فتاوى رمضانية [1]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قيماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، ما ترك من خير يقربنا من الجنة إلا وأمرنا به، وما من شر يقربنا من النار إلا ونهانا عنه، فترك الأمة على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه في الأولين والآخرين، والملأ الأعلى إلى يوم الدين.

أما بعد:

فبداية نعتذر عن مواصلة اللقاء مع المنظومة البيقونية ومع كتاب العدة، وسنبدأ من اليوم إن شاء الله تعالى في فتاوى وأحكام الصيام، لأنه ينبغي علينا أن نتعلم أحكام الصيام قبل حلول شهر رمضان، وحتى نستعد لاستقباله بفقه صحيح وعلم من كتاب الله ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد وجدت أن خير طريقة لعرض هذا الموضوع: أن يكون في هيئة سؤال وجواب، وسنختار من الأسئلة ما يرتبط بالواقع، وما يتكرر كثيراً من إخواننا وأخواتنا المسلمات، وإن شاء الله تعالى سيسأل الشيخ إيهاب وأنا سأجيب عن السؤال بتوفيق الله عز وجل وحوله ومدده.

السؤال: هل يجوز الاعتماد على الحساب الفلكي في الصوم أم لابد من رؤية الهلال؟

الجواب: هذه المسألة في الواقع من أهم المسائل؛ لأنها تُطرح في كل سنة، ويخرج علينا من يقول: إن الحسابات الفلكية تؤكد أن ميلاد هلال شهر رمضان يوم كذا! فهل النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بالصيام لميلاد الهلال أم لرؤيته؟! قال صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)، فالرؤية سبب في الصيام، فإن لم نر فلا صيام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علّق الصيام على الرؤية.

ومن ثم نقول: إن الأدلة الشرعية الثابتة في الكتاب والسنة تؤيد أن الصيام لا يكون إلا بثبوت الرؤية، قال الله عز وجل: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185]، ويقول ربنا سبحانه: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189].

ومن ثم إذا تراأينا الهلال فغم علينا فلم نره فلا صيام، حيث يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (فإن غم عليكم فأتموا عدة شعبان ثلاثين يوماً)، وعليه فلا اعتبار مطلقاً للحسابات الفلكية في بدء الصيام أو إثبات دخول شوال، والله تعالى أعلم.

السؤال: ما الذي يلزم إذا ثبتت رؤية الهلال في بلد ولم تثبت في البلد الآخر؟

الجواب: اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال:

القول الأول: إذا ثبت الهلال في بلد مسلم وجب على كل بلاد المسلمين الصيام، حتى وإن اختلفت المطالع، وهذا قول مرجوح.

القول الثاني: إن اشتركت بعض البلاد في جزء من الليل، أي: اتفقت في المطالع، فثبوت الهلال في أحدها كاف للبلدان الأخرى.

القول الثالث وهو المعتبر: أن مرد الصيام للبلد إلى ولي الأمر وإلى الهيئة العلمية فيه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صومكم يوم يصوم الناس، وفطركم يوم يفطر الناس)، ومن ثم فلا يجوز لمسلم أن ينفرد بالصيام عن سائر أبناء بلده، فيصوم وحده ويفطر وحده، بل يصوم يوم يصوم الناس، ويفطر يوم يفطر الناس، حتى قال العلماء: إذا رأى الهلال ثم أخبر ولي الأمر فلم يعتد برؤيته -أي: أنه ردها- فله أن يصوم سراً ولا يشهر الصيام، حتى لا يخالف أهل بلدته.

ولذلك يرى شيخنا العلامة ابن باز في فتاويه رحمه الله تعالى: أنه إن سافر مسلم إلى بلد تختلف مع بلده في الرؤية، كأن يسافر من مصر إلى الكويت في اليوم الثلاثين من رمضان، فوجد أهل الكويت قد صاموا بعده، أي: أنه قد أتم صيام رمضان، بينما هم متأخرون عنه يوماً واحداً، فيرى الشيخ رحمه الله أن تصوم معهم، حتى وإن زاد الشهر عن ثلاثين يوماً، لتوافق أهل البلد التي أنت فيها.

السؤال: هل يجوز صيام يوم الشك؟

الجواب: يخطئ البعض عندما يقول: إن يوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان، لأن يوم الشك هو اليوم الذي نشك فيه هل هو من رمضان أم من شعبان؟ بمعنى: أننا نتراأى الهلال في ليلة التاسع والعشرين من شعبان، فإما أن يكون غداً هو المتمم لشعبان، وإما أن يكون هو أول أيام رمضان، فعند استطلاعنا منع الرؤية سحاب أو ضباب فلم نتمكن من الرؤية، عند ذلك نتم شعبان، ويكون هذا اليوم هو يوم الشك، فربما يكون من رمضان وربما يكون من شعبان، أما إذا كان الجو صحواً ولم يثبت هلال رمضان، فلا يسمى بيوم الشك؛ لأنه يقيناً من شعبان، وقد سمي بيوم الشك لاحتمال أن يكون من شعبان أو يكون من رمضان، وله أحكام فلننتبه إليها.

وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الشك، وعند البخاري : (لا تقدموا رمضان بصيام يوم أو يومين، إلا أن يكون رجل يصوم صوماً فليصمه)، فيجوز لك أن تصومه، إن كان لك عادة بصيام، والله تعالى أعلم.

السؤال: رجل أفطر في بلده بعد غروب الشمس، ثم ركب الطائرة وبعد إقلاعها وتحركها رأى الشمس، فما حكم صيامه؟

الجواب: صيامه صحيح؛ لأنه صام في بلده وأفطر في بلده، حتى وإن تحرك بعد ذلك فلا عبرة بوجود الشمس؛ لأنها لا تتعلق ببلده، والله تعالى أعلم.

السؤال: النية شرط في صحة الصيام، فلو أن رجلاً نام بعد صلاة العشاء ثم تبيّن له بعد الاستيقاظ في صبيحة اليوم التالي أن رمضان قد دخل، فما الحكم؟

الجواب: النية شرط من شروط صحة الصيام، يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: (من لم يجمع الصيام من الليل فلا صيام له)، ومعنى ذلك: أنه في الفرض لا بد من تبييت النية، والنية من أعمال القلوب، وقد عبر عنها القرآن بالقصد، وبالإرادة، وبالابتغاء، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات)، فلا بد من تبييت النية، بخلاف صيام النافلة، فلا يشترط فيه تبييت النية، لما ثبت عند مسلم (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل عائشة قبل الزوال -قبل الظهر-: أعندكم طعام؟ فتقول: لا يا رسول الله، فيقول: فإني صائم)، ولو عاد واحد منا إلى بيته، ثم سأل زوجته: أعندكم طعام؟ فقالت: لا، فماذا سيصنع بها؟! إما التسريح بلا رجعة، وإما أن يرفع الصوت حتى يسمعه الجيران، ولكن الحبيب صلى الله عليه وسلم يحوّل الأمر إلى طاعة فيقول: (فإني صائم)، وهذا يدلك على الحياة التي كان يعيشها نبينا صلى الله عليه وسلم، فلم تكن هناك ثلاجات ملأى بما لذ وطاب، ورغم كل ما وسع الله به علينا إلا أنك مع ذلك تجد من يقول: لا أدري لم يضيقها الله عليّ؟! أي: أنه يشكو الخالق إلى المخلوق، رغم وجود السعة في بيته.

وعلى كل قال العلماء: تبييت النية في صيام الفرض لا بد منه، وهذا نام بعد العشاء، ثم استيقظ بعد الفجر، فلم يتبين له أن رمضان قد ثبت إلا بعد الفجر، معنى ذلك: أنه لم يبيّت النية، قال بعض العلماء: عليه أن يُمسك ذلك اليوم ثم يقضي، لعدم تبييت النية.

وقال بعضهم: هو معذور بعدم علمه، لأنه كان نائماً، ولا تفريط في النوم إنما التفريط في اليقظة، وهذا هو الراجح، والله تعالى أعلم.

السؤال: هل يجوز أن ينوي الرجل صيام الشهر كاملاً بنية واحدة، أم لابد أن ينوي لكل يوم؟

الجواب: هذه مسألة أيضاً فيها خلاف بين العلماء، منهم من قال: لا بد أن ينوي الصيام في كل ليلة من رمضان، ومنهم من قال: إن النية في أول الشهر تجزئه للشهر كاملاً.

والحقيقة أنه إن تأملنا هذا الأمر فسنجد أن تناول طعام السحور نية، لكن الراجح -كما قال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله في فتاوى الصيام- أنه يجزئه نية واحدة من أول الشهر للشهر كاملاً، إلا إذا قطع الصيام لعذر، كسفر أو مرض، فلا بد أن يجدد النية، والله تعالى أعلم.

السؤال: هل يمتنع المسلم عن طعام السحور عند سماع مدفع الإمساك أم يفعل ذلك عند الأذان؟

الجواب: مدفع الإمساك بدعة ليست من دين رب العالمين في شيء، ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: (لا يغرنكم أذان بلال فإنه يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) فمن السنة أن يكون للفجر أذانان، ويا ليتنا نحيي هذه السنة أحيا الله قلب من أحياها، فهي سنة ثابتة أكيدة عن نبينا عليه الصلاة والسلام، فالأذان الأول قبل الفجر الصادق لينبه الغافل ويستيقظ النائم ويغتسل الجنب، ثم الثاني لطلوع الفجر الصادق، وهذه السنة في رمضان وفي غير رمضان، فقد كان بلال يؤذن أولاً ثم ينزل، ثم يصعد ابن أم مكتوم ليؤذن الأذان الثاني، وكلمة: (حتى) في الحديث للغاية، أي: كلوا واشربوا حتى يؤذن للفجر الصادق، وعليه فلا يجوز لك أن تحرم ما أحل الله، فمن حرم الطعام بعد مدفع الإمساك فقد حرم ما أحل الله، وشرّع بأمر لا يجوز له، والله تعالى أعلم.

السؤال: هل يقال: (الصلاة خير من النوم) في الأذان الأول أم الثاني؟

الجواب: خلاف بين العلماء، منهم من قال: في الأذان الأول، ومنهم من قال: في الأذان الثاني، وهو ما نسميه بالتثويب، والواقع أن العمل الآن على أنه في الثاني، لكن بعض العلماء كأخينا الفاضل الشيخ مجدي عرفات له رسالة حقق فيها على أنه في الأذان الأول، والحقيقة أن المسألة خلافية، ومن الخلاف بين الأذانين: أن الأول بصوت والثاني بصوت مختلف، إذ كان الأول بصوت بلال والثاني بصوت ابن أم مكتوم.

وبين الأذانين ما يقرب من ثلث ساعة.

السؤال: ما حكم من يصوم دون أن يصلي؟

الجواب: إن غالب المسلمين اليوم هكذا إلا من رحم الله، فيصوم ويترك الصلاة، ولا أدري لم نطلق عليه لفظ المسلم، فنحن في ذلك قد جاوزنا الحق، ففي حديث البخاري في كتاب الأذان: أن آخر من يخرج من النار قوم تعرفهم الملائكة بآثار سجودهم، فهؤلاء هم آخر الناس خروجاً من النار، فتارك الصلاة كيف ستتعرف عليه الملائكة؟! ويرى الحنابلة: أنه يخلّد في النار إن مات على ذلك.

وعليه فأقول: إن الصلاة شرط لقبول سائر الأعمال، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله، فلا أجر عند الله عز وجل للذي يصوم دون أن يصلي؛ لأن عمله محبط، وقد جاءت نصوص شرعية تبيّن أن تارك الصلاة مع فرعون وقارون وهامان وأبي بن خلف كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام.

فاتق الله في نفسك يا من تصوم ولا تصلي، فالذي أمرك بالصيام هو الذي أمرك بالصلاة، وكم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، واسمع إلى قول ربنا سبحانه: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [المدثر:38-43]، فأول إجابة لهم هي أنهم قالوا: لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [المدثر:43].

فليحذر الذين يتركون الصلاة أن يأتيهم ملك الموت بغتة، وعند ذلك ينادون بأعلى أصواتهم: رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا [المؤمنون:99-100]، فانتبه، واستيقظ أخي المسلم، والله تعالى أعلم.




استمع المزيد من الشيخ أسامة سليمان - عنوان الحلقة اسٌتمع
فتاوى الحج [2] 2049 استماع
فتاوى الحج [3] 1941 استماع
فتاوى الحج [1] 1279 استماع