فتاوى الحج [3]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

قبل أن نستكمل الرحلة مع مناسك الحج في سؤال وجواب وبيان حكم الأضحية وأحكام الزيارة إلى المدينة المباركة وما فيها من مخالفات، دفع إلي أحد الإخوة ورقة لكاتب لا داعي أن نذكره وإنما سأقرأ لكم منها نصاً؛ حتى تعلموا أن الهجمة المتعددة على النقاب والحجاب واللحية والأصوليين -كما يسمونهم- وعلى الثوابت الشرعية بصفة عامة الآن على أشدها.

يقول ذلك الكاتب في مقال بعنوان: ماذا يجري في مصر الآن؟ فما الذي شد انتباهه؟ وما الذي جعله يكتب هذا؟

ذكر أنه كان يسير على الطريق الدائري فرأى نساءً يلبسن النقاب، فشد الانتباه فكتب: ماذا يجري في مصر؟

ثم قال: وخلال هذه الجولة الكبيرة الواسعة وقع بصري على عدد كبير من سيدات وفتيات القاهرة الكبرى وكلهن في ملابس حيث الحجاب يغطي الرأس ونصف مساحة الوجه والكتفين والصدر، أمهات وشابات وفتيات على وشك زواج، وبنات في المدارس الثانوية والإعدادية وحتى أطفال في المدارس الابتدائية، وأسأل: هل حدثت هذه الخطوة عفوياً أو بتأثير تنظيم سياسي؟ ومن الذي تولى إقناع كل هؤلاء الناس بارتداء هذا الزي الذي يقال: إنه زي إسلامي؟! كيف تبدو القاهرة على هذا النحو الآن وقد كانت نساء وفتيات مصر يعتبرن في مقدمة نساء العالم العربي في بداية القرن، هل هي نتيجة أوضاع اقتصادية كما يقول البعض: توفير لمصاريف الكوافير والحلاق؟ والعبد لله لا يميل لهذا الرأي؛ لأنني أعرف حب المرأة لزينتها وحرصها على أن تبدو جميلة. هل هي نتيجة طبيعية لنشاط الدعاة الشباب الذين انتشروا في الفترة الأخيرة وتواجدوا بشكل دائم في القنوات الفضائية؟ هل هي رد فعل لحفلات الندب واللطم تحت مسمى الإنشاد الديني وأبطاله مثل الشيخ جبريل والطبيب صلاح الجمل؟

وأخذ يسب ويلعن الذين ذكرهم، وهذه القضية خطيرة، فهو يقول: ما الذي حدث؟ ولماذا بنات شابات يلبسن هذا وهن على وشك زواج؟ فما الذي جرى للمرأة في مصر؟ فالمرأة في مصر كانت تخرج عارية، فلماذا حجبوها الآن؟ وكأن هذا الرجل تأخذه الرحمة بها، ويرى أنه لابد من بحث المسألة، وأن المسألة تحتاج إلى بحث ومناقشة وجدول أعمال، فهذا يقول: السبب سوء الحالة الاقتصادية. والآخر يقول: لا. الحجاب والنقاب ينتشر في المناطق العشوائية أما في المناطق الارستقراطية فلا! فإنا لله وإنا إليه راجعون.

أرأيتم إلى خبل كهذا الخبل؟ إن دل هذا على شيء فإنما يدل على أننا في زمن الرويبضة كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا الرجل المسكين ظننت أنه سيكتب ماذا جرى لبناتنا من ظهور العورات والتسكع في الطرقات والزواج العرفي والزنا، وظننت أنه سيكتب أن الأعراض تباع وتشترى، إنما الذي يقلق المضجع هو أنه كتب: أن البنات والنساء والفتيات يلبسن زياً ليس على المعرفة، وأن المرأة المصرية كانت في ركاب التقدم والعري فما الذي حدث؟ فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وأنا أجيبه وأقول له: إن الذي نشر هذا الزي هو الله رب العالمين؛ لأنه هو الذي يملك مفاتيح القلوب وإن أوصدت أنت وأمثالك الأبواب، قال عز وجل: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ [التوبة:32].

وهذا الكاتب معروف بأنه يكتب في جريدة قومية مشهورة وهي جريدة الأهرام، ويكتب المقالات الدعابية؛ نسأل الله العفو العافية؛ لأن البعض منهم يريد أن يكون له شأن، ويعتقد أنه لن يكون له شأن إلا إذا وقع في القرآن والسنة، ولكني أقول لإخواني مطمئناً: لا داعي لأن تدفعوا لي هذه المقالات فالأمر كما قال الشاعر:

لو كل كلب عوى ألقمته حجراً لأصبح الصخر مثقالاً بدينار

فلو ظللنا نتتبع ما يكتب فلن ننتهي، فآخر مقالة في صوت الأمة فيها: أن رجم الزاني لا يكون إلا في شريعة بربرية همجية. فوصف الشريعة الإسلامية بأنها بربرية همجية في زمن الحضارة والرقي، وهؤلاء يكتبون وهم آمنون كيفما شاءوا ولا حجر عليهم، وهؤلاء هم الذين يقال عنهم: أصحاب الفكر المستنير وأرباب الحضارة والذين يغذون الشباب بالأفكار، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ولكن أقول: دولة الباطل ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة، ويوم تقوم الساعة: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227].

أسأل الله أن يثبت بناتنا ونساءنا على النقاب، وأقول لهن: انتشرن في القاهرة الكبرى، فكلما زدتم في العدد تغيظ أهل النفاق، حتى وإن كانت المسألة خلافية في الخمار لكن نقول الآن بوجوب النقاب؛ لأن أهل الفقه الذين قالوا بعدم الوجوب لو كانوا في زماننا لأعادوا النظر فيما قالوا.

خرج عبد الله بن أم مكتوم الأعمى يوماً مع المجاهدين في سبيل الله للجهاد، فقيل له: لم تخرج وأنت عاجز عن الجهاد؟ قال: أردت أن أكثر جمع المسلمين.

ونحن نقول: كثروا الجمع، أعفوا اللحى، ونقول للنساء: انتقبن، وأغظن هؤلاء المنافقين في أي مكان؛ حتى يعم الخير ويعود إلى مصر دأبها الذي كان، لا دأبها الذي يريد هؤلاء، ونسأل الله أن يثبتنا على دينه وأن يقبضنا على دعوته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه الصلاة والسلام.

السؤال: بعض الحجاج عند رجوعهم من الحج يلزمون بيوتهم مدة زمانية لا يخرجون فيها إلى الصلاة ولا إلى غيرها، فما الحكم في ذلك؟

الجواب: هناك بعض العادات والتقاليد والأعراف التي ينبغي أن نواجهها بقوة وبصراحة؛ لأنها تخالف الشرع، ومن هذه العادات ما يفعله الزوج الحديث عهد بالدخول؛ حيث يمكث بعد ليلة الدخلة لمدة أيام لا يخرج لصلاة، وإن خرج لصلاة الفجر قالوا له: أنت بالأمس تدخل على زوجتك وتخرج للصلاة؟! صل في البيت فأنت في شهر العسل! وهل من أسباب سقوط الجماعة شهر العسل؟! نسأل الله العافية.

ومن هذه التقاليد أيضاً: إذا جاء الحاج بعد عودته إلى أرض وطنه سالماً يمكث في البيت لا يخرج لمدة أسبوع أو أكثر أو أقل؛ حتى يستقبل الضيوف، وكل ضيف جاء يريد هدية، سبحة أو طاقية، وأنت لن ترضي أي أحد، ولهذا تجد بعض الحجاج منشغلاً جداً بشراء الهدايا كلما ذهب إلى صلاة فرض اشترى، وكلما ذهب إلى فرض آخر اشترى، حتى إن بعضهم بعد أن كبر تكبيرة الإحرام وقف وانشغل بالهدايا فإذا به يقول: ستين إكس لارج! بدلاً من الفاتحة، فالرجل سيطرت على عقله وتفكيره الهدايا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

فأقول: من هذه البدع: أن بعض الحجاج حينما يعود يمكث في البيت لا يخرج لصلاة الجماعة، وصلاة الجماعة واجبة لا تسقط عن المسلم أبداً إلا بعذر من أعذار ترك الجماعة كمرض أو خوف أو قضاء حاجة أو مطر شديد.. إلى غير ذلك، أما أن يمكث في البيت لأنه رجع من الحج فأقول له: اتق الله في نفسك! وهذه الظاهرة ظاهرة غير مقبولة أبداً.

السؤال: ما حكم صعود جبل النور للتبرك، وكذا دخول الغار الذي كان يتحنث فيه النبي صلى الله عليه وسلم؟

الجواب: هذه أيضاً من المخالفات التي يصر عليها الكثير في مكة، فتجد أحدهم يذهب إلى جبل النور ويصعد الجبل ثم يتبرك بالغار الذي كان يتحنث فيه النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يفعل هذا في القرون المفضلة أحد من الصحابة أو التابعين أو تابعي التابعين، وليس عليه عمل السلف مطلقاً، وإنما هو من الأمور المبتدعة التي ينبغي أن تغير، وينبغي أن نعلم الناس أن هذا المكان ليس من السنة أبداً أن يصعد إليه، بل فعل ذلك ذريعة للشرك؛ لأن التبرك بالأماكن هذه التي لم يرد فيها نص من كتاب ولا سنة لا يجوز أبداً، والله تعالى أعلم.

السؤال: هل يلزم الحاج زيارة المدينة أم أن زيارة المدينة ليست من مناسك الحج؟

الجواب: هذه أيضاً نقطة مهمة؛ فإن البعض حينما يرحل إلى الحج يعتقد أن الحج هو زيارة المدينة، فإن لم يزر المدينة كأنه لم يحج، حتى في العمرة، فمناسك الحج ليس منها من بعيد أو قريب زيارة المدينة أبداً بحال، بل بمجرد أن يطوف طواف الوداع في مكة ويرحل فقد انتهت أعمال الحج، أما زيارة المدينة فهي سنة؛ لأن بها المسجد النبوي الذي تشد إليه الرحال، فالزيارة لأجل طلب الأجر الزائد فيه عن غيره لا لأجل القبر، وإنما زيارة القبر تأتي تبعاً لزيارة المسجد النبوي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى)، وهذا الحديث له معنى سنبينه في سؤال مستقل لأهميته؛ لأن هناك أخاً دفع لي من جريدة اللواء الإسلامي مقالاً فيه: الصلاة في المساجد التي بها أضرحة لا هي مكروهة ولا هي محرمة ولا هي ممنوعة. وهذا الكلام يخالف كل آراء الفقهاء، فـالبخاري في صحيحه والحنابلة في فقههم والشافعية في فقههم ما قال أحد منهم: إنها لا مكروهة ولا محرمة ولا ممنوعة.

يقول البخاري في صحيحه : باب كراهية الصلاة في المساجد التي بها قبور، ثم أورد بعض الآثار عن الصحابة أن بعضهم كان يصلي إلى قبر دون أن يراه، فنبهه آخر وقال له: القبر القبر، فتخطى القبر، والقبر مندس في الأرض، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد؛ فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك)، وقال: (كل الأرض مسجد إلا المقبرة والحمام) ..إلى غير ذلك من نصوص واضحة تمام الوضوح.

ولذلك شيخنا الألباني له كتاب اسمه: ( تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد).

فالقبور يا عباد الله لها أماكن تدفن فيها، أما أن يقام المسجد على قبر أو يشيد بداخل المسجد ضريح تشد إليه الرحال ويطاف به وينذر ويذبح له من دون الله ويتبرك عند أعتابه ويشرك بالله فيه فهل هذا هو الدين يا عباد الله؟!

فالصلاة في المساجد التي بها قبور حرام، وتبطل عند الحنابلة، وإن قصد القبر فهي باطلة بإجماع أهل العلم، ليس منهم أحد قال: إن من قصد القبر صلاته صحيحة، لكن الخلاف فيمن قصد المسجد. فبعضهم قال: صحيحة مع الإثم. وبعضهم قال: باطلة. لكن الأصوليون يقولون: تحرم؛ سداً للذريعة إلى الشرك؛ لأن المسجد يحمل اسم صاحب المقام، وتأتي لصاحب المقام النذور والأموال الطائلة من جيوب المغفلين والسفهاء وتوضع في هذه الصناديق، ولذلك حزنت تمام الحزن حينما كنت في الحرم المدني وكان يتحدث أحد علماء المملكة عن قصة (سيدي جحش بمصر) قال لهم: في مصر (قصة سيدي جحش) أتعرفونها؟ فتعجب الناس، فقال: هو رجل اتفق مع أخيه أن يقيموا مقاماً ثم يقيموا عليه ضريحاً ولم يكن في الضريح إنسان وإنما هو جحش مات، فجعل الناس يطوفون بالمقام، وأطلق عليه (مقام سيدي جحش)، فاختلفوا على صناديق النذور في الأخير فقال أحدهما للآخر: نحن دفناه سواء. فإنا لله وإنا إليه راجعون.

أرأيتم إلى ما يحدث؟ وتجد امرأة تأتي من آخر الدنيا تستغيث يا بدوي أنا مريضة أسألك الشفاء، وأخرى تأتي وتطلب النجاح لولدها، وثالث يأتي ويطلب تفريج الكرب، والله عز وجل يقول: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ [النمل:62].

قال شيخ الإسلام : إن كان المسجد أسبق يهدم الضريح، وإن كان الضريح أقدم يهدم المسجد؛ لأنه لا يجتمع مسجد وضريح في مكان واحد أبداً.

وقد يقول قائل: إن قبر النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده، وهذا كلام باطل، ففي عصر الصحابة والتابعين والعصور التي بعد ذلك كان المسجد منفصلاً تماماً عن مكان وجود القبر؛ لأنه دفن في حجرة عائشة إلى أن جاء عهد الدولة الأموية في عهد الوليد بن عبد الملك بن مروان وأقام توسعة للمسجد فأدخل الحجرة ضمن المسجد؛ إذاً: هل في زمن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان المسجد داخل القبر؟ أبداً والذي نفسي بيده! ولذلك لما رأت الحكومة السعودية هذا أقامت على القبر أربعة جدران حتى تعزل القبر عن حدود المسجد.

فلا ينبغي أن يستدل بهذا على هذا، والله تعالى أعلم.

السؤال: ما هي الآداب التي يجب على الحاج أن يراعيها عند دخول المسجد النبوي؟

الجواب: زيارة المدينة مستحبة وسنة لا شك؛ لأنك في المدينة ستزور قبر النبي عليه الصلاة والسلام وتزور قبر الصديق وقبر عمر رضي الله عنهما وموتى البقيع وشهداء أحد.. إلى غير ذلك من أماكن مباركة في هذه البلاد المباركة التي حرمها نبينا صلى الله عليه وسلم، إنما يسن عند دخول المسجد الحرام: أن تدخل بقدمك اليمنى شأنه كشأن أي مسجد، ثم تصلي ركعتين تحية المسجد، ويسن ويستحب لك أن تصليهما في الروضة المباركة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة).

وهذا الحديث يرويه البعض (بين قبري) وهذا خطأ فادح، وإنما هو (بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة)، في هذا المكان المبارك يستحب لك أن تصلي تحية المسجد، والسؤال الآن: هل الصلاة في الروضة أفضل أم الصلاة في الصف الأول؟ يعني: إذا أقيمت الجماعة هل تقف في الصف الأول خارج الروضة خلف الإمام أم تتأخر إلى الصف الرابع وتقف في الروضة؟ والجواب: لا شك أن الصلاة في الصف الأول أفضل إلا في النوافل، فيستحب لك أن تصلي في الروضة، أما الفروض التي لها إمام راتب فالصف الأول نصوصه مقدمة، والله تعالى أعلم.

السؤال: هناك بعض المخالفات تقع عند زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فالرجاء التكرم بذكر هذه المخالفات؟

الجواب: هذه المخالفات متعددة، منها:

أولاً: التبرك والتمسح بالأعتاب والحجارة والحديد، وهذا هناك نهي عنه.

ثانياً: التوجه بالدعاء إلى القبر، والدعاء ينبغي أن يكون إلى القبلة؛ لأن من آداب الدعاء أن تستقبل القبلة، وليس من آداب الدعاء أن تدعو عند قبر، حتى ولو كان قبر سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد)، فمن السنة عند الزيارة: أن تزور قبر النبي عليه الصلاة والسلام، ولابد أن تتأدب بآداب الزيارة، قال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2]، وهذه الآية مهمة جداً؛ لأنني أجد البعض على المنبر يقول: (محمد) هكذا، فنقول له: اتق الله في نفسك! وتعلم الأدب مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، فلا يجوز أن يطلق اسمه مجرداً دون أن تقول: رسول الله، أو صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تبارك وتعالى أمرنا ألا ننادي الرسول كما ينادي بعضنا بعضاً.

ثالثاً: أن تتأدب عند قبره لأن حرمة النبي ميتاً كحرمته حياً، فرفع الصوت عند قبره لا يجوز؛ لذلك عمر رضي الله عنه رأى رجلين يرفعان أصواتهما عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهما: من أي البلاد أنتما؟ قالا: من الطائف. قال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضرباً -فعذرهما للجهل؛ لأنهما لا يعرفان الحكم- أترفعان أصواتكما عند قبر رسول الله عليه الصلاة والسلام؟

ولما نزلت هذه الآيات كان الصحابة لا يرفعون أصواتهم عند الرسول عليه الصلاة والسلام حتى يقول لهم: ارفعوا. أما ثابت ذلك الصحابي الجليل الذي كان يتميز بصوت حاد مرتفع طبيعي فقد حبس نفسه في حجرة وقال: أنا الذي أحبط الله عملي، أنا من أهل النار، أنا الذي أرفع صوتي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سأل عنه النبي عليه الصلاة والسلام قالوا: يا رسول الله فعل كذا وكذا بنفسه. فقال: (قولوا له: إنه من أهل الجنة)، وما خرج إلا لما جاءته البشرى: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى [الحجرات:3].

فعند قبر النبي عليه الصلاة والسلام ينبغي أن تتأدب بهذه الآداب:

أولاً: ألا تتبرك بأعتاب ولا بأحجار ولا بستائر.

ثانياً: أن تسلم عليه في خشوع وبأدب وبصوت منخفض، فتقول: السلام عليك يا رسول الله! ورحمة الله وبركاته، جزاك الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، أشهد أنك بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، وتصلي عليه صلى الله عليه وسلم، فإذا أردت أن تدعو تستدير بظهرك فتجعل الظهر إلى القبر والوجه إلى القبلة؛ لأن الدعاء من آدابه أن تستقبل القبلة لا أن تستقبل القبر.

ثم تسلم على أبي بكر ثم على عمر رضي الله عنهما وعن أصحاب رسول الله، والله تعالى أعلم.

السؤال: ما هي المساجد التي تشد إليها الرحال؟ وما المقصود بشد الرحال؟ وهل يجوز أن تشد الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم؟

الجواب: الحقيقة هذا الحديث فهمه مهم، فقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) معناه: أنه لا يوجد مسجد له ميزة على مسجد، وأنك لا تسافر لطلب الأجر الزائد فيه، فمثلاً: ليس هناك أفضلية لأي مسجد في مصر على مسجد آخر، بل كل المساجد الأجر فيها سواء إلا المساجد الثلاثة، وقوله: ( لا تشد الرحال ) أي: أنه لا توجد مساجد يسافر إليها طلباً للأجر الزائد إلا هذه المساجد، وفي يوم الجمعة قد يأتي إنسان إلى مسجد من مكان بعيد، فهو شد الرحال لكنه لم يشد الرحال طلباً لزيادة الأجر وإنما طلباً للخطبة أو لعلم أو لمسألة، وأنت تسافر مثلاً إلى بلدان بعيدة من أجل أن تحضر دروساً فأنت الآن تشد الرحال، وركوبك المترو شد للرحال لا شك في هذا، لكن المقصود بالحديث: ( لا تشد الرحال ) يعني: لا تقطع المسافات لمسجد يطلب فيه الأجر الزائد إلا هذه المساجد الثلاثة.

فالمسجد الحرام الصلاة فيه بمائة ألف صلاة، والصلاة في المسجد النبوي بألف صلاة، والصلاة في المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة، نسأل الله أن يحرره بحوله وفضله.

وهناك خطأ شائع نقع فيه كثيراً وهو: أننا نقول عن المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين. وهذا خطأ بالغ؛ لأن المسجد الأقصى ليس من المساجد الحرام، إنما المساجد الحرام هي مسجد مكة ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، أي: أنها مساجد لها حرمة، أي: أن هناك أحكاماً شرعية فيها؛ فلا تلتقط لقطتها إلا لمعرف، ولا ينفر صيدها.. إلى آخر الأحاديث، فلو أنك وجدت لقطة عند المسجد الأقصى فلك أن تأخذها؛ لأن المسجد الأقصى ليس من الأماكن المحرمة؛ لأن مكة حرمها إبراهيم عليه السلام، والمدينة حرمها النبي صلى الله عليه وسلم وكل ذلك بوحي من الله. فلا يقال عن المسجد الأقصى: ثالث الحرمين، وإنما نقول: وثالث المساجد المباركة التي تشد إليها الرحال، فمثلاً: رجل اصطاد في المسجد الأقصى صيداً ما حكمه؟ وهل عليه شيء؟ الجواب: ليس عليه شيء، فكل الأمور التي تجوز في أي مكان تجوز بجوار المسجد الأقصى؛ لأن معنى الحرام: أن له حرمة وله أحكاماً.

فلا نقول: أولى القبلتين وثالث الحرمين، وإنما نقول: وثالث المساجد التي تشد إليها الرحال وهي المساجد المباركة، والله تعالى أعلم.

السؤال: عندما نسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ونقول له: جزاك الله خيراً عن المسلمين، وأنك بلغت الرسالة وأديت الأمانة، فهل يسمعنا؟ وهل الموتى يسمعون؟

الجواب: مما لا شك فيه أن الأحاديث جاءت تثبت أن من صلى على النبي صلى الله عليه وسلم رد الله عليه روحه ليرد عليه السلام، وهو القائل: (أكثروا من الصلاة والسلام علي في يوم الجمعة، قالوا: يا رسول الله! كيف نصلي عليك وقد أرمت -يعني: مت- قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) فإن صليت عليه في القاهرة يسمع صلاتك صلى الله عليه وسلم بنص الحديث، إنما سماع الأموات المنفي هو سماع الإجابة، فالبعض يقولون: الأموات لا يسمعون، وهذا كلام غير صحيح، فالموتى يسمعون، يعني: يدركون الصوت وإلا ما أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نقول عند دخول المقابر: السلام عليكم، بكاف الخطاب، ولو كانوا لا يسمعون لقلنا: السلام عليهم، فقولك: (السلام عليكم) يعني: أنك تخاطب من يسمع، ولذلك في الحديث الذي رواه البخاري : (إن الميت يسمع قرع نعل أصحابه عند انصرافهم) فالبعض يقول: يسمع قرع النعل فقط ولا يسمع سوى ذلك، ويتحجر في فهم النص؛ لأنه يريد أن يغلق باب الشرك.

فالموتى يسمعون لا شك، لكن السمع المنفي عنهم هو سمع الإجابة؛ لأن السمع يأتي على ثلاث معان كما قال ابن القيم : سمع بمعنى إدراك الصوت، وسمع بمعنى الإجابة، وسمع بمعنى الفهم، والقرآن فيه المعاني الثلاثة، أما بمعنى إدراك الصوت فنحو قوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [المجادلة:1] وأما بمعنى الإجابة فكقولك في الصلاة (سمع الله لمن حمده) أي: استجاب الله لمن حمده، فالسمع هنا بمعنى الاستجابة ومن السمع بمعنى الإجابة قوله تعالى: في سورة الملك: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:10] فنفوا عن أنفسهم السمع، والسمع الذي نفوه عن أنفسهم هو سمع الإجابة وليس إدراك الصوت، يعني: سمعنا لكننا لم نستجب، وقال عز وجل: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال:23]، فالنبي صلى الله عليه وسلم يسمع من يسلم عليه قولاً واحداً.

وأما هل الموتى يسمعون؟ فقد أجبنا عن هذه النقطة، وابن تيمية في فتاواه على أنهم يسمعون، بمعنى: إدراك الصوت لا بمعنى الإجابة، والله تعالى أعلم.

السؤال: وهل يجوز شد الرحال خاصة لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم؟ يعني: يسافر سفراً مخصوصاً للزيارة؟

الجواب: كما قلنا قبل -وهذا رأي جل السلف- إن الزيارة تكون للمسجد، وزيارة القبر تبعاً للمسجد، أما أن تشد الرحال خصيصاً لزيارة القبر فأنت لست أكثر حباً لرسول الله عليه الصلاة والسلام من الصحابة والتابعين، فما أثر عن صحابي أو تابعي أو تابع تابعي أنه جاء من أقصى الدنيا لأجل أن يزور القبر، إنما يأتي للمسجد ثم يزور القبر تبعاً للمسجد، والله تعالى أعلم.

السؤال: لقد تكرمتم فضيلتكم بذكر عدم جواز الصلاة في المساجد التي بها قبور، ويورد الكثير من الناس شبهة أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده، فالرجاء التكرم بتفصيل الرد على هذه الشبهة؟

الجواب: يقول رجل منسوب إلى أهل العلم: الصلاة في المساجد التي بها أضرحة لا هي مكروهة ولا هي محرمة ولا هي ممنوعة؛ لأنك تقول: نويت الصلاة لله، وتقول: الله أكبر وتقول: سبحان ربي العظيم، وسبحان ربي الأعلى، فأنت لم تقل: صاحب الضريح أعلى، ولا صاحب الضريح عظيم، ولا صاحب الضريح أعلى، ولم تقصد في سجودك القبر ولا صاحب القبر، وهنا أريد أن أقول في يقين واطمئنان: إن الكعبة التي يطوف حولها المسلمون ويتجهون إليها في صلاتهم ولا تقبل الصلاة ممن اتجه إلى غيرها سيدنا إسماعيل وأمه هاجر مدفونان في حجر سيدنا إسماعيل الذي هو جزء من الكعبة والصلاة فيها بمائة ألف صلاة، فهل نمنع المسلمين من الطواف حول الكعبة أو نمنعهم من الاتجاه إليها في الصلاة؟ وإذا أردت المزيد فأدلك على الجزء الأول من سيرة ابن هشام ، قال ابن إسحاق كذا، فلا تجعلوا هذه المسألة مجالاً للجدل والخلاف.

فهذا الرجل يقول: إن إسماعيل وأمه هاجر مدفونان في الكعبة، فمن الذي حقق هذا؟ هل حقق هو المسألة؟ فهذا الكلام كذب وافتراء، وهب أنهما مدفونان هل سويت الأرض بهما؟ وهل الآن القبر مرتفع أم موازياً لسطح الأرض؟ يعني: هل القبر في استواء مع الأرض أم مرتفع؟ فنحن يمكن أن يكون تحتنا قبور منذ حوالي ثلاثة آلاف سنة، أليس هذا وارداً؟ وهل كنا هنا منذ عشرين ألف سنة؟ ممكن أن يكون تحتنا خزانات نجاسة فما المشكلة؟ طالما أن الأمر مستتر والأرض مستوية فأنت لا تسأل عن هذا الحكم.

فدليل هذا العالم أنه يقول: إن هاجر وإسماعيل مدفونان في الحجر ونحن نصلي في الحجر، فهل هذا دليل؟ نحن نتكلم عن الصلاة إلى الأضرحة المرتفعة عن الأرض وعن المسجد الذي يحمل اسم صاحب الضريح ويطاف حوله، فهرب من الإجابة عن هذا إلى كلام لا دليل عليه، وترك النصوص الصحيحة كقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك) وهكذا النصوص الأخرى المبينة لهذه الأحاديث، وكل كلام الفقهاء تركه وجاء بشبهة لأجل هوى في نفسه، فمن الذي قال: إن هاجر مدفونة في الحجر؟ وهذا كما يقولون: إن بنات النبي صلى الله عليه وسلم غير مختتنات، ومن يقول ذلك كذاب! كذاب! فقد كان الرجل عند العرب يعير بعدم ختان أمه، يقول شيخ الإسلام في فتاواه: من لم تكن أمه مختونة يقال له: يا ابن القلفاء! يعني: غير المختونة التي تتطلع إلى الرجال أكثر من غيرها، وفي الأدب المفرد عند البخاري : أسلمت أم المهاجر على كبر سنها مع مجموعة من النسوة فأمر بهن عثمان رضي الله عنه فاغتسلن واختتن، فختان المرأة مكرمة لها، وترى منهم الآن من يقول بحجج واهية، بل إن البخاري يبوب في كتاب الغسل: باب التقاء الختانين، وذكر حديث (إذا مس الختان الختان وجب الغس)، وهذا حديث صحيح لا شبهة فيه، فأقول: أحياناً يتركون الأمور الصريحة البينة وينحرفون إلى شبه باطلة كهذه الشبهة.

فهل المصلي يقول عند ركوعه: صاحب الضريح أعظم، أو يقول: سبحان صاحب الضريح؟ هل هناك أحد يقول هذا؟ لكننا نقول: هذا مكان للقبر لا يجوز أن تصلي إليه أبداً، ولا أن تتوجه إليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن ذلك، هذا فضلاً عن الشرك الذي يحدث عند هذه القبور، والله تعالى أعلم.

وأما قبر النبي صلى الله عليه وسلم فلم يكن في المسجد، وإنما كان القبر في حجرة عائشة مستقلاً عن المسجد تماماً إلى أن جاء عصر الدولة الأموية فوسع الوليد بن عبد الملك بن مروان المسجد وألحق به الحجرة، فالقبر لم يكن في المسجد، والله تعالى أعلم.