إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ، خلق الإنسان من سلالة من طين، ثم جعله نطفة في قرار مكين، ثم خلق النطفة علقة سوداء للناظرين، ثم خلق العلقة مضغة بقدر أكلة الماضغين، ثم خلق المضغة عظاماً كأساس لهذا البناء المتين، ثم كسا العظام لحماً فهي كالثوب للابسين، ثم أنشأه خلقاً آخر، فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فما ترك من خير يقربنا من الجنة إلا وأمرنا به، وما من شر يقربنا من النار إلا ونهانا عنه، فترك الأمة على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه في الأولين وفي الآخرين، وفي الملأ الأعلى إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا أيها الإخوة الكرام الأحباب! نواصل الحديث مع سورة المعارج، وقد انتهينا عند قول الله عز وجل: فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا * يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ * وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا * يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ * وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ * كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى * إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [المعارج:5-34].

هذه الآيات تتحدث عن يوم القيامة: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا [المعارج:6-7]، وكما قلت قبل ذلك: كل آت قريب: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ [النحل:1]، اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1]، فمما لا شك فيه أنه قريب؛ لأنه آت، وما مضى من زمن الدنيا بالنسبة لما بقي فيها قليل؛ لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بعثت أنا والساعة كهاتين، وقرن بين السبابة والوسطى).

والحديث له مفهوم عند بعض العلماء: إذا قارنت بين السبابة والوسطى تجد أن الوسطى تزيد عن السبابة بربع عقدة فقط، فما مضى من عمر الدنيا هو هذا القدر، وما بقي فيها تلك الزيادة.

إذاً: لم يبق منها إلا اليسير؛ ولذلك الساعة بعد النبي صلى الله عليه وسلم وليس بعده نبي؛ لذلك في حديث البخاري : (أنه كان يبيت عند زينب بنت جحش رضي الله عنها، فقام فزعاً بالليل وقد تغير وجهه وهو يقول: لا إله إلا الله! ويل للعرب من شر قد اقترب، لقد فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج هكذا، وحلق بين السبابة والإبهام، فقالت زينب : يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم. إذا كثر الخبث).

تصوير القرآن العظيم ليوم القيامة وما يتقدمه من أحداث

أيها الإخوة الكرام الأحباب! إن الحديث عن القيامة في القرآن الكريم جاء متعدداً: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا [المعارج:6-7]، ثم جاءت العلامات: يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ [المعارج:8].

أولاً: عبر عن القيامة في القرآن باليوم العظيم، وباليوم العسير، يقول ربنا سبحانه: فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [المدثر:8-10].

وعبر عنه في قوله: أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:4-6].

فالقرآن الكريم صور لنا مشاهد القيامة كأننا نراها رأي العين، يشيب فيها الولدان، فالولد الصغير الرضيع يقول الله في حقه: يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا [المزمل:17]، من شدة الهول والفزع، تصل فيه القلوب إلى الحناجر فلا تعود إلى مستقرها ولا تخرج من الأفواه، يقول ربنا سبحانه: إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ [غافر:18].

ويقول سبحانه في وصفه أيضاً: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2].

عندما أصبنا بزلزال في التسعينات كان كل الناس يجري، ربما يترك ولده وينزل، وربما يترك زوجته وينفض، ومن لطائف هذا الأمور أن زوجة رفعت قضية طلاق على زوجها بعد الزلازل، فسألوها عن سبب ذلك. قالت: لأنه أخذ التلفاز وتركني، أي: أن كل الذي شغله هو التلفاز، وترك الولد والزوجة.

إخوتي الكرام! زلزال القيامة يختلف: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج:1]، ترى الناس فيه سكارى، وزلزال التسعينات كان الناس فيه حيارى، وفرق بين السكارى والحيارى.

كذلك تذهل فيه المرضعة عما أرضعت، في زلزال التسعينات تأخذ ولدها وتفر به وتنزل من الطابق التاسع، أما زلزال الآخرة فتترك الرضيع من هول ما رأت، تذهل عما أرضعت. وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا [الحج:2]، قبل الموعد المحدد لنزوله من شدة الخوف والفزع، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2].

مآل السماوات يوم القيامة

تصوير القيامة في القرآن الكريم جاء في أكثر من موضع، لكن ما يهمنا هنا هو الانقلاب الهائل الذي يحدث في هذا الكون الآمن، فما بالك أيها المخلوق الضعيف؟! ما هو مآل السماء، ومآل الأرض، ومآل الجبال، ومآل البحار، ومآل الشمس، والنجوم، والقمر، والوحوش؟ اسمع إلى قول الله عز وجل عن السماء والأرض: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء:104].

ويقول سبحانه: وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67].

وجاء في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رب العالمين يأتي يوم القيامة وقد حمل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، وينادي في خلقه: أين ملوك الأرض؟ أنا الملك يقول: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر:16]) فلا يجيب أحد، يا ملوك الدنيا! سيزول ملككم ولا يبقى إلا ملك الحي سبحانه؛ لذلك هارون الرشيد في مرض موته وهو يحتضر نظر إلى السماء، وقال: يا من لا يزول ملكه ارحم من زال ملكه. الله أكبر!

أما السماء فقد جاء في حقها آيات: يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ [المعارج:8] أي: كالرصاص المذاب.

وكذلك تتشقق: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ [الفرقان:25].

ويقول ربنا في هذا: فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ [الرحمن:37].

ويقول ربنا سبحانه: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ [الحاقة:13-16]، هذه النفخة الأولى في الصور هي نفخة الاضطراب الكوني وتدميره، تتشقق السماء وتنفطر وتصبح واهية كالرصاص المذاب.

مآل الجبال والبحار والنجوم والشمس والقمر والوحوش

قال تعالى: وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ [المعارج:9]، الجبال مآلها كما يقول ربنا: وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا [النبأ:20]، أي: أن الجبال الراسية الثابتة تسير، وتصبح كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ [القارعة:5]، والعهن: هو الصوف المصبوغ الذي يطير في الهواء، تتحرك الجبال من مكانها، وتصبح كثيباً مهيلاً، وتسوى الأرض، يقول ربنا في ذلك: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا [طه:105-106] أي: يذر الأرض قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا [طه:106-107]، لا انخفاضاً ولا ارتفاعاً.

أما البحار فتشتعل نيراناً على أهل الأرض، أما النجوم فتتناثر وتتساقط ويذهب ضوءها، والقمر ينخسف، والشمس تكور، والوحوش تحشر، والموءودة تسأل، يقول الله: فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلَّا لا وَزَرَ [القيامة:7-11]. أي: لا مفر من الله إلا إليه؛ لذلك فروا إلى الله.

إخوتي الكرام! يحدث انقلاب في الكون بالنفخة الأولى في الصور، والذي ينفخ في الصور هو إسرافيل عليه السلام، ينفخ النفخة الأولى فيدمر الكون، عند ذلك تشخص الأبصار، أي: لا تنظر إلا إلى اتجاه واحد، وتصل القلوب إلى الحناجر. يقول الله في هذا: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ [غافر:18].

إن القرآن الكريم يتحدث عن هذا الانقلاب في الكون، فنقول نحن لأنفسنا: ماذا نفعل ونحن ضعفاء؟

حال الإنسان ومآله مع نفسه ومع غيره يوم القيامة

قال تعالى: وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا [المعارج:10]، يقابل القريب قريبه، وابن العم يقابل ابن عمه، والأب يقابل ابنه، والزوجة تقابل زوجها، والصديق يقابل صديقه، فهل يلتفتون إليه؟ لا، كأنهم لا يعرفونه، ينشغل كل بحاله، فانشغل بنفسك، وأعد لهذه الساعات، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يحشر الناس حفاة عراة غرلاً -يعني: غير مختونين- فقالت عائشة : يا رسول الله! يرى النساء عورة الرجال ويرى الرجال عورة النساء؟ قال: يا عائشة الأمر أكبر من ذلك، قال تعالى: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:37])، فهب لو أن رجلاً يقف أمام السكة الحديدية، وجاء القطار من خلفه مسرعاً، التفت فوجده، فقيل له: كلم ابن عمك بجوارك، هل يكلمه؟ لا؛ لأن الهلاك يلحق به، ولو وقفت أمامه امرأة عارية لا ينظر إليها؛ لأنه يشتغل بما هو أهم من ذلك، فانظر إلى القرآن كيف يصور النتيجة يوم القيامة، يقول ربنا سبحانه: وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا [المعارج:10] أي: لا يسأل قريب قريباً، لا يسأل صديق صديقه، كل ينشغل بحاله وبنفسه قال: يُبَصَّرُونَهُمْ [المعارج:11]، رغم أنه يراه ويعرفه، لكنه لا يهتم إلا بحاله. قال: يَوَدُّ الْمُجْرِمُ [المعارج:11]، يود الكافر العاصي الذي انشغل بهذه الدنيا ورتع فيها يميناً وشمالاً، وظلم وتجبر ونسي ربه وضيع حدوده، وكلمة (المجرم) تأتي بمعان عديدة في القرآن الكريم، قد تأتي بمعنى الكافر، وقد تأتي بمعنى العاصي الظالم، وقد تأتي بمعنى المنافق.

قال: (يود) والود عمل من أعمال القلوب، قال: يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ [المعارج:11]، فيا لها من مصيبة كبيرة إن سألت من يجمع المال من حرام: لماذا تجمع المال؟ يقول: أريد أن أؤمن مستقبل الأولاد بعد موتي، أبني العمارات، وأشتري السيارات والعقارات؛ حتى أورث بعد موتي. وأول من يضحي به يوم القيامة هم الأولاد، فيا لها من معادلة مقلوبة ومنكوسة: لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ [المعارج:11]، يا رب! خذ أبنائي ونجني من عذابك فلا يقبل منه، قال تعالى: وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ [المعارج:12]، الصاحبة بمعنى: الزوجة التي كانت في حضن دافئ، زوجها يوم القيامة يضحي بها! قال: وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ [المعارج:12]، فيا من تبحثون عن اسم العائلات! يقول تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101].

قال: وَفَصِيلَتِهِ [المعارج:13]، أي: عائلته الَّتِي تُؤْويهِ [المعارج:13]، التي ينضم إليها ويتشرف بها، يوم القيامة يقول: يا رب! خذ الأبناء، خذ الزوجة، خذ العائلة. قال تعالى: وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ [المعارج:14] خذ كل من أعرفه ونجني من عذابك، فيقول الله سبحانه: كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى [المعارج:15-18]، هذه ( لَظَى ) ملتهبة، تأخذ الأعضاء الظاهرة والباطنة؛ حتى قال بعض المفسرين: تحرق فروة الرأس، كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُوا [المعارج:15-17] النار تدعو إلى نفسها: تعال يا من أعرضت عن كتاب الله وعن سنة رسول الله! تعال يا من ضيعت حياتك في المعاصي! تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى [المعارج:17-18]، أي: جمع المال وجعله في وعاء، وظل يعدد المال، ولا يؤدي حق الله فيه، جمع المال كل ليلة، وإذا خرج منه جنيه يظن أن في خروجه الفقر، قال تعالى: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ [البقرة:268].

مكانة الدنيا عند المؤمنين

نحن ننظر إلى الدنيا نظرة مختلفة، ولابد أن ننظر إليه كأننا فيها غرباء: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) بالله عليك لو أنك من الزيتون، وذهبت إلى الإسكندرية هل ستكون فيها غريباً؟ كذلك هذه الأرض هل تعمر فيها طويلاً؟ هل تخطط لسنوات؟ نحن هنا نخطط ل(2100م)، ول(2200م) فهل هذا هو فعل الغرباء؟

ندب النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة للإنفاق في غزوة تبوك، وهي من الغزوات المهمة في دراستها، إذ إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يخبر أصحابه بالجهة التي سيقاتلون فيها، إلا في هذه الغزوة، وذلك لسببين:

الأول: العدو هم الروم وهم كثر، والمسافة طويلة جداً آلاف الكيلو مترات.

الثاني: الجو حار؛ لذلك قال المنافقون: لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا [التوبة:81].

لما ندبهم النبي صلى الله عليه وسلم لتجهيز جيش العسرة أتى عثمان بن عفان بماله وجهز ثلث الجيش، ثلث جيش العسرة جهزه عثمان من ماله، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في حقه: (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم)، أما الصديق فأتى بكل ماله، وأما عمر يقول: راودتني نفسي أن أسبق الصديق ، ما سبقته أبداً، فقلت: اليوم أسبقه، فأسرعت إلى بيتي وأحضرت نصف مالي، وتركت النصف لأهلي، فجئت بنصفه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ووضعته بين يديه، وجاء الصديق يحمل مالاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عمر ! ما أبقيت لأهلك؟ قال: جئت بنصفه وتركت النصف يا رسول الله! فجاء الصديق فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: وأنت يا أبا بكر ؟! قال: جئت بكل مالي وتركت لهم الله ورسوله) فيا له من يقين وإيمان! هل يقبل ذلك أحد؟ يعني: حينما يقال لك: ائتني بنصف مالك أو بربع مالك يا عبد الله! هل تفعل هذا؟ لا والله الذي لا إله غيره، لكنه اليقين، ولذلك يقول في حقه صاحب الحلية: هو الصديق الملقب بـالعتيق ، صاحب النبي صلى الله عليه وسلم في الحضر والأسفار، ورفيقه بعد الموت في الروضة المحفوفة بالأنوار، المنز ل فيه من عالم الأسرار: ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ [التوبة:40] رضي الله عنه.

ذكر صفات الإنسان وصفات المؤمنين في سورة المعارج

يذكر الله صفات الإنسان، فيقول: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا [المعارج:19].

ويقول: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4].

ويقول: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا [العصر:1-3] استثناء.

قوله تعالى: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا [المعارج:19]، ذكر فيها الهلع، وفسرتها الآيات التي بعدها على التو: إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا [المعارج:20] أي: إذا أصيب بمرض أو بفقر أو بفقد حبيب أو مال أو صديق يجزع، ولا يصبر على قضاء ربه، قال: وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا [المعارج:21] أي: إذا نزل به الفرج ومنع المال.

فيستثني سبحانه ويقول: إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ [المعارج:22-23] فإن أردت أن تنظر في دين عبد انظر إلى صلاته، فإن ضيع الصلاة كان لغيرها أضيع.

أقول: إن حال سلفنا الصالح كان عجباً والذي نفسي بيده، منهم من قال عن نفسه: مكثت أربعين سنة أصلي الفجر بوضوء العشاء، قد يقول قائل: هذا مخالف للسنة، لكن نقول: يا عبد الله! هذا معان من ربه، وفعله ليس للأسوة، أما النبي عليه الصلاة والسلام حينما يفعل يفعل ليشرع؛ لذلك سأل العلماء سؤالاً مهماً: أيهما أفضل في الأضحية: البدنة أم الكبش؟ فقال جمهور العلماء: البدنة يعني: الإبل، وقالت المالكية: الكبش؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين، فاتباع النبي صلى الله عليه وسلم هو الأولى، وقال جمهور العلماء: البدنة أولى بدليل حديث البخاري في فضل الجمعة والتبكير إليها: (من راح في الساعة الأولى إلى الجمعة فكأنما قرب بدنة -فبدأ بالبدنة- ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة) فقدم في الحديث البدنة، والنبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين؛ لأنه أسوة، فإنه ربما لا يمتلك الفقير إلا ثمن الكبش، عند ذلك يضحي كما ضحى النبي صلى الله عليه وسلم، أما إن استطاع أن يذبح بدنة فهذا هو الأولى ولا شك في هذا، وهذا قول الجمهور.

قال تعالى: الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ [المعارج:23] أي: يحافظون عليها في أوقاتها فلا يضيعون صلاة في جماعة، بل يؤدونها وقد استكملوا الشروط والأركان والسنن بخشوع.

قال تعالى: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ [المعارج:24]، الصدقة والزكاة مقدار كل واحدة منهما معلوم، لا يبخسون الناس حق الله عز وجل، قال: لِلسَّائِلِ [المعارج:25] الذي يسأل، وَالْمَحْرُومِ [المعارج:25]، الذي يكف عن السؤال، يحسبه الجاهل غنياً من التعفف، تعرفه بسيماه؛ لذلك ربنا يقول: فَكُلُوا مِنْهَا [الحج:36] أي: من الهدي وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [الحج:36]، والقانع: الذي يقتنع بحاله ولا يسأل الناس، والمعتر: الذي يسألهم، فأطعموا من يسأل ومن لا يسأل، وإياك أن تطعم من يسأل وتترك من لا يسأل.

يقول ربنا عز وجل: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ [المعارج:24] وكلمة ( حق ) تشير إلى أن للفقير في مال الغني حقاً، فأنت حينما تعطيه لا تعطيه فضلاً منك، إنما هو حق لابد أن يأخذه؛ لذلك قاتل أبو بكر المرتدين حينما منعوا الزكاة، فلو أن المجتمع يؤدي زكاة ماله لما وجد فيه الفقراء، ولا الذين بدون زوجات، والحالات التي تعرض ليلاً ونهاراً تجعلنا نبكي دماً بدلاً من الدموع؛ وذلك لأن الأغنياء يحبسون ما أعطاهم الله عز وجل.

قال تعالى: وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ [المعارج:26-27]، خائفون وجلون يخشون عذاب ربهم عز وجل، إذ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ [المعارج:28].

ومن صفاتهم: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ [المعارج:29]، حفظ الفرج عما حرم الله، والمحرمات متعددة، فلا يضعون فروجهم إلا فيما أحله الله من الزوجة أو ملك اليمين، أي: الأمة، أما ما سوى ذلك فحرام، واستدل العلماء من هذه الآية بحرمة نكاح اليد، لا يقربون بفروجهم ما حرم الله، لا يقربون دبراً ولا امرأة في حيض، ولا أي شيء حرمه الله، وذلك كما قال تعالى: إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [المعارج:30].

ثم قال: فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ [المعارج:32]، وتعدى حدود الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المعارج:31-32]، وأول الأمانات أمانات التكاليف الشرعية التي كلفهم الله بها، الأمانات بمعناها الشامل، والعهود بمعناها الشامل أيضاً، سواء كانت أمانة للمخلوق أو أمانة التكاليف التي كلفهم الله بها، ثم قال تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ [المعارج:33]، فلا يكتمون الشهادة، إنما يقيمونها لله عز وجل، أيها الإخوة الكرام! هذه صفات عباد الله تبارك وتعالى.

أيها الإخوة الكرام الأحباب! إن الحديث عن القيامة في القرآن الكريم جاء متعدداً: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا [المعارج:6-7]، ثم جاءت العلامات: يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ [المعارج:8].

أولاً: عبر عن القيامة في القرآن باليوم العظيم، وباليوم العسير، يقول ربنا سبحانه: فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [المدثر:8-10].

وعبر عنه في قوله: أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:4-6].

فالقرآن الكريم صور لنا مشاهد القيامة كأننا نراها رأي العين، يشيب فيها الولدان، فالولد الصغير الرضيع يقول الله في حقه: يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا [المزمل:17]، من شدة الهول والفزع، تصل فيه القلوب إلى الحناجر فلا تعود إلى مستقرها ولا تخرج من الأفواه، يقول ربنا سبحانه: إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ [غافر:18].

ويقول سبحانه في وصفه أيضاً: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2].

عندما أصبنا بزلزال في التسعينات كان كل الناس يجري، ربما يترك ولده وينزل، وربما يترك زوجته وينفض، ومن لطائف هذا الأمور أن زوجة رفعت قضية طلاق على زوجها بعد الزلازل، فسألوها عن سبب ذلك. قالت: لأنه أخذ التلفاز وتركني، أي: أن كل الذي شغله هو التلفاز، وترك الولد والزوجة.

إخوتي الكرام! زلزال القيامة يختلف: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج:1]، ترى الناس فيه سكارى، وزلزال التسعينات كان الناس فيه حيارى، وفرق بين السكارى والحيارى.

كذلك تذهل فيه المرضعة عما أرضعت، في زلزال التسعينات تأخذ ولدها وتفر به وتنزل من الطابق التاسع، أما زلزال الآخرة فتترك الرضيع من هول ما رأت، تذهل عما أرضعت. وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا [الحج:2]، قبل الموعد المحدد لنزوله من شدة الخوف والفزع، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2].

تصوير القيامة في القرآن الكريم جاء في أكثر من موضع، لكن ما يهمنا هنا هو الانقلاب الهائل الذي يحدث في هذا الكون الآمن، فما بالك أيها المخلوق الضعيف؟! ما هو مآل السماء، ومآل الأرض، ومآل الجبال، ومآل البحار، ومآل الشمس، والنجوم، والقمر، والوحوش؟ اسمع إلى قول الله عز وجل عن السماء والأرض: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء:104].

ويقول سبحانه: وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67].

وجاء في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رب العالمين يأتي يوم القيامة وقد حمل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، وينادي في خلقه: أين ملوك الأرض؟ أنا الملك يقول: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر:16]) فلا يجيب أحد، يا ملوك الدنيا! سيزول ملككم ولا يبقى إلا ملك الحي سبحانه؛ لذلك هارون الرشيد في مرض موته وهو يحتضر نظر إلى السماء، وقال: يا من لا يزول ملكه ارحم من زال ملكه. الله أكبر!

أما السماء فقد جاء في حقها آيات: يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ [المعارج:8] أي: كالرصاص المذاب.

وكذلك تتشقق: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ [الفرقان:25].

ويقول ربنا في هذا: فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ [الرحمن:37].

ويقول ربنا سبحانه: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ [الحاقة:13-16]، هذه النفخة الأولى في الصور هي نفخة الاضطراب الكوني وتدميره، تتشقق السماء وتنفطر وتصبح واهية كالرصاص المذاب.

قال تعالى: وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ [المعارج:9]، الجبال مآلها كما يقول ربنا: وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا [النبأ:20]، أي: أن الجبال الراسية الثابتة تسير، وتصبح كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ [القارعة:5]، والعهن: هو الصوف المصبوغ الذي يطير في الهواء، تتحرك الجبال من مكانها، وتصبح كثيباً مهيلاً، وتسوى الأرض، يقول ربنا في ذلك: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا [طه:105-106] أي: يذر الأرض قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا [طه:106-107]، لا انخفاضاً ولا ارتفاعاً.

أما البحار فتشتعل نيراناً على أهل الأرض، أما النجوم فتتناثر وتتساقط ويذهب ضوءها، والقمر ينخسف، والشمس تكور، والوحوش تحشر، والموءودة تسأل، يقول الله: فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلَّا لا وَزَرَ [القيامة:7-11]. أي: لا مفر من الله إلا إليه؛ لذلك فروا إلى الله.

إخوتي الكرام! يحدث انقلاب في الكون بالنفخة الأولى في الصور، والذي ينفخ في الصور هو إسرافيل عليه السلام، ينفخ النفخة الأولى فيدمر الكون، عند ذلك تشخص الأبصار، أي: لا تنظر إلا إلى اتجاه واحد، وتصل القلوب إلى الحناجر. يقول الله في هذا: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ [غافر:18].

إن القرآن الكريم يتحدث عن هذا الانقلاب في الكون، فنقول نحن لأنفسنا: ماذا نفعل ونحن ضعفاء؟


استمع المزيد من الشيخ أسامة سليمان - عنوان الحلقة اسٌتمع
التاريخ الأسود لليهود 2409 استماع
الوقت وحرص الصالحين عليه 2395 استماع
اللحوم المسمومة 2348 استماع
الرحلة في طلب العلم 2337 استماع
فاصبر صبراً جميلاً 2275 استماع
وثيقة حرمات لا حدود 2257 استماع
استكمال تفسير سورة الحاقة 2 2226 استماع
وقفة مع سورة الإنسان 2219 استماع
إنا بلوناهم 2099 استماع
ذرني ومن يكذب بهذا الحديث 2059 استماع