرحم الراحمين! ويا أكرم الأكرمين! اللهم كلنا ذوو خطأ، وما لنا إلا عفوك وحسن الظن بك، وحب من تحب، فأقل عثراتنا، وتجاوز عن أخطائنا، وأنت أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين.

يظن الناس بي خيراً وإني     لشر الناس إن لم تعف عني

ومالي حيلة إلا رجائي     وعفوك إن عفوت وحسن ظني

والله لو علموا قبيح سريرتي     لأبى السلام عليَّ من يلقاني

ولأعرضوا عني وملُّوا صحبتي     ولبؤت بعد كرامة بهوان

لكن سترت معايبي ومثالبي      وحلمت عن سقطي وعن طغياني

فلك المحامد والمدائح كلها      بخواطري وجوارحي ولساني

اللهم اجعلني خيراً مما يظن الظانُّون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤآخذني بما يقولون.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن سهلاً إذا شئت.

أحبتي في الله: أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله عز وجل في السر والعلانية؛ فهي وصية الله للأولين والآخرين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131].

راقبوا الله جل وعلا فما راقبه عبد وزل وأخطأ إلا آب وعاد وحاله: رحماك يا رب رحماك

رب يا رب ويا رب الورى     ما ترى في عبد سوء ما ترى

خلق الله السماوات سبعاً، وخلق الأرضين سبعاً، وفي مجموع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحاح: أن ما بين الأرض وما بين السماء الدنيا مسيرة خمسمائة عام، وما بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، وسمك كل سماء مسيرة خمسمائة عام، ومن فوق السماء السابعة مسيرة خمسمائة عام، ومن فوق ذلك عرش الرحمن، ومن فوقه ربنا سبحانه وبحمده بائن من خلقه، مستو على عرشه مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة:7] متى ما علمت هذا واستشعرته فأنت من المتقين.

إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل     خلوت ولكن قل علي رقيب

ولا تحسبن الله يغفل ساعة      ولا أن ما تخفيه عنه يغيب

خوف عمر بن الخطاب من الله ومراقبته له

ها هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه في بستان من بساتين الأنصار، وأنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه يراقبه وهو لا يراه، وإذا بـعمر يقف وقفة محاسبة، ووقفة مراقبة مع نفسه ويقول: [[عمر أمير المؤمنين! بخ بخ، والله لتتقيّن الله يا عمر! أو ليعذبنك الله، والله لتتقين الله أو ليعذبنك الله]].

عمر الذي يأتيه أعرابي قد قرص الجوع بطنه، وبه من الفقر ما به، ويقف على رأسه ويقول:

يا عمر الخير جزيت الجنه

اكس بنياتي وأمهنه

وكن لنا في ذا الزمان جنه

أقسم بالله لتفعلن

قال: وإن لم أفعل يكون ماذا؟ قال:

إذاً أبا حفص لأمضين

قال: وإذا مضيت يكون ماذا؟ قال:

والله عنهن لتسألن

يوم تكون الأعطيات منه

وموقف المسئول بينهن

إما إلى نار وإما إلى جنه

فلم يملك عمر رضي الله عنه وأرضاه إلا أن ذرفت دموعه على لحيته رضي الله عنه وأرضاه، ودخل ولم يجد شيئاً في بيته، فما كان إلا أن خلع رداءه وقال: خذ هذه يوم تكون الأعطيات منة، وموقف قف المسئول بينهن، إما إلى نار وإما جنة.

هكذا تكون مراقبة الله عز وجل وهكذا تكون تقوى الله عز وجل.

خوف عمر بن عبد العزيز من الله

وعمر الثاني عمر بن عبد العزيز وهو يلي أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام، ويفيء الله على المسلمين فيئاً وهذا الفيء تفاح، فأراد أن يقسمه على الرعية، وبينما هو يقسم هذا التفاح إذ امتدت يد صبي من صبيانه -طفل صغير- فأخذ تفاحة ووضعها في فمه، فما كان من عمر إلا أن أمسك بفيه وأوجع فكيه، واستخرج التفاحة من فمه وردها بين التفاح، والطفل يبكي -ابن عمر يبكي- ويخرج ويذهب إلى أمه يذكر لها الحادثة.

فترسل غلاماً من البيت ليشتري لهم تفاحاً وعمر بن عبد العزيز يقسم الفيء على المسلمين وينسى نفسه فلم يأخذ تفاحة واحدة، ويذهب إلى البيت فيشم رائحة التفاح في بيته، فيقول: [[ من أين لكم هذا ووالله ما جئتكم بتفاحة واحدة؟ ]] فأخبرته الخبر، قالت: جاء ابنك يبكي، فأرسلت الغلام وجاء له بهذا التفاح، قال: [[يا فاطمة ! والله لقد انتزعت التفاحة من فمه وكأنما أنتزعها من قلبي، لكني والله كرهت أن أضيع نفسي بتفاحة من فيْء المسلمين يأكلها قبل أن يقسم الفيء]].

هكذا تكون مراقبة الله جل وعلا، وهكذا تكون تقوى الله جل وعلا، وبها النجاة: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُون [الزمر:61].

ما راقب عبد ربه إلا أفلح وفاز، وما الحياة الدنيا إلا متاع، ما راقب عبد ربه فزلت به قدمه فأخطأ، فارتكب فاحشة إلا عاد نادماً حسيراً كسيراً؛ فيتقبله ربه وهو أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين بمنه وكرمه.

ها هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه في بستان من بساتين الأنصار، وأنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه يراقبه وهو لا يراه، وإذا بـعمر يقف وقفة محاسبة، ووقفة مراقبة مع نفسه ويقول: [[عمر أمير المؤمنين! بخ بخ، والله لتتقيّن الله يا عمر! أو ليعذبنك الله، والله لتتقين الله أو ليعذبنك الله]].

عمر الذي يأتيه أعرابي قد قرص الجوع بطنه، وبه من الفقر ما به، ويقف على رأسه ويقول:

يا عمر الخير جزيت الجنه

اكس بنياتي وأمهنه

وكن لنا في ذا الزمان جنه

أقسم بالله لتفعلن

قال: وإن لم أفعل يكون ماذا؟ قال:

إذاً أبا حفص لأمضين

قال: وإذا مضيت يكون ماذا؟ قال:

والله عنهن لتسألن

يوم تكون الأعطيات منه

وموقف المسئول بينهن

إما إلى نار وإما إلى جنه

فلم يملك عمر رضي الله عنه وأرضاه إلا أن ذرفت دموعه على لحيته رضي الله عنه وأرضاه، ودخل ولم يجد شيئاً في بيته، فما كان إلا أن خلع رداءه وقال: خذ هذه يوم تكون الأعطيات منة، وموقف قف المسئول بينهن، إما إلى نار وإما جنة.

هكذا تكون مراقبة الله عز وجل وهكذا تكون تقوى الله عز وجل.

وعمر الثاني عمر بن عبد العزيز وهو يلي أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام، ويفيء الله على المسلمين فيئاً وهذا الفيء تفاح، فأراد أن يقسمه على الرعية، وبينما هو يقسم هذا التفاح إذ امتدت يد صبي من صبيانه -طفل صغير- فأخذ تفاحة ووضعها في فمه، فما كان من عمر إلا أن أمسك بفيه وأوجع فكيه، واستخرج التفاحة من فمه وردها بين التفاح، والطفل يبكي -ابن عمر يبكي- ويخرج ويذهب إلى أمه يذكر لها الحادثة.

فترسل غلاماً من البيت ليشتري لهم تفاحاً وعمر بن عبد العزيز يقسم الفيء على المسلمين وينسى نفسه فلم يأخذ تفاحة واحدة، ويذهب إلى البيت فيشم رائحة التفاح في بيته، فيقول: [[ من أين لكم هذا ووالله ما جئتكم بتفاحة واحدة؟ ]] فأخبرته الخبر، قالت: جاء ابنك يبكي، فأرسلت الغلام وجاء له بهذا التفاح، قال: [[يا فاطمة ! والله لقد انتزعت التفاحة من فمه وكأنما أنتزعها من قلبي، لكني والله كرهت أن أضيع نفسي بتفاحة من فيْء المسلمين يأكلها قبل أن يقسم الفيء]].

هكذا تكون مراقبة الله جل وعلا، وهكذا تكون تقوى الله جل وعلا، وبها النجاة: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُون [الزمر:61].

ما راقب عبد ربه إلا أفلح وفاز، وما الحياة الدنيا إلا متاع، ما راقب عبد ربه فزلت به قدمه فأخطأ، فارتكب فاحشة إلا عاد نادماً حسيراً كسيراً؛ فيتقبله ربه وهو أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين بمنه وكرمه.

الله عز وجل رحيم بل هو رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما، رحمته وسعت كل شيء وسبقت غضبه سبحانه وبحمده، له مائة رحمة، أنزل لنا في هذه الدنيا رحمة واحدة، فبها يتراحم الخلق كلهم ناطقهم والأعجم، صغيرهم والكبير، حتى إن الدابة لترفع رجلها لوليدها ليرضع منها ثم يذهب بهذه الرحمة، فإذا كان يوم القيامة رفع الله هذه الرحمة إلى تسع وتسعين رحمة عنده سبحانه وبحمده، فيتطاول إبليس ويظن أن رحمة الله ستسعه في ذلك اليوم، فيا من رحمته وسعت كل شيء! ارحمنا برحمتك.

اسمع لنبيك صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري يوم يأتيه سبي وإذا بامرأة من بين هذا السبي تبحث عن صبي لها فقدته، لا تلوي على شيء، كلما وجدت طفلاً قلبته ونظرت فيه فإذا به ليس طفلها، ثم تجد ابنها بعد مشقة وعناء فتلصقه ببطنها وترضعه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم يرقبون الموقف، وإذا بها تذرف الدموع -دموع الفرح- على ابنها وهو على ثديها، فيقول صلى الله عليه وسلم: (أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قال الصحابة: لا والله يا رسول الله. فقال رسول الله: لله أرحم بعباده من هذه بولدها).

يا كثير العفو عمن كثر الذنب لديه     جاءك المذنب يرجو الصفح عن جرم لديه

أنا ضيف وجزاء الضيف إحسان إليه

نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الحجر:49] وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ [الحجر:50].

أحبتي في الله: كثيراً ما يضل الإنسان في الطريق، وينحرف عن الجادة، بوازع الجهل والهوى أحياناً واستجابة لإغراء عابث أحياناً، أو لشهوة جامحة قوية، الأمر الذي يهبط بمستواه الإنساني ويحول بينه وبين الطهر والتسامي؛ فتسقط قيمته، وينحط إلى الدرك الأسفل من الرذيلة والعار، تتجه قواه كلها إلى إشباع غرائزه وإيثار لذائذه؛ فيسقط إلى منزلة البهيمة، حتى إنك لتجده بأذن لا تسمع، وبعين لا تبصر، وبقلب لا يفقه، تجده بهيمة في مسلاخ بشر، والإنسان قد تمر به ساعة تنام فيها قواه، ويغفو فيها ضميره، وتستيقظ غرائزه؛ فيسقط صريع الهوى والشهوة والشبهة، فيا له من سقوط، ويا لحقارتها من لذة مؤقتة تورث النار.

تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها     من الحرام ويبقى الإثم والعار

تبقى عواقب سوء من مغبتها     لا خير في لذة من بعدها النار

وكلنا ذوو خطأ! والمعصوم من عصمه الله جل وعلا، على كل واحد منا أن يذكر فلا ينسى أنه لم يخلق ملكاً كريماً، ولم يخلق بشراً معصوماً، وإنما هو إنسان تتنازعه قوى الخير والشر، فتارة يغلب خيره شره فهو خير من الملائكة، وتارة يغلب شره خيره فهو شر من البهائم -كما قال ابن القيم -عليه رحمة الله- و(كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون).

كلنا ذوو خطأ! في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله فيغفر لهم)، فلابد من الخطأ، ولابد من التقصير، وكلنا ذوو خطأ!

من ذا الذي ما ساء قط     ومن له الحسنى فقط

تريد مبرأً لا عيب فيه     وهل نار تفوح بلا دخان

لكن إياك أن تبقى على الخطأ! إياك أن تدوم على المعصية! فإن المعصية شؤم، وإن المعصية عذاب، وإن المعصية وحشة، وإن المعصية غضب من الله الواحد الديان، وقد يحبس عن أمة خير بمعصية من فرد واحد لم يأمروه ولم ينهوه، نسأل الله ألا يحرمنا خير ما عنده بشر ما عندنا.

هاهم بنو إسرائيل -كما في كتاب التوابين لـابن قدامة - يلحق بهم قحط على عهد موسى عليه السلام، فاجتمعوا إلى موسى وقالوا: يا نبي الله! ادعُ لنا ربك أن يسقينا الغيث.

فقام معهم، وخرجوا إلى الصحراء ليستسقوا وهم سبعون ألفاً أو يزيدون، فقال موسى: إلهنا اسقنا غيثك، وانشر علينا رحمتك، وارحمنا بالأطفال الرُّضَّع، والبهائم الرُتَّع، والشيوخ الرُّكَّع، فما ازدادت السماء إلا تقشعاً، ذهب السحاب الذي في السماء، وما ازدادت الشمس إلا حرارة، فقال: يا رب! استسقيناك فلم تسقِنا، فقال: يا موسى إن فيكم عبداً يبارزني بالمعصية منذ أربعين عاماً، فمُرْهُ أن يخرج من بين أظهركم؛ فبشؤم ذنبه مُنِعْتم القطر من السماء، قال: يا رب! عبد ضعيف، وصوتي ضعيف، أين يبلغ وهم سبعون ألفاً أو يزيدون؟ فأوحى الله إليه -سبحانه وبحمده-: منك النداء وعلينا البلاغ.

فقام ينادي في سبعين ألفاً، قائلاً: يا أيها العبد العاصي الذي بارز الله بالمعصية أربعين عاماً!

اخرج من بين أظهرنا؛ فبشؤم ذنبك مُنِعْنَا القطر من السماء، فيوحي الله إلى موسى أنه تلفت هذا العبد يميناً وشمالاً لعله يخرج غيره، فعلم أنه المقصود بذلك، فقال في نفسه: إن خرجت افتضحت على رءوس بني إسرائيل، وإن بقيت هلكت وهلكوا جميعاً بالقحط والجدب.

فماذا كان منه ؟ ما كان منه إلا أن أدخل رأسه في ثيابه، وقال: يا رب! عصيتك أربعين وأمهلتني، واليوم قد أقبلت إليك طائعاً تائباً نادماً، فاقبلني واسترني بين الخلق هؤلاء يا أكرم الأكرمين!

فلم يستتم الكلام حتى علتْ السماء سحابة بيضاء، فأمطرت كأفواه القِرَب، فقال كليم الله لربه: يا رب! سقيتنا ولم يخرج من بين أظهرنا أحد. فقال: يا موسى! أسقيتكم بالذي منعتكم به -بنفس العبد الذي منعتكم به أسقيتكم به- قال: يا رب! أرني هذا العبد الطائع التائب النادم، قال: يا موسى! لم أكن لأفضحه وهو يعصيني أفأفضحه وهو يطيعني؟!

يا من ألوذ به فيما أؤمله     وأستعيذ به مما أحاذره

لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره      ولا يهيضون عظماً أنت جابره

لا إله إلا الله! ما أرحم الله! ما أحلم الله! هو القائل: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135] ما جزاؤهم ؟ أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُم مغْفِرَةٌ من ربِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:136] هو القائل كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرت لك ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا بن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة)

سبحان من يعفو ونهفو دائماً     ولم يزل مهما هفا العبد عفا

يعطي الذي يخطي ولا يمنعه     جلاله عن العطا لذي الخَطَا

يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها، هو القائل كما في الحديث القدسي: (يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم) هو القائل في كتابه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ [التحريم:8].

ما أكرم الله جل وعلا! ما أكرم الله سبحانه وتعالى! وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [الشورى:25] ولن يهلك على الله إلا هالك.

فيا مخطئاً! وكلنا ذوو خطأ، ويا من سقط في المعصية! وكلنا ذاك الرجل؛ ويا من زلَّتْ قدمه! وكلنا ذاك الرجل؛ صحح أخطاءك، وعالج أمراضك، وغسِّل نفسك مما قد ران عليها، واستأنف الحياة في ثوب التوبة النقي النظيف، واسمع لداعي الله جل وعلا يوم يقول: وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].

توضأ بماء التوبة اليوم نادماً     به ترق أبواب الجنان الثمانيا

كلنا ذوو خطأ! والله يمهل ولا يهمل، ويحب التوابين والمتطهرين، ولذلك فتح باب التوبة أمام المخطئين ليتوبوا ويئوبوا ويعودوا إلى رشدهم، فيغفر لهم ما اقترفوه من إثم وخطيئة، وموبقة وصغيرة وكبيرة ؛ فله الحمد أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً.

قصة رجل من بني إسرائيل

هاهو كما في البخاري : رجل من بني إسرائيل، أسرف على نفسه كثيراً، وهو موحد لم يشرك بالله جل وعلا، قتل وزنا، وسرق وغش، وكذب واحتال، وشهد الزور وأساء كل الإساءة، انتهك حرمات الله، تكبر وتجبر، وحلت به سكرات الموت التي لم يُعفَ منها أحد حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمع أبناءه في تلك الساعة، ساعة لا ينفع فيها مال، ولا ينفع فيها ولد، ولا ينفع فيها منصب، ولا ينفع فيها جاه، جمع أولاده وقال: أي أبٍ كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: فوالذي نفسي بيده ما عملت خيراً قط، غير أني أشهد أن لا إله إلا الله، فإذا أنا مت فأضرموا فيَّ ناراً، ثم ألقوني في النار حتى أصير فحماً، ثم اسحقوني، ثم ذروني مع الريح.

فمات فنفّذوا وصيته وأضرموا له النار، ورموه فيها حتى صار فحماً، ثم سحقوه، ثم ذروه مع الريح، وتفرق على ذرى الجبال، وعلى رءوس الأشجار، وعلى السهول والوِهَاد والأنهار، لكن الذي بدأه أول مرة يعيده.

قال الله له: كن؛ فكان، قال: يا عبدي ما حملك على ما صنعت؟ أما علمت أني أستر العيب، وأغفر الذنب؟ قال: يا رب! خفتك وخشيت ذنوبي، قال: أشهدكم يا ملائكتي بأني قد غفرت له وأدخلته الجنة.

فلا إله إلا الله، ما أرحم الله! ما ألطف الله بعباده! ما أحلم الله على عباده! وَمَن يَعْمَلْ سُوءً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رحِيماً [النساء:110] وكلنا ذوو خطأ!

قصة العابد والمرأة البغي

هاهي امرأة بَغِيّ، بارعة الجمال، لا تمكن من نفسها إلا بمائة دينار، وتمر على عابد ما عصى الله طرفة عين، يتعبد لله في صومعة من الصوامع، فيفتتن بها، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فاتقوا الدنيا واتقوا النساء} افتُتن بها فراودها عن نفسها، فأبت أن تمكنه إلا بمائة دينار، وهو لا يملك ريالاً ولا ديناراً ولا درهماً، فماذا كان منه؟ كان منه أن ترك صومعته وذهب يكدُّ ويتعب، وجمع المائة الدينار.

ثم ذهب إلى هذه البغي في بيتها وفي قصرها، طرق عليها الباب، ويوم طرق عليها الباب خرجت، ويوم خرجت قال لها: هأنذا، قد جمعت المائة دينار وجئت، قالت: ادخل. فدخل إليها في قصرها، فَعَلَتْ على سرير من ذهب، وتزينت في كامل زينتها، ويوم تزينت في كامل زينتها قالت: هلمَّ إليّ، فسقط جالساً.

قالت: قد كنت تزعم أنك ستجمع وتأتي، فلما مكنتك من نفسي تجلس، قال: ذكرت وقوفي بين يدي الله -عز وجل- فلم تحملني أعضائي لأقف، فما كان منها هي أيضاً إلا أن ارتعدت وارتعشت وخافت ووجلت وقالت: لا تخرج من هذا البيت حتى تتزوجني، قال: لكني والله لا أتزوجك، وإنما خذي هذه الدنانير ودعيني أخرج، قالت: لا تخرج حتى توافق على الزواج مني، فماذا كان منه ؟ قال: بلدي في المكان الفلاني، وعلك إن جئت تائبة لعلي أن أتزوجك، وهو يريد الخلاص منها.

أما هو فذهب وخرج نادماً على تفكيره في عمل المعصية، نادماً على تركه العبادة ليجمع المائة دينار ليزني بها، كما يفعل بعض شبابنا اليوم -هداهم الله- يوم يجمعون دراهمهم ودنانيرهم ليذهبوا ليعصوا الله في بلاد الكفر والعري، ثم يرجعوا وكأن لم يكن شيئاً، وكأن الله -عز وجل سبحانه وبحمده وله العزة والجلال- كأنه لا يراقبهم إلا في جزيرة العرب.

أما هي فأقلقتها بشاعة الفاحشة، وآلمتها مرارة الكبيرة، ولسعتها مرارة المعصية، وما كان منها إلا أن رجعت إلى الله، وتابت إلى الله، وذهبت تبحث عمن كان سبباً في توبتها إلى الله جل وعلا، ذهبت إليه في قريته، وسألت عنه، فدُلَّت على بيته، فلما وصلت إلى البيت طرقت الباب فخرج، فتذكر يوم كادت تزل قدمه، فشهق شهقة عظيمة فمات -كما ذكر ذلك ابن قدامة في كتابه التوابين -.

فكان منها أن حزنت حزناً عظيماً، وقالت: لأتزوجنَّ قريباً من أقربائه حباً فيه، فقالوا: له أخ فقير تقي، قالت: أتزوجه حباً في أخيه، فتزوجت هذا العبد الصالح الفقير التقي أخو ذلك الصالح التقي، فجعل الله من نسلها ومن نسله سبعة من الصالحين العابدين الزاهدين.

فلا إله إلا الله! ما أعظم شأن التوبة! وكلنا ذوو خطأ، فهل من توبة؟ وهل من أوبة؟ آن لنا أن نتوب، آن لنا أن نئوب.

أيها الأحبة. قد يدَّعي الإنسان التوبة ثم لا يتوب، إن ذلك كقول غاسل الثياب: قد غسلتها ولم يغسلها بعد، فالقول لا ينظف الثياب، وادِّعاء التوبة لا ينظف القلوب، والنفس البشرية كالطفل إن أهملتها ضاعت وضلت وخسرت وتاهت، وإن هذبتها وأدَّبتها صلحت واستقامت، بل هي كالبعير إن علفته وغذيته سكن وثبت، وإن تركته صدَّ وندَّ وهرب، والنفس بطبيعتها تميل إلى الشهوات، وتميل إلى الملذات، ووالله لا فلاح لنفس ولا نجاح ولا فوز إلا بالعودة إلى بارئها سبحانه وبحمده القائل: قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا [الشمس:9-10].

والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمْه ينفطمِ

خالف هواك إذا دعاك لريبة     فلرب خير في مخالفة الهوى

حتى متى لا ترعوي يا صاحبي     حتى متى وإلى متى وإلى متى

قصة أبي محجن رضي الله عنه

هاهو أحد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو محجن الثقفي ، ممن أسلم مع ثقيف حين أسلمت ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه تمادى في شرب الخمر، في تلك الكبيرة من الكبائر، وما زال يُجلد بعد عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أكثر من ذلك سجنوه وأوثقوه، فلما كان يوم القادسية رأى أن المشركين قد أصابوا من المسلمين، فأرسل لامرأة سعد بن أبي وقاص ، وقد كان مسجوناً في بيت سعد ، قائلاً : يا بنت آل حفصة هل لك إلى خير؟ قالت: وما ذاك ؟ قال: تخُلي عني، وتعيريني البلقاء -فرس سعد بن أبي وقاص - فأقاتل مع المسلمين، ولله عليّ إن سلَّمَني الله أن أرجع فأضع رجلي في القيد كما كنت، قالت: ما أنا وذاك، فرجع يرسف في قيوده، نفسه مشتاقة للجهاد في سبيل الله، ويرى أن المسلمين يُنال منهم ما ينال، فيقول:

كفى حزناً أن تُردي الخيل بالقنا     وأترك مشدوداً عليَّ وثاقيا

إذا قمت عنَّاني الحديد وغُلِّقت     مصارع دوني قد تصمُّ المناديا

وقد كنت ذا مال كثير وإخوة     فقد تركوني واحداً لا أخا ليا

فلله عهد لا أخيس بعهده لئن فرجت ألا أزور الحوانيا

فقالت سلمى: لقد اخترت الله، ورضيت بعهدك. فأطلقته، وأعطته فرس سعد الذي كان في الدار، وأعطته مع ذلك سلاحاً.

فخرج كالأسد يركض حتى لحق بالجيش المسلم، فجعل لا يزال يحمل على مشركٍ إلا دق صلبه وقتله، حمل على ميسرة القوم، ثم حمل على ميمنة القوم، كان يقصفهم -ليلتئِذٍ- قصفاً عظيماً، حتى تعجب الناس منه وهم لا يعرفونه، تعجب سعد وهو يرقب المعركة، ويقول: من ذلك الفارس الملثم؟ ولِمَ يتلثم؟ ولِمَ لمْ يظهر إلا في آخر النهار؟ تساؤلات ترد على ذهن سعد .

ولم يلبثوا إلا قليلاً حتى هُزم أعداء الله عز وجل، ورجع أبو محجن ورد السلاح، وجعل رجليْه في القيد، وجاء سعد ، فقالت امرأته: هنيئاً لكم النصر، كيف قتالكم اليوم؟ فجعل يخبرها، ويقول: لقي جند الله ما لقوا، ولقوا ولقوا ويذكر لها حتى بعث الله رجلاً على فرس أبلق، فلولا والله أني تركت أبا محجن في القيد لقلت: إنها بعض شمائل أبي محجن ، قالت: والله إنه لـأبي محجن ، وذكرت له ما كان من أمره.

فما كان من سعد إلا أن ذرف الدموع، وقال: حلوا قيوده، وأتوني به، فأتوا به إليه، قال: يا أبا محجن -والله- إني لأرجو الله ألا أجلدك على خمر بعد اليوم أبداً، قال: لا والله ما أشربها بعد اليوم أبداً، قد كنت أشربها فتطهرني بالحد والجلد، وأما اليوم فإن شربتها فلا يطهرني إلا النار، فلم يشربها بعد ذلك أبداً.

فخالف النفس والشيطان واعصهما     وإن هما محَّضاك النصح فاتَّهم

الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُم مغْفِرَةً منْهُ وَفَضْلا [البقرة:268] فمن تجيب أخي المسلم؟

العز في كنف العزيز     ومن عبد العبيد أذَلَّه الله

توبة الغانية التي أرادت إفساد الربيع

هاهو شاب قوي وسيم -وأنا لا أورد هذا القصص إلا لأن فيه عبرة: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِى الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى [يوسف:111]- شاب قوي وسيم حييٌّ، عالم، في أوْج شهوته وشدة شهوته، لكن شهوته مربوطة بقال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، عمره لا يجاوز الثلاثين؛ هو الربيع بن خثيم ، كان في بلده فسّاق وفجَّار يتواصون على إفساد الناس وليسوا في بلد الربيع فقط، بل هم في بلدي وفي بلدك وفي كل بلد، ثلة تسمى فرقة الصد عن سبيل الله، يهمها أن تقود شباب الأمة وشيبها ونساءها إلى النار، تأخذ بحجزها لترميها على وجهها في النار، من أطاعها فليس أمامه إلا النار.

تواصوا على إفساد الربيع ، فجاءوا بهذه الغانية، وقالوا: هذه ألف دينار، قالت: علام؟ قالوا: على قُبْلة واحدة من الربيع ، قالت: ولكم فوق ذلك أن يزني، ثم ذهبت وتعرضت له في ساعة خلوة، وأبدت مفاتنها ووقفت أمامه، فلما رآها صرخ فيها قائلاً: يا أمة الله! كيف بك إذا نزل ملك الموت فقطع منك حبل الوتين؟! أم كيف بك يوم يسألك منكر ونكير؟! أم كيف بك يوم تقفين بين يديْ الرب العظيم؟! أم كيف بك إن لم تتوبي يوم تُرمَيْن في الجحيم؟! فصرخت وولَّت هاربة تائبة عابدة عائدة إلى الله عز وجل، تقوم من ليلها ما تقوم، وتصوم من أيامها ما تصوم، فلقِّبت بعد ذلك بـعابدة الكوفة ، وكان هؤلاء المفسدون يقولون: أردنا أن تفسد الربيع فأفسدها الربيع علينا: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ [الأنعام:116].. وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ ولو حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103].

فإياك وداعي الشر، إياك ودعاة الشر، واسمع لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعوك إلى أن تضبط نفسك في أي مكان كنت، أو في أي زمان كنت: {اتقِ الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن}.. فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِىَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف:43-44].

وكلنا ذوو خطأ! لكن الحسنات يذهبن السيئات، فلا تحتقر ذنباً، ولا تستصغر معصية، ولا تستصغر كبيرة، ولا تنظر إلى صغر المعصية، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت، القائل كما في الأثر: {وعزتي وجلالي لا يكون عبد من عبيدي على ما أحب فينتقل إلى ما أكره إلا انتقلت له مما يحب إلى ما يكره} يقول أنس رضي الله عنه وأرضاه: [[إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات]] يقول هذا لمن؟ لخير جيل عرفته البشرية، ولخير فرقة عرفتها البشرية، ولخير القرون كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، يقول ذلك للصحابة والتابعين.

أيها الحبيب! إنما يعظم الذنب في قلب المؤمن لعلمه بجلال الله سبحانه وبحمده، إن المؤمن ليرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل، يخاف أن يقع هذا الجبل عليه، وإن المنافق ليرى ذنوبه كذباب مرَّ على أنفه فأطاره بيده.

فيا أيها المخطئون! إياكم ومحقرات الذنوب، فإن لها من الله طالباً، وإياكم ومحقرات الذنوب فإنها تجتمع على الرجل فتهلكه.

خلِّ الذنوب صغيرها     وكبيرها ذاك التُّقَى

واصنع كماشٍ فوق أر     ض الشوك يحذر ما يرى

لا تحقرن صغيرة      إن الجبال من الحصى

يا أيها المخطئون -وكلنا ذو خطأ- أفيقوا وأقلعوا عن ذنوبكم، واعزموا على ألا تعودوا، واندموا ندماً يورث العين دمعاً، والقلب خشية، وردوا الحقوق إلى أهلها قبل ألا يكون درهم ولا دينار، وإنما التعامل يكون بالحسنات والسيئات، وعندها يعضُّ الظالم على يديه حتى يأكلها ولا ينفعه ندم، ولا تنفعه حسرة، لو كان الندم هنا لنفعه، ولو كانت الحسرة هنا لنفعته، لو قال: في الدنيا يا رب لقال الله: لبيك وسعديك يا عبدي، أشهدكم أني قد غفرت له.

وتذكر يا من أخطأ -وكلنا ذوو خطأ- أننا على الله قادمون، وإليه راجعون، وبين يديه مسئولون، فمنا من يقدم عليه كالرجل المسافر الغريب القادم على أهله، تراه فرحاً، وتراه مسروراً، يوم يلقى أحبته وأهله وأبناءه وأصحابه وخِلاَّنه، ومنا من يقدم على الله -عز وجل- قدوم العبد الآبق الشارد عن سيده، تجده ذليلاً حسيراً وَجِلاً خائفاً كسيراً مهاناً: أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم من يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [فصلت:40] شتان بين الفريقين، شتان بين مُشرِّق ومُغرِّب: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7].

يا من قسا قلبه! ويا من صدت نفسه فأمرته بالسوء والفحشاء، هلّا زرت المقابر، هلا ذهبت وأحييت هذه السنة التي كادت تموت بيننا، هل ذهبت إلى المقابر فزرتها ودعوت الله عز وجل لهم؟ لترى فيها الآباء والأمهات، لترى فيها الإخوان والأخوات، لترى فيها الأحباب والأصحاب والخلان قد توسَّدُوا التراب، وارتُهِنوا بالأعمال، ما كأنهم فرحوا مع من فرح، ولا كأنهم ضحكوا مع من ضحك، ولا كأنهم تمتعوا مع من تمتع، قد حِيل بينهم وبين ما يشتهون، ثم اعلم أنك قريباً ستكون بينهم، ووالله لن تكون إلا في روضة أو حفرة

القبر روضة من الجنان     أو حفرة من حفر النيران

إن يكُ خيراً فالذي من بعده     أفضل عند ربنا لعبده

وإن يك شراً فما بعد أشد     ويل لعبد عن سبيل الله صد

قصة دينار العيَّار

هاهو دينار العيَّار : كان مسرفاً على نفسه، وكان له أم تعظه فلا يتعظ، فمر في يوم من الأيام بمقبرة كثيرة العظام قد خرجت العظام من المقبرة، فتذكر مصيره، وتذكر نهايته، وتذكر أنه على الله قادم، أخذ عظْماً نخراً في يده ففتته، ثم فكر في نفسه وقال: ويحك يا نفس ! كأني بك غداً قد صار عظمك رفاتاً، وجسمك تراباً، وما زلت مكبَّة على المعاصي واللذائذ والشهوات، ثم ندم وعزم على التوبة، ورفع رأسه للسماء قائلا: إلهي ألقيت إليك مقاليد أمري، فاقبلني واسترني يا أرحم الراحمين، ثم مضى إلى أمه متغير اللون، منكسر القلب، فكان إذا جنَّه الليل أخذ في القيام والبكاء، وأخذ في النحيب وهو يقول: يا دينار ! ألك قوة على النار؟ يا دينار ! ألك قوة على النار؟ كيف تعرضت لغضب الجبار؟!

وظل على ذلك أياماً، يقوم ليله، ويناجي ربه، ويناجي نفسه يؤدبها ويحاسبها، فرفقت به أمه يوم رأت جسمه قد هزل، ويوم رأت صحته بدأت تتدهور، فقالت: ارفق بنفسك قليلاً، فقال: يا أماه! دعيني أتعب قليلاً لعلي أستريح طويلاً، يا أماه! إن لي موقفاً بين يديْ الجليل، ولا أدري إلى ظل ظليل، أم إلى شر مقيل؟ إني أخاف عناءً لا راحة بعده، وتوبيخاً لا عفو معه.

قالت: بنياه! أكثرت من إتعاب نفسك. قال: راحتها أريد، يا أماه! ليتك كنت بي عقيماً، إن لابنك في القبر حبساً طويلاً، وإن له من بعد ذلك وقوفاً بين يديْ الرحمن طويلاً، وتمر ليالٍ فيقوم ليلة بقول الله: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:92-93].

فيبكى ويضطرب، ثم يخر مغشياً عليه.

فيا مخطئاً -وكلنا ذوو خطأ-: أَلَمْ يَأْنِ للذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [الحديد:16].

قصة مالك بن دينار

هاهو مالك بن دينار -كما يذكر أهل السِيَر-: كان شرطياً من شُرط بني العباس، وكان يشرب الخمر، وكان صادّاً نادّاً عن الله عز وجل، ويشاء الله عز وجل أن يتزوج بامرأة أحبها حباً عظيماً، لكنه كان لا يترك الخمر، يشربها في الصباح والمساء.

ويشاء الله عز وجل أن يرزق بمولودة من هذه المرأة، فما كان منه إلا أن ملكت عليه لبه هذه الطفلة، وملكت عليه لبه، وملكت عليه قلبه، فكان لا ينتهي من عمله حتى يأتي إليها ليداعبها ويمازحها، وكان يؤتى بالخمر، فإذا رأته يشرب الخمر ذهبت وكأنها تريد أن تعتنقه، فأسقطت الخمر من يده وكأنها تقول: يا أبت اتقِ الله! ما الخمر لمسلم أبداً. هكذا حالها معه، وفي يوم من الأيام يأتي من عمله ويأتي ليداعبها ويلاعبها ويرميها فتسقط ميتة، فيحزن حزناً عظيماً، ويجِدُ عليها وَجْداً عظيماً، فما كان منه في تلك الليلة -كما يخبر عن نفسه- إلا أن شرب الخمر، ثم شرب ثم شرب حتى الثمالة، قال: ثم نمت في تلك الليلة وبي من الهمِّ ما لا يعلمه إلا الله، قال: فرأيت -فيما يرى النائم- كأن القيامة قد قامت، وكأن الناس قد خرجوا من القبور حفاة عراة غرلاً بُهماً، يدوك الناس في عرصات القيامة، وإذ بهذا الثعبان العظيم فاغراً فاه، يقصدني من بين هؤلاء الخلق جميعهم، ويأتي إليَّ يريد أن يبتلعني، قال: وأهرب منه ويطاردني، وأهرب منه ويطاردني، كاد قلبي أن يخرج من بين أضلاعي، وإذا أنا بهذا الشيخ الحسن السَّمْت، الرجل الوقور، قال: فتقدمت إليه فقلت: بالله عليك أنقذني، قال: لا أستطيع، ولكن اذهب إلى من ينقذك.

قال: فبقي يطاردني، فما وقفت إلا على شفير جهنم قال: فبقى من ورائي، وجهنم من أمامي. قال: فقلت أرمي بنفسي في جهنم، وإذا بهاتف يهتف، ويقول: ارجع، لست من أهلها.

قال: فرجعت لأدوك في عرصات القيامة وهو ورائي يطاردني، ورجعت إلى ذلك الشيخ الوقور، فقلت له: أسألك بالله أن أنقذني أو دلني، قال: فأما إنقاذك فلا، ولكني أدلُّك على ذلك القصر، لعل لك فيه وديعة.

قال: فانطلقت إلى القصر، وهو لا يزال يطاردني، قال: وإذا بهذا القصر من زبرجد وياقوت، مكلل باللؤلؤ والجوهر، وإذا بالسُتُر ينادي بفتحها: افتحوا السُتُر، قال: ففتحت الستر عن أطفال مثل فلق القمر، وإذا بكل واحدة وواحد ينظر إلى هذا المنظر المهول، وإذا بابنتي من بينهن تقول: أبتاه! ثم ترمي بنفسها من القصر بيني وبين الثعبان، قال: ثم تقول للثعبان بيمناها -هكذا- فينصرف.

فتضرب على لحيتي، ثم تضرب على صدري، وتقول: أبتاه! أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [الحديد:16] قلت: بل آن! بل آن! ثم قلت: ما ذاك الثعبان؟ قالت: ذلك عملك السيء كاد يرديك في جهنم، قال: وما ذلك الشيخ الوقور؟ قالت: ذلك عملك الحسن ضعفته حتى ما استطاع أن يقاوم عملك السيء، قال: ثم تضرب صدري ثانية، وتقول: أبتاه! أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ [الحديد:16].

قال: ففزعت من نومي، وقلت: بل آن! بل آن! قال: ثم توضأت، ثم انطلقت إلى المسجد، فذهبت لأداء صلاة الفجر، قال: وإذا بالإمام يقرأ الفاتحة، ثم يبدأ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [الحديد:16] فقلت: والله ما كأنه يعني إلا إياي.

فيا أيها الأحبة: أعمالكم أعمالكم، أعماركم أعماركم. كلنا ذوو خطأ! كلنا ذوو خطأ!

ها هو عبد من بني إسرائيل أطاع الله أربعين عاماً، ثم انقلبت هذه المضغة فانتكس ورجع وارتد على عقبيه فعصى الله أربعين عاماً أخرى فقال: وقد رفع يديه إلى الله: يا رب! أطعتك أربعين، وعصيتك أربعين، فهل لي من توبة إن أنا تبت وأُبْت وعدت إليك يا رب؟ قال: فسمعت هاتفاً يهتف ويقول: أطعتنا فقربناك، وعصيتنا فأمهلناك، وإن رجعت إلينا قبلناك.

فلا إله إلا الله، ما أحلم الله بعباده! ما أرحم الله بعباده! ما ألطف الله بعباده! أسأله برحمته التي وسعت كل شيء أن يرحمنا برحمته.

هاهو كما في البخاري : رجل من بني إسرائيل، أسرف على نفسه كثيراً، وهو موحد لم يشرك بالله جل وعلا، قتل وزنا، وسرق وغش، وكذب واحتال، وشهد الزور وأساء كل الإساءة، انتهك حرمات الله، تكبر وتجبر، وحلت به سكرات الموت التي لم يُعفَ منها أحد حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمع أبناءه في تلك الساعة، ساعة لا ينفع فيها مال، ولا ينفع فيها ولد، ولا ينفع فيها منصب، ولا ينفع فيها جاه، جمع أولاده وقال: أي أبٍ كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: فوالذي نفسي بيده ما عملت خيراً قط، غير أني أشهد أن لا إله إلا الله، فإذا أنا مت فأضرموا فيَّ ناراً، ثم ألقوني في النار حتى أصير فحماً، ثم اسحقوني، ثم ذروني مع الريح.

فمات فنفّذوا وصيته وأضرموا له النار، ورموه فيها حتى صار فحماً، ثم سحقوه، ثم ذروه مع الريح، وتفرق على ذرى الجبال، وعلى رءوس الأشجار، وعلى السهول والوِهَاد والأنهار، لكن الذي بدأه أول مرة يعيده.

قال الله له: كن؛ فكان، قال: يا عبدي ما حملك على ما صنعت؟ أما علمت أني أستر العيب، وأغفر الذنب؟ قال: يا رب! خفتك وخشيت ذنوبي، قال: أشهدكم يا ملائكتي بأني قد غفرت له وأدخلته الجنة.

فلا إله إلا الله، ما أرحم الله! ما ألطف الله بعباده! ما أحلم الله على عباده! وَمَن يَعْمَلْ سُوءً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رحِيماً [النساء:110] وكلنا ذوو خطأ!

هاهي امرأة بَغِيّ، بارعة الجمال، لا تمكن من نفسها إلا بمائة دينار، وتمر على عابد ما عصى الله طرفة عين، يتعبد لله في صومعة من الصوامع، فيفتتن بها، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فاتقوا الدنيا واتقوا النساء} افتُتن بها فراودها عن نفسها، فأبت أن تمكنه إلا بمائة دينار، وهو لا يملك ريالاً ولا ديناراً ولا درهماً، فماذا كان منه؟ كان منه أن ترك صومعته وذهب يكدُّ ويتعب، وجمع المائة الدينار.

ثم ذهب إلى هذه البغي في بيتها وفي قصرها، طرق عليها الباب، ويوم طرق عليها الباب خرجت، ويوم خرجت قال لها: هأنذا، قد جمعت المائة دينار وجئت، قالت: ادخل. فدخل إليها في قصرها، فَعَلَتْ على سرير من ذهب، وتزينت في كامل زينتها، ويوم تزينت في كامل زينتها قالت: هلمَّ إليّ، فسقط جالساً.

قالت: قد كنت تزعم أنك ستجمع وتأتي، فلما مكنتك من نفسي تجلس، قال: ذكرت وقوفي بين يدي الله -عز وجل- فلم تحملني أعضائي لأقف، فما كان منها هي أيضاً إلا أن ارتعدت وارتعشت وخافت ووجلت وقالت: لا تخرج من هذا البيت حتى تتزوجني، قال: لكني والله لا أتزوجك، وإنما خذي هذه الدنانير ودعيني أخرج، قالت: لا تخرج حتى توافق على الزواج مني، فماذا كان منه ؟ قال: بلدي في المكان الفلاني، وعلك إن جئت تائبة لعلي أن أتزوجك، وهو يريد الخلاص منها.

أما هو فذهب وخرج نادماً على تفكيره في عمل المعصية، نادماً على تركه العبادة ليجمع المائة دينار ليزني بها، كما يفعل بعض شبابنا اليوم -هداهم الله- يوم يجمعون دراهمهم ودنانيرهم ليذهبوا ليعصوا الله في بلاد الكفر والعري، ثم يرجعوا وكأن لم يكن شيئاً، وكأن الله -عز وجل سبحانه وبحمده وله العزة والجلال- كأنه لا يراقبهم إلا في جزيرة العرب.

أما هي فأقلقتها بشاعة الفاحشة، وآلمتها مرارة الكبيرة، ولسعتها مرارة المعصية، وما كان منها إلا أن رجعت إلى الله، وتابت إلى الله، وذهبت تبحث عمن كان سبباً في توبتها إلى الله جل وعلا، ذهبت إليه في قريته، وسألت عنه، فدُلَّت على بيته، فلما وصلت إلى البيت طرقت الباب فخرج، فتذكر يوم كادت تزل قدمه، فشهق شهقة عظيمة فمات -كما ذكر ذلك ابن قدامة في كتابه التوابين -.

فكان منها أن حزنت حزناً عظيماً، وقالت: لأتزوجنَّ قريباً من أقربائه حباً فيه، فقالوا: له أخ فقير تقي، قالت: أتزوجه حباً في أخيه، فتزوجت هذا العبد الصالح الفقير التقي أخو ذلك الصالح التقي، فجعل الله من نسلها ومن نسله سبعة من الصالحين العابدين الزاهدين.

فلا إله إلا الله! ما أعظم شأن التوبة! وكلنا ذوو خطأ، فهل من توبة؟ وهل من أوبة؟ آن لنا أن نتوب، آن لنا أن نئوب.

أيها الأحبة. قد يدَّعي الإنسان التوبة ثم لا يتوب، إن ذلك كقول غاسل الثياب: قد غسلتها ولم يغسلها بعد، فالقول لا ينظف الثياب، وادِّعاء التوبة لا ينظف القلوب، والنفس البشرية كالطفل إن أهملتها ضاعت وضلت وخسرت وتاهت، وإن هذبتها وأدَّبتها صلحت واستقامت، بل هي كالبعير إن علفته وغذيته سكن وثبت، وإن تركته صدَّ وندَّ وهرب، والنفس بطبيعتها تميل إلى الشهوات، وتميل إلى الملذات، ووالله لا فلاح لنفس ولا نجاح ولا فوز إلا بالعودة إلى بارئها سبحانه وبحمده القائل: قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا [الشمس:9-10].

والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمْه ينفطمِ

خالف هواك إذا دعاك لريبة     فلرب خير في مخالفة الهوى

حتى متى لا ترعوي يا صاحبي     حتى متى وإلى متى وإلى متى

هاهو أحد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو محجن الثقفي ، ممن أسلم مع ثقيف حين أسلمت ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه تمادى في شرب الخمر، في تلك الكبيرة من الكبائر، وما زال يُجلد بعد عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أكثر من ذلك سجنوه وأوثقوه، فلما كان يوم القادسية رأى أن المشركين قد أصابوا من المسلمين، فأرسل لامرأة سعد بن أبي وقاص ، وقد كان مسجوناً في بيت سعد ، قائلاً : يا بنت آل حفصة هل لك إلى خير؟ قالت: وما ذاك ؟ قال: تخُلي عني، وتعيريني البلقاء -فرس سعد بن أبي وقاص - فأقاتل مع المسلمين، ولله عليّ إن سلَّمَني الله أن أرجع فأضع رجلي في القيد كما كنت، قالت: ما أنا وذاك، فرجع يرسف في قيوده، نفسه مشتاقة للجهاد في سبيل الله، ويرى أن المسلمين يُنال منهم ما ينال، فيقول:

كفى حزناً أن تُردي الخيل بالقنا     وأترك مشدوداً عليَّ وثاقيا

إذا قمت عنَّاني الحديد وغُلِّقت     مصارع دوني قد تصمُّ المناديا

وقد كنت ذا مال كثير وإخوة     فقد تركوني واحداً لا أخا ليا

فلله عهد لا أخيس بعهده لئن فرجت ألا أزور الحوانيا

فقالت سلمى: لقد اخترت الله، ورضيت بعهدك. فأطلقته، وأعطته فرس سعد الذي كان في الدار، وأعطته مع ذلك سلاحاً.

فخرج كالأسد يركض حتى لحق بالجيش المسلم، فجعل لا يزال يحمل على مشركٍ إلا دق صلبه وقتله، حمل على ميسرة القوم، ثم حمل على ميمنة القوم، كان يقصفهم -ليلتئِذٍ- قصفاً عظيماً، حتى تعجب الناس منه وهم لا يعرفونه، تعجب سعد وهو يرقب المعركة، ويقول: من ذلك الفارس الملثم؟ ولِمَ يتلثم؟ ولِمَ لمْ يظهر إلا في آخر النهار؟ تساؤلات ترد على ذهن سعد .

ولم يلبثوا إلا قليلاً حتى هُزم أعداء الله عز وجل، ورجع أبو محجن ورد السلاح، وجعل رجليْه في القيد، وجاء سعد ، فقالت امرأته: هنيئاً لكم النصر، كيف قتالكم اليوم؟ فجعل يخبرها، ويقول: لقي جند الله ما لقوا، ولقوا ولقوا ويذكر لها حتى بعث الله رجلاً على فرس أبلق، فلولا والله أني تركت أبا محجن في القيد لقلت: إنها بعض شمائل أبي محجن ، قالت: والله إنه لـأبي محجن ، وذكرت له ما كان من أمره.

فما كان من سعد إلا أن ذرف الدموع، وقال: حلوا قيوده، وأتوني به، فأتوا به إليه، قال: يا أبا محجن -والله- إني لأرجو الله ألا أجلدك على خمر بعد اليوم أبداً، قال: لا والله ما أشربها بعد اليوم أبداً، قد كنت أشربها فتطهرني بالحد والجلد، وأما اليوم فإن شربتها فلا يطهرني إلا النار، فلم يشربها بعد ذلك أبداً.

فخالف النفس والشيطان واعصهما     وإن هما محَّضاك النصح فاتَّهم

الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُم مغْفِرَةً منْهُ وَفَضْلا [البقرة:268] فمن تجيب أخي المسلم؟

العز في كنف العزيز     ومن عبد العبيد أذَلَّه الله




استمع المزيد من الشيخ علي بن عبد الخالق القرني - عنوان الحلقة اسٌتمع
صور وعبر 2800 استماع
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا 2672 استماع
الإكليل في حق الخليل 2494 استماع
هلموا إلى القرآن 2491 استماع
أرعد وأبرق يا سخيف 2405 استماع
هكذا علمتني الحياة [2] 2403 استماع
أين المفر 2324 استماع
اسألوا التاريخ 2264 استماع
حقيقة الكلمة 2240 استماع
الأمر بالمعروف 2200 استماع