سلسلة شرح صحيح البخاري [21]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:

فلا زلنا مع كتاب الجنائز في صحيح الإمام البخاري أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم رحمه الله تعالى، وقد توقفنا عند باب: ما جاء في أولاد المشركين.

من منهج الإمام البخاري في التبويب

يقول البخاري رحمه الله: [باب] ولم يضع عنواناً للباب.

والبخاري له منهج وأسلوب في صحيحه، ومن خلال الاستقراء نستطيع أن تحدد الأسس التي رسمها لنفسه في الصحيح: فإن أعاد الحديث يعيده للطيفة في سنده أو متنه، ولا يمكن أن يعيد الحديث بنفس السند والمتن، فـالبخاري رحمه الله تعالى حينما يقول: [باب] ولا يضع عنواناً للباب معنى ذلك أنه لم ينته إلى عنوان لهذا الباب، والحديث ثبت عنده على شروطه؛ فيضع الباب بدون عنوان.

كما قال الأئمة: فقه البخاري في تبويبه، فعنوان الباب يمثل حكماً فقهياً.

قال: [ حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا جرير بن حازم إلى أن قال: عن سمرة بن جندب قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه) ].

هذا الحديث يرويه البخاري مرة أخرى في كتاب تعبير الرؤى، وعلم الرؤية علم له رجالاته وله أهله، ومن المميزين بتعبير الرؤى من التابعين محمد بن سيرين ، ومن الصحابة الصديق رضي الله عنه، وعمر رضي الله عنه، يقول صلى الله عليه وسلم: (لم يبق من النبوة إلا المبشرات. قيل: وما المبشرات يا رسول الله؟ قال: الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له) ، ولكن تفسير الرؤى لا بد أن يكون بضابط الكتاب والسنة، ولذلك وضع الإمام البخاري لهذا العلم كتاباً خاصاً سماه كتاب التعبير.

أمثلة لتعبير الرؤى

جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال: يا إمام! إني رأيت القمر والشمس يقتتلان. قال: مع أي الفريقين كنت؟ قال: كنت مع القمر، فعلم عمر أن أجل الرجل قد اقترب وأنه سيموت، واستدل بقول الله عز وجل: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً [الإسراء:12]، فهذا يدل على أن الرجل سيختفي من الحياة كالقمر حينما يختفي من السماء في الليل، فـعمر رضي الله عنه علم هذا المعنى من القرآن.

وهكذا بعض علماء السلف يربطون بين الرؤيا والقرآن والسنة، وهذا هو المهم.

النبي عليه الصلاة والسلام كان بعد كل صلاة يقبل بوجهه على الناس، ولذلك من فقه الإمام بعد الصلاة أن يستدير بوجهه ولا يجلس في مكانه، حتى يعلم الداخل أن الصلاة قد انقضت. هذه واحدة. الثانية: حتى ينظر في أمر المصلين، يا فلان أعد الصلاة. يا فلان أدركت الركوع. هذا من عمل الإمام.

كان يقبل بوجهه على أصحابه صلى الله عليه وسلم، لكنه بعد الفجر في الغالب يسألهم [ (من رأى منكم الليلة رؤيا؟) ]، لماذا يسألهم في الفجر؟ لأن الفجر يكون ذهن الرائي صافياً لم يختلط بأعمال اليوم، ويكون ذهن المعبر صافياً، ولا ينبغي أن تقص رؤياك إلا على أهل الإيمان والطاعة، قال تعالى: قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا [يوسف:5].

قوله: ( لا تقصص )، هذا تحذير من يعقوب عليه السلام ليوسف ألا يقصص رؤياه على إخوته، ومن هنا استنبط العلماء أن الرؤيا لا تقصص إلا على أهل الإيمان، ومن يحب لك الخير، فكان النبي عليه الصلاة والسلام يقول لأصحابه: (من رأى منكم الليلة رؤيا؟)، حتى تمنى عبد الله بن عمر أن يرى رؤيا، حتى ينال شرف قصها على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رأى رؤيا لكنها لم تأت على حسب ما تمنى، رأى ابن عمر : أنه في منامه أتاه ملكان وأخذاه من منامه، وطارا به حتى وصلا إلى حافة جهنم، يقول: فنظرت إليها ففزعت. فقالا: لا تخف أنت لست من أهلها، وبها أناس أعرفهم، ثم عادا بي إلى فراشي. هذه رؤية يقول: فاستحييت أن أقصها على النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرت بها حفصة زوجة النبي عليه الصلاة والسلام حتى تقصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقصتها عليه فقال: (نعم العبد عبد الله بن عمر لو كان يقوم الليل) ، يعني: هذه رؤيا تحذيرية؛ لأن ابن عمر كان لا يواظب على قيام الليل، فجاءت هذه الرؤية تحذره، يقول ابن عمر : فما تركت قيام الليل بعدها. وهذا معناه: أن الرؤيا تأتي أحياناً لتنشط صاحبها.

ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم في منامه

قال: [ (فإن رأى أحد قصها. فيقول ما شاء الله. فسألنا يوماً فقال: هل رأى أحد منكم رؤيا؟ قلنا: لا. قال: لكني رأيت الليلة رجلين) ].

أي أن الذي رأى هو النبي صلى الله عليه وسلم، ورؤيا الأنبياء وحي وحق: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات:102]، والنبي إن رأى في منامه شيئاً لا بد أن يمتثله؛ لأن الأنبياء يوحى إليهم في المنام، لذلك قال الله تعالى في شأن دخول المسجد: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ [الفتح:27]، فهذه الآية رآها النبي صلى الله عليه وسلم في رؤيا.

يقول: [ (لكني رأيت الليلة رجلين أتياني فأخذا بيدي فأخرجاني إلى الأرض المقدسة) ] هذا الحديث على طوله أعاده البخاري في كتاب التعبير، من ضمن ما رأى يقول: [ (فإذا رجل جالس ورجل قائم بيده كلوب من حديد يدخله في شدقه حتى يبلغ قفاه، ثم يفعل بشدقه الآخر مثل ذلك، ويلتئم شدقه هذا فيعود فيصنع مثله. قلت: ما هذا؟) ].

في المشهد الأول: رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً، ثم رأى آخران يقومان على رأسه بكلوب من حديد -والكلوب يشبه الخطاف- يفتحان شدقه إلى شحمة أذنه.. من فمه إلى شحمة أذنه، ثم يعودان يفتحان الناحية الأخرى، فإن فتح اليسرى أغلقت اليمنى، فعادا يصنعان به مثل الأول، يعني: يفتحان ثم يعودان، يفتحان ثم يعودان، فقال صلى الله عليه وسلم: [ (ما هذا؟ قالا: انطلق. فانطلقنا) ].

المشهد الثاني: [ (فانطلقا حتى أتينا على رجل مضطجع على قفاه، ورجل قائم على رأسه بصخرة فيشدخ بها رأسه، فإذا ضربه تدهده الحجر -يعني: تدحرج الحجر- فانطلق إليه ليأخذه، فلا يرجع إليه حتى يلتئم رأسه كما هو فعاد إليه فضربه. قلت: من هذا؟ قالا: انطلق انطلق) ].

إذاً: المشهد الثاني: رجل وآخر يضرب رأسه بصخرة فتنفلق رأسه، ثم يميل إلى الحجر ليأخذه مرة ثانية فتعود الرأس سليمة فيضربه مرة أخرى، وهكذا يأتي بالحجر يضرب رأسه فتنفلق رأسه ثم يعود إلى الحجر.

قال: [ (فانطلقنا إلى ثقب مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع) ]، التنور مثل الموجود في شبرا الخيمة.. الصوامع العالية، أعلاها ضيق وأسفلها واسع.

[ (فانطلقنا إلى ثقب مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع، فيه رجال ونساء عراة، فإذا اقترب ارتفعوا حتى كادوا أن يخرجوا، فإذا خمدت رجعوا فيها. فقلت: من هؤلاء؟ قالا: انطلق انطلق) ].

المشهد الثالث الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم: رأى تنوراً به نار تؤجج، ورجال ونساء النار تلتهم فروجهم وهم يصطرخون في التنور، فإذا قفزوا إلى أعلى أدركتهم النار.

قال: [ (فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم على وسط النهر بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان) ].

يعني: رجل يسبح في بحر من الدم، وآخر على الشاطئ كلما وصل إليه من يسبح في بحر الدم ألقمه حجراً في فمه فيبلعه ويعود يسبح، فإذا ما أراد أن يخرج وصل إلى الشاطئ ألقمه حجراً فعاد يسبح.

[ (قالا: انطلق انطلق، فانطلقنا حتى انتهيا إلى روضة خضراء فيها شجرة عظيمة، وفي أصلها شيخ وصبيان، وإذا رجل قريب من الشجرة بين يديه نار يوقدها، فصعدا بي في الشجرة وأدخلاني داراً لم أر قط أحسن منها، فيها شيوخ وشباب ونساء وصبيان، ثم أخرجاني منها فصعدا بي الشجرة، فأدخلاني داراً هي أحسن وأفضل فيها شيوخ، قلت: طوفتماني الليلة فأخبراني عما رأيت) ].

هذه المشاهد الخمسة تأويلها في الرؤيا، البخاري يخرج هذا الحديث في باب ما قيل في أولاد المشركين ليدلل على أن أولاد المشركين في الجنة، هذا ما أراده البخاري من المشهد الخامس.

تعبير رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم في المنام

يقول: [ (أخبراني عما رأيت. قالا: نعم. أما الذي رأيته يشق شدقه فكذاب يحدّث بالكذبة فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق فيصنع به ما رأيت إلى يوم القيامة) ].

إذاً: المشهد الأول هو الكذاب الذي يفتح فمه من شدقه الأيمن إلى شحمة أذنه، ومن شدقه الأيسر إلى شحمة أذنه اليسرى يحدث بالكذب والناس تسمع منه الكذبة فتبلغ الآفاق، ولا يستطيع أن يعود فيها.

أما الآخر قالا: [ (والذي رأيته يشدخ رأسه فرجل علّمه الله القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل فيه بالنهار) ]، يعني: الذي ينام عن القرآن وعن الصلاة وعن الطاعة؛ فإن الجزاء من جنس العمل. هذا المشهد الثاني.

[ (والذي رأيته في التنور فهم الزناة.) ] فإن الجزاء من جنس العمل، استمتعوا بفروجهم هنا فتحرق بنار الله يوم القيامة، وهم يصطرخون فيها. هذا المشهد الثالث.

المشهد الرابع: الرجل الذي يسبح في نهر الدم هو آكل الربا، يقول ابن عباس : الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275]، يقول: (يبعث آكل الربا يوم القيامة وبطنه بين يديه كالمرأة الحبلى، يقوم فيقع) يقوم فيقع، لماذا يسبح في بحر الدم؟ لأن غالب الربا في الذهب والفضة، ومن هنا اللون الأحمر، يسبح في بحر دم ثم يصل إلى الشاطئ، وهكذا.

[ (والشيخ في أصل الشجرة: إبراهيم عليه السلام، والصبيان حوله: أولاد الناس، والذين يوقدون النار: مالك خازن النار، والدار الأولى: دار عامة المؤمنين، وأما الدار الثانية: فدار الشهداء، وأنا جبريل وهذا ميكائيل) ].

إذاً: قوله: (فهم: أولاد الناس) إذاً عامة أولاد الناس من المشركين والمؤمنين كلهم في الجنة، فـالبخاري يريد أن يذهب إلى مذهب معناه: أن أولاد المشركين في الجنة؛ لأنهم لم يفعلوا شيئاً قبل أن يموتوا: هذا المشهد الخامس.

يقول البخاري رحمه الله: [باب] ولم يضع عنواناً للباب.

والبخاري له منهج وأسلوب في صحيحه، ومن خلال الاستقراء نستطيع أن تحدد الأسس التي رسمها لنفسه في الصحيح: فإن أعاد الحديث يعيده للطيفة في سنده أو متنه، ولا يمكن أن يعيد الحديث بنفس السند والمتن، فـالبخاري رحمه الله تعالى حينما يقول: [باب] ولا يضع عنواناً للباب معنى ذلك أنه لم ينته إلى عنوان لهذا الباب، والحديث ثبت عنده على شروطه؛ فيضع الباب بدون عنوان.

كما قال الأئمة: فقه البخاري في تبويبه، فعنوان الباب يمثل حكماً فقهياً.

قال: [ حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا جرير بن حازم إلى أن قال: عن سمرة بن جندب قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه) ].

هذا الحديث يرويه البخاري مرة أخرى في كتاب تعبير الرؤى، وعلم الرؤية علم له رجالاته وله أهله، ومن المميزين بتعبير الرؤى من التابعين محمد بن سيرين ، ومن الصحابة الصديق رضي الله عنه، وعمر رضي الله عنه، يقول صلى الله عليه وسلم: (لم يبق من النبوة إلا المبشرات. قيل: وما المبشرات يا رسول الله؟ قال: الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له) ، ولكن تفسير الرؤى لا بد أن يكون بضابط الكتاب والسنة، ولذلك وضع الإمام البخاري لهذا العلم كتاباً خاصاً سماه كتاب التعبير.

جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال: يا إمام! إني رأيت القمر والشمس يقتتلان. قال: مع أي الفريقين كنت؟ قال: كنت مع القمر، فعلم عمر أن أجل الرجل قد اقترب وأنه سيموت، واستدل بقول الله عز وجل: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً [الإسراء:12]، فهذا يدل على أن الرجل سيختفي من الحياة كالقمر حينما يختفي من السماء في الليل، فـعمر رضي الله عنه علم هذا المعنى من القرآن.

وهكذا بعض علماء السلف يربطون بين الرؤيا والقرآن والسنة، وهذا هو المهم.

النبي عليه الصلاة والسلام كان بعد كل صلاة يقبل بوجهه على الناس، ولذلك من فقه الإمام بعد الصلاة أن يستدير بوجهه ولا يجلس في مكانه، حتى يعلم الداخل أن الصلاة قد انقضت. هذه واحدة. الثانية: حتى ينظر في أمر المصلين، يا فلان أعد الصلاة. يا فلان أدركت الركوع. هذا من عمل الإمام.

كان يقبل بوجهه على أصحابه صلى الله عليه وسلم، لكنه بعد الفجر في الغالب يسألهم [ (من رأى منكم الليلة رؤيا؟) ]، لماذا يسألهم في الفجر؟ لأن الفجر يكون ذهن الرائي صافياً لم يختلط بأعمال اليوم، ويكون ذهن المعبر صافياً، ولا ينبغي أن تقص رؤياك إلا على أهل الإيمان والطاعة، قال تعالى: قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا [يوسف:5].

قوله: ( لا تقصص )، هذا تحذير من يعقوب عليه السلام ليوسف ألا يقصص رؤياه على إخوته، ومن هنا استنبط العلماء أن الرؤيا لا تقصص إلا على أهل الإيمان، ومن يحب لك الخير، فكان النبي عليه الصلاة والسلام يقول لأصحابه: (من رأى منكم الليلة رؤيا؟)، حتى تمنى عبد الله بن عمر أن يرى رؤيا، حتى ينال شرف قصها على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رأى رؤيا لكنها لم تأت على حسب ما تمنى، رأى ابن عمر : أنه في منامه أتاه ملكان وأخذاه من منامه، وطارا به حتى وصلا إلى حافة جهنم، يقول: فنظرت إليها ففزعت. فقالا: لا تخف أنت لست من أهلها، وبها أناس أعرفهم، ثم عادا بي إلى فراشي. هذه رؤية يقول: فاستحييت أن أقصها على النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرت بها حفصة زوجة النبي عليه الصلاة والسلام حتى تقصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقصتها عليه فقال: (نعم العبد عبد الله بن عمر لو كان يقوم الليل) ، يعني: هذه رؤيا تحذيرية؛ لأن ابن عمر كان لا يواظب على قيام الليل، فجاءت هذه الرؤية تحذره، يقول ابن عمر : فما تركت قيام الليل بعدها. وهذا معناه: أن الرؤيا تأتي أحياناً لتنشط صاحبها.

قال: [ (فإن رأى أحد قصها. فيقول ما شاء الله. فسألنا يوماً فقال: هل رأى أحد منكم رؤيا؟ قلنا: لا. قال: لكني رأيت الليلة رجلين) ].

أي أن الذي رأى هو النبي صلى الله عليه وسلم، ورؤيا الأنبياء وحي وحق: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات:102]، والنبي إن رأى في منامه شيئاً لا بد أن يمتثله؛ لأن الأنبياء يوحى إليهم في المنام، لذلك قال الله تعالى في شأن دخول المسجد: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ [الفتح:27]، فهذه الآية رآها النبي صلى الله عليه وسلم في رؤيا.

يقول: [ (لكني رأيت الليلة رجلين أتياني فأخذا بيدي فأخرجاني إلى الأرض المقدسة) ] هذا الحديث على طوله أعاده البخاري في كتاب التعبير، من ضمن ما رأى يقول: [ (فإذا رجل جالس ورجل قائم بيده كلوب من حديد يدخله في شدقه حتى يبلغ قفاه، ثم يفعل بشدقه الآخر مثل ذلك، ويلتئم شدقه هذا فيعود فيصنع مثله. قلت: ما هذا؟) ].

في المشهد الأول: رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً، ثم رأى آخران يقومان على رأسه بكلوب من حديد -والكلوب يشبه الخطاف- يفتحان شدقه إلى شحمة أذنه.. من فمه إلى شحمة أذنه، ثم يعودان يفتحان الناحية الأخرى، فإن فتح اليسرى أغلقت اليمنى، فعادا يصنعان به مثل الأول، يعني: يفتحان ثم يعودان، يفتحان ثم يعودان، فقال صلى الله عليه وسلم: [ (ما هذا؟ قالا: انطلق. فانطلقنا) ].

المشهد الثاني: [ (فانطلقا حتى أتينا على رجل مضطجع على قفاه، ورجل قائم على رأسه بصخرة فيشدخ بها رأسه، فإذا ضربه تدهده الحجر -يعني: تدحرج الحجر- فانطلق إليه ليأخذه، فلا يرجع إليه حتى يلتئم رأسه كما هو فعاد إليه فضربه. قلت: من هذا؟ قالا: انطلق انطلق) ].

إذاً: المشهد الثاني: رجل وآخر يضرب رأسه بصخرة فتنفلق رأسه، ثم يميل إلى الحجر ليأخذه مرة ثانية فتعود الرأس سليمة فيضربه مرة أخرى، وهكذا يأتي بالحجر يضرب رأسه فتنفلق رأسه ثم يعود إلى الحجر.

قال: [ (فانطلقنا إلى ثقب مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع) ]، التنور مثل الموجود في شبرا الخيمة.. الصوامع العالية، أعلاها ضيق وأسفلها واسع.

[ (فانطلقنا إلى ثقب مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع، فيه رجال ونساء عراة، فإذا اقترب ارتفعوا حتى كادوا أن يخرجوا، فإذا خمدت رجعوا فيها. فقلت: من هؤلاء؟ قالا: انطلق انطلق) ].

المشهد الثالث الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم: رأى تنوراً به نار تؤجج، ورجال ونساء النار تلتهم فروجهم وهم يصطرخون في التنور، فإذا قفزوا إلى أعلى أدركتهم النار.

قال: [ (فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم على وسط النهر بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان) ].

يعني: رجل يسبح في بحر من الدم، وآخر على الشاطئ كلما وصل إليه من يسبح في بحر الدم ألقمه حجراً في فمه فيبلعه ويعود يسبح، فإذا ما أراد أن يخرج وصل إلى الشاطئ ألقمه حجراً فعاد يسبح.

[ (قالا: انطلق انطلق، فانطلقنا حتى انتهيا إلى روضة خضراء فيها شجرة عظيمة، وفي أصلها شيخ وصبيان، وإذا رجل قريب من الشجرة بين يديه نار يوقدها، فصعدا بي في الشجرة وأدخلاني داراً لم أر قط أحسن منها، فيها شيوخ وشباب ونساء وصبيان، ثم أخرجاني منها فصعدا بي الشجرة، فأدخلاني داراً هي أحسن وأفضل فيها شيوخ، قلت: طوفتماني الليلة فأخبراني عما رأيت) ].

هذه المشاهد الخمسة تأويلها في الرؤيا، البخاري يخرج هذا الحديث في باب ما قيل في أولاد المشركين ليدلل على أن أولاد المشركين في الجنة، هذا ما أراده البخاري من المشهد الخامس.

يقول: [ (أخبراني عما رأيت. قالا: نعم. أما الذي رأيته يشق شدقه فكذاب يحدّث بالكذبة فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق فيصنع به ما رأيت إلى يوم القيامة) ].

إذاً: المشهد الأول هو الكذاب الذي يفتح فمه من شدقه الأيمن إلى شحمة أذنه، ومن شدقه الأيسر إلى شحمة أذنه اليسرى يحدث بالكذب والناس تسمع منه الكذبة فتبلغ الآفاق، ولا يستطيع أن يعود فيها.

أما الآخر قالا: [ (والذي رأيته يشدخ رأسه فرجل علّمه الله القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل فيه بالنهار) ]، يعني: الذي ينام عن القرآن وعن الصلاة وعن الطاعة؛ فإن الجزاء من جنس العمل. هذا المشهد الثاني.

[ (والذي رأيته في التنور فهم الزناة.) ] فإن الجزاء من جنس العمل، استمتعوا بفروجهم هنا فتحرق بنار الله يوم القيامة، وهم يصطرخون فيها. هذا المشهد الثالث.

المشهد الرابع: الرجل الذي يسبح في نهر الدم هو آكل الربا، يقول ابن عباس : الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275]، يقول: (يبعث آكل الربا يوم القيامة وبطنه بين يديه كالمرأة الحبلى، يقوم فيقع) يقوم فيقع، لماذا يسبح في بحر الدم؟ لأن غالب الربا في الذهب والفضة، ومن هنا اللون الأحمر، يسبح في بحر دم ثم يصل إلى الشاطئ، وهكذا.

[ (والشيخ في أصل الشجرة: إبراهيم عليه السلام، والصبيان حوله: أولاد الناس، والذين يوقدون النار: مالك خازن النار، والدار الأولى: دار عامة المؤمنين، وأما الدار الثانية: فدار الشهداء، وأنا جبريل وهذا ميكائيل) ].

إذاً: قوله: (فهم: أولاد الناس) إذاً عامة أولاد الناس من المشركين والمؤمنين كلهم في الجنة، فـالبخاري يريد أن يذهب إلى مذهب معناه: أن أولاد المشركين في الجنة؛ لأنهم لم يفعلوا شيئاً قبل أن يموتوا: هذا المشهد الخامس.

قال البخاري : [ باب: موت يوم الإثنين ].

يعني: فضل من مات في يوم الإثنين، ولقد مات نبينا صلى الله عليه وسلم في يوم الإثنين، وما أدراك ما يوم الإثنين؟!

يقول البخاري رحمه الله: [ من طريق عائشة : دخلت على أبي بكر رضي الله عنه فقال: في كم كفنتم النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالت: في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة. قال لها: في أي يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: يوم الإثنين. قال: فأي يوم هذا؟ قالت: يوم الإثنين. قال: أرجو فيما بيني وبين الليل. فنظر إلى ثوب عليه كان يمرّض فيه به ردع من زعفران، فقال: اغسلوا ثوبي هذا وزيدوا عليه ثوبين فكفنوني فيها. قلت: إن هذا خلق؟ قال: إن الحي أحق بالجديد من الميت، فلم يتوف حتى أمسى من ليلة الثلاثاء، ودفن قبل أن يصبح ].

يشير البخاري هنا: إلى واقعة موت النبي صلى الله عليه وسلم، وحياة الأنبياء في قبورهم حياة برزخية، والإمام البيهقي له كتاب اسمه: حياة الأنبياء في قبورهم، حياة برزخية لا نعلم عنها شيئاً، إنما نستطيع أن نجزم الآن: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30]؛ لأن البعض يقولون: هل مات رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ رسول الله ما مات. قلنا: مات بنص القرآن، ولكن حياته في القبر حياة برزخية، وقد ثبت في الحديث: (إذا كان يوم الجمعة فأكثروا من الصلاة علي فإن صلاتكم تعرض علي. قالوا: كيف تعرض عليك يا رسول الله وقد أرمت؟ قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) ، ولقد مر النبي عليه الصلاة والسلام بموسى عليه السلام وهو يصلي في قبره، والحديث صحيح، وليس معنى يصلي في قبره أي يركع ويسجد كما يفهم البعض، ولكن الحياة البرزخية لها قانون يحكمها، فنبينا عليه الصلاة والسلام حي حياة برزخية، أما في واقع الحياة فقد جاء في البخاري وغيره: أن النبي عليه الصلاة والسلام لما عاد من زيارته لموتى البقيع شكا من ألم في رأسه، قال: (وا رأساه يا عائشة !) ، وبقي في حجرتها يطبب إلى أن قال بعد أن عجز عن القيام للصلاة في جماعة، قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس. قالت عائشة : يا رسول الله مر عمر ؛ فإن أبا بكر رجل أسيف، إذا قرأ القرآن بكى، وإذا بكى لم يسمع؟ قال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، إنكن صواحب يوسف) ، يقول العلماء: لأنها عرضت بشيء وتريد شيئاً آخر، احتجت بأن أبا بكر رجل أسيف إذا قرأ يبكي، وإذا بكى لم يُسمع. نعم هذا عذر لكنها كانت تريد لأبيها ألا يؤم الناس فيموت النبي صلى الله عليه وسلم وأبوها يؤم الناس، فيربط الناس بين إمامة الصديق وبين موت النبي عليه الصلاة والسلام.

صلى الصديق بالناس أياماً رضي الله عنه، وخرج النبي عليه الصلاة والسلام قبل موته في الفرض الأخير، ورفع الستار من حجرة عائشة ونظر إلى أصحابه وهم يصلون، وابتسم ضاحكاً وعاد وقد حدثت ضجة في المسجد لسعادتهم بقدوم النبي عليه الصلاة والسلام، فأشار إليهم أن ابقوا على مكانكم، ثم عاد إلى حجرة عائشة وألقى رأسه على صدرها.

ومن فضل الله على أمنا عائشة أن مات رسول الله بين سحرها ونحرها.

والسحر: هو الصدر. والنحر: هو الرقبة. أي: أن النبي عليه الصلاة والسلام كان ينام على صدرها ورقبتها قبل موته.

ودخل عبد الرحمن بن أبي بكر أخو عائشة وبيده سواك فأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى السواك فأخذت عائشة السواك من أخيها ولينته بريقها. وفي هذا بوب البخاري أن الرجل يلين السواك لأخيه، كسرت الجزء المستخدم ثم لينت جزءاً آخر بريقها للنبي عليه الصلاة والسلام، ودفعت السواك إليه فاستاك قبل أن يموت، فكان آخر ريق مس ريقه هو ريق عائشة رضي الله عنها، وكان يقول: (بل الرفيق الأعلى .. بل الرفيق الأعلى) ، أي: أختار الرفيق الأعلى. عليه الصلاة والسلام وكان هذا في يوم الإثنين، والبخاري يبوب بذلك فيقول: [ باب: موت يوم الإثنين ].

وقد بوب في أول الجنائز أنه يجوز أن تدخل على الميت بعد موته، وأن تقبله في جبهته قبل تكفينه، وهذا ما صنعه الصديق مع النبي عليه الصلاة والسلام، ومع عبد الله بن حرام لما مات في غزوة أحد.

دخلوا عليه بعد موته وقبّله الصديق في جبهته، وقال: (طبت حياً وميتاً يا رسول الله، لن يجمع الله عليك موتتين، إلا الموتة التي متها في الدنيا لن تموت بعدها أبداً)؛ لأنه (يؤتى بالموت يوم القيامة على هيئة كبش أملح ويذبح بين الجنة والنار، وينادى: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت!)، ولو عاش أحد من السرور لعاش أهل الجنة، ولو مات أحد من الحسرة لمات أهل النار.

وفي الباب أيضاً حكم الكفن، فـالصديق رضي الله عنه قال: (غسلوا ثوبي هذا وزيدوا عليه ثوبين فكفنوني بها)؛ لأن الحي أولى من الميت. وفي هذا تواضع الصديقفي كفنه الذي كفن فيه.




استمع المزيد من الشيخ أسامة سليمان - عنوان الحلقة اسٌتمع
سلسلة شرح صحيح البخاري [20] 2722 استماع
سلسلة شرح صحيح البخاري [5] 2702 استماع
سلسلة شرح صحيح البخاري [11] 2338 استماع
سلسلة شرح صحيح البخاري [4] 2203 استماع
سلسلة شرح صحيح البخاري [9] 2175 استماع
سلسلة شرح صحيح البخاري [10] 2037 استماع
سلسلة شرح صحيح البخاري [1] 1781 استماع
سلسلة شرح صحيح البخاري [2] 1705 استماع
سلسلة شرح صحيح البخاري [18] 1678 استماع
سلسلة شرح صحيح البخاري [14] 1666 استماع