على الطريق [1، 2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة عبده وابن عبده وابن أَمَتِه، ومَنْ لا غنى به طرفة عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته.

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، خِيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، جعل الله الذُّل والصَّغار على من خالف أمره، وسدَّ إلى الجنة كل الطرق، فلم يفتحها لأحد إلا من طريقه، صلوات الله وسلامه على خاتم رسله، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره، واستمسك بهديه وسنته.

اللهم إنا نسألك الثبات والهداية، ونعوذ بك من الخذْلان والغِوَاية، اللهم إني أعوذ بك أن أقول زورًا، أو أغشى فجورًا، أو أن أكون بك مغرورًا.

اللهم من كان سببًا في هذا اللقاء فأجزل مثوبته، وارفع درجته، إنك سميع الدعاء: يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102] سلام لكم. وسلام عليكم.

سلام لكم أهل العـلى من أظنكم     خليقين أن تحيوا كراماً وتنصروا

مضى زمن التَّنويم يا قوم وانقضى     ففي الحي أيقاظٌ على الحي تَسهر

صَحَوتم وأدركتم وبانت نفوسكم     من العيش إلا في ذُرَا العز تسخر

رجال العُلى الميمون إنَّا بحاجةٍ     إلى أذنٍ تُصْغِي وقلبٍ يبصَّر

شَباب العُلى الميمون إنَّا بحاجةٍ     إلى عالمٍ يدعو وداعٍ يذكر

كُهولَ العلى الميمون إنَّا بحاجةٍ     إلى حكمةٍ تُمْلى وعقلٍ يُفكِرُ

أهالي العُلى الميمون إنّي وإنني     أُناشدكم بالله أن تتذكروا

عليكم حقوقٌ للعباد أجلُّها     تَعَهُدهم بالعلمِ فالرَّوض يقفر

ولا تيئسُوا ما خاب أصحاب ملةٍ     إذا ما تواصوا بينهم ثم شمروا

وما ضاعَ حق لم ينم عنه أهله     ولا ناله في العالمين مقصر

إذا الله أحيا أمةً لن يردها     إلى الموت قهارُ ولا متجبر

قُصَارى مُنَى أمتكم أن ترى لكم     يدًا تَجتني علمًا وتَنهى وتَأمرُ

دعوتموني فأجبت ملبيًا فرحًا، وما حالي إلا كذلك القائل يوم قال:

آهٍ لبرقٍ لمعا     ماذا بقلبي صنعا

جِسمي معي لكن     قلبي عند أَخيار العلى

أُشْهِد الله على حب الصالحين، ولا أحسبكم إلا أولئك الصالحين، حشرنا الله في زُمرَة النَّبيين والصِّديقين والشهداء والصالحين، وهو ولي المؤمنين:

إنَّا على البعاد والتفرق     لنلتقي بالذكر إن لم نلتق

يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: أنفع الناس لك من مكَّنك من نفسه لتزرع فيها خيرًا.

فأَسْأل الله أن يجعلكم من أنفع الناس للناس، الذين هم أحب الخلق إلى الله، وأسأله أن يجعلني أهلاً لزرع الخير في قلوب الخلق ابتغاء مرضاة الله.

فما بقيت من اللـذات إلا     مذاكرة الرجال ذوي العقول

وإنْ كانوا إذا عُدُوا قـليلاً     فقد أَضْحوا أقـلَّ من القليل

وإنَّي أرجو أن يُبارك الله في القليل.

أحبتي في الله: قيل لأحد الحكماء: ما لك تُدمن إمساك العصا ولست بكبير ولا مريض ؟ فقال:

حملت العصا لا الضَّعف أوجبَ حمْلَها     عليَّ ولا أنَّي تحنيت من كـبر

و لكنني ألزمت نفسيَ حمْلها     لأعلمها أن المقيم على سـفر

لا زلنا -إخوتي- على الطريق الذي سبق؛ هُتِف عليه من قبل أن: "اقصد البحر وخلِّ القنوات"، ثم هُمِس عليه من بعد ذلك أن: "تأمل". واليوم مع "إشارات على ذاك الطريق"، تتراوح بين الإغراء والتحـذير، جمعتها من كتب أهل العلم، ثم صغتها ليعلم الجميع أن المقيم على سفر فلا يَرْكن، ويَسْلك الطريق المستقيم فلا يُجتال، ويعلم حاجته للزاد والعدة، فمن أراد الخروج أعد له عُدة، وحَدا حَادِيه كقول الحادي يوم قال:

أوانًا في بيوت البدو رحلي     وآونة على قـتب البعـير

إنها كلمات في إشارات، هي جهد المقل المعترف بالتقصير دوماً وأبداً والحال معها:

لا خيل عندك تهديهــا ولا مـال     فليسـعد النطق إن لم يسـعد الحال

ومن جهلت نفسه قدره، رأى غيره منه ما لا يرى، أرجو الله أن تُؤْتِيَ أُكُلَها، وأن يُخَلِصها لقائلها ومُستمعها وسامعها، وأن يسوقها لأهلها الذين إن وجدوا خيرًا به عملوا، وبالأجر للقائل دعوا، وإن وجدوا خللاً أصلحوا ونصحوا ودفنوا، كما أسأله أن يصلح بها المتربصين، الذين إن رأوا هفوة صرخوا وصاحوا كشيطان العقبة ، وطاروا بها وفرحوا.

وعلى الله وحده اعتمادي، وإليه وِجْهَتي واستنادي، فهو المستعان وعليه التُكْلان، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً.

يقول ابن القيم رحمه الله: لم يزل الناس مُذْ خُلقوا مسافرين، وليس لهم حط لرحالهم إلا في الجنة دار النعيم، أو في النار دار الجحيم.

والعاقل يعلم بطبعه أن السفر مَبْنِيٌّ على المشقة والأخطار، بل هو قطعة من العذاب واللأواء، ومن المحال عادة أن يُطلب في السفر النعيم والراحة، واللذة والهناء، فكلُّ وَطْأَةِ قدم أو أَنَّة من أنات المسافر بحساب، وكل لحظة ووقت من أوقات السفر غير واقفة، والمسافر غير واقف، فإذا ما نزل المسافر أو نام أو استراح فهو على قدم الاستعداد للسير في قطع المَفَاوِزِ والقِفَار، السفر مِضْمار السباق، وقد انعقد المضمار وخفي السابق، والناس في المضمار هذا بين فارس وبين راجل، وبين أصحاب حُمُرٍ معقرة:

سوف ترى إذا انجلى الغبار     أفرس تحتك أم حمار؟

وفاز بالسبق من قد جد وانقشعت     عن أفقه ظلمات الليل والسحب

إن السـلاح جميع الناس تحمله     وليس كل ذوات المخلب السبع

هَلْكَى هذا السفر كثير وكثير، والناجون فيه قليل، الناجي فيه واحد من ألف وكفى.

لا تعجب لهالك كيف هلك، ولكن اعجب لناج كيف نجا.

البعض في هذا السفر كإبلٍ سائِبَة لا تكاد تجد فيها راحلة، والبعض الآخر كإبلٍ نَجِيْبَة صابرة نادرة، وأَنْعِم بها من راحلة، النجائب في المقدمة، وحاملات الزاد في المُؤَخِرة.

رفعت لنا في السَّـير أعلام السعا     دة والهدى يا ذلة الحــيران

فتسابق الأبطال وابتدروا لهـا     كتسابق الفرسـان يوم رهـان

وأخو الهوينى في الديـار مخلف     مع شكله يا خيبة الكسلان

إلى كم ذا التخلف والتواني     وكم هذا التمادي في التمادي

وشغل النفس عن طلب المعالي     ببيع الشِّعر في سُوق الكساد

لا بد للمسافر من رِفقةٍ ومن عُدةٍ وعتادٍ، ودليلٍ ومِنْهاجٍ واستعدادٍ بِزَاد، وهَدَفٍ وَوِجْهة، ومحطات استراحة ووسائل مثبِّتَة، وإشارات مرشدة.

دليل المسافر ومنهاجه

أما دليله ومنهاجه فكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل -كما ثبت عنه-: {تركت فيكم شيئيْن لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي} صلوات الله وسلامه عليه.

ومن سلك طريقًا بغير دليلٍ ضل، ومن تمسك بغير أصلٍ ذَل.

كـن في أمـورك كلها متمسِّـكاً     بالوحي لا بزخــارف الهذيـان

وتدبَّـر القرآن إن رمت الهـدى     فالعــلم تحت تدبُّـر القـرآن

عدة المسافر وزاده

أما عُدَّةُ المُسَافِر وزاده فإيمان وعمل صالح: إِنَّ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا [الكهف:30].. إِنَّ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلا [الكهف:107].. إِنَّ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا [مريم:96].

أين النفوس ترامى غير هائبةٍ     أين العزائم تمضي ما بها خور

العـلم بالحقِّ والإيمان يصحبه     أساس دينك فابن الدين مكتملا

لا تبن إلا إذا أسَّست راسخةً     من القواعدِ واستكملتها عملا

لا يرفع السقف ما لم يبن حامله     ولا بنـاء لمن لـم يرس ما حمـلا

ومن الزاد إخلاص لله، وقصد بالعمل وجه الله لا سواه: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5].. فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّين * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:2-3].

فالفضل عند الله ليس بصورة     الأعمال بـل بحقـائق الإيمــان

والله لا يـرضى بكـثرة فعــلنا     لكن بأحســنه مـع الإيمــان

لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا [الملك:2] وَحَسْب نفسِك إخلاصٌ يُزَكِيها.

ومن الزاد: متابعة رسول الهدى صلى الله عليه وسلم فقد ثبت عنه قوله: {كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى} ويقول الله جل وعلا: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا [الحشر:7] فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].

فيأيها المسافر: من عُمْدة عُدَّتك اتباعه، فلتذر مع قول الرسول وفِعْله نفيًا وإثباتًا بلا رَوَغَان، ورحم الله الحكمي يوم قال:

شرط قبول السعي أن يجتمعا     فيه إصابة وإخلاص معا

لله رب العرش لا سواه     موافق الشرع الذي ارتضاه

وكل ما خالف للوَحْيين     فإنه ردٌ بغير مين

وجماعُ الزَّاد هذا كلِّه تقوى الله جل وعلا: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197] إنها العز والنسب والسبب والفخر والكرم.

ألا إنمـا التقوى هي العـز والكرم     فلا تترك التقـوى اتكالا على النسب

فقـد رفع الإسـلام سلمان فارس     وقـد وضع الشركُ النَّسـيب أبا لهب

فتَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ!

فالزاد -إذًا- إيمان، وعمل صالح في إخلاص، ومتابعة في تقوى، فهي إذا اجتمعت في نفس حرة بلغت من العلياء كل مكان.

أما دليله ومنهاجه فكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل -كما ثبت عنه-: {تركت فيكم شيئيْن لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي} صلوات الله وسلامه عليه.

ومن سلك طريقًا بغير دليلٍ ضل، ومن تمسك بغير أصلٍ ذَل.

كـن في أمـورك كلها متمسِّـكاً     بالوحي لا بزخــارف الهذيـان

وتدبَّـر القرآن إن رمت الهـدى     فالعــلم تحت تدبُّـر القـرآن

أما عُدَّةُ المُسَافِر وزاده فإيمان وعمل صالح: إِنَّ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا [الكهف:30].. إِنَّ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلا [الكهف:107].. إِنَّ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا [مريم:96].

أين النفوس ترامى غير هائبةٍ     أين العزائم تمضي ما بها خور

العـلم بالحقِّ والإيمان يصحبه     أساس دينك فابن الدين مكتملا

لا تبن إلا إذا أسَّست راسخةً     من القواعدِ واستكملتها عملا

لا يرفع السقف ما لم يبن حامله     ولا بنـاء لمن لـم يرس ما حمـلا

ومن الزاد إخلاص لله، وقصد بالعمل وجه الله لا سواه: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5].. فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّين * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:2-3].

فالفضل عند الله ليس بصورة     الأعمال بـل بحقـائق الإيمــان

والله لا يـرضى بكـثرة فعــلنا     لكن بأحســنه مـع الإيمــان

لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا [الملك:2] وَحَسْب نفسِك إخلاصٌ يُزَكِيها.

ومن الزاد: متابعة رسول الهدى صلى الله عليه وسلم فقد ثبت عنه قوله: {كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى} ويقول الله جل وعلا: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا [الحشر:7] فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].

فيأيها المسافر: من عُمْدة عُدَّتك اتباعه، فلتذر مع قول الرسول وفِعْله نفيًا وإثباتًا بلا رَوَغَان، ورحم الله الحكمي يوم قال:

شرط قبول السعي أن يجتمعا     فيه إصابة وإخلاص معا

لله رب العرش لا سواه     موافق الشرع الذي ارتضاه

وكل ما خالف للوَحْيين     فإنه ردٌ بغير مين

وجماعُ الزَّاد هذا كلِّه تقوى الله جل وعلا: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197] إنها العز والنسب والسبب والفخر والكرم.

ألا إنمـا التقوى هي العـز والكرم     فلا تترك التقـوى اتكالا على النسب

فقـد رفع الإسـلام سلمان فارس     وقـد وضع الشركُ النَّسـيب أبا لهب

فتَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ!

فالزاد -إذًا- إيمان، وعمل صالح في إخلاص، ومتابعة في تقوى، فهي إذا اجتمعت في نفس حرة بلغت من العلياء كل مكان.

ولابد للمسافر من رِفْقَةٍ وصُحْبة: (فالراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب) كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم.

والمسافر مهما تكمن مواهبه، ومهما يكن عطاؤه، ومهما تكن قدراته؛ فإنه يبقى محدود الطاقة والقدرة، ما لم يكن له أعوان، َيشُدون أزره، ويُقَوُّون أمره، يُذَكِّرونه حين ينسى، ويعلمونه حين يجهل، فالمرء قليل بنفسه كثيرٌ بإخوانه، ضعيفٌ بنفسه قويٌ بإخوانه.

وما المــرء إلا بإخوانه     كما تقبض الكفُّ بالمعـصمِ

ولا خيرَ في الكفِّ مقطوعةً ولا خير في السَّاعد الأجْذَمِ

موسى صلوات الله وسلامه عليه، وهو المُلَقَّب بالقوي الأمين في كتاب الله، يوم كلَّفه الله بالرسالة احتاج إلى المعين والوزير، فقال: وَاجْعَل لي وَزِيرًا منْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وأشركه فيَ أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا [طه:29-35].

ماذا قال الله تعالى؟ قال: قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [طه:36] وفي سورة القصص يقول الله: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ [القصص:35].

فالصاحب ضرورة ولا بد، لكن له صفات تُحَدده وتُمَيِّزه، لعلنا نقف عندها باختصار منها:

رفيق المسافر لابد أن يكون مؤمناً عاقلاً

أن يكون مؤمنًا: {فلا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي} كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم.

ولا يكفي أن يكون مؤمنًا؛ فلابد أن يكون عاقلاً؛ لأن الأحمق قد يثور عليك، فيغضب؛ فيَجْنِي عليك وعليه، ويقعد بك عن الهدف المرسوم، الذي رسمته لك، وصَدَق ونَصَح من قال:

احذر الأحمق أن تصحبه     إنَّما الأحمق كالثوب الخلق

كلما رقعته من جانب     زعزعته الريح يوماً فانخرق

أو كصدع في زجاج فاحش     هل ترى صدع زجاج يرتتق؟

كلا.

رفيق المسافر لابد أن يكون عدلاً حسن الخلق

وأن يكون عدلاً غير فاسقٍ، أقول ذلك لئلا يَجُرَّك إلى فِسْقه، ودَّ صاحبُ الفسق والمعصية لو فسق الناس جميعًا؛ لئلا يصبح نشازًا بينهم.

وأن يكون غير مبتدعٍ، لئلا يلقي عليك الشُّبه فيتشربها قلبك، والقلوب ضعيفة، والشُّبه خَطَّافة كما يقول العلماء.

وأن يكون حسن الخلق غير حريص على الدنيا، وصدق من قال:

شَبِيهُ الشَّيءِ مُنْجَذب إليه

وخير الكلام كلام الله تعالى: رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ [النور:37].

إن لم يكن رِفْقَتك بهذه الأوصاف فإنِّي لأخشى ألا تبلغ وِجْهَتَك في سفرك، وأن تكون-أجارك الله- ممن يقول حين لا ينفع ذلك القول: يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلا [الفرقان:28]

قد تفـسد المرعى على أَخواتها     شـاةٌ تند عن القطيع وتمـرق

أن يكون مؤمنًا: {فلا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي} كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم.

ولا يكفي أن يكون مؤمنًا؛ فلابد أن يكون عاقلاً؛ لأن الأحمق قد يثور عليك، فيغضب؛ فيَجْنِي عليك وعليه، ويقعد بك عن الهدف المرسوم، الذي رسمته لك، وصَدَق ونَصَح من قال:

احذر الأحمق أن تصحبه     إنَّما الأحمق كالثوب الخلق

كلما رقعته من جانب     زعزعته الريح يوماً فانخرق

أو كصدع في زجاج فاحش     هل ترى صدع زجاج يرتتق؟

كلا.

وأن يكون عدلاً غير فاسقٍ، أقول ذلك لئلا يَجُرَّك إلى فِسْقه، ودَّ صاحبُ الفسق والمعصية لو فسق الناس جميعًا؛ لئلا يصبح نشازًا بينهم.

وأن يكون غير مبتدعٍ، لئلا يلقي عليك الشُّبه فيتشربها قلبك، والقلوب ضعيفة، والشُّبه خَطَّافة كما يقول العلماء.

وأن يكون حسن الخلق غير حريص على الدنيا، وصدق من قال:

شَبِيهُ الشَّيءِ مُنْجَذب إليه

وخير الكلام كلام الله تعالى: رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ [النور:37].

إن لم يكن رِفْقَتك بهذه الأوصاف فإنِّي لأخشى ألا تبلغ وِجْهَتَك في سفرك، وأن تكون-أجارك الله- ممن يقول حين لا ينفع ذلك القول: يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلا [الفرقان:28]

قد تفـسد المرعى على أَخواتها     شـاةٌ تند عن القطيع وتمـرق

أما محطات الاستراحة: فإن المسافر بطبعه يَكل ويَنْصَب ويَتْعَبُ ويَمل، وراحته وأمنه وسكينته في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه.

من لا يعرفها فحاله كقول القائل:

إن مات مات بلا فقدٍ ولا أسف     أو عاش عاش بلا خلقٍ ولا خُلقِ

هدف المسافر ووجهته

أما هدف المسافر وَوِجْهته: فللمسافر وِجْهَة، ومسافر لا يحدد وجهته كالثور -أكرمكم الله- يدور في الساقية ويدور ويدور ويلف، ثم ينتهي من حيث بدأ، أو كالسَّفينة التي تسير في البحر بلا مقصد، تتلاعب بها الأمواج، وتقذف بها الأثباج، ثم تهلك هي وأصحابها.

فما وجهتنا عباد الله؟ إنها جنةٌ عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.

من رام وصل الشمس حاك خيوطها     سـببا إلى آمــاله وتعــلقا

حُفَّت الجنة بالمكاره، فمن أرادها حقًّا اقتحم المكاره، فمن خلقه الله للجنة لم تزل هداياها تأتيه من المكاره، والمكارم منُوطة بالمكاره، ومن تأمَّل نَيل الدر من البحر، وجده بعد معاناة المكاره، ومن تأمَّل دوام البقاء في نعيم الجنة، علم أنه لا يحصل إلا بنقد هذا العمر ثمنًا له، وما مقدار عمر غايته مائة سنة، منها خمس عشرة سنة صَبوة وجهل، ومنها ثلاثون بعد السبعين -إن حصلت-عجز وضعف، والتوسط نوم، ونصف زمانك أكل وشرب وكَسب، وللعبادات منه زمن يسير.

عمرك محدود فأدرك به     بعض الأماني وانتهز واعقل

أفلا يُشترى ذلك الدائم بهذا القليل؟!

خاب -والله- وغُبِن وتَعِس وانتَكَس من باع الجنة بما فيها بشهوة ساعة؛ غَبْن فاحش وخلل، وهوان، تالله ما العَيش إلا عَيش الجنة، حيث اليقين والرضا والمعاشرة لمن لا يُؤذِي ولا يخون، مع تنوع أصناف النعيم .

والذل في دعة النفوس ولا أرى     عز المعيشة دون أن يشقى لها

مَن جدَّ وَجَد، ومن سهر ليس كمن رقد، والفضائل تحتاج لوَثْبة أسد، تالله ما هَزُلت فيَستَامها المفلسون، ولا كَسَدت فيبيعها بالنسيئة المعسرون.

لقد أقيمت للعرض في سوق (مَن يزيد؟) فلم يُرض لها بثمن دون بذل النفوس.

تأخر البطَّالون، وقام المحبون ينظرون أيهم يصلح أن يكون لها ثمنًا، فدارت السلعة بينهم، ووقفت في يد قوم يحبهم ويحبونه، أذلَّةٍ على المؤمنين، أعزَّةٍ على الكافرين.

عرفوا عظمة المُشترَى، وقدر السلعة، وفضل الثمن، وجلالة من جرى على يديه عقد التبايع، فرأوا من الغَبن أن يبيعوها لغيره بثمن بخس، فعقدوا معه بَيعة الرضوان والتراضي، فربح البيع! لا إقالة ولا استقالة:

سعوا للمعالي وهم صبية     وسادوا وجادوا وهم في المهود

إنها سلعة الله وكفى، سلعة الله غالية جِدُّ غالية، تحتاج إلى مثابرة، إلى جهد وصبر ومصابرة وتضحية ومغالبة.

ومن هجر اللذات نال المنى ومن     أكب على اللذات عض على اليد

يا سلعة الرحمن لست رخيصة     بل أنت غالية على الكسلان

يا سلعة الرحمن ليس ينالها     في الألف إلا واحد لا اثنان

يا سلعة الرحمن أين المشتري     فلقد عرضت بأيسر الأثمان

يا سلعة الرحمن هل من خاطب؟     فالمهر قبل الموت ذو إمكان

يا سلعة الرحمن لولا أنها     حجبت بكل مكاره الإنسان

ما كان عنها قط من متخلف     وتعطلت دار الجزاء الثاني

لكنها حجبت بكل كريهة     ليصد عنها المبطل المتواني

وتنالها الهمم التي تسمو إلى     رب العلى بمشيئة الرحمن

فاتعب ليوم معادك الأدنى تجد     راحاته يوم المعاد الثاني

فحي على جنات عدن فإنها     منازلنا الأولى وفيها المخيم

وحي على روضاتها وخيامها     وحي على عيش بها ليس يسأم

الدعوة إلى الله وسيلة تثبيت واتزان

وعلى الطريق وسيلة تثبيت واتزان؛ إنها الدعوة إلى الكبير المتعال، على علم وبصيرة، لأنك في هذا السفر ستجد دعاة على الطريق يريدون أن يجتالوك عن الطريق بالباطل، فإنْ لم تدعُهم إلى الحق الذي تحمله، دعوك إلى الباطل، إنْ لم تَغزُهم بالحق، غزوك بالباطل، إن لم تَعرض عليهم الحق، عَرضُوا عليك الباطل في صورة الحق، فارفع على الطريق: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ [يوسف:108].

لا لدنيـا أو هوى أو عصبة     دون خزي أو نفاق أو خطل

إنها صدق وإخلاص لمن     هو يجزي وحده عز وجل

فارفع على الطريق هذا الشعار، واعلم أن العمل الدَّعويَّ -كما هو معلوم- ميدان واسع، ومجال التحرك فيه بحر لا نهاية له، إطاره الأرض -مُطلق الأرض- وميدانه الإنسان، من غير حد للون ولا لجنس ولا للغة، إنَّها جمع وتأليف على ساحة الإسلام من غير دخل.

والعمل لهذه السعة يحتاج إلى رسم خطط دقيقة.. إلى دراسات متأنية.. إلى نَبذٍ للفَوضَوية ولو بحسن نية؛ فالارتجال والفوضى خلل ووهن وجهل واضطراب في التصور؛ لأن الأمة في حاجة ماسة إلى جيل مصلح منقذ، يمارس خدمة الإسلام بأرقى أساليب الإدارة والتوجيه، جيل يتجاوز العشوائية، ويكفر بالغوغائية، ويحتكم إلى حقائق الكتاب والسُّنّة، لا إلى الوهم، ولا ينسى وهو يتطلع إلى السماء أنَّه واقف على الأرض؛ فلا يجري وراء الخيال والأحلام والأماني، ولا يسبح في غير ماء، ولا يطير بغير جناح، جيل واقعي لا يسبح في البَر، ولا يحرُث في البحر، ولا يبذُر في الصخر، كما يقول صاحب: جيل النصر لا ينسج خيوطًا من الخيال، ولا يبني قصورًا في الرمال، ولا ييئس من رَوح الله، ولا يقنَط من رحمة الله، لكنه يعرف حدود قدراته وإمكاناته، فيأخذ بالأسباب، ويدرس مشروعية الوسائل قبل أن يُقدِم على الأحداث.

ولسنا بِدعًا في ذلك يوم ندعو إلى ذلك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو الأسوة والقدوة- لما هاجر إلى المدينة ، خرج بطريقة مدروسة، منظمة، عجيبة، اتخذ فيها كل الأسباب متوكِّلا على ربه.

ويظهر ذلك من خلال ما يلي:

أولاً: الاتصال بالأنصار الذي تمت من خلاله بيعة العقبة الأولى.

ثانيًا: َبعْث النبي صلى الله عليه وسلم لـمصعب بن عمير إلى الأنصار، ليقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في دين الله.

ثالثًا : بيعة العقبة الثانية، التي هي شدٌّ للوثاق والعهد على النصرة في المَنشَط والمَكرَه والعُسر واليُسر، بعد أن استوعب النبي صلى الله عليه وسلم درس الطائف قبل ذلك.

رابعًا: أمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بالهجرة، حتى لم يبق بـمكة إلا محبوس أو مفتون.

خامسًا: استبقاء عليٍّ رضي الله عنه في مكة ؛ لحاجته إليه في تأدية الودائع عن النبي صلى الله عليه وسلم ولمهمَّة تأتي فيما بعد.

سادسًا: اتخاذ الصاحب وهو أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه.

سابعًا: انتظار الإذن بالهجرة منه صلوات الله وسلامه عليه.

ثامنًا : إعداد الرواحل ودفعها إلى خريت من قِبل أبي بكر ومُواعدته الغَار بعد ثلاث ليال.

تاسعًا: ذهابه صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر في وقت غير معهود منه، وطلبه من أبي بكر إخراج من عنده، ليخبره بإذن الخروج؛ حتى قال أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: إنما هم أهلك يا رسول الله، فأخبره صلى الله عليه وسلم بأنه قد أُذِن له بالهجرة.

عاشرًا: تكليف علي رضي الله عنه بالمبيت في فراشه صلى الله عليه وسلم يوم أحاط به المشركون ليقتلوه تَعْمِية عليهم.

حادي عشر: اتجاهه إلى الجنوب المعاكس لطريق المدينة ، وذلك لتضليل المشركين، مع مكوثهم في الغار ثلاثًا.

ثاني عشر: تكليف صاحبه أبي بكر لـأسماء ابنته ذات النطاقين رضي الله عنها بنقل الزاد إلى الغار للنبي صلى الله عليه وسلم ولأبيها.

ثالث عشر: تكليف أخيها عبد الله بنقل المعلومات إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الغار أولاً بأول.

رابع عشر: تكليف عامر بن فهيرة مولى أبي بكر رضي الله عنه بالمرور بغنمه مساءً على الغار ليسقي النبي صلى الله عليه وسلم من لبن الغنم، وليطمس آثار الأقدام التي تتردد إلى الغار، حتى لا يكتشف المشركون بواسطة القافة من يتردد إلى الغار.

إنَّ الهجرة -أيها الأحبة- أشبه بعملية احتشاد، ومرحلة استنفار، وقاعدة حماية، أخذ فيها المصطفىصلى الله عليه وسلم بكل الأسباب، متوكلاً على ربه، قبل أن يُعلن النفير، وتدق ساعة الصفر كما يقال، ولا غرو، فهو القائل صلى الله عليه وسلم كما روى أبو داود بإسناد حسن: {إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم}.

كل هذا تعليم منه صلى الله عليه وسلم للانضباط في جميع شئون الحياة؛ من سفر وإقامة، مع نبذٍ للفوضوية والارتجال والتخبط ولو حسنت معه النية، والله عز وجل يقول: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].

بهداه أيها الداعي اقتده وابتغ     الأخرى وأخلص في العمل

فأحزم الناس من لو مات من ظمأ     لا يقرب الوِرد حتى يعرف الصدرا

أما هدف المسافر وَوِجْهته: فللمسافر وِجْهَة، ومسافر لا يحدد وجهته كالثور -أكرمكم الله- يدور في الساقية ويدور ويدور ويلف، ثم ينتهي من حيث بدأ، أو كالسَّفينة التي تسير في البحر بلا مقصد، تتلاعب بها الأمواج، وتقذف بها الأثباج، ثم تهلك هي وأصحابها.

فما وجهتنا عباد الله؟ إنها جنةٌ عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.

من رام وصل الشمس حاك خيوطها     سـببا إلى آمــاله وتعــلقا

حُفَّت الجنة بالمكاره، فمن أرادها حقًّا اقتحم المكاره، فمن خلقه الله للجنة لم تزل هداياها تأتيه من المكاره، والمكارم منُوطة بالمكاره، ومن تأمَّل نَيل الدر من البحر، وجده بعد معاناة المكاره، ومن تأمَّل دوام البقاء في نعيم الجنة، علم أنه لا يحصل إلا بنقد هذا العمر ثمنًا له، وما مقدار عمر غايته مائة سنة، منها خمس عشرة سنة صَبوة وجهل، ومنها ثلاثون بعد السبعين -إن حصلت-عجز وضعف، والتوسط نوم، ونصف زمانك أكل وشرب وكَسب، وللعبادات منه زمن يسير.

عمرك محدود فأدرك به     بعض الأماني وانتهز واعقل

أفلا يُشترى ذلك الدائم بهذا القليل؟!

خاب -والله- وغُبِن وتَعِس وانتَكَس من باع الجنة بما فيها بشهوة ساعة؛ غَبْن فاحش وخلل، وهوان، تالله ما العَيش إلا عَيش الجنة، حيث اليقين والرضا والمعاشرة لمن لا يُؤذِي ولا يخون، مع تنوع أصناف النعيم .

والذل في دعة النفوس ولا أرى     عز المعيشة دون أن يشقى لها

مَن جدَّ وَجَد، ومن سهر ليس كمن رقد، والفضائل تحتاج لوَثْبة أسد، تالله ما هَزُلت فيَستَامها المفلسون، ولا كَسَدت فيبيعها بالنسيئة المعسرون.

لقد أقيمت للعرض في سوق (مَن يزيد؟) فلم يُرض لها بثمن دون بذل النفوس.

تأخر البطَّالون، وقام المحبون ينظرون أيهم يصلح أن يكون لها ثمنًا، فدارت السلعة بينهم، ووقفت في يد قوم يحبهم ويحبونه، أذلَّةٍ على المؤمنين، أعزَّةٍ على الكافرين.

عرفوا عظمة المُشترَى، وقدر السلعة، وفضل الثمن، وجلالة من جرى على يديه عقد التبايع، فرأوا من الغَبن أن يبيعوها لغيره بثمن بخس، فعقدوا معه بَيعة الرضوان والتراضي، فربح البيع! لا إقالة ولا استقالة:

سعوا للمعالي وهم صبية     وسادوا وجادوا وهم في المهود

إنها سلعة الله وكفى، سلعة الله غالية جِدُّ غالية، تحتاج إلى مثابرة، إلى جهد وصبر ومصابرة وتضحية ومغالبة.

ومن هجر اللذات نال المنى ومن     أكب على اللذات عض على اليد

يا سلعة الرحمن لست رخيصة     بل أنت غالية على الكسلان

يا سلعة الرحمن ليس ينالها     في الألف إلا واحد لا اثنان

يا سلعة الرحمن أين المشتري     فلقد عرضت بأيسر الأثمان

يا سلعة الرحمن هل من خاطب؟     فالمهر قبل الموت ذو إمكان

يا سلعة الرحمن لولا أنها     حجبت بكل مكاره الإنسان

ما كان عنها قط من متخلف     وتعطلت دار الجزاء الثاني

لكنها حجبت بكل كريهة     ليصد عنها المبطل المتواني

وتنالها الهمم التي تسمو إلى     رب العلى بمشيئة الرحمن

فاتعب ليوم معادك الأدنى تجد     راحاته يوم المعاد الثاني

فحي على جنات عدن فإنها     منازلنا الأولى وفيها المخيم

وحي على روضاتها وخيامها     وحي على عيش بها ليس يسأم

وعلى الطريق وسيلة تثبيت واتزان؛ إنها الدعوة إلى الكبير المتعال، على علم وبصيرة، لأنك في هذا السفر ستجد دعاة على الطريق يريدون أن يجتالوك عن الطريق بالباطل، فإنْ لم تدعُهم إلى الحق الذي تحمله، دعوك إلى الباطل، إنْ لم تَغزُهم بالحق، غزوك بالباطل، إن لم تَعرض عليهم الحق، عَرضُوا عليك الباطل في صورة الحق، فارفع على الطريق: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ [يوسف:108].

لا لدنيـا أو هوى أو عصبة     دون خزي أو نفاق أو خطل

إنها صدق وإخلاص لمن     هو يجزي وحده عز وجل

فارفع على الطريق هذا الشعار، واعلم أن العمل الدَّعويَّ -كما هو معلوم- ميدان واسع، ومجال التحرك فيه بحر لا نهاية له، إطاره الأرض -مُطلق الأرض- وميدانه الإنسان، من غير حد للون ولا لجنس ولا للغة، إنَّها جمع وتأليف على ساحة الإسلام من غير دخل.

والعمل لهذه السعة يحتاج إلى رسم خطط دقيقة.. إلى دراسات متأنية.. إلى نَبذٍ للفَوضَوية ولو بحسن نية؛ فالارتجال والفوضى خلل ووهن وجهل واضطراب في التصور؛ لأن الأمة في حاجة ماسة إلى جيل مصلح منقذ، يمارس خدمة الإسلام بأرقى أساليب الإدارة والتوجيه، جيل يتجاوز العشوائية، ويكفر بالغوغائية، ويحتكم إلى حقائق الكتاب والسُّنّة، لا إلى الوهم، ولا ينسى وهو يتطلع إلى السماء أنَّه واقف على الأرض؛ فلا يجري وراء الخيال والأحلام والأماني، ولا يسبح في غير ماء، ولا يطير بغير جناح، جيل واقعي لا يسبح في البَر، ولا يحرُث في البحر، ولا يبذُر في الصخر، كما يقول صاحب: جيل النصر لا ينسج خيوطًا من الخيال، ولا يبني قصورًا في الرمال، ولا ييئس من رَوح الله، ولا يقنَط من رحمة الله، لكنه يعرف حدود قدراته وإمكاناته، فيأخذ بالأسباب، ويدرس مشروعية الوسائل قبل أن يُقدِم على الأحداث.

ولسنا بِدعًا في ذلك يوم ندعو إلى ذلك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو الأسوة والقدوة- لما هاجر إلى المدينة ، خرج بطريقة مدروسة، منظمة، عجيبة، اتخذ فيها كل الأسباب متوكِّلا على ربه.

ويظهر ذلك من خلال ما يلي:

أولاً: الاتصال بالأنصار الذي تمت من خلاله بيعة العقبة الأولى.

ثانيًا: َبعْث النبي صلى الله عليه وسلم لـمصعب بن عمير إلى الأنصار، ليقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في دين الله.

ثالثًا : بيعة العقبة الثانية، التي هي شدٌّ للوثاق والعهد على النصرة في المَنشَط والمَكرَه والعُسر واليُسر، بعد أن استوعب النبي صلى الله عليه وسلم درس الطائف قبل ذلك.

رابعًا: أمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بالهجرة، حتى لم يبق بـمكة إلا محبوس أو مفتون.

خامسًا: استبقاء عليٍّ رضي الله عنه في مكة ؛ لحاجته إليه في تأدية الودائع عن النبي صلى الله عليه وسلم ولمهمَّة تأتي فيما بعد.

سادسًا: اتخاذ الصاحب وهو أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه.

سابعًا: انتظار الإذن بالهجرة منه صلوات الله وسلامه عليه.

ثامنًا : إعداد الرواحل ودفعها إلى خريت من قِبل أبي بكر ومُواعدته الغَار بعد ثلاث ليال.

تاسعًا: ذهابه صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر في وقت غير معهود منه، وطلبه من أبي بكر إخراج من عنده، ليخبره بإذن الخروج؛ حتى قال أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: إنما هم أهلك يا رسول الله، فأخبره صلى الله عليه وسلم بأنه قد أُذِن له بالهجرة.

عاشرًا: تكليف علي رضي الله عنه بالمبيت في فراشه صلى الله عليه وسلم يوم أحاط به المشركون ليقتلوه تَعْمِية عليهم.

حادي عشر: اتجاهه إلى الجنوب المعاكس لطريق المدينة ، وذلك لتضليل المشركين، مع مكوثهم في الغار ثلاثًا.

ثاني عشر: تكليف صاحبه أبي بكر لـأسماء ابنته ذات النطاقين رضي الله عنها بنقل الزاد إلى الغار للنبي صلى الله عليه وسلم ولأبيها.

ثالث عشر: تكليف أخيها عبد الله بنقل المعلومات إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الغار أولاً بأول.

رابع عشر: تكليف عامر بن فهيرة مولى أبي بكر رضي الله عنه بالمرور بغنمه مساءً على الغار ليسقي النبي صلى الله عليه وسلم من لبن الغنم، وليطمس آثار الأقدام التي تتردد إلى الغار، حتى لا يكتشف المشركون بواسطة القافة من يتردد إلى الغار.

إنَّ الهجرة -أيها الأحبة- أشبه بعملية احتشاد، ومرحلة استنفار، وقاعدة حماية، أخذ فيها المصطفىصلى الله عليه وسلم بكل الأسباب، متوكلاً على ربه، قبل أن يُعلن النفير، وتدق ساعة الصفر كما يقال، ولا غرو، فهو القائل صلى الله عليه وسلم كما روى أبو داود بإسناد حسن: {إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم}.

كل هذا تعليم منه صلى الله عليه وسلم للانضباط في جميع شئون الحياة؛ من سفر وإقامة، مع نبذٍ للفوضوية والارتجال والتخبط ولو حسنت معه النية، والله عز وجل يقول: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].

بهداه أيها الداعي اقتده وابتغ     الأخرى وأخلص في العمل

فأحزم الناس من لو مات من ظمأ     لا يقرب الوِرد حتى يعرف الصدرا

كأني بك بعد هذا كله، قد حددت وِجهتك، وعرفت طريقك، وأخذت عدَّتك وأُهبتك، واخترت رفقتك، وأخذت بكل أسباب نجاتك في سفرك؛ فدونك هذه الإشارات التي لابد منها، لعلها تغريك بالمسير في الطريق، وتحذرك العقبات التي تصد عن بلوغ الغاية في المسير.

انوِ الخير، واعمل بمقتضى هذه النية؛ فبالنية يتحدد السفر، وتتضح الوجهة، وعلى أساسها يخطط منهج الرحلة، فهي أساس الأمر ورأسه وعموده وأصله، بل هي روح العمل وقائده وسائقه، يصح بصحتها ويفسد بفسادها، يُستجلب التوفيق بها، ويحصَّل الخذلان بعدمها، وبحسب النية تتفاوت الدرجات في الدنيا والآخرة، وكل المناهل غير الصدق آسنة.

وسنة الله اقتضت أن من نوى الخير وعمل بمقتضى تلك النية، يوفق ويسدد ويؤيد، ويبلغ من الخير ما يريد، وفوق ما يريد بإذن ربه، يقول الله جل وعلا: وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللهِ [النساء:100].. مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ [الشورى:20].. وَمَنْ أَرَادَ الآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مشْكُورًا [الإسراء:19].

ومن نوى الشر وعمل بمقتضى تلك النية، حُرِم التوفيق، وحالفه الخذلان والهوان، وإنْ بدا غير ذلك فإنما هو سراب أو أحلام، لا تلبث أن تنقشع فيظهر المستور، يقول الله جل وعلا: مَن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا [الإسراء:20] مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ *أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآَخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16].. وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ [آل عمران:145].

فانْوِ الخير واعمل بمقتضى تلك النية، فإنك لا تزال بخير ما نويت الخير: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى).

والقصد وجه الله بالأقوال     والـ     أعمال والطاعات والشكران

وبذاك ينجو العبد من إشراكه     ويصـير حقا عابد الرحمن