تعقيبات
مدة
قراءة المادة :
13 دقائق
.
للأستاذ أنور المعداوي
كتاب عن مصر لجان كوكتو
في الشتاء الماضي حل الكاتب الفرنسي جان كوكتو ضيفاً على مصر، وفي ذلك الحين كتبنا عنه كلمتين في (التعقيبات) وردت في إحداها هذه الفقرات: (ولقد تهيا لنا أن نطلع على أربع رسائل تلقاها من باريس أحد أصدقائنا من بعض زملاء دراسته في السوريون وهي تدور حول كوكتو وفنه ورحلته إلى مصر: رسالتان تحطان من قدره وتحملان على خلقه، ورسالتان ترفعان من فنه وتشيدان بمواهبه، ونحن بين الرسائل الأربع يأخذنا العجب من رجل لا يلقى رأيا وسطا بين المعجبين به والمتحاملين عليه)!
وهذه فقرات أخرى مما قلناه عنه في الكلمة الثانية: (أما مصر فقد قال عنها كوكتو إنها أوحت إليه الكثير؛ لقد انفرد بأبي الهول ساعات في النهار والليل، وصادف من قلبه منزلة حسنة فباح له بسره، أما هذا السر فسيحمله إلى المصريين كتاب يود كوكتو أن يفرغ منه في الشهور المقبلة، كتاب يقبس أسلوبه السحر من وحي النخيل الباسق على ضفاف النيل. وكل ما نطلبه إلى الكاتب الفرنسي فهو أن يكون صادقاً في إصغائه لكلمات أبي الهول، أميناً في نقل حديثه ونجواه.
إن أبا الهول لا يمكن أن يتجنى على وطنه، لأنه عاصر تاريخه، وأشرف على حضارته، وبارك منذ خمسة آلاف عام مجده الخالد.
إننا في انتظار كتاب جان كوكتو لننظر فيما إذا كان قد استمع لكلمات محدثه أم انقاد لنزوات هواه)! قلنا هذا الكلام عن الكاتب الفرنسي منذ عام على وجه التقريب، وبعد أيام من هذا الذي قلناه نقلت جريدة (البورص) الفرنسية كلمتنا الأولى بما فيها من فقرات تسير إلى أخلاق الرجل تلك الإشارة العابرة.
وليس من شك في أن الكاتب الفرنسي قد اعتذر من لقائنا يوم أن رغبنا في لقائه، حين قرا تلك الفقرات اللاذعة في الصحيفة الفرنسية! ويشهد الله أننا لم نكن متجنين يوم أن نعتناه بسوء الخلق وانحراف الطبع، لأننا لم نقل فيه إلا هذا القليل مما حملته إلينا رسائل مواطنيه، بل لعلنا قد استشرنا الذوق حين أغفلنا الكثير مما جاء بتلك الرسائل، نزولا على حكم المجاملة نحو ضيوفنا من الأدباء.
ومن هذا الكثير الذي أغفلناه قصص تصور بعض مظاهر الشذوذ الخلقي في شخصية جان كوكتو وهي قصص لم نكد نشك في صحتها حتى بعث إلينا مرسلوها بصورة فوتوغرافية تمثل الكاتب الفرنسي في أحد الأوضاع الشاذة التي تأباها رجولة الرجال، وقد كتب تحت الصورة الحافلة بكل ما يشين الخلق هذا الاعتراض: كيف تحتفي مصر برجل هذه هي كل مواهبه؟!! وطوينا هذا الذي وافتنا به لرسائل الفرنسية، واستقبلنا جان كوكتو، واحتفينا به، وأقمنا له المآدب والحفلات.
وانتظرنا بعد هذا كله أن يقول كوكتو عن مصر كلمة تتسم بالعدل والإنصاف، وإنها لأقل ما كان ينتظر منه ردا لكرم الضيافة واعترفا بالجميل.
ولكن الرجل أبى إلا أن يكون نسخة صادقة من صورته الفوتوغرافية.
وهاهو يخرج كتابه عن مصر، وهاهي الحكومة المصرية تصادر الكتب التي لطخت صفحاته بأسخف ألوان الكذب والافتراء! ولكن ما جدوى هذه المصادرة والكتاب يقرأ في كل مكان خارج الحدود المصرية؟ لقد كنا نفضل أن لا يصادر هذا الكتاب الهابط ليتاح للأدباء المصريين أن يقرؤوه، عسى أن يتناول أحدهم قلمه ليرد على الكاتب الذي خضع لانحراف طبعه وانقاد لنزوات هواه.
نقول هذا ونحن نتطلع إلى الدكتور طه حسين، نتطلع إليه لثلاثة أسباب: السبب الأول أن الدكتور يتمتع بمكانة ملحوظة في الأوساط الأدبية الفرنسية، فهو إن تناول قلمه ليرد على جان كوكتو كان لرده أجمل الوقع وأبعد الأثر.
والسبب الثاني أن في الكتاب صفحات منصفة لشخصية الدكتور وأدبه، فهو إن تغافل عن هذا الثناء الذي أضفي عليه، كان لرده أبلغ الدلالة على سمعة الأوطان فوق سمعة الأفراد.
أما السبب الثالث فلا بأس من أن أذكر الدكتور به، حين أطوي من الزمن عاماً أرتد معه إلى ذلك المساء الذي جمعني به على ميعاد؛ لقد دار الحديث في تلك الليلة على ما كتبته في (الرسالة) عن جان كوكتو، وما زلت أذكر تلك الابتسامة العذبة التي ارتسمت على شفتيه، وهو يرغب إلي في أن أكف قلمي عن الكاتب الفرنسي خضوعاً لواجب المجاملة.
وخضوعاً لهذا الواجب أيضا كففت قلمي عن نشر تلك القصة الطريفة التي قصها علي، حول ذلك العتاب العبر الذي وجهه أليه كوكتو بمناسبة المحاضرة التي ألقاها عن (أوديب في الآداب المختلفة) والتي حمل فيها الدكتور بقسوة على مسرحية (الآلهة الجهنمية) للكاتب الفرنسي! من هذا كله ترى أن الأدباء المصريين قد عاملوا جان كوكتو معاملة الكرام لرجل ليس له كرامة.
وأين هذا من رجل كاميل هنريو عضو الأكاديمية الفرنسية، ذلك الرجل الذي ما كاد يغادر القاهرة إلى باريس حتى كتب في جريدة (الموند) مقالا أثنى فيه أطيب الثناء على مصر والمصريين! القصة بين قلم الكاتب وطبيعة الحياة نكتب إليكم هذه الرسالة للاستنارة برأيكم في مسألة جوهرية تتعلق بفن القصة العربية، وقد كانت تلك المسألة مثار جدل عنيف صاخب هنا، بين جماعة من الأدباء هم أعضاء غرفة المعلمين الأدبية (بالمكلا).
وكانت أهم مآخذ النقد تتركز في النقطة التالية وهي: هل من الطبيعي أن يظل شبح المأساة يلاحق فصول القصة حتى نهايتها، ثم لا يكون (لعدالة السماء) دخل في ذلك؟ وهل تكون حوادث مثل تلك المأساة طبيعية في عالم ترعاه عناية الله وتكلؤه قدرته؟ وإليكم فيما يأتي فحوى القصة التي كانت وما تزال مثار جدل عنيف واختلاف كبير، فقد يكون في سردها هنا على الإجمال، بعض النفع: تجري حوادث القصة في بيئة حضرمية، ولهذه البيئة مميزات خاصة هي في الواقع صورة منعكسة للحياة العقلية والأدبية في هذه البلاد.
وتبتدئ القصة في بيت الشيخ (معروف) حيث يجري مع ابنته (علوية) حوار عائلي، يدخل بعده (حامد) ابن عم الفتاة ويطلب إلى عمه أن يربط بينه وبين (علوية) برباط الزوجية.
ويتفق في ذلك أن تكون أم الفتاة متوفاة، وان تكون (صفية) زوجة الشيخ (معروف) الثانية، لا تشعر نحو الفتى الشاب (حامد) بالرضى والارتياح، فتشير على زوجها بالتسويف والمماطلة في طلب الشاب ثم يتقدم لخطبة الفتاة الشيخ (خليفة) وهو رجل غني في العقد السابع من عمره.
ويقوم بدور الوساطة (عمار) حيث يوفق في مسعاه ويستجيب الشيخ (معروف) لطلبه، بعد أن يكون (الدينار) قد لعب دوره بنجاح في القضية! وتزف (علوية) إلى بيت الشيخ (خليفة) على كره منها، ويتندر الأدباء في مجلسهم وتنتشر القالة حول الشيخ (معروف) وأطماعه.
ويضطر الشيخ (خليفة) في الفصل الخامس والأخير إلى تسريح (علوية) بعد أن واجهته بالشتائم وامتنعت عن معاشرته، وعاودها السقم والمرض، فأشفق ورثى لحالها.
ويقع الخبر من الشيخ (معروف) موقعاً أليماً فيعود على نفسه باللوم، ولكن الشيخ (خليفة) يقترح عليه كحل للأمر أن يجمع بين (علوية) وابن عمها (حامد).
ويقف (حامد) موقفاً نبيلاً عندما يقبل التضحية، إبقاء على حياة الفتاة المظلومة، وصوناً لكرامتها، وإكراماً لخاطر عمه المنكود! هذه صورة تقريبية لفصول القصة، وحيث تنتهي تبدأ قضية النزاع والاختلاف، فيرى البعض أن تتلاحق فصول القصة كمأساة حتى الشوط الأخير.
بينما يرى البعض الآخر ومنهم المؤلف أن الله وهو أعدل العادلين لن يجعل لمثل هذه (المأساة) صور ما، في عالم تجري حوادثه على قوانين طبيعية عادلة.
هذه هي نقطة الخلاف عرضناها عليكم بكل أمانة، راجين أن ترشدونا رأيكم على صفحات (الرسالة) الغراء: (المكلا - حضرموت) أحمد عوض باوزير سكرتير الغرفة الأدبية للمعلمين نود أن نقول للأديب الحضرمي الفاضل رداً على سؤاله، إن هذا الجدل الذي دار بين جماعة من أصدقائه حول هذه القصة جدل غريب.
ومصدر الغرابة فيه أن أصحاب الرأي الأول يريدون أن يطبعوا موضوع القصة بطابع المأساة، وان أصحاب الرأي الثاني يريدون أن يخضعوا الموضوع لعدالة الله.
وكلا الرأيين بعيد عن جوهر الفن القصصي لأنه يمثل منطق القائلين به أكثر مما يمثل منطق الوقائع الطبيعية! جوهر الفن هو أن نستوحي الحياة وحدها عندما نريد أن نخلق عملا من الأعمال الفنية، والقصة كعمل من هذه الأعمال لا بد أن تخضع لمجرى الحياة في صورتها الواقعية التي لا تنكرها العين ولا يرفضها العقل.
فالحياة التي ترفرف عليها عدالة الله فيها الخير وفيها الشر، وفيها الفضيلة وفيها الرذيلة، وفيها السعادة وفيها الشقاء، وفيها ما شئت من ألوان المفارقات وضروب المتناقضات.
فإذا صورنا الحياة تصويراً صادقاً فمن الطبيعي أن نقبل المأساة المستمدة من واقعها كما نقبل الملهاة، على شرط أن يكون عرضنا لهذه وتلك مسايراً لمنطق الحوادث المألوفة ومطابقاً لطبيعة الأمور كما يألفها الأحياء! خذ موضوع القصة من هذا الوجود المتحرك أمام ناظريك، ثم اخلع عليها بعد ذلك من أثواب الفن ما يبعد عنها صفة الجمود الذي لا يتفق مع الحركة، ونزعة الخيال الذي لا يلتقي مع الواقع، ولا مبرر بعد ذلك لأن تفرض على موضوع القصة أن يسير في هذا الطريق دون ذاك! إن الحياة وحدها هي التي ترسم خط السير، وتقرر غرض الاتجاه، وتحدد طبيعة الموضوع.
أعني أننا يجب أن نقتفي أثر الحياة في كل خطوة من الخطوات وكل نقلة من النقلات، ثم نسجل ما شاهدناه كما حدث في الواقع المشهود أو كما حدث في الواقع الذي يمكن أن يكون.
فإذا كان مجرى الحوادث في القصة لا يضيق بشبح المأساة فلا ضير من توجيه دفتها نحو هذا الذي نبتغيه، فإذا ضاق بها فلا حاجة بنا إلى أن نحمل الحياة فوق ما يمكن أن تطيق! والقصة التي يعرضها الأديب الفاضل لا يتنافى موضوعها مع رأي الفريق الأول كما لا يتنافى مع رأي الفريق الأخير، لأن البداية الفنية فيها تمهد لكلتا النهايتين المفتوحتين دون أن يمس جوهر الواقعية بحال من الأحوال.
ولكن الذي يتنافى مع جوهر الفن القصصي هو أن يصر الفريق الأول على أن تكون الخاتمة مظلمة مع أنها تحتمل أن تكون مشرقة، وأن يصر الفريق الأخير على أن تشرف عليها العدالة الإلهية، وكأنها ليست قصة فنية وإنما هي درس في الوعظ والإرشاد! حول رسائل الفراء أو رغبة استجابة كان من رأينا أن نمضي في كتابة هذه الدراسة المطولة لحياة المغفور له الأستاذ علي محمود طه وشعره حتى نبلغ بها أربعة وعشرين فصلا على أن تجمع آخر الأمر بين دفتي كتاب يشير إلى فضل الشاعر العظيم على الشعر العربي الحديث.
ولكننا ما كدنا نعد الفصل الثالث عشر للنشر حتى نبهنا أحد القراء الظرفاء إلى حقيقة تستحق التسجيل، وهي أن نرجئ بقية الفصول التي كنا نزمع نشرها على صفحات (الرسالة) حتى لا يفقد الكتاب جدته حين ندفع به إلى أيدي الناس، وحتى لا يستغني الجمهور القارئ بأعداد الرسالة عن شراء الكتاب.
فكرة ناضجة بلا ريب، وبخاصة ونحن في عصر يلتمس فيه القارئ المصري شتى السبل التي تحقق له قراءة الكتب دون أن يدفع الثمن!! وإذن فلا بأس أن تستجيب لهذه الرغبة التي تفضل بإبدائها قارئ لا شك انه صديق.
ونحن إذ نعمل على تحقيقها إنما نستجيب لرغبة أخرى هي الرد على كثير من رسائل القراء التي تكدست خلال تلك الفترة، والتي ينتظر مرسلوها منذ شهور أن نجيب عما فيها من أسئلة تتعلق بمشكلات الأدب والفن، وليس أمامنا من مجال للإجابة عنها غير أن نعود إلى كتابة (التعقيبات).
وإنها لعودة محببة تلك التي تتيح لنا أن نتصل بقراء الأقطار العربية من جديد، راجين أن نكون عند حسن الظن شاكرين لهم كريم العاطفة وصادق التقدير. ولقد كنا نود أن نعرض بالإجابة لبعض الرسائل في هذا العدد لولا ضيق النطاق، فإلى الأعداد المقبلة حيث نعقب على الأسئلة وغير الأسئلة إن شاء الله. أنور المعداوي