العدة شرح العمدة [61]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين.

والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

السلم: هو السلف، يسميه العلماء بيع السلم أو بيع السلف، والمعنيان صحيحان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم إلى المدينة وهم يسلفون فقال صلى الله عليه وسلم: (من أسلف في ثمر فليسلف في كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم) .

وبيع السلم هو أن أحتاج إلى سلعة معينة غير موجودة الآن، وستوجد بعد فترة زمنية عند فلان، وصاحبها يحتاج إلى ثمنها الآن بسعر سوقها، فأعطيه أنا الأموال ونتفق على السعر والأجل والكيل، على أن يسلمني السلعة في الوقت المحدد بيننا، فأعطيه المال لينتفع به هذه المدة، وأنا آخذ السلعة في الأجل المحدد فيما بعد؛ لذلك سماه العلماء بيع السلف.

ومن الأمثلة على بيع السلم: رجل يحتاج إلى إردب من الأرز؛ لكنه يحتاج إليه بعد ستة أشهر من موسم الأرز ولا يحتاجه الآن، فيأتي إلى تاجر الأرز -الأرز غير موجود الآن، ولو وجد الأرز لا يصح السلم- يقول له: أحتاج إلى إردب أرز قال: متى تحتاج؟ قال: في أول شهر (7) هجرية، قال: سعره كم؟ قال: الإردب سعره ألف جنيه، فأخذ منه الألف، وحدد موعد الاستلام في أول شهر (7) هجرية، ومقداره إردب، إذاً: في كيل معلوم إلى أجل معلوم، ففي الأول من شهر (7) هجرية لا بد أن يسلمني السلعة بمواصفاتها المتفق عليها. هذا يسمى بيع السلف أو السلم.

والشريعة الإسلامية أباحت هذا البيع لأسباب عديدة: البائع يحتاج إلى المال الآن، والمشتري يكون قد تخلص من المال، فربما لا يوجد المال في حين وجود السلعة، فكلاهما مستفيد.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهو نوع من أنواع البيع ]، أي: أن بيع السلم هو نوع من أنواع البيوع.

قال: [ يصح بألفاظه، وبلفظ السلم والسلف، ويعتبر فيه شروط البيع، ويزيد عليه بشروط ]، يعني: السلم لا بد له من شروط.

يشترط في المسلم فيه ضبط صفاته

أول شرط: [ أن يكون مما يمكن ضبط صفاته التي يختلف الثمن باختلافها ظاهراً كالمكيل أو الموزون أو المذروع أو المعدود ].

أول شرط: أن يكون مما يمكن ضبطه بالصفة.

أما الثلاجات والتسجيلات يمكن ضبط صفاتها؛ فيجوز فيها بيع السلم.

فإن قال قائل: هل يجوز بيع السلم في الشقق؟

الجواب: نعم. يجوز بشروط، إذا أمكن الضبط يجوز السلم، وإذا لم يمكن الضبط لا يجوز السلم.

ومن المواصفات:

المكيل: كالبر، البر يعني: القمح. يكال ويوزن، والغالب عليه هو الكيل.

الموزون: كاللحم والسكر.

المذروع: كالأقمشة والحبال، أي: الذي يقاس بالذراع.

أو المعدود: كالبرتقال أو البطيخ، هل يمكن أن أبيع البرتقال بالسلم؟ أنظر أولاً: هل يمكن الضبط أو لا يمكن الضبط، طلبت عدداً من البرتقال مواصفاتها: البرتقالة لا تقل عن كذا وزنها كذا، من النوع السكري، على أن أستلمها في تاريخ 1/8 هجرية، جئت في التاريخ المحدد ولم يكن البرتقال بالمواصفات المطلوبة، إذاً البرتقال لا يمكن ضبطه، والبيض لا يمكن ضبطه؛ لأن البيضة قد تكون فاسدة.

إذاً الشرط الأول لبيع السلم هو: إمكانية الضبط في العقد بالمواصفات، بحيث لا يحدث خلاف بين البائع والمشتري.

قال: [ لأنه بيع بصفة، فيشترط للكل إمكان ضبطها؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه قدم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين والثلاث) ].

يعني: النبي صلى الله عليه وسلم حين قدومه إلى المدينة وجد أنهم يسلفون في الثمار، وبيع السلم عندنا في الأرياف كثير.

قال:[ فقال صلى الله عليه وسلم : (من أسلف فليسلف في كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم)، فثبت جواز السلم في ذلك بالخبر، وقسنا عليه ما يضبط بالصفة؛ لأنه في معناه، فأما المعدود المختلف كالحيوان والفواكه والبقول والجلود والرؤوس. ففي الحيوان روايتان: ].

بيع السلم في الحيوان فيه روايتان عن الإمام أحمد ، أقول: من الصعوبة بمكان أن أضبط الصفة في الحيوان.

ولذلك قال: [ إحداهما: لا يصح السلم فيه؛ لما روي عن ابن عمر أنه قال: إن من الربا أبواباً لا تخفى وإن منها السلم في السن. رواه الجوزجاني ؛ ولأن الحيوان يختلف اختلافاً متبايناً فلا يمكن ضبطه، وإن استقصى صفاته التي يختلف فيها الثمن تعذر تسليمه، مثل أزج الحاجبين، أكحل العينين، أقنى الأنف، أشم العرنين، أهدب الأشفار، فأشبه السلم في الحوامل من الحيوان ].

يعني: أكتب مثلاً في العقد: بعتك بقرة بالسلم زرقاء العينين أنفها كذا، وأذنها كذا، فإنه لا يمكن الضبط، فطالما أنه لا يمكن الضبط فلا يمكن بيع السلم.

قال: [ وعنه -رواية أخرى عن أحمد - صحة السلم فيه وهو ظاهر المذهب؛ لأن أبا رافع قال: (استسلف النبي صلى الله عليه وسلم من رجل بكراً) ، رواه مسلم .

وروى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: (أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أبتاع له البعير بالبعيرين وبالأبعرة إلى مجيء الصدقة) ؛ ولأنه ثبت في الذمة صداقاً فثبت في السلم كالثياب.

أما حديث ابن عمر فهو محمول على أنهم كانوا يشترطون من ضراب فحل بني فلان، كذلك قال الشعبي : إنما كره ابن مسعود السلم في الحيوان؛ لأنهم اشترطوا لقاح فحل معلوم. رواه سعيد ].

إذاً: هناك روايتان عن الإمام أحمد في بيع السلم في الحيوان، والفصل في الروايتين الضبط.

يشترط في المسلم فيه وصفه بما يختلف به الثمن ظاهراً

قال المؤلف رحمه الله: [ الشرط الثاني: أن يصفه بما يختلف به الثمن ظاهراً فيذكر جنسه ].

يصف السلعة المشتراة بالسلم، كمن يشتري تسجيلاً بالسلم، والتسجيل غير موجود الآن؛ لأنه يشترط في بيع السلم عدم وجود العين، بل يكون موصوفاً في الذمة، فيصفه المشتري للبائع، فيقول البائع مثلاً: بألف جنيه، قال المشتري: خذ الألف على أن تسلمني إياه في الموعد المحدد.

قال: [ الشرط الثاني: أن يصفه بما يختلف به الثمن، فيذكر في العقد جنسه ونوعه وقدره وبلده وحداثته وقدمه وجودته ورداءته؛ لأن السلم عوض يثبت في الذمة، فلا بد من كونه معلوماً بالوصف كالثمن؛ ولأن العلم شرط في البيع وطريقه إما الرؤية أو الوصف، والرؤية ممتنعة في المسلم فيه فيتعين الوصف، فيذكر الجنس والنوع والجودة والرداءة، فهذه مجمع عليها، وما سوى ذلك فيه خلاف، وما لا يختلف به الثمن لا يحتاج إلى ذكره؛ لأن العوض لا يختلف باختلافها ولا يضر جهالتها ].

إذاً الشرط الثاني في بيع السلم: أن يصفه بما يختلف به الثمن، وكل ما يؤثر في الثمن يكتب في العقد، ويصفه وصفاً دقيقاً، وإن كان وصفاً لا يؤثر في الثمن لا يكتب في العقد، كمن يشتري تسجيلاً مثلاً لونه أحمر أو لونه أسود؛ لأن هذا لا يؤثر في الثمن.

إذاً: الشرط الأول في بيع السلم: أن يكون مما يمكن ضبط صفته، فأي سلعة لا يمكن ضبطها لا يجوز فيه السلم، فالكمبيوتر يجوز فيه السلم إذا أمكن الضبط.

يشترط في المسلم فيه ذكر قدر الكيل في المكيل والوزن في الموزون

قال المؤلف رحمه الله: [ الشرط الثالث: أن يذكر قدره بالكيل في المكيل، والوزن في الموزون، والذرع في المذروع ].

فالقمح يكال وأحياناً يوزن، والحكم على الشيء يخرج مخرج الغالب. مثال ذلك: قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ [الأنعام:151]، فقال رجل: أنا لن أقتل ولدي من إملاق إنما سأقتله من غنى، فهذا قول لا يجوز؛ لأن الكلام خرج مخرج الغالب.

كذلك قال الله تعالى: لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130]، فقال رجل: سآكل الربا قطعة قطعة، فنقول: لا يا عبد الله! إن الكلام خرج مخرج الغالب، فقد كان يغلب على فعلهم أنهم كانوا يأكلون الربا أضعافاً، فالتحجر عند النصوص لا يجوز.

فإن قيل: هل هناك فرق بين بيع السلم وبين ما ليس عندي؟

الجواب: الشريعة السمحاء على أن السلعة التي ليست عندك أبيح فيها السلم لتسهيل التعامل، لكن بيع ما ليس عندك أن تبيع ما لا تملك.

قال رحمه الله: [ الشرط الثالث: أن يذكر قدره بالكيل في المكيل، والوزن في الموزون، والذرع في المذروع؛ لحديث ابن عباس في أول الباب؛ ولأنه عوض غير مشاهد ثبت في الذمة، فاشترط معرفة قدره كالثمن، فلو أسلم في المكيل وزناً، أو في الموزون كيلاً، لم يصح ].

وهذا القول ليس على إطلاقه؛ لأن ابن تيمية يقول: يجوز بيع السلم إن لم يختلف المكيل عن الموزون، أي: إن اتفقا في الوزن والكيل يجوز؛ ولذلك في الاختيارات الفقهية لـابن تيمية : أنه يجوز خلافاً للمذهب.

عموماً قال: [ لأنه مبيع اشترط معرفة قدره فلم يجز بغير ما هو مقدر به كالربويات، وعنه: ما يدل على الجواز ].

وهذه الرواية الراجحة التي رجحها ابن تيمية .

قال: [ ولا بد أن يكون المكيال معلوماً عند العامة ].

يعني مثلاً: أبيعك كيلة من القمح بالسلم بعد ستة أشهر بمقدار كذا، ومواصفات القمح كذا، والمكيال الذي اتفقنا عليه معلوم عندي وعندك وهو موجود، لكن مثلاً هذا المكيال لا يوجد في مصر إلا عند بائع واحد فقط، فالمكيال غير معروف عند الناس، ولو فقد هذا المكيال لم يمكن البيع، فلا بد أن يكون المكيال معروفاً عند الناس، ولا نلجأ إلى غيره في حال عدم وجوده.

قال: [ ولا بد أن يكون المكيال معلوماً عند العامة، فإن قدره بإناء أو صنجة بعينها غير معلومة لم يصح؛ لأنه قد يهلك فيجهل قدره، وهذا غرر لاحتياج العقد إليه ].

إذاً الشرط الثالث: أن يذكر قدره بالكيل في المكيل، وبالوزن في الموزون، بالذرع في المذروع.

يشترط في المسلم فيه أجلاً معلوماً له وقع في الثمن

قال: [ الشرط الرابع : أن يشترط أجلاً معلوماً له وقع في الثمن كالشهر ونحوه، فإن أسلم حالاً لم يصح؛ لحديث ابن عباس ؛ ولأن السلم إنما جاز رخصة للرفق، ولا يحصل الرفق إلا بالأجل، فلا يصح بدونه كالكتابة ].

فإن جاءك شخص وقال لك: بعني بالسلم إلى المغرب إن شاء الله لم يصح؛ لأن السلم إنما شرع لأجل الرفق بالبائع والمشتري.

إذاً: الشرط الرابع: أن يشترط أجلاً معلوماً، هذا الأجل له وقع في الثمن، فإن كان بيع السلم لساعتين؛ لأن السلم شرعاً رفقاً بالبائع ورفقاً بالمشتري.

قال: [ ولا بد أن يكون الأجل مقدراً بزمن معلوم للخبر، فإن أسلم إلى الحصاد لم يجز ].

فلو قلت لك: اشتريت منك قمحاً على أن تعطيني القمح عندما يأتي ولدي من المملكة، فهذا البيع لا يجوز؛ لأنه لا يعلم متى سيأتي ولده، هل بعد سنة أم بعد سنتين، فبيع السلم معلق بأجل غير معلوم أو يقول: إلى أن تلد هذه الشاة فعلقها بأجل مجهول، والله أعلم هل ستلد أم لا؟

إذاً: لا بد أن يكون الأجل معلوماً، وإن قال: إلى الحصاد؟ اختلف العلماء، بعضهم قال: يجوز؛ لأن الحصاد معلوم وقته، وبعضهم قال: قد تأتي على الزرع آفة قبل الحصاد، فإن الحصاد أجل مجهول.

يشترط في المسلم فيه القدرة على أن يكون عام الوجود في محله

قال المؤلف رحمه الله: [ الشرط الخامس: أن يكون المسلّم فيه عام الوجود في محله، مأمون الانقطاع فيه؛ لأن القدرة على التسليم شرط لا تتحقق إلا بذلك، فإن كان لا يوجد فيه لم يصح لذلك ].

إن القدرة على التسليم شرط في المبيع بصفة عامة، وقوله: [ أن يكون المسلّم فيه ] يعني: السلعة، فلا بد أن تكون السلعة التي أسلفك موجودة، وعامة الوجود، والمكان مأمون في التسليم فيه، فلو قلت: أسلفتك أردبّاً من القمح في رام الله، وهل ستأخذني هناك في الحرب لتسلّمني في رام الله! نسأل الله أن يحررها، فأنت بذلك تجرني للهلاك، إذاً: هذا المكان غير مأمون.

مثال آخر: أسلفتك كيلاً من الأرز بألف جنيه في أول شهر (8) هجرية في عرض البحر المتوسط، فأنا الآن أحدد مكاناً غير مأمون، فلا بد أن أحدد مكاناً مأموناً لأسلمك فيه السلعة.

مثال آخر: أسلفتك في سلعة لا تنتج في مصر أصلاً، فهذا لا يصح؛ لأنه لا بد أن تكون السلعة عامة الوجود، أو مثلاً يسلفني في شهرٍ مخصص في الأرز، والأرز غير موجود في هذا الشهر، إذاً: هذا لا يصح.

يشترط في المسلم فيه أن يقبض البائع رأس المال في مجلس العقد

قال: [ أن يقبض رأس مال السلم في مجلس العقد قبل تفرقهما؛ لقوله عليه السلام: (من أسلف فليسلف في كيل معلوم)، والإسلاف: التقديم، سمي سلفاً لما فيه من تقديم رأس المال، فإذا تأخر لم يكن سلماً فلم يصح؛ ولأنه يصير بيع دين بدين ].

لا يجوز أن يؤخر الثمن؛ لأنه لو اشترى لأجل فإنه شراء دين بدين، كأن يقول: اشتريت منك هذا الثوب لأجل، والثوب غير موجود، إذاً: الثوب غير موجود والثمن غير موجود، فهذا شراء دين بدين، وهذا لا يجوز، وهذا موجود في التعاملات التجارية.

يشترط في المسلم فيه أن يكون في الذمة

قال الملف رحمه الله تعالى: [ الشرط السابع: أن يسلم في الذمة فإن أسلم في عين لم يصح ].

في الذمة يعني: السلعة موصوفة لكنها غير موجودة، فعلى هذا يسلف في الذمة، وهذا أيضاً محل خلاف بين العلماء، قوله: ( فإن أسلم في عين )، يعني: رآها بالعين، والسلعة إذا كانت موجودة بالعين لا يجوز السلف فيها، فلا بد أن تكون موصوفة في الذمة.

ولذلك قال: [ لم يصح؛ لأنه ربما تلف قبل وجوب تسليمه فلم يصح، كما لو أسلم في مكيال معين غير معلوم القدر؛ ولأنه يمكن بيعه في الحال فلا حاجة إلى السلم فيه ].

وهذه النقطة موضوع خلاف بين العلماء.

وهذه الشروط منها ما كان ينطبق قديماً، فالعنب موجود في الصيف، فإذا كنت أسلفتك في العنب في شهر يناير، هل هذا يجوز أم لا يجوز؟

الجواب: وفقاً لهذه الشروط لا يجوز، لكن بتقدم الثلاجات وبسبب التقدم العلمي يمكن ذلك؛ لأن العنب في هذه الحالة يوجد في كل أيام السنة، لكن هذا يتكلم عن وضع قديم قبل التقدم العلمي في حفظ السلع وفي إنتاجها، فهناك سلعة تنتج في الصيف لا يجوز السلم فيها في الشتاء، أما الآن فلا فرق بين الصيف والشتاء في بعض السلع فانتبه.

حكم السلم في شيء يقبضه أجزاء متفرقة في أوقات معلومة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ويجوز السلم في شيء يقبضه أجزاء متفرقة في أوقات معلومة؛ لأن كل بيع جاز في أجل واحد جاز في أجلين وآجال كبيوع الأعيان ].

مثال ذلك: السلم في السيارة. رجل يريد سيارة مواصفاتها معلومة وهي لا تزال غير موجودة بخمسين ألف جنيه، مواصفاتها بالتفصيل: مكينتها بثلاثة آلاف جنيه، فرشها بألفين، زجاجها بخمسمائة، بطاريتها بثلاثمائة، وهكذا أسلف في أجزاء متفرقة، وهذا يجوز؛ لأنه قال: ( يجوز السلم في شيء يقبضه أجزاء متفرقة في أوقات معلومة )، فالبطارية تستلمها في الشهر الآتي، والمكينة بعدها بشهرين، و(الدركسون) بعدها بثلاثة أشهر، إذاً: أسلفت هنا في أجزاء متفرقة؛ لأن كل سلعة فيها سلم.

حكم إسلاف ثمن واحد في شيئين

قال المؤلف رحمه الله: [ وإن أسلم ثمناً واحداً في شيئين لم يجز حتى يبيّن ثمن كل جنس ].

مثلاً: اشترى بالسلم إردباً من القمح، واشترى بالسلم كيلاً من الذرة، وأسلم مائة جنيه في سلعتين دون تحديد قيمة كل سلعة، فهذا لا يجوز؛ لأنه لا بد أن يذكر ثمن كل سلعة على انفصال.

قال: [ مثل: أن يسلم ديناراً في قفيز حنطة وقفيز شعير ].

قفيز: وحدة قياس كالكيلو.. وهكذا.

قال: [ ولا يبين ثمن الحنطة من الدينار ولا ثمن الشعير؛ لأن ما يقابل كل واحد من الجنسين مجهول؛ فلم يصح كما لو عقد عليه عقداً مفرداً بثمن مجهول؛ ولأن فيه غرراً لا نأمن الفسخ بتعذر أحدهما ].

حكم الإسلاف في شيء والصرف إلى غيره

قال المؤلف رحمه الله: [ ومن أسلف في شيء لم يصرفه إلى غيره ].

أي: أسلفتك في البر لا تصرفه إلى الذرة؛ لأنني اتفقت معك على السلعة، فلا تصرفني إلى سلعة أخرى.

قال: [ كمن أسلف في حنطة لا يجوز أن يأخذ شعيراً، ومن أسلف في عسل لا يجوز أن يأخذ زيتاً؛ لقوله عليه السلام: (من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره) رواه أبو داود ].

أي: لا يجوز صرفه إلى غيره إلا إذا وافق صاحب السلعة، وهذه نقطة خلاف، فإذا جئت في الموعد المحدد وأنت أحضرت السلعة بمواصفاتها، فقلت: لا أريد هذه السلعة، بل أريد هذه، فهذا يجوز، لكن المذهب على هذا الرأي.

حكم بيع المسلم فيه قبل قبضه وحكم الحوالة به

قال المؤلف رحمه الله: [ ولا يصح بيع المسلم فيه قبل قبضه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع الطعام قبل قبضه، وعن ربح ما لم يضمن) رواه الترمذي وقال: صحيح، ولفظه: (لا يحل) ولأنه مبيع لم يدخل في ضمانه، فلم يجز بيعه كالطعام قبل قبضه ].

قوله: ( لا يصح بيع المسلم قبل قبضه ) يعني: السلعة لا تباع قبل قبضها.

قوله: [ ولا يجوز الحوالة به ].

هناك عقود تسمى: عقود الرهن والحوالة والضمان والكفالة.

والفرق بين الكفالة والضمان يوضحه هذا المثال:

أنا أمر في شارع فوجدت رجلين يشتبكان. قال أحدهما: عليه دين لي منذ سنة ولم يقضني إلى الآن، فقلت له: أنا ضامن له، والضامن غارم كما في سنن أبي داود ، ولقد ضمنته إلى أجل كذا، فعلى الدائن أن يطالب بحقه من المدين الأصل ومن الضامن، والضامن لا بد أن يفي، فإن مات المدين الأصلي طولب الضامن بالمبلغ.

وإن قلت له: متى ستسدد الدين أيها المدين؟! قال: الخميس القادم إن شاء الله، فقلت للدائن: أنا كفيله، ومعنى الكفالة: أن يأتي به يوم الخميس ببدنه والمدين يتصرف معه بما شاء، إذاً: الكفالة بالأبدان والضمان بالأموال، فإن مات قبل يوم الخميس البقاء لله؛ لأنني كفيل ولست ضامناً، فالضمان للديون، والكفالة للأبدان، والكفيل يحضر من كفل في اليوم المحدد.

قال: [ لا يجوز الحوالة به؛ لأنها إنما تجوز بدين مستقر، والسلم يعرض للفسخ ].

الحوالة من عقود الضمان، مثال ذلك: محمد له مبلغ عند إبراهيم مقداره ألف جنيه، ولإبراهيم ألف جنيه عند علي، فإبراهيم مدين ودائن، ولا علاقة بين علي ومحمد إلى الآن. قال إبراهيم : أنا لي ألف جنيه عند علي، فيحيل محمداً إلى علي ليأخذ الألف منه. هذه هي الحوالة، وهي لا تجوز في السلم؛ لأن السلم دين غير مستقر، والحوالة لا تجوز إلا بدين مستقر.

حكم الإقالة في بيع السلم

قال المؤلف رحمه الله: [ وتجوز الإقالة فيه؛ لأنه فسخ، قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ.. ].

إن إجماع ابن المنذر فيه كلام، وكذلك تصحيح الحاكم ، ووضع ابن الجوزي ، فـابن الجوزي في الموضوعات يقول: الحديث موضوع وهو في أعلى درجات الصحة أو هو حسن، والحاكم يتساهل في التصحيح، وابن المنذر يتساهل في الإجماع.

قال: [ يقول ابن المنذر : أجمع العلماء من أهل العلم على أن الإقالة في جميع ما أسلم فيه جائزة؛ ولأن الإقالة فسخ للعقد ورفع له من أصله فلم يكن بيعاً. وتجوز الإقالة في بعضها ].

يعني: فسخ عقد السلم والإقالة فيه لا بأس، والإقالة معناها: أن أقيلك في السلعة، يعني: أن أرضى أنا وأن ترضى أنت بإنفاذ عقد السلم في جزء وعدم إنفاذه في جزء آخر، أو نفسخ عقد السلم من أصله، مثال ذلك: اشتريت سلعة من عند شخص دون أن يكون لي شرط الخيار في إرجاع السلعة فرأيتها وجربتها، فجئت إلى البائع وقلت له: خذ هذه السلعة لا أريدها، فالبائع لا يلزمه أخذها، لكن يجوز له أن يقيله فضلاً منه فيقول: أقلتك لوجه الله عز وجل، فعقد السلم تجوز فيه الإقالة، يعني: إنهاء العلاقة.

قال: [ وتجوز الإقالة في بعضه في إحدى الروايتين؛ لأنها مندوب إليها، وكل معروف جاز في الجميع جاز في البعض كالإبراء والإنظار، وفي الأخرى: لا يجوز ].

أي: أن الإقالة في السلم في بعضه تجوز وهذا هو القول الراجح.

أول شرط: [ أن يكون مما يمكن ضبط صفاته التي يختلف الثمن باختلافها ظاهراً كالمكيل أو الموزون أو المذروع أو المعدود ].

أول شرط: أن يكون مما يمكن ضبطه بالصفة.

أما الثلاجات والتسجيلات يمكن ضبط صفاتها؛ فيجوز فيها بيع السلم.

فإن قال قائل: هل يجوز بيع السلم في الشقق؟

الجواب: نعم. يجوز بشروط، إذا أمكن الضبط يجوز السلم، وإذا لم يمكن الضبط لا يجوز السلم.

ومن المواصفات:

المكيل: كالبر، البر يعني: القمح. يكال ويوزن، والغالب عليه هو الكيل.

الموزون: كاللحم والسكر.

المذروع: كالأقمشة والحبال، أي: الذي يقاس بالذراع.

أو المعدود: كالبرتقال أو البطيخ، هل يمكن أن أبيع البرتقال بالسلم؟ أنظر أولاً: هل يمكن الضبط أو لا يمكن الضبط، طلبت عدداً من البرتقال مواصفاتها: البرتقالة لا تقل عن كذا وزنها كذا، من النوع السكري، على أن أستلمها في تاريخ 1/8 هجرية، جئت في التاريخ المحدد ولم يكن البرتقال بالمواصفات المطلوبة، إذاً البرتقال لا يمكن ضبطه، والبيض لا يمكن ضبطه؛ لأن البيضة قد تكون فاسدة.

إذاً الشرط الأول لبيع السلم هو: إمكانية الضبط في العقد بالمواصفات، بحيث لا يحدث خلاف بين البائع والمشتري.

قال: [ لأنه بيع بصفة، فيشترط للكل إمكان ضبطها؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه قدم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين والثلاث) ].

يعني: النبي صلى الله عليه وسلم حين قدومه إلى المدينة وجد أنهم يسلفون في الثمار، وبيع السلم عندنا في الأرياف كثير.

قال:[ فقال صلى الله عليه وسلم : (من أسلف فليسلف في كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم)، فثبت جواز السلم في ذلك بالخبر، وقسنا عليه ما يضبط بالصفة؛ لأنه في معناه، فأما المعدود المختلف كالحيوان والفواكه والبقول والجلود والرؤوس. ففي الحيوان روايتان: ].

بيع السلم في الحيوان فيه روايتان عن الإمام أحمد ، أقول: من الصعوبة بمكان أن أضبط الصفة في الحيوان.

ولذلك قال: [ إحداهما: لا يصح السلم فيه؛ لما روي عن ابن عمر أنه قال: إن من الربا أبواباً لا تخفى وإن منها السلم في السن. رواه الجوزجاني ؛ ولأن الحيوان يختلف اختلافاً متبايناً فلا يمكن ضبطه، وإن استقصى صفاته التي يختلف فيها الثمن تعذر تسليمه، مثل أزج الحاجبين، أكحل العينين، أقنى الأنف، أشم العرنين، أهدب الأشفار، فأشبه السلم في الحوامل من الحيوان ].

يعني: أكتب مثلاً في العقد: بعتك بقرة بالسلم زرقاء العينين أنفها كذا، وأذنها كذا، فإنه لا يمكن الضبط، فطالما أنه لا يمكن الضبط فلا يمكن بيع السلم.

قال: [ وعنه -رواية أخرى عن أحمد - صحة السلم فيه وهو ظاهر المذهب؛ لأن أبا رافع قال: (استسلف النبي صلى الله عليه وسلم من رجل بكراً) ، رواه مسلم .

وروى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: (أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أبتاع له البعير بالبعيرين وبالأبعرة إلى مجيء الصدقة) ؛ ولأنه ثبت في الذمة صداقاً فثبت في السلم كالثياب.

أما حديث ابن عمر فهو محمول على أنهم كانوا يشترطون من ضراب فحل بني فلان، كذلك قال الشعبي : إنما كره ابن مسعود السلم في الحيوان؛ لأنهم اشترطوا لقاح فحل معلوم. رواه سعيد ].

إذاً: هناك روايتان عن الإمام أحمد في بيع السلم في الحيوان، والفصل في الروايتين الضبط.