فتاوى الحج [2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فما ترك من خير يقربنا من الجنة إلا وأمرنا به، وما من شر يقربنا من النار إلا ونهانا عنه، فترك الأمة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.

اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه في الأولين والآخرين والملأ الأعلى إلى يوم الدين.

ثم أما بعد:

فأيها الإخوة الكرام الأحباب! نواصل هذه اللقاءات مع مناسك الحج في سؤال وجواب، ونبدأ بحول الله وفضله وتوفيقه:

السؤال: ما حكم المبيت بمنى في ليلة التاسع من ذي الحجة؟

الجواب: ليلة التاسع من ذي الحجة هي ليلة عرفة، ويوم عرفة هو (أفضل يوم طلعت فيه الشمس) كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام، ولذلك يسن لغير الحاج صيام ذلك اليوم، ويسن للحاج في يوم الثامن من ذي الحجة أن يحرم من مكانه الذي هو فيه ملبياً بحج إن كان متمتعاً أو إن كان قارناً يذهب إلى منى في ذلك اليوم فيصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء ويبيت بها ويصلي الفجر.

ثم يذهب بعد الفجر وبعد شروق الشمس إلى عرفة، والمبيت بمنى في هذه الليلة من السنة، وليس من واجبات الحج أو أركانه، والمعنى: أن من لم يفعلها فحجه صحيح، لكن ينبغي أن نعلم أن الحج الكامل هو أن يكون كما حج النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال: (خذوا عني مناسككم)، فلا ينبغي للحاج أن يترك تلك السنة إذا كانت الظروف تسمح له بذلك، كما يفعل الكثير يبقى في الفندق إلى أن يذهب إلى عرفة مباشرة، ولا أدري لماذا يضيع هذه السنة، ولا ينال شرف إحياء سنة النبي عليه الصلاة والسلام، والله تعالى أعلم.

السؤال: ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة

الجواب: من أهم أركان الحج وأعظم أركان الحج: الوقوف بعرفة، وأحياناً يعبر عن الشيء بأحد أركانه، وهذا مهم جداً في القرآن والسنة، فمثلاً: قول ربنا سبحانه وتعالى: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43] أي: صلوا مع المصلين، فعبر عن الصلاة بالركوع؛ لأن الركوع أحد أركان الصلاة، والقيام كذلك، كما في قوله: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، وقال: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43] فقال: (واسجدي) أي: وصلي، فالتعبير عن كامل الشيء بأحد أركانه يشير إلى عظم الركن، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة) أي: أنه لا حج بدون الوقوف بعرفة، ومن ثم تبدأ مناسك الحج الفعلية التي يجب على الحاج أن يقوم بها من لحظة الوقوف بعرفة، فمن ضيع الوقوف بعرفة فلا حج له، والله تعالى أعلم.

السؤال: هل صعود جبل الرحمة من مناسك الحج؟

الجواب: أحدث الناس كثيراً من البدع في مناسك الحج، ومن هذه البدع تقاتلهم وتزاحمهم على صعود جبل الرحمة، وليس ذلك من سنة النبي صلى الله عليه وسلم الذي بين لنا مناسك الحج بياناً شافياً حتى الجمرات بين من أي مكان تلتقط وكيف ترمى، وما ترك منسكاً إلا وبينه عليه الصلاة والسلام، وقال لأصحابه: (خذوا عني مناسككم، فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا).

ولذلك ما ثبت عنه ولا عن سلف الأمة من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين أن صعود جبل الرحمة من مناسك الحج، فمن زعم أنه من المناسك فقد ابتدع في دين الله سبحانه ما ليس منه، والله تعالى أعلم.

السؤال: هل حجة يوم الجمعة تعدل سبع حجج كما يزعم البعض؟

الجواب: هذه أيضاً من الأشياء التي تتردد على الألسنة، فيقولون: إن جاء يوم الحج يوم جمعة فالحجة تعدل سبع حجات، وهذا كلام لا أصل له في دين رب العالمين، نعم إذا وافق يوم جمعة فقد اجتمع لنا في هذا اليوم عيدان: عيد الجمعة وعيد الأضحى كما قال عمر رضي الله عنه وأرضاه، ففي البخاري : أنه قال له رجل من اليهود: آية في كتابكم لو نزلت علينا معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيداً. فقال عمر : إني أعلم متى نزلت وفي أي مكان نزلت، نزلت في عرفة في حجة الوداع في يوم الجمعة على النبي صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك بفضل الله لنا عيدان.

فيوم الجمعة عيد لا شك، والأجر فيه لا شك مضاعف، لكن ما يقوله البعض: إن حجة الجمعة بسبع حجات، فهذا كلام باطل لا دليل عليه، والله تعالى أعلم.

السؤال: هل تجوز صلاة النافلة يوم عرفة؟

الجواب: الاتباع أولى من الابتداع وفعل السنة يقرب العبد إلى ربه، ففي يوم عرفة صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جمع تقديم بأذان واحد وإقامتين، أذن بلال فصلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر أولاً ثم أقام مرة ثانية فصلى العصر، وأما هل صلى مع الظهر أو العصر نافلة؟ فالجواب: لا، وكل خير في الاتباع، وكما نقول مثلاً: من السنة صلاة ركعتين عند مقام إبراهيم، ومن السنة أن تقرأ في الركعتين في الركعة الأولى: (( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ )) وفي الثانية: (( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ))، وأن تخفف فيهما فلا يأتي رجل ويصلي ويطيل في صلاته ويقرأ في الركعة الأولى بالبقرة وفي الثانية بآل عمران حتى يزيد القراءة في هذا المكان المبارك، فهو هنا خالف السنة، فالسنة أن تصلي وتخفف، فلا يجوز لك أن تخالف فعل النبي صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.

السؤال: ما حكم المبيت بمزدلفة؟ وهل يرخص للضعفاء ترك المزدلفة بعد منتصف الليل؟

الجواب: مناسك الحج منها ما هو ركن لا يجبر بدم، ولابد من أدائه، ومنها ما هو واجب يجبره دم في حال تركه، ومنها ما هو سنة، والمبيت بمزدلفة أرجح الأقوال فيه أنه واجب من واجبات الحج، فينبغي على الحاج بعد أن يقف بعرفة في يوم التاسع من ذي الحجة إذا غربت الشمس أن يجمع بين نهار وليل بعرفة، فإن نزل من عرفة قبل غروب الشمس فقد ترك واجباً من واجبات الحج وهو الوقوف بعرفة جزءاً من الليل، وبعد غروب الشمس عليه أن ينفر إلى مزدلفة ويصلي في مزدلفة المغرب والعشاء جمع تأخير، ولا يجوز له أن يؤخر العشاء إلى ما بعد الساعة الثانية عشرة؛ يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في فتاواه: فإن نفر من عرفة إلى مزدلفة فتعطل في طريقه وجاءت الساعة الثانية عشرة فينزل ويصلي في المكان الذي هو فيه، ولا يؤخر العشاء إلى بعد خروج نصف الليل الأول بحجة أنه لابد أن يصلي في مزدلفة.

فإن وصل إلى مزدلفة صلى بها المغرب والعشاء وبات بها كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، يبيت بها ليلة العيد يوم النحر ليلة العاشر، ويصلي بها أيضاً الفجر، حتى أسفر جداً صلى الله عليه وسلم، يعني: حتى أشرق النهار ورحل الظلام، عند ذلك تحرك من مزدلفة، والواقع الآن بخلاف ذلك تماماً فإن الذي يحدث أن معظم الحجاج ينزلون من عرفة إلى منى مباشرة بحجة أن المطوف لا يسمح لهم بنزول مزدلفة، فالمبيت بمزدلفة واجب، ومن تركه يلزمه فدية.

لكن الواقع أنه أحياناً يركب الحجاج السيارات ويكون التحرك بصعوبة بالغة ربما لا يستطيع الواحد أن يصل إلى مزدلفة إلا بعد الفجر، وهذا لا شيء عليه؛ لأنه سعى أن يصل فما تمكن، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وما جعل عليكم في الدين من حرج، لكني أقول: حاول أن تترك المطوف وخذ عنوان الفندق وأد المناسك صحيحة، فكثير منا لا يهتم بهذا الواجب، ولا يجبره بدم، وهذا لا يجوز، والله تعالى أعلم.

السؤال: ما هي أعمال يوم العيد بالنسبة للحاج؟

الجواب: نبين للحاج في ملخص سريع المناسك متصلة ببعضها، فنشرح حج التمتع:

أولاً: يمر على الميقات المكاني، وقبل أن يلبس ملابس الإحرام يغتسل ويطيب مفارقه، ثم يصلي ركعتين، سواء كانت سنة وضوء أو تحية مسجد أو نافلة أو فريضة، ثم يلبي من الميقات المكاني: لبيك عمرة -هذا المتمتع- ويجوز له أن يشترط، فيقول: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، وهذه العبارة تقال لأنه ربما يعترضه عارض في الطريق ولا يصل، فإن اشترط لا يلزمه شيء إن تحلل.

وعند وصوله إلى مكة محرماً يطوف طواف العمرة، والقارن والمفرد يطوف طواف القدوم، وهناك فرق بين طواف العمرة وطواف القدوم، وهو أن طواف العمرة ركن لابد من تحصيله، وطواف القدوم واجب على الراجح، ويجبر بدم إن تركه، والمتمتع لابد أن يطوف؛ لأن الطواف ركن من أركان العمرة، ثم يسعى بين الصفا والمروة، ثم يتحلل بحلق شعره أو بتقصيره، ويبقى على حاله، ويجوز له كل شيء حتى النساء، إلى يوم ثمانية ذي الحجة فيحرم من مكانه بالطريقة التي أحرم بها للعمرة، فيغتسل ويتطيب ويلبس ملابس الإحرام ويقول: لبيك حجاً، ثم يذهب إلى منى في يوم ثمانية ذي الحجة فيصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم يرحل إلى عرفة بعد شروق شمس يوم التاسع ويقوم بعرفة إلى أن تغرب الشمس، ثم بعد غروب الشمس ينفر إلى مزدلفة فيبيت بمزدلفة إلى الفجر فيصلي بها الفجر حتى يشرق النهار فيذهب إلى منى. وأعمال يوم النحر تبدأ من هذه اللحظة برمي جمرة العقبة. إذاً: أول أعمال يوم النحر هو رمي جمرة العقبة كما رماها النبي صلى الله عليه وسلم بسبع حصيات، وتنقطع التلبية للحاج عند رمي جمرة العقبة، وبعد أن يرمي جمرة العقبة في يوم النحر يذبح الهدي، ثم يحلق، ثم يطوف طواف الإفاضة، ثم يسعى سعي الحاج إن كان متمتعاً، ثم يتحلل التحلل الأكبر، هذه هي أعمال الحاج المتمتع، ويكون عليه طواف الوداع واجباً عند رحيله من مكة.

وعلى هذا فأعمال يوم النحر هي:

أولاً: رمي جمرة العقبة. ثانياً: الذبح. ثالثاً: الحلق. رابعاً: طواف الإفاضة. خامساً: سعي الحج للمتمتع. هذه مناسك الحج للمتمتع، والله تعالى أعلم.

السؤال: بعض الحجاج يحلقون جزءاً من رءوسهم فهل هذا صحيح؟

الجواب: هذه ظاهرة منتشرة حتى في بعض الكتب وبعض الرسوم الإيضاحية؛ فحينما يريد أن يوضح كيفية التحلل يأتي بمقص ويأخذ جزءاً من شعره، وهذا لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، فإما أن تحلق أو أن تقصر كل الرأس، ولقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (اللهم اغفر للمحلقين ثلاثاً وفي الرابعة قال: وللمقصرين).

فإن كنت متمتعاً فقصر؛ لأنك ستتحلل مرة ثانية، فقصر في أول الأمر، أما إن كنت مفرداً فاحلق، والحلق خشوع لله رب العالمين، وبعض الحلاقين يقول لك: لا يوجد حلق بالموس؛ لأنه يأخذ منه وقتاً وهو ليس عنده وقت، فأقول: ينبغي أن تحافظ على السنة بالحلق أو التقصير لكل الرأس، أما المرأة فتأخذ جزءاً يسيراً من ظفيرتها قدر أنملة، أما الرجل فلا يجوز أن يأخذ هذا الجزء وإنما يحلق كل الرأس أو يقصر كل الرأس، هذا هو الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.

السؤال: ما هو الرمل؟ وهل على النساء رمل؟

الجواب: الرمل هو الإسراع في الخطى وفي طواف القدوم فقط، فلا رمل إلا في طواف القدوم فقط وفي الثلاثة الأشواط الأول؛ حيث فعلها النبي عليه الصلاة والسلام وأسرع الخطى وهو يطوف بالبيت في حال طوافه الثلاثة الأشواط الأول، ولا رمل على النساء، فليس للمرأة أن ترمل لا عند البيت ولا عند السعي بين الصفا والمروة، ولكني أرى بعض النساء يحاولن أن يهرولن، وهذه مخالفة جسيمة لا ينبغي أن تكون أبداً، إنما الرمل في طواف القدوم للرجال وفي الثلاثة الأشواط الأول، ومع الزحام قد يكون الرمل صعباً جداً، فلا تكن متحجراً وتقول: لابد أن أرمل فتزاحم الحجاج، وربما تصيبهم بأذى، فالرمل سنة وليس بواجب، فنريد أن ننبه إلى هذا، والله تعالى أعلم.

السؤال: ما حكم المبيت بمنى أيام التشريق؟

الجواب: هذه أيضاً من واجبات الحج، فبعد يوم النحر الذي بينا مناسكه من رمي لجمرة العقبة ومن ذبح ومن حلق ومن طواف ثم سعي، يجب على الحاج المبيت بمنى أيام التشريق، ولكن بعض أصحاب الحج السريع بعد يوم النحر يرحلون، وهذه أمور عجيبة! بل إن منهم من يذبح قبل يوم النحر، فتجدهم يذبحون في الفنادق في يوم تسعة ذي الحجة يوم عرفة وفي يوم ثمانية ذي الحجة، فمن الذي أفتاهم؟ يقولون: هناك فتوى من الشيخ الفلاني!

فنقول: يا عبد الله! اتق الله؛ فالنحر لا يكون إلا في يوم النحر؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء إلى منى من عرفة وبعد أن بات في مزدلفة ورمى الجمرة بدأ ببيان هذه المناسك، ولما سئل: يا رسول الله! إني حلقت قبل أن أذبح، وآخر: رميت قبل أن أحلق قال: (افعل ولا حرج) لكننا نبين نقطة مهمة جداً في يوم النحر وهي أنه لابد من تحصيل أمرين على الأقل حتى تتحلل تحللاً أصغر: الأولى: رمي جمرة العقبة، لابد أن تضم إليها شيئاً آخر مع الرمي، فإما أن تطوف طواف الإفاضة وبذلك تكون قد حصلت اثنين، وإما أن تذبح، يعني: تفعل هذا أو هذا حتى تتحلل التحلل الأصغر.

وأيام التشريق هي: ليلة الحادي عشر من ذي الحجة، وليلة الثاني عشر، وليلة الثالث عشر، هذه الأيام الثلاثة نسميها أيام التشريق، قال عز وجل: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:203] فيجب على الحاج أن يبيت في منى أو يقضي بمنى غالب الليل، بمعنى: إذا غربت شمس اليوم العاشر وأصبحنا في اليوم الحادي عشر فعلى الحاج في هذه الليلة أن يبيت في منى حتى إذا جاء اليوم الثاني عشر يكون بها، فإن قضى بمنى غالب الليل فلا بأس؛ لأنه سيرمي الجمرات بعد الزوال في أيام التشريق، ويرمي جمرة العقبة قبل الزوال في يوم النحر، والله تعالى أعلم.