ما حقيقة كخيال


الحلقة مفرغة

اللهم لك الحمد ملء السماوات والأرض، فكل الحمد لك، اللهم لك الشكر لنعمٍ لا نحصيها، فكل الشكر لك، اللهم لك التذلل والخضوع، فلا معبود غيرك، نسألك الأمن من هول يومٍ يستوي فيه القوي والضعيف، والشريف والوضيع، فالناس فيه سكرى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة حقٍ وصدقٍ أتولى بها الله ورسوله والذين آمنوا تترى، وأتبرأ بها براءةً كاملةً من كل طاغوتٍ وندٍ معبودٍ ظلماً وزوراً؛ من دون الله الولي الأعلى، شهادةً صادرةً عن يقين صادقٍ واعتقادٍ صحيح؛ لا شكوك فيها ولا أوهام والله المولى، نسأله الثبات عليها، والعمل بمقتضاها حتى يأتي اليقين وهو أرحم الراحمين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الأمين، خصه الله بجوامع الكلم، وأنزل عليه القرآن المبين.

صلى عليه ربنا وسلما     والآل والصحب الكرام الفضلا

الأنجم الزهر الهداة النزلا     والتابعون السادة الغرُّ الألى

قد نقلوا الدين لنا مكملا     أزكى صلاةٍ وسلامٍ مثقلا

تدوم ما اسود الظلام وانجلا

أما بعد:

فيا إخوتي في الله! حياكم الله -والتحايا مفاتيح القلوب- تحيةً طيبةً لطالما ثملت في الصدر ثمول النار في الحجر، ثم وافتكم الليلة كعبير السحر، تتنفس في لقائكم شذى الريحان والورد والمسك والعنبر، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. تحية الإسلام تبعثها الروح إلى الروح، من كبدٍ مقروح، لامطففة ولا جموح، فللأمور دلائل، وللحقائق مخايل، وبين النفوس تعارف وتآلف، وما يخفى المريب والأمين، ولا يشتبه الصحيح الصريح بالمتهم الضنين، القلوب عرفاء، والأوجه شهداء، والأبصار أدلاء.. فلا خفاء.

أحياكم الله وحياكم، وأبقاكم للأمة ذخراً، تصلون أسبابها، وتعيدون لها نضرتها وشبابها، وللإسلام ترفعون أعلامه، وتدفعون ظلامه، وتؤدون فرضه، وتردون قرضه، وتصونون عرضه، وتصعدون سماءه، فتحفظون أرضه برحمة الله ومنه.

وهبنا الله التوفيق، وهدانا إلى سواء الطريق.

لابد من التطبيق لنلحق بالسلف في الركب

أحبتي في الله! إن مقارنةً يجريها المنصف بين أمتنا في سابق عهدها وهي مطويةٌ في بطون الأرض والكتب، وبين هذه الأمة التي تجوب في حاضرها اليوم على وجه الأرض؛ يجد الفرق شاسعاً، والبون عظيماً، وأوجه الشبه تكاد تكون مفقودةً مع وجود الاشتراك في النسب والاسم، ولو التمسنا السبب بحق لوجدناه قريباً منا، والله ما هو إلا هدى القرآن، أقامه الأولون، وجمعوا عليه قلوبهم، وعلى أخلاقه روضوا أنفسهم، رباهم، وأدبهم، وزكاهم، وصفى قرائحهم، وجلى مواهبهم، وصقل ملكاتهم، وأرهف عزائمهم، وهذب أفكارهم، ومكن للخير في نفوسهم.

حفز أيديهم للعمل النافع وأرجلهم للسعي الصالح، ثم ساقهم على ما في الأرض من باطل فطهروها منه تطهيراً، وعمروها بالصلاح تعميراً، واتخذت الأمة الآن إلا من رحم الله القرآن مهجوراً، تقيم حروفه وتهمل حدوده، فحقت عليها كلمة الله في أمثالها، فإذا السفينة غارقةٌ في أوحالها، وركابها كالغنم تساق إلى الذبح لاهيةً؛ تخطف الكلأ من على حافتي الطريق لا تدري ما يراد بها، فمن لي بمن يرسلها معي كما أرسلها الإبراهيمي وغيره من قبل إلى المهتدين صورةً وحقيقةً ومعنى، إلى المهتدين صورةً ومظهراً وخيالاً، إلى المهتدين بالهوية والوراثة دعوى بلا بينةٍ ليس إلا، إلى المسلمين عموماً شيباً وشباباً، من يرسلها معي صيحةً داويةً مدوية: يا أهل القرآن! لستم على شيءٍ حتى تقيموا القرآن، يا أهل القرآن! ما حقيقةٌ كخيال، وما آلٌ كبلال.

ما سراب كشراب، وما غمض يظهر من خلال المقال.. رزقنا الله وإياكم حسن المآل. إلهي:

أرجوك حقق ما بالنفس من أمل     وكن معيني على إدراك غاياتي

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، اللهم اجعلني خيراً مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون.

إن الصفات أيها المسلمون! لا تتحقق إلا بظهور آثارها في الخارج، وبشهادة الواقع؛ فالوعي لابد أن يصحبه رعي، ويعقبه سعي، ليكون على الحقيقة الوعي عين الوعي.

والهداية على الحقيقة لابد أن يصحبها علمٌ وحزم، ويتبعها عزم، يسوقها إقدامٌ بلا إحجام، يحدوها على الإقدام إلى الأمام.

ما حقيقةٌ كخيال:

لا تعظم الأشياء بالأسماء     ولا يقاس النور بالظلماء

إن السراب البيج غير الماء، لئن كان في الرياح لواقح الأشجار، ففي حقيقة الهداية لقاح الأفئدة والضمائر والأبصار.. ما حقيقةٌ كخيال.

لئن كان من الريح ما يحرق الورق، ففي الهداية على الحقيقة ما يطفئ الحرق.. ما حقيقةٌ كخيال.

اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

من كلام المقبلي عن الهداية الحقة

يقول اليماني في إيثار الحق ما مضمونه ونقول به: إن طلب الحق والهداية إلى الصراط المستقيم أجلى وأحلى في النفوس الأبية من الشمس في رابعة النهار، ومحورٌ تدور عليه همم الأخيار، وعباب تنصب منه جداول شمائل الأطهار، ومتى علت الهمة في طلب الحق والهدى، حملت صاحبها على مفارقة العوائد وطلب الأوابد، فإن الحق في مثل هذه الأعصار قلًّ ما يعرفه إلا واحد، وإذا عظم المطلوب قلًّ المساعد. البدع والشبه قد فشت، والشهوات انتشرت وطغت، وكثر الداعون إليها والمعاونون عليها..

فكيف لو رآنا اليوم، وقد صار طالب الحق اليوم من أمره في حيرة؟ ولكن كل مطلوب بإذن الله مدرك، فكم أدرك الحق طالبه في زمن الفترة، وكم عمي عنه المطلوب له في زمن النبوة، فاعتبر.. فإن الحق ما زال عزيزاً نفيساً كريماً، لا ينال مع الإضراب والإعراض عن طلبه، وعدم التشوف والتشوق إلى سببه، لا يهجم على المبطلين المعرضين، ولا يفاجئ أشباه الأنعام الغافلين، ولو كان كذلك ما كان على وجه الأرض مبطلٌ ولا ضال، ولا جاهلٌ ولا غافلٌ ولا بطال.. ما حقيقةٌ كخيال.

أيها المسلمون! اطلبوا الهداية على الحقيقة في وحي الله من الله تجدوها، لا تستأثرنكم دونها عادات وتقاليد ومظاهر وأعراف، فتكونوا لقمةً بين فكي أسد وطبقتي رحى، بل لساناً ولا أسنان، وأشباحاً ولا أرواح، وخيالاً ولا حقيقة.

إن العالم يلهث ويلهث ويتطلع في خضم تيهه وشقائه إلى منقذ، وحاله حال أهل جهنم: أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [الأعراف:50] هل عندنا ماء الهداية الزلال أم أننا نملك السراب والآل؟ أم أننا كالعيس العطاش الهلكى في البيداء وعلى ظهورها الماء في القلال؟ ما حقيقةٌ كخيال.

شرف الهداية الحقة وفضلها

إن الهداية إلى الصراط المستقيم، والسير في ركاب الصالحين، والتجافي عن طريق الضالين؛ لهو أعزُّ وأنفس وأغلى ما يملكه المرء، وهو أتم نعمةٍ يمتن بها الله على العبد: بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17] إنها حصن الله الحصين، من دخله كان من الآمنين، وهي الباب العظيم الذي من ولجه كان إلى الله من الواصلين، نوره يسعى بين يديه وبأيمانه إذا أطفئت أنوار المبتدعة والمنافقين، قال الله: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122] كلا.

من تكن همته نسج الحصير     فهو لا يعلم ما نسج الحرير

من رام الهداية على الحقيقة طلبها وبحث عنها، وحشد همته، وعبأ طاقته، وجرد نفسه من كل شاغل، وعالج عثرات طريقه، ومن علم الله صدقه أعطاه وهداه وآتاه، ومن أوتيها فقد أوتي خيراً كثيراً، وما يذكر إلا أولو الألباب، قال الله: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:178] وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً [الإسراء: 97].

زيد بن عمرو بن نفيل وطلب الهداية

وفي القدسي: {يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم} يمين الله ملأى سحاء لا يغيضها شيء.

سبحانه وسعت آثار رحمته     أهل الأراضي وسكان السماوات

فمن استهداه هداه، ومن توكل عليه كفاه، يقول ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه كما في صحيح البخاري : [[إن زيد بن عمرو بن نفيل -وهو ابن عم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أبو سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنه- يقول: إن زيداً هذا خرج إلى الشام يسأل عن الدين -يبحث عن الهداية في وقت فترةٍ من الرسل- من الشام إلى الموصل إلى الجزيرة، فلقي عالماً من علماء اليهود، فسأله عن دينه، فقال: لعلي أن أدين بدينكم، فأخبرني، فقال اليهودي: لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله!

قال زيد : ما أفرُّ إلا من غضب الله تعالى، ولا أحمل من غضب الله شيئاً أبداً، وأنَّى أستطيعه؟! فهل تدلني على غيره؟

قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفاً، قال زيد : وما الحنيف؟

قال: دين إبراهيم، لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولا يعبد إلا الله.

فخرج زيد ، فلقي عالماً من علماء النصارى، فقال مثله: أخبرني عن دينكم لعلي أن أدين به.

فقال: لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله.

قال: ما أفرُّ إلا من لعنة الله، ولا أحمل من لعنة الله ولا من غضبه شيئاً أبداً، وأنًّى أستطيع؛ فهل تدلني على غيره؟

قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفاً، قال: وما الحنيف؟

قال: دين إبراهيم، لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولا يعبد إلا الله.

فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم عليه السلام، خرج وبرز، ورفع يديه لمولاه، وقال: اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم، اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم]].

عبد الله! أن يتجه العبد إلى الله وحده دون سواه؛ طلبةٌ عزيزة منيعةٌ تحتاج إلى اصطبار، وطريقٌ يحتاج إلى مجاهدة ليخلص القلب من اتباع الهوى إلى حب مولاه: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69] تتلوها لذةٌ لا يعرفها إلا من ذاق طعمها وعرف حلاوتها، لكنها تبقى عزيزةً إلا بمشقة، فإذا تجاوزت تلك المشقة، منحتك عطرها، فتنسمت عرفها وريحها وكنت من أهلها، وإلا:

فما أنت من أرض الحجون ولا الصفا     ولا لك حظ الشرب من ماء زمزم

فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ [مريم: 65] فكان زيدٌ وقد ذاق حلاوة الهداية يقول فيما روي عنه: لبيك حقاً حقا تعبداً ورقاً، لبيك حقاً حقا تعبداً ورقاً، ثم يخر لله ساجداً، ويقول: والله لو أعلم أحب الوجوه إليك، لعبدتك به، ثم يخرُّ ساجداً على الأرض، تقول أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: [[رأيت زيداً قائماً مسنداً ظهره إلى الكعبة يقول: يا معشر قريش! والله ما منكم على دين إبراهيم أحدٌ غيري]] وكان يحيي الموءودة، يقول للرجل إذا أراد أن يئد ابنته: لا تقتلها، أنا أكفيك مؤنتها، وحاله:

فإن أك مشغولاً بشيءٍ فلا أكن     بغير الذي يرضى به الله أشغلُ

رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يدرك بعثته، وكان يتلمس خروجه ليؤمن به ويتبعه، وقد آمن ومات قبل ذلك، وكان يقول رحمه الله فيما يقول:

وأسلمت وجهي لمن أسلمت     له الأرض تحمل صخراً ثقالا

دحاها فلما استوت شدها     سواءً وأرسى عليها الجبالا

وأسلمت وجهي لمن أسلمت     له المزن تحمل عذباً زلالا

إذا هي سيقت إلى بلدةٍ     أطاعت فصبت عليها سجالا

وأسلمت وجهي لمن أسلمت     له الريح تصرف حالاً فحالا

سأل سعيد -ابنه- رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبيه، فقال صلى الله عليه وسلم -واسمع إلى ما قال- قال: {رحمه الله، لقد مات على دين إبراهيم، ولقد رأيته في الجنة يسحب ذيولاً، يبعث يوم القيامة أمةً وحده، فيما بيني وبين عيسى عليه السلام}.

فاهنأ بمنزلك الجميل ونم به     في غبطةٍ وانعم بخير جوارِ

رضي الله عن الرجل، بل عن الرجال، بل عن الأمة زيد بن عمرو ، استهدى الله فهداه، ودعاه فأجابه سبحانه.

سبحان من لا يشبه الأناما     وعزَّ رب العرش أن يناما

وكل خلقه له فقيرُ     وكل أمرٍ شاءه يسيرُ

يهدي الذي يشاء ذاك فضلُ     ويبتلي البعض وذاك عدلُ

ولا يرد ما به الله قضى     وكل أمرٍ في الكتاب قد مضى

أحبتي في الله! إن مقارنةً يجريها المنصف بين أمتنا في سابق عهدها وهي مطويةٌ في بطون الأرض والكتب، وبين هذه الأمة التي تجوب في حاضرها اليوم على وجه الأرض؛ يجد الفرق شاسعاً، والبون عظيماً، وأوجه الشبه تكاد تكون مفقودةً مع وجود الاشتراك في النسب والاسم، ولو التمسنا السبب بحق لوجدناه قريباً منا، والله ما هو إلا هدى القرآن، أقامه الأولون، وجمعوا عليه قلوبهم، وعلى أخلاقه روضوا أنفسهم، رباهم، وأدبهم، وزكاهم، وصفى قرائحهم، وجلى مواهبهم، وصقل ملكاتهم، وأرهف عزائمهم، وهذب أفكارهم، ومكن للخير في نفوسهم.

حفز أيديهم للعمل النافع وأرجلهم للسعي الصالح، ثم ساقهم على ما في الأرض من باطل فطهروها منه تطهيراً، وعمروها بالصلاح تعميراً، واتخذت الأمة الآن إلا من رحم الله القرآن مهجوراً، تقيم حروفه وتهمل حدوده، فحقت عليها كلمة الله في أمثالها، فإذا السفينة غارقةٌ في أوحالها، وركابها كالغنم تساق إلى الذبح لاهيةً؛ تخطف الكلأ من على حافتي الطريق لا تدري ما يراد بها، فمن لي بمن يرسلها معي كما أرسلها الإبراهيمي وغيره من قبل إلى المهتدين صورةً وحقيقةً ومعنى، إلى المهتدين صورةً ومظهراً وخيالاً، إلى المهتدين بالهوية والوراثة دعوى بلا بينةٍ ليس إلا، إلى المسلمين عموماً شيباً وشباباً، من يرسلها معي صيحةً داويةً مدوية: يا أهل القرآن! لستم على شيءٍ حتى تقيموا القرآن، يا أهل القرآن! ما حقيقةٌ كخيال، وما آلٌ كبلال.

ما سراب كشراب، وما غمض يظهر من خلال المقال.. رزقنا الله وإياكم حسن المآل. إلهي:

أرجوك حقق ما بالنفس من أمل     وكن معيني على إدراك غاياتي

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، اللهم اجعلني خيراً مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون.

إن الصفات أيها المسلمون! لا تتحقق إلا بظهور آثارها في الخارج، وبشهادة الواقع؛ فالوعي لابد أن يصحبه رعي، ويعقبه سعي، ليكون على الحقيقة الوعي عين الوعي.

والهداية على الحقيقة لابد أن يصحبها علمٌ وحزم، ويتبعها عزم، يسوقها إقدامٌ بلا إحجام، يحدوها على الإقدام إلى الأمام.

ما حقيقةٌ كخيال:

لا تعظم الأشياء بالأسماء     ولا يقاس النور بالظلماء

إن السراب البيج غير الماء، لئن كان في الرياح لواقح الأشجار، ففي حقيقة الهداية لقاح الأفئدة والضمائر والأبصار.. ما حقيقةٌ كخيال.

لئن كان من الريح ما يحرق الورق، ففي الهداية على الحقيقة ما يطفئ الحرق.. ما حقيقةٌ كخيال.

اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

يقول اليماني في إيثار الحق ما مضمونه ونقول به: إن طلب الحق والهداية إلى الصراط المستقيم أجلى وأحلى في النفوس الأبية من الشمس في رابعة النهار، ومحورٌ تدور عليه همم الأخيار، وعباب تنصب منه جداول شمائل الأطهار، ومتى علت الهمة في طلب الحق والهدى، حملت صاحبها على مفارقة العوائد وطلب الأوابد، فإن الحق في مثل هذه الأعصار قلًّ ما يعرفه إلا واحد، وإذا عظم المطلوب قلًّ المساعد. البدع والشبه قد فشت، والشهوات انتشرت وطغت، وكثر الداعون إليها والمعاونون عليها..

فكيف لو رآنا اليوم، وقد صار طالب الحق اليوم من أمره في حيرة؟ ولكن كل مطلوب بإذن الله مدرك، فكم أدرك الحق طالبه في زمن الفترة، وكم عمي عنه المطلوب له في زمن النبوة، فاعتبر.. فإن الحق ما زال عزيزاً نفيساً كريماً، لا ينال مع الإضراب والإعراض عن طلبه، وعدم التشوف والتشوق إلى سببه، لا يهجم على المبطلين المعرضين، ولا يفاجئ أشباه الأنعام الغافلين، ولو كان كذلك ما كان على وجه الأرض مبطلٌ ولا ضال، ولا جاهلٌ ولا غافلٌ ولا بطال.. ما حقيقةٌ كخيال.

أيها المسلمون! اطلبوا الهداية على الحقيقة في وحي الله من الله تجدوها، لا تستأثرنكم دونها عادات وتقاليد ومظاهر وأعراف، فتكونوا لقمةً بين فكي أسد وطبقتي رحى، بل لساناً ولا أسنان، وأشباحاً ولا أرواح، وخيالاً ولا حقيقة.

إن العالم يلهث ويلهث ويتطلع في خضم تيهه وشقائه إلى منقذ، وحاله حال أهل جهنم: أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [الأعراف:50] هل عندنا ماء الهداية الزلال أم أننا نملك السراب والآل؟ أم أننا كالعيس العطاش الهلكى في البيداء وعلى ظهورها الماء في القلال؟ ما حقيقةٌ كخيال.

إن الهداية إلى الصراط المستقيم، والسير في ركاب الصالحين، والتجافي عن طريق الضالين؛ لهو أعزُّ وأنفس وأغلى ما يملكه المرء، وهو أتم نعمةٍ يمتن بها الله على العبد: بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17] إنها حصن الله الحصين، من دخله كان من الآمنين، وهي الباب العظيم الذي من ولجه كان إلى الله من الواصلين، نوره يسعى بين يديه وبأيمانه إذا أطفئت أنوار المبتدعة والمنافقين، قال الله: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122] كلا.

من تكن همته نسج الحصير     فهو لا يعلم ما نسج الحرير

من رام الهداية على الحقيقة طلبها وبحث عنها، وحشد همته، وعبأ طاقته، وجرد نفسه من كل شاغل، وعالج عثرات طريقه، ومن علم الله صدقه أعطاه وهداه وآتاه، ومن أوتيها فقد أوتي خيراً كثيراً، وما يذكر إلا أولو الألباب، قال الله: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:178] وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً [الإسراء: 97].

وفي القدسي: {يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم} يمين الله ملأى سحاء لا يغيضها شيء.

سبحانه وسعت آثار رحمته     أهل الأراضي وسكان السماوات

فمن استهداه هداه، ومن توكل عليه كفاه، يقول ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه كما في صحيح البخاري : [[إن زيد بن عمرو بن نفيل -وهو ابن عم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أبو سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنه- يقول: إن زيداً هذا خرج إلى الشام يسأل عن الدين -يبحث عن الهداية في وقت فترةٍ من الرسل- من الشام إلى الموصل إلى الجزيرة، فلقي عالماً من علماء اليهود، فسأله عن دينه، فقال: لعلي أن أدين بدينكم، فأخبرني، فقال اليهودي: لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله!

قال زيد : ما أفرُّ إلا من غضب الله تعالى، ولا أحمل من غضب الله شيئاً أبداً، وأنَّى أستطيعه؟! فهل تدلني على غيره؟

قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفاً، قال زيد : وما الحنيف؟

قال: دين إبراهيم، لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولا يعبد إلا الله.

فخرج زيد ، فلقي عالماً من علماء النصارى، فقال مثله: أخبرني عن دينكم لعلي أن أدين به.

فقال: لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله.

قال: ما أفرُّ إلا من لعنة الله، ولا أحمل من لعنة الله ولا من غضبه شيئاً أبداً، وأنًّى أستطيع؛ فهل تدلني على غيره؟

قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفاً، قال: وما الحنيف؟

قال: دين إبراهيم، لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولا يعبد إلا الله.

فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم عليه السلام، خرج وبرز، ورفع يديه لمولاه، وقال: اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم، اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم]].

عبد الله! أن يتجه العبد إلى الله وحده دون سواه؛ طلبةٌ عزيزة منيعةٌ تحتاج إلى اصطبار، وطريقٌ يحتاج إلى مجاهدة ليخلص القلب من اتباع الهوى إلى حب مولاه: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69] تتلوها لذةٌ لا يعرفها إلا من ذاق طعمها وعرف حلاوتها، لكنها تبقى عزيزةً إلا بمشقة، فإذا تجاوزت تلك المشقة، منحتك عطرها، فتنسمت عرفها وريحها وكنت من أهلها، وإلا:

فما أنت من أرض الحجون ولا الصفا     ولا لك حظ الشرب من ماء زمزم

فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ [مريم: 65] فكان زيدٌ وقد ذاق حلاوة الهداية يقول فيما روي عنه: لبيك حقاً حقا تعبداً ورقاً، لبيك حقاً حقا تعبداً ورقاً، ثم يخر لله ساجداً، ويقول: والله لو أعلم أحب الوجوه إليك، لعبدتك به، ثم يخرُّ ساجداً على الأرض، تقول أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: [[رأيت زيداً قائماً مسنداً ظهره إلى الكعبة يقول: يا معشر قريش! والله ما منكم على دين إبراهيم أحدٌ غيري]] وكان يحيي الموءودة، يقول للرجل إذا أراد أن يئد ابنته: لا تقتلها، أنا أكفيك مؤنتها، وحاله:

فإن أك مشغولاً بشيءٍ فلا أكن     بغير الذي يرضى به الله أشغلُ

رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يدرك بعثته، وكان يتلمس خروجه ليؤمن به ويتبعه، وقد آمن ومات قبل ذلك، وكان يقول رحمه الله فيما يقول:

وأسلمت وجهي لمن أسلمت     له الأرض تحمل صخراً ثقالا

دحاها فلما استوت شدها     سواءً وأرسى عليها الجبالا

وأسلمت وجهي لمن أسلمت     له المزن تحمل عذباً زلالا

إذا هي سيقت إلى بلدةٍ     أطاعت فصبت عليها سجالا

وأسلمت وجهي لمن أسلمت     له الريح تصرف حالاً فحالا

سأل سعيد -ابنه- رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبيه، فقال صلى الله عليه وسلم -واسمع إلى ما قال- قال: {رحمه الله، لقد مات على دين إبراهيم، ولقد رأيته في الجنة يسحب ذيولاً، يبعث يوم القيامة أمةً وحده، فيما بيني وبين عيسى عليه السلام}.

فاهنأ بمنزلك الجميل ونم به     في غبطةٍ وانعم بخير جوارِ

رضي الله عن الرجل، بل عن الرجال، بل عن الأمة زيد بن عمرو ، استهدى الله فهداه، ودعاه فأجابه سبحانه.

سبحان من لا يشبه الأناما     وعزَّ رب العرش أن يناما

وكل خلقه له فقيرُ     وكل أمرٍ شاءه يسيرُ

يهدي الذي يشاء ذاك فضلُ     ويبتلي البعض وذاك عدلُ

ولا يرد ما به الله قضى     وكل أمرٍ في الكتاب قد مضى

أي أخي! هيهات للسيل -أعني سيل الهداية على الحقيقة- هيهات للسيل إذا أتى أن يقف قبل أن يمد مده ويبلغ حده.

ومن يسد طريق العارض الهطل؟!

أرأيت سلمان ابن الإسلام، سابق الفرس، المنارة الشامخة في طلب الهداية، من تشتاق له الجنة، لو كان الإيمان عند الثريا لتناوله مثله، قال فيه علي رضي الله عنه بسند رجاله ثقات: [[أدرك العلم الأول والعلم الآخر، بحرٌ لا يدرك قعره، وهو منا أهل البيت]] طلب الهداية في مظانها، فوفقه الله ليصحب رسوله صلى الله عليه وسلم، هبت رياح الهداية في بيداء الأكوان، ونجم الخير، وهدأت الريح، فإذا أبو طالب في لجة الهلاك بلا أمان، وسلمان على ساحل السلامة في أمان، والوليد بن المغيرة يقدم قومه في التيه في تيه، وصهيب قد قدم بقافلة الروم في غير ما كبرٍ ولا تيه، والنجاشي في أرض الحبشة يعج بلبيك اللهم لبيك، وبلال على ظهر الكعبة يصدح بالأذان ليسمع الآذان ويوقظ الجنان، لما قضي في القدم سلامة سلمان ، أقبل يناظر أباه في دينٍ أباه، فلما علاه بالحجة لم يعرف أبوه جواباً إلا القيد، وهذا جوابٌ مرذولٌ يتداوله أهل الباطل من يوم: حَرِّقُوهُ [الإنبياء:68] ويوم لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [الشعراء:29] فنزل بـسلمان ضيفُ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ [محمد:31]، فنال بإكرامه مرتبة: (سلمان منا).

سمع أن ركباً على نية السفر، فسرق نفسه من حرز أبيه وما قطع، ركب راحلة العزم يرجو إدراك السعادة والسيادة، وقف نفسه على خدمة الأدلاء وقوف الأذلاء، ليكون من الأجلاء السعداء.. وكان، فلما أحسَّ الرهبان بانقطاع دولتهم، سلموا إليه أعلام الإعلان على نبوة نبينا عليه الصلاة والسلام، وقالوا: إن زمانه قد أظل، فاحذر أن تضل، وإنه يخرج بأرض العرب، ثم يهاجر إلى أرض بين حرتين.

فلو رأيتموه قد فلَّ الفلا والدليل شوقه، وخلى الوطن فلم يزعجه تطلعه وتوقه، ورحل مع رفقةٍ لم يرفقوا به، فشروه بثمنٍ بخسٍ دراهم معدودة، ابتاعه يهوديٌ بـالمدينة ، فلما رأى الحرتين، توقد حرُّ شوقه، وما علم المنزل بلهفة النازل:

أيدري الربع أيُّ دمٍ أراقا     وأيُّ قلوب هذا الركب شاقا

لنا ولأهله أبداً قلوب     تلاقي في جسوم ما تلاقى

فبينا هو يكابد ساعات الانتظار، قدم البشير بقدوم البشير النذير والسراج المنير؛ عليه صلوات الحكيم الخبير، وسلمان في رأس نخلة، كاد الفرح أن يلقيه لولا أن الحزم أمسكه، كما جرى يوم: إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ [القصص:10] ثم عجل النزول لتلقي ركب السيارة، ولسان حاله يقول:

خليلي من نجدٍ قفا بي على الربى     فقد هبَّ من تلك الديار نسيمُ

فصاح به مالكه: ما لك ولهذا؟ انصرف إلى شغلك، فأجاب بلسان حاله:

كيف انصرافي ولي في داركم شغلُ

فأخذ مالكه يضربه، فأخذ لسانه يترنم لو سمع الأطروش الأصم:

خليلي لا والله ما أنا منكما     إذا علمٌ من آل ليلى بدا ليا

فلما لقي الرسول صلوات الله وسلامه على الرسول، عرض نسخة الرهبان بكتاب الأصل فوافق وطابق، فإلى الهداية سيق فسابق، حرر نفسه من هواها، فانتصرت يوم زكاها وحماها، ضعفت الأخلاط، فخفت الأغلاط، وتجدد النشاط، وهدي سلمان إلى سواء الصراط، ما آل كبلال، ، وما حقيقةٌ كخيال..

يا محمد! صلوات الله وسلامه على نبينا محمد، أنت تريد أبا طالب ، والله يريد سلمان ، أبو طالب إذا سئل عن اسمه قال: عبد مناف، وإذا انتسب فللآباء، وإذا ذكر المال عد الإبل، وسلمان إن سئل عن اسمه، قال: عبد الله، وعن نسبه، قال: ابن الإسلام، وعن لباسه، قال: التواضع، وعن طعامه، قال: الجوع، وعن شرابه، قال: الدموع، وعن وساده، قال: السهر، وعن فخره، قال: (سلمان منا) وعن قصده، قال: يريدون وجهه.

قصدنا الله حجتنا     يوم يأتي الناس بالحججِ

نورٌ مسخ الظلام، وهدىً محق الضلال، وحقٌ محق الباطل.

طلع الصباح فأطفئ القنديلا

ما حقيقةٌ كخيال..

الهداية على الحقيقة نورٌ من الله: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور:35] ومنةٌ وهبةٌ من الله: وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [يونس:25] ورحمةٌ من الله إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56].

رحمة الله لا تعزُّ على طالبٍ في أي مكان ولا في أي حال، كما يقول صاحب الظلال في تصرف: وجدها إبراهيم عليه السلام في النار: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69] ووجدها يوسف عليه السلام في الجب: وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [يوسف:15] ثم وجدها أخرى في السجن: وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:54-56] ووجدها موسى عليه السلام في اليم وهو طفلٌ رضيعٌ مجردٌ من كل قوة ومن كل حراك: فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7] ثم وجدها أخرى في قصر فرعون وهو عدوٌ له متربصٌ به، يبحث عنه ليقتله، فإذا به يغذوه قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [القصص: 9] وقد ألقى الله عليه المحبة، فما رآه أحدٌ إلا أحبه: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [طه:39] ووجدها يونس عليه السلام في بطن الحوت في الظلمات يوم نادى: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:87-88] وجدها أصحاب الكهف في الكهف حين افتقدوها في القصور والدور، فقال بعضهم لبعض: فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً [الكهف:16] وجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار، والقوم يتعقبونهم ويقصون الآثار: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما قال: لا تحزن إن الله معنا) وجدها كل من أوى إلى الله يائساً من كل ما سواه، منقطعاً عن كل شبهةٍ في قوة، ومظنةٍ في رحمة، قاصداً باب الله وحده:

إلهي وجهت وجهي إليك     فحقق منايا وأحلاميا

وهب لي من العزم ما أرتجي     وحقق بفضلك آماليا

وثبت فؤادي في حاضري     وتمم قوابل أياميا

الهداية على الحقيقة نورٌ وحبور وسرور، والنور لا يحل إلا في قلبٍ صحيحٍ سليمٍ من الهوى والحقد والغل والحسد كما يقول الحميدي ، أما القلب المريض، فإنه محجوبٌ عن ذلك النور، ولو كان الفكر في غاية الذكاء والفهم والعلم، فهو أحير من ضب؛ إذا بعد عن جحره خبن، وأهل الصحراء أعلم بذلك.

هذه حقيقة عارية، من أنكرها فهو ساعٍ على جسر الخيال، مستبدل بالماء الآل، وما حقيقةٌ كخيال.