أخلاق المسلم في القرآن والسنة - خلق العفة


الحلقة مفرغة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.

وبعد:

أيها الإخوة الكرام الأحباب! لقاؤنا الليلة مع خلق من الأخلاق الحسنة، ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي، وحرم وجهي على النار)، فكما أن للإنسان صورة ظاهرة وهي الخَلْق، فإن له صورة باطنة ألا وهي الخُلُق، فلا تغني الصورة الظاهرة عن الصورة الباطنة؛ ولذلك جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الصورتين في الدعاء فقال: (اللهم كما حسنت خَلْقي فحسن خُلُقي)، وقد جاء النبي عليه الصلاة والسلام ليتمم مكارم الأخلاق، فالأخلاق قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام لم تكتمل، وقد كان الكذب عند العرب قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام مذموماً، وكانوا لا يحبونه؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).

ومن الأدلة على أن الكذب كان مذموماً عند العرب ما قاله أبو سفيان قبل أن يسلم في حواره مع هرقل: خشيت أن يؤثر القوم علي كذباً؛ أي: حتى لا يقولوا عني: إنه كذاب، وكان عندهم بعض الحياء أحياناً، لكن الشرك هو شر الأخلاق.

إن النبي عليه الصلاة والسلام حدد الهدف من بعثته بقوله: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، والروح الخلقية الإيمانية تسري في الشريعة: في المعاملات، في العبادات، في العقائد، وفي كل جزئية من أجزاء الدين تسري الروح الخلقية فيه.

ففي مجال العقيدة: (لا إيمان لمن لا أمانة له)، أي: أن الأمانة من الإيمان.

وفي روح العبادات: كل الفروض والشرائع التي فرضها الله علينا؛ لتزكية الخلق، فلا نفع في صلاة ولا ثمرة منها إن لم تنه صاحبها عن الفحشاء والمنكر، وكذلك الصيام والحج.. إلى غير ذلك.

لذلك يذهب الدكتور دراز في رسالة الدكتوراه التي أعدها في فرنسا وعنوانها: دستور الأخلاق في القرآن، إلى أن القرآن كتاب أخلاقي، فقصصه وأمثاله ومحكمه ومتشابهه وعقيدته وعباداته ومعاملاته تحتوي على الجانب الأخلاقي، ونحن اليوم مع خلق جديد، وقد تحدثنا قبل ذلك عن خلق الحياء، واليوم عن العفة.

من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى).

فما هي العفة؟

يقول العلماء: العفة: هي الكف عما لا يحل، أي: منع النفس عما لا يحل، ومنها: عف اللسان عن الغيبة، وعف البصر عن النظر إلى ما يغضب الله، وعف الفرج عن الحرام، يقول ربنا تبارك وتعالى: وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:33].

فالشاب الذي لا يقدر على الزواج يصوم، ويكف نفسه عن الحرام بالعفة، ولذلك فإن العفاف: هو الكف عن الحرام، والكف عن سؤال الناس؛ فهذه عفة، وربنا يقول: يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً [البقرة:273]، وفي حق مال اليتيم قال: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:6]، أي: أنه يعف نفسه عن مال اليتيم الذي في رحابه؛ ولذلك التعفف: هو تكلف العفة، والاستعفاف: هو طلب العفاف؛ فهذا هو التعريف اللغوي عند علماء اللغة.

أما التعريف الشرعي فيقول الأصفهاني في كتابه القيم (المفردات): العفة: هي ضبط النفس عن الملاذ الحيوانية.

ويقول الجاحظ : هي ضبط النفس عن الشهوات.

ويعرفها الجرجاني في المفردات: بأنها هيئة للقوة الشهوية بين الفجور والخمود.

ولذلك العفيف في الشرع عندنا: من يباشر الأمور طبقاً للشرع والمروءة.

إذاً العفة في مجملها: ضبط النفس عما حرم الله؛ وهذا خلاصة ما سبق.

والإنسان يتكون من قوى: قوة شهوانية، وقوة عاقلة.

فالقوة الشهوانية تحتاج إلى ضبط وكبح، والإسلام وضع لهذه القوة سبيلاً إلى الحلال؛ ولذلك كان الزواج وغير ذلك.

تنقسم العفة عند العلماء إلى قسمين:

العفة عن المحارم

العفة عن المحارم تعني: الكف عن محارم المسلمين، من الدم والمال والعرض، إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم في أكبر تجمع إسلامي في خطبة الوداع في يوم النحر -والحديث صحيح في البخاري وغيره- قال لأصحابه: (أتدرون في أي بلد أنتم؟)، وهل الصحابة لا يدرون في أي بلد هم؟ لا، لكن الصحابة تعلموا الأدب، والأدب مقدم على العلم؛ ولذلك كان الصحابة يتعلمون سبعين باباً من الأدب، ويتعلمون باباً واحداً من العلم، وكما قيل: علم بلا أدب كالنار بغير حطب، فليكن علمك ملحاً وأدبك دقيقاً كما قالوا، وهذا معناه: أن الأدب يقدم على العلم، ومعناه: أنك تطلب العلم بأدب، وقد جاء ذكر الأدب في طلب العلم في القرآن في أكثر من سورة، وليس هذا هو مقامه.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (أتدرون في أي بلد أنتم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم)، وهذا تسليم مطلق، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم حتى ظن الصحابة أنه سيسمي البلد بغير اسمه، ثم سألهم: (أتدرون في أي يوم أنتم؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم)، لا يسأل هذا السؤال إلا لأمر مهم. (أتدرون في أي شهر أنتم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: ألستم في بلد حرام، وفي يوم حرام، وفي شهر حرام؟! قالوا: بلى! قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا).

إذاً: النبي عليه الصلاة والسلام يحدد الحرمات، فأول أنواع العفة: العفة عن المحارم: عفة اللسان عن الغيبة، وعفة العين عن النظر، وعفة الفرج عن الحرام.

عفة المحارم قال عنها العلماء: ضبط الفرج عن الحرام، وكف اللسان عن الأعراض.

ربما يكون المسلم طيباً ورعاً تقياً مصلياً، لكنه يترك للسانه الحرية، وهذه مصيبة الأمة، نتمضمض بأعراض بعضنا ليل نهار، لا هم لنا إلا قيل وقال، والاتهام المتبادل، وسوء الظن، والغيبة، وعدم تحري الصدق في الحديث، وهذا مصيبة ما بعدها مصيبة، لذلك لما قال معاذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (أو إنا لمؤاخذون بما نتكلم به يا رسول الله؟! قال: ثكلتك أمك يا معاذ ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم)، وقال الحسن البصري يخاطب اللسان: يا لسان! قل خيراً تغنم، واسكت عن شر تسلم من قبل أن تندم.

فلسان المؤمن مقامه ومكانه خلف قلبه، ولسان المنافق أمام قلبه، والمعنى: أن المؤمن لا يتكلم الكلمة إلا إذا مرت على قلبه ووعاها، وعرف معناها وقصدها؛ لأنه يعرف تمام المعرفة أنه: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18].

العفة عن المآثم والمعاصي

والعفة عن المآثم والمعاصي نوعان:

الكف عن المجاهرة بالظلم، وكف النفس عن الإصرار على الخيانة.

فالمجاهرة بالظلم أن تظلم جهاراً، أو أن تخون سراً، تعصي ربك عز وجل، فإذا كان العبد بين الناس كان تقياً محافظاً على الحرمات، وإذا خلا بنفسه انتهك المحارم؛ فهذا إنسان لا يوصف بالعفة.

العفة عن المحارم تعني: الكف عن محارم المسلمين، من الدم والمال والعرض، إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم في أكبر تجمع إسلامي في خطبة الوداع في يوم النحر -والحديث صحيح في البخاري وغيره- قال لأصحابه: (أتدرون في أي بلد أنتم؟)، وهل الصحابة لا يدرون في أي بلد هم؟ لا، لكن الصحابة تعلموا الأدب، والأدب مقدم على العلم؛ ولذلك كان الصحابة يتعلمون سبعين باباً من الأدب، ويتعلمون باباً واحداً من العلم، وكما قيل: علم بلا أدب كالنار بغير حطب، فليكن علمك ملحاً وأدبك دقيقاً كما قالوا، وهذا معناه: أن الأدب يقدم على العلم، ومعناه: أنك تطلب العلم بأدب، وقد جاء ذكر الأدب في طلب العلم في القرآن في أكثر من سورة، وليس هذا هو مقامه.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (أتدرون في أي بلد أنتم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم)، وهذا تسليم مطلق، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم حتى ظن الصحابة أنه سيسمي البلد بغير اسمه، ثم سألهم: (أتدرون في أي يوم أنتم؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم)، لا يسأل هذا السؤال إلا لأمر مهم. (أتدرون في أي شهر أنتم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: ألستم في بلد حرام، وفي يوم حرام، وفي شهر حرام؟! قالوا: بلى! قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا).

إذاً: النبي عليه الصلاة والسلام يحدد الحرمات، فأول أنواع العفة: العفة عن المحارم: عفة اللسان عن الغيبة، وعفة العين عن النظر، وعفة الفرج عن الحرام.

عفة المحارم قال عنها العلماء: ضبط الفرج عن الحرام، وكف اللسان عن الأعراض.

ربما يكون المسلم طيباً ورعاً تقياً مصلياً، لكنه يترك للسانه الحرية، وهذه مصيبة الأمة، نتمضمض بأعراض بعضنا ليل نهار، لا هم لنا إلا قيل وقال، والاتهام المتبادل، وسوء الظن، والغيبة، وعدم تحري الصدق في الحديث، وهذا مصيبة ما بعدها مصيبة، لذلك لما قال معاذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (أو إنا لمؤاخذون بما نتكلم به يا رسول الله؟! قال: ثكلتك أمك يا معاذ ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم)، وقال الحسن البصري يخاطب اللسان: يا لسان! قل خيراً تغنم، واسكت عن شر تسلم من قبل أن تندم.

فلسان المؤمن مقامه ومكانه خلف قلبه، ولسان المنافق أمام قلبه، والمعنى: أن المؤمن لا يتكلم الكلمة إلا إذا مرت على قلبه ووعاها، وعرف معناها وقصدها؛ لأنه يعرف تمام المعرفة أنه: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18].

والعفة عن المآثم والمعاصي نوعان:

الكف عن المجاهرة بالظلم، وكف النفس عن الإصرار على الخيانة.

فالمجاهرة بالظلم أن تظلم جهاراً، أو أن تخون سراً، تعصي ربك عز وجل، فإذا كان العبد بين الناس كان تقياً محافظاً على الحرمات، وإذا خلا بنفسه انتهك المحارم؛ فهذا إنسان لا يوصف بالعفة.

أما عن شروطها فقد اشترط العلماء للعفة ستة شروط:

الأول: ألا تكون العفة انتظاراً لأكثر منه؛ لأنها لو كانت بهذا الشكل فلا تسمى عفة، مثال ذلك: أنت تعطي أخاك عشرة جنيهات، فيقول: لا أريدها، يعف نفسه عنها انتظاراً لخمسين، إذاً: هو ينتظر أعلى منها؛ فيرفض الأدنى، فهذا لا يسمى عفيفاً.

الثاني: ألا تكون العفة عن شيء لأنه لا يوافقه، مثال ذلك: لو قسمنا لرجل مقداراً من اللحم في طعامه، فقال: لا آكل اللحم، أعف نفسي عنه، وفي واقع الأمر عنده نقرس، فمنع من أكل اللحم بأمر الطبيب، فهو يعف نفسه عن اللحم؛ لأنه لا يوافقه.

الثالث: ألا تكون العفة لجمود شهوة، كرجل مريض ليس عنده قدرة على مجامعة النساء، فإن عف نفسه عن الشهوات وعن الحرام لا يسمى عفيفاً؛ لأن لديه جموداً عن الشهوة.

الرابع: ألا تكون العفة عن شيء خوفاً من عاقبته، مثال ذلك: كنت في طريق مسجد العزيز بالله، فإذا برجل يسبك، فنظرت إليه فإذا به صاحب جسم، فقلت: لن أرد عليه؛ لأنك خائف، أما لو كان ضعيفاً فسترد، إذاً: تعف نفسك هنا خوفاً من العاقبة، فإنك لو تكلمت كلمة ستعرف مصيرك، فهل تسمى هذه عفة؟ لا.

الخامس: لا تكون العفة عن شيء لمرض أو ما شابه ذلك، فإذا قيل لك: خذ هذا الشيء واشربه، فقلت: أنا أعف نفسي، وفي واقع الأمر قد نُهيت عن شربه لمرض فيك؛ فهل هذه تسمى عفة؟ لا.

السادس: لا تكون العفة عن شيء لا يعرفه لقصوره، فهو يعف نفسه عن هذا الشيء لعدم معرفته.

إذاً: خلاصة الأمر: أن العفة لها شروط ستة، وقد ذكرها العلماء في بيان مكانة العفة.

من تمام العفة ما قاله ابن القيم رحمه الله: ولا يكون الإنسان تام العفة حتى يكون عفيف اللسان والسمع والبصر -الجوارح- فعفة اللسان تشمل عدم السخرية: لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ [الحجرات:11]، وعفة اللسان تشمل: عدم التجسس، وعدم الغيبة، والنميمة، والهمز، والتنابز بالألقاب.

وعفة البصر تشمل: عدم مد البصر إلى المحارم، وزينة الحياة الدنيا.

وعفة السمع تشمل: عدم سماع كل ما هو قبيح ومحرم من المسموعات.

إذاً: الذي يجلس ويسمع ما يغضب الله لا نستطيع أن نصفه بأنه عفيف.

وعفة اللسان وعفة الأذن وعفة البصر من تمام العفة.

وجماع العفة: أن تحفظ الجوارح، ولا يطلقها صاحبها في شيء يغضب الله عز وجل.

رأى بعض السلف رجلاً قفز من فوق السفينة إلى الشاطئ، وقد بلغ من العمر مائة سنة، فعاتبوه ولاموه، وهذه القصة ذكرها ابن رجب في كتابه القيم: (نور الاقتباس في مشكاة النبي صلى الله عليه وسلم لـعبد الله بن عباس )؛ لأن حديث: احفظ الله يحفظك شرحه ابن رجب في مجلد خاص، قال: إن بعض السلف رأوا رجلاً كبيراً عجوزاً تقدم به السن قفز قفزة طويلة من فوق السفينة إلى الشاطئ، فقيل له: يا رجل! أما خفت على نفسك؟ فقال: هذه جوارح حفظناها في الصغر؛ فحفظها الله لنا في الكبر.

لا بد أن نحاسب الجوارح عما تقدم، يقول ربنا في سورة البقرة: لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً [البقرة:273]، ويقول ربنا في سورة النساء: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى [النساء:6]، والابتلاء: الاختبار، واليتيم عندنا: من مات أبوه، وفي الطيور: من ماتت أمه، واللطيم: من فقد الأب والأم، واليتيم في البشر الذي لم يبلغ الحلم، فإن بلغ الحلم لا يسمى يتيماً، فلا يصح أن يطلق لقب يتيم على من بلغ الأربعين: (لا يتم بعد احتلام ولا رضاع بعد فطام)، رواه الدارقطني ، والله يقول: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى ، أي: اختبروهم حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ ، أي: سن الرشد والتمييز، فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ ، أي: إذا كان عندي يتيم في حجري أقوم برعايته، وماله عندي، فإنني أستعفف عن ماله طالما أنني غني، وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:6].

وقال ربنا سبحانه في سورة النور -سورة العفاف والطهر-: وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:33]، والمعنى: أن من لم يجد القدرة على الزواج عليه أن يعف نفسه بطاعة ربه، ثم قال في سورة النور أيضاً: وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً [النور:60]، أي: امرأة بلغت من السن ما بلغت، عجوز ولا ترجو زواجاً؛ لأنها تنتظر الموت، لكن بعض الهابطات يتجاوزن السبعين سنة وما زلن كالشابات، فهؤلاء لا يدخلن في القواعد، وإنما نقصد بالقواعد: جدتي وجدتك اللاتي لم يعد لهن قدرة على النكاح، حتى وإن كان عندهن رغبة، لكنهن لا يستطعن أن يتكلمن، قال: فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ ، أي: تضع من ملابسها ولا تتزين، بل تخفف، وليس المقصود: أن تظهر العورة، فمثلاً الخمار ترخيه عن وجهها شيئاً يسيراً؛ لأنها لا ترجو نكاحاً؛ ولذلك قال الله: غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ، ومع ذلك قال: وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ [النور:60]، أي: إن يتركن هذا فهو الأفضل.

ومما جاء في العفة قوله تعالى: وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ، انظروا إلى العفة! قال: مَعَاذَ اللَّهِ [يوسف:23]، لم يمتنع يوسف عن الفاحشة لأنه ليس له القدرة على الجماع، بل كان شاباً عنده تمام الرجولة والفحولة على مجامعة النساء، لكن الذي منعه هو العفة، قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [يوسف:23].

جاءت أحاديث في العفة كثيرة، ومنها:

دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى).

وحديث الطبراني : (بروا آباءكم تبركم أبناؤكم، وعفوا تعف نساؤكم).

حديث آخر عند الترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة : (ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف).

أذكر هذا الحديث لإخواني؛ لأن البعض يقول: أنا لا أملك إلا خمسة آلاف جنيه الآن، أأتقدم للزواج أم لا؟ أقول له: توكل على الله وأقدم، فإنك ستجد الخمسة آلاف تحولت إلى خمسين ألفاً؛ لأن رسول الله قال: (الناكح الذي يريد العفاف)، فأنت تدق الباب وتريد أن تعف نفسك، فالله عز وجل يفتح لك السبل والطرق؛ طالما أنك تريد العفاف.

وعند الترمذي : (عرض عليَّ أول ثلاثة يدخلون الجنة: شهيد، وعفيف متعفف، وعبد أحسن عبادة الله ونصح لمواليه).

وحديث آخر في البخاري : (ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، واللقمة واللقمتان، إنما المسكين الذي يتعفف).

وحديث عند البخاري ومسلم : (قال رجل: لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق، فأصبح الناس يتحدثون: تصدق الليلة على سارق)، والبخاري ذكر هذا الحديث في كتاب الزكاة، وسأذكره لأنك ستخرج يوماً بصدقتك تبحث عمن يقبلها فلا تجد، وذلك عندما يفيض المال في آخر الزمان ويقول لك الفقير: لو جئت بالأمس لقبلت منك، أما الآن فلا حاجة لي به.

قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اتقوا النار ولو بشق تمرة)، وقال: (والصدقة برهان).

وهكذا خرج الرجل بصدقته فوضعها في يد من لا يعرف، فقيل: (تصدق اليوم على سارق، فقال: لأتصدقن الليلة بصدقة، فوضعها في يد زانية، فأصبح الناس يقولون: تصدق الليلة على زانية، فقال الرجل: لأتصدقن الليلة بصدقة، فوضعها في يد غني، فأصبح الناس يتحدثون: تصدق الليلة على غني، فبينما هو نائم إذ جاءه من الله البشرى قال له: أما صدقتك على سارق، فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما الغني فلعله أن يعتبر فينفق مما أعطاه الله).

وفي الحديث الآخر: أن صحابياً جليلاً أخرج صدقته إلى وكيله في المسجد، والبخاري بوب في كتاب الزكاة: باب من تصدق على ولده وهو لا يعلم، مثاله: جئت إلى مسجد العزيز فأعطيت الصدقة لإمام مسجد، فقلت له: أنت وكيلي في إخراج الصدقة في مصارف الزكاة، فجاء ولد المتصدق وأخذ صدقة والده، ثم عاد بها إلى البيت، والحديث صحيح أورده النووي في رياض الصالحين، ولعله في السنن، فلما جاء إلى والده رأى الدنانير في يده، فقال له: هذه دنانيري، ما أردتك يا ولدي! أنت لا تستحق الصدقة، ولا يجوز لي أن أخرج صدقتي على ابني؛ لأنه فرع، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (لك ما نويت يا يزيد ! ولك ما أخذت يا معن)، فهذا يشير إلى أن الصدقة تقع على حسب نية صاحبها.

وجاء في صحيح البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي، ثم أرفعها لآكلها، فأخشى أن تكون صدقة فألقيها).

وحديث آخر في البخاري : (مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمرة في الطريق فقال: لولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها).