عندما يصطدم الأمل بالواقع والحقيقة
مدة
قراءة المادة :
19 دقائق
.
عندما يصطدم الأمل بالواقع والحقيقةمعالم قرآنية في الصراع مع اليهود
بعد أن دوّنت كتب بني إسرائيل وسجلت شروح التوراة وحواشيها (المشناة، والجماراة، التي عرفت بالتلمود) وكانت متأخرة جداً عن بداية تاريخ اليهود الذين مرّوا بتجارب مريرة كان لهم فيها حياة البدو والرعاة المتنقلين وحياة الحضر والاستقرار والزراعة والاستيطان.
وتفاوت الحياة بين حياة الرعية المغلوب على أمرها، وحياة الملوك والجبابرة المتحكمين في رقاب غيرهم.
دوّن ذلك التاريخ كله، وتحددت معالم الثقافة اليهودية التي تحمي اليهود من الذوبان في غيرهم عن طريق أحياء اليهود (الجيتو)، وارتسمت البصمات على الشخصية اليهودية التي يراد لها أن تنشأ الأجيال عليها.
وانتشر اليهود في أصقاع المعمورة لحمل رسالتهم التي استقرت الآراء حولها فضربوا مشارق الأرض ومغاربها لتحقيق حلمهم في السيطرة على العالم بأساليبهم الخاصة.
وكان من جملة القبائل التي ضربت في الأرض لتحقيق نبوءات كتبهم قبائل استوطنت شبه جزيرة العرب.
وكان الدافع الأساسي لها في أخذ هذا المنحى من الأرض إلى جانب الدوافع الاقتصادية والاجتماعية دافعاً دينياً، حيث كانت قبائل: بني النضير وبني قريظة والقينقاع يقرؤون في نبوءاتهم أن نبياً سيبعث في بلاد العرب وسيكون مهاجره إلى أرض ذات نخيل وحرات وستتحقق على يديه كثير من نبوءات التوراة من الحكم بين الناس بالعدل وإقامة دين الله وانتشار دينه وأتباعه في أصقاع الأرض وأناجيلهم في صدورهم رهبان بالليل فرسان بالنهار.
وكانوا يطمعون أن يكون هذا النبي منهم، لأنه استقر في نفوسهم أن لا نبي إلا من بني إسرائيل بل من سبط معين منهم هو سبط لاوين فاستوطنوا قرى في جزيرة العرب (يثرب، وخيبر، وتيماء) وكلها ذات نخيل وحرات وكانوا يمهدون للنبي الخاتم ويقولون عند التشاجر والمخاصمة مع جيرانهم من القبائل العربية لقد أظل زمان نبي آخر الزمان سنؤمن به ونقتلكم معه قتل إرم وعاد[1] وكانوا لا يشكون أنه سيكون من بني إسرائيل، ولما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان من نسل إسماعيل عليه السلام الفرع الثاني من دوحة النبوة من نسل إبراهيم عليه السلام، ولم تحتمل نفسية اليهود التي صاغها التلمود وصوّرتهم شعب الله المختار، وهو السادة والقادة كيف تكون النبوة في غيرهم ويكونون أتباعاً لهذا النبي؟
لقد ذكّرهم القرآن الكريم بهذه الحقائق وبمواقفهم السابقة ودعاهم إلى ترك البغي والحسد والبغضاء فإن النبوة هبة الله يضعها فيمن شاء وهو أعلم حيث يجعل رسالته.
يقول تعالى: ﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ [البقرة: 89 - 90].
إن بغي اليهود لم يكن على غيرهم فحسب بل كان بغيهم على كل من حاول الحد من طغيانهم وأهوائهم وشهواتهم من الأنبياء والمرسلين وأتباعهم الربانيين المصلحين ولو كانوا من بني إسرائيل أنفسهم، فكم من نبي قتلوه ومعه الربيون بغير حق، وكانوا يعلمون علم اليقين أنهم أنبياء مرسلون، وأن لعنة الله تحل على قاتليهم، ولكنها النفوس العاتية والقلوب القاسية الفظة لا تؤثر فيها المواعظ ولا القوارع، ولا يخضعون إلا للقوة التي تقهرهم أو تهدد وجودهم بالإبادة وهم يرونها رأي العين وبغير ذلك فلا يذعنون ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 93].
فإذا كان البغي والطغيان وقسوة القلب يدفع اليهود ليقتلوا أنبياءهم من بني جلدتهم لأنهم حاولوا إعادتهم إلى حظيرة الإيمان والحد من فسادهم وشرورهم، فكيف يلقون قيادهم لنبي من غير بني جلدتهم بل جاء ليكشف للعالم ولجميع الناس موبقات دهاقنة الدين اليهودي المحرف، وشرورهم وآثامهم، وحقدهم الذي لا يحد على البشرية ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [المائدة: 15 - 16].
لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبين الحق فيما ينقل إليه من أمر اليهود ويقره مع صبغه[2] بالصبغة الإسلامية وما كان من تحريفات اليهود واختلافهم أبعده وأظهر الحق والصواب فيه لقد كانت تلك الهدايات الربانية والشرائع الإسلامية تثير حفيظة النفوس اليهودية التي تربت على تعاليم التلمود الحاقدة، فبذلت كل ما تملك من جهد وسلكت كل سبيل لإطفاء نور الإسلام ولو بالتآمر مع الوثنيين المشركين على دعوة التوحيد وهذا ما كشفه القرآن الكريم من أفعالهم ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا * أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا * أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا * فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 51 - 56].
لقد تبوأ اليهود مكانة عظيمة في نفوس القبائل العربية الوثنية قبل الإسلام حيث كانت بأيديهم الزعامة الأدبية والمادية، وجاء الإسلام لينتزع منهم كل ذلك، بل ليكشف سوءتهم في قتلهم الأنبياء وصدهم عن سبيل الله وأكلهم الأموال بالباطل، وكانوا أحرص الناس على إخفاء كل ذلك عن العرب الأميين الذين كانوا ينظرون إلى اليهود أنهم أهل الكتاب الأول وعندهم من العلم ما ليس لدى الأميين[3].
أما الزعامة الأدبية فقد كانت لليهود في المناطق التي استوطنوها في جزيرة العرب في كل من يثرب وخيبر وتيماء وغيرها مما كانوا يتوقعونه أن يكون مهاجر آخر الأنبياء حسب وصف التوراة لأحوال النبي الخاتم.
وكانت القبائل العربية وخاصة الأوس والخزرج ترجع إليهم في كثير من القضايا التاريخية والاستفسار عن الأمم السابقة وما كان يحتاج إلى علم ومعرفة خارج دائرة أساطيرهم وما توارثوه من شأن القبائل وأنسابها.
على الرغم من أنهم لم يتبعوا اليهود في ديانتهم إما لأن اليهودية ديانة مغلقة، أو لأن الدافع الديني عند الوثنيين العرب لم يكن ليحملهم على البحث عن الحقيقة بل كانت الأعراف القبلية والعادات المتوارثة هي المسيطرة على سلوكهم وتصرفاتهم.
وكانت هذه الأعراف تتوارث شفاهاً والعرّافون والنسّابون كانوا يأخذون خبرتهم بالممارسة والمجالسة، ولم يكن لديهم كتب ومدونات يرجعون إليها.
فكانت الزعامة الثقافية لأهل الكتاب في جزيرة العرب فعندما جاء الإسلام وأظهر الحق، وكشف ما كان أهل الكتاب يحرصون على إخفائه وبيّن حقيقة مواقفهم من الكتب المنزلة، وطمسهم لمعالم الحق وقسوة قلوبهم وكتمانهم لأمر الله.
بعد ظهور ذلك فقد اليهود تلك المكانة في نفوس الأميين من الوثنيين، بل فقدوها في نفوس أتباعهم من عامة اليهود ودهمائهم.
وكانت الريادة المالية والاقتصادية في يد اليهود أيضاً، فهم التجار المحتكرون وهم المرابون شأنهم في ذلك شأن كل يهودي يحل أي أرض أو يساكن أي شعب من شعوب العالم، حيث تنص توراتهم المحرفة على أن لا يعامل أخاه اليهودي بالربا، أما غير اليهودي فعامله بالربا، ويرشدهم تلمودهم الحقود على أن جميع الناس خلقوا حميراً ليركبه اليهودي وكل مال يملكه غير اليهودي فإنما غصبه من اليهودي وله إعادته إلى حوزته بأي وسيلة متاحة مشروعة أو غير مشروعة.
لذا فالتعامل بالربا من دعائم الاقتصاد اليهودي، وكانوا يسعون إلى إقراض القبائل العربية للحاجة أو لغير الحاجة.
وكانوا يثيرون الفتن وخاصة بين الأوس والخزرج ليمدوا كلا الطرفين بالسلاح والمال والقروض الربوية، ومما ساعدهم على تنفيذ مخططهم وتحقيق مآربهم تحالف بني قريظة الأوس، وبني النضير الخزرج ليتوغلوا في صفوفهم ولتكون مشورتهم مقبولة ودسائسهم نافذة واليهودي لا يعرف حليفاً ولا يراعي إلًّا ولا ذمة سوى مصالحه المادية وتجارته الربوية ولكنها خطط ماكرة للاستيلاء على مقدرات هذه القبائل واستغلال جهودهم وإثارة الفتنة بينهم ليستفيد اليهود بمختلف اتجاهاتهم ومذاهبهم وبني أسباطهم من ذلك ولتصب بعد ذلك في خزائنهم وتمتلئ بالمال السحت، فلما جاء الإسلام آخى بين المؤمنين جميعاً ومنهم الأوس والخزرج وفوّت على اليهود الدسائس والمكائد ونبّه على أن طاعة هؤلاء يؤدي إلى الكفر يقول تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾[4] [آل عمران: 100 - 103].
لقد فوّت الإسلام فرص الفتنة على اليهود وقطع عليهم السبيل للإقراض بالربا، حيث حرّم الربا بجميع أنواعه ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [آل عمران: 130 - 132].
بل اعتبر الإسلام أكل الربا بمثابة إعلان حرب على الله ورسوله[5] وذلك ليجتث من النفس المؤمنة جذور التعلقات المالية الخبيثة ويزرع مكانها حب الإنفاق ابتغاء مرضاة الله تعالى ولعل من الحكمة الإلهية البالغة أن تأتي آيات الإنفاق والحث عليه بمختلف أشكاله وأنواعه، وآيات النهي عن الربا والتشديد والنكير على آكليه متعاقبة في سورة البقرة[6] وآل عمران[7].
لقد زعزع الإسلام بتحريم الربا أسس الاقتصاد اليهودي وجفف منابع الثروة وقطع أطناب التحكم والسيطرة على المجتمع، ففقد اليهود بذلك أسباب بقائهم وسيادتهم فما كان أمامهم سوى التآمر ليل نهار لإطفاء نور الله بتأليب القبائل الوثنية عليهم كما فعلوا في أحد والخندق وخيبر، وبإلقاء الفتنة بين المسلمين بتحريك أوليائهم من المنافقين كما فعلوا في الأحداث التي رافقت غزوة بني النضير وتسببت في إجلائهم والتآمر على اغتيال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقيادات المسلمين التي كانت السبب المباشر في حصار بني النضير[8].
هكذا اصطدمت أحلام اليهود وأمانيهم بالحقيقة الناصعة التي ظهرت مع بزوغ فجر الإسلام وقيام دولته في المدينة المنورة، وعندما تحققوا من صدق الرسول وصحة الرسالة أضمروا له عداوة الدهر:
أورد ابن هشام بسنده عن أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها قالت: كنت أحب ولد أبي إليه، وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه، قالت: فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، ونزل قباء، في بني عمرو بن عوف، غدا عليه أبي حيي بن أخطب وعمي أبو ياسر بن أخطب مغلسين[9]، قالت: فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس قالت: فأتيا كالين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى، قالت: فهششت إليهما كما كنت أصنع فوالله ما التفت إليَّ واحد منهما، مع ما بهما من الغم، قالت: وسمعت عمي أبا ياسر، وهو يقول لأبي: حيي بن أخطب: أهو هو؟ قال: نعم والله، قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم، قال: فما في نفسك منه؟ قال عداوته والله ما بقيت[10].
كان حيي بن أخطب يعبر عن دخيلة النفس اليهودية التي صاغها التلمود لقد عرف شأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصدقه ودعوته كما يعرف ابنه ونفسه ﴿ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 146].
ولكن النفوس المنطوية على البغي والحسد والحقد كيف تقبل الحق وترضخ له، فكان منهجهم عداوة الدهر لدعوة الحق.
وهو المنهج الدائم المستمر إلى يومنا هذا تجاه الإسلام والمسلمين وسيبقى هذا المنهج إلى قيام الساعة.
كما أخبر بذلك الصادق المصدوق.
ولقد كانت الاعترافات تصدر من بعض اليهود بين الفينة والأخرى، ولكنها كانت تحجب بحجب كثيفة من الإنكار والجحود:
فقد ورد أن كنانة بن صويراء قال ليهود بني النضير:
والله إنه لرسول الله، وما قام إلا أنه أخبر بما هممتهم به من الغدر - وذلك عندما هموا بإلقاء الحجر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فوق الجدار - وإنه لآخر الأنبياء، وكنتم تطمعون أن يكون من بني هارون، فجعله الله حيث شاء، وإن كتبنا والذي درسنا في التوراة التي لم تغير ولم تبدل: أن مولده بمكة، وأن دار هجرته يثرب وصفته بعينها ما تخالف حرفاً مما في كتابنا، وما يأتيكم به أولى في محاربته إياكم، ولكأني أنظر إليكم ظاعنين يتضاغى صبيانكم قد تركتم دوركم خلوفاً وأموالكم، وإنما هي شرفكم فأطيعوني، وأسلموا وادخلوا في دين محمد فتأمنوا على أموالكم وأولادكم وتكونون من علية أصحابه، وتبقى بأيديكم أموالكم، ولا تخرجون من دياركم قالوا: لا نفارق التوراة وعهد موسى[11].
أورد ابن القيم ما قاله الحرث بن عوف لعيينة بن حصن عندما أقسم له قائلاً:
والله ليظهرن محمد على ما بين المشرق والمغرب، يهود كانوا يخبروننا بهذا أشهد لسمعت أبا رافع سلام بن أبي الحقيق يقول: إنا نحسد محمداً على النبوة حيث خرجت من بني هارون، وهو نبي مرسل، ويهود لا تطاوعني على هذا، ولنا منه ذبحان واحد بيثرب وآخر بخيبر، قال الحرث قلت لسلام: يملك الأرض جميعاً؟ قال: نعم والتوراة التي أنزلت على موسى، وما أحب أن يعلم يهودي بقولي فيه[12].
قلة من اليهود استطاعوا أن يتغلبوا على داء الحسد الذي أضرم في داخلهم في رسول الإسلام فأعلنوا إسلامهم منهم:
يامين بن عمير، وأبو سعد بن وهب وهما من بني النضير عندما قال أحدهما لصاحبه: والله إنك لتعلم أنه رسول الله فما ننتظر أن نسلم فنأمن على دمائنا وأموالنا، فنزلا من الليل وأسلما فأحرزا أموالهما[13].
هكذا كان شأن اليهود فهم قوم بهت كما قال عنهم عبدالله بن سلام رضي الله عنه وأرضاه، وما هذه المواقف إلا نتيجة طبيعية لتربية التلمود الذي أورثهم الحقد والضغينة على العالم جميعاً، وجعل الشخصية اليهودية مجمع نقائص ونقائض.
[1] انظر في ذلك سيرة ابن هشام مع الروض الأنف 1245، ووفاء الوفا 1/160 وتفسير البغوي 1/93 حيث جاء فيه: (...
وذلك أنهم كانوا يقولون إذا أحزنهم أمر ودهمهم عدو: اللهم انصرنا عليهم بالنبي المبعوث بآخر الزمان الذي نجد صفته في التوراة، فكانوا ينصرون، وكانوا يقولون لأعدائهم من المشركين: قد أطل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وثمود وإرم).
[2] بعد هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء/ العاشر من محرم/ فسأل عن سبب لصومهم هذا اليوم فقالوا إنه يوم نجى الله فيه موسى وقومه من فرعون فنحن نصومه تعظيماً له، فقال رسول الله أنا أولى بموسى منهم، فأمر بصيامه، وقال خالفوا اليهود وصوموا يوماً قبله أو يوماً بعده وانظر الحديث بمعناه في مسند الإمام أحمد جـ 1/340، وكذلك ما أمر به من تنظيف أفنية البيوت، ولبس النعل في الصلاة مخالفة لليهود، فقالوا إن هذا الرجل لا يترك لنا أمراً إلا ويخالفنا فيه.
انظر في ذلك سنن الترمذي.
كتاب الآداب 4/198 ومختصر سنن أبي داود للمنذري - باب الصلاة في النعل 1/329.
[3] انظر في ذلك ما قالته قريش عندما أرسلت إلى اليهود في يثرب يسألونهم ما يستوثقون به من أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - وكان سبب نزول سورة الكهف.
انظر السيرة النبوية لابن هشام مع حاشية الروض الأنف: 2/39.
[4] انظر سبب نزول هذه الآيات في أسباب النزول للواحدي وما فعله شاس بن قيس لإلقاء الفتنة بين الأوس والخزرج.
[5] يقول تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾ سورة البقرة: الآيتان 278 - 279.
[6] انظر آيات الإنفاق في سورة البقرة من 261 - 274 وآيات الربا من 275 - 281.
[7] انظر آيات الربا في سورة آل عمران من 130 - 132 وآيات الإنفاق من 133 - 134.
[8] الروايات في ذلك في الدر المنثور 2/563.
[9] مغلسين: مأخوذة من الغلس: وهو ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح.
انظر النهاية لابن الأثير: 3/377.
[10] السيرة النبوية لابن هشام، مع حاشية الروض الأنف للسهيلي 2/258، دار المعرفة.
[11] انظر سبل الرشاد 4/454 نقلاً عن ظلال السيرة النبوية، محمد عبدالقادر أبو فارس ص 180.
[12] انظر زاد المعاد 4/139.
[13] انظر السيرة الحلبية 2/566.