فراغك قبل شغلك


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعــد:

عنوان هذه المحاضرة: فراغك قبل شغلك .. وهو عنوان واضح لا يحتاج إلى بيان، وهذه المحاضرة انطلاقاً من قوله صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس) هذا الفراغ الذي تمر به -أيها الأخ الكريم- لعلك تستغل فيه ساعة في طاعة الله جل وعلا، وما تدري؟ لعله يقال لك بعد سماعك لهذا الحديث، أو حضورك لهذا المجلس: (قوموا مغفوراً لكم قد بدلت سيئاتكم حسنات).

يروى أن أبا جعفر محمد بن جرير الطبري قال لتلاميذه: هل تنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم سيكون ورقة؟ -لأنهم يعلمون حماسه في العلم- قال: سيكون نحواً من ثلاثين ألف ورقة. فقالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه. سيذهب العمر ونموت وما انتهينا من هذا الدرس، فاختصره في ثلاثة آلاف ورقة، ثم بعد أن انتهى قال لهم: أتنشطون في كتابة التاريخ من عصر آدم إلى يومنا هذا؟ قالوا: في كم؟ قال: في ثلاثين ألف ورقة قالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه فاختصره في نحو من ثلاثة آلاف ورقة، ثم قال: إنا لله ماتت الهمم! يكتبون التفسير في ثلاثة آلاف ورقة وكذلك تاريخ العالم! ومع هذا يقول: إنا لله ماتت الهمم! كيف لو عاش أبو جعفر في هذا الزمن ماذا سيقول؟ يحضر الدرس الأول مائة، ثم الدرس الثاني تسعون، ثم ثمانون، ولا يزالون يتناقصون حتى لا يبقى إلا عشرة طلاب بين شيخهم، ويقولون: هلا عجلت في هذا الدرس؟ وهلا انتهيت منه؟

يقول الله جل وعلا: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً [المؤمنون:115] أحسب أن الله خلقنا عبثاً؟! لأجل أن نبدأ اليوم في عمل، ثم نمسي آخر النهار أو منتصف النهار ثم ننام، ثم نستيقظ لنشرب الشاي والقهوة إلى غروب الشمس، ثم لما تغرب الشمس الصفق بالأسواق، ثم نرجع بعد العشاء لنلهو مع الأهل والأولاد، ثم ننام على تلفاز، ثم نستيقظ على عمل! أتظن أن الله خلقنا لهذا؟! تعالى الله عما يظن كثير من الناس، أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً [المؤمنون:115] بل إنما خلقنا لغاية أعظم وأكبر من هذا، ولو أنه خلقنا من أجل أن نأكل ونشرب ونلهو ونلعب وننكح ونلد فقط، لخلقنا جنساً من الحيوانات، فهي تأكل وتشرب، وتبني البيوت وتؤسسها، وتنكح وتنجب، وتعيش كما يعيش أكثر البشر، إن هذا عبث يتنزه الله عنه .. أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ [المؤمنون:115-116].

أخي العزيز: إن الوقت هو الحياة، فحياتك وقتك، وكلما مر عليك يوم ذهب جزء من حياتك.

الوقت أنفس ما عنيت بحفظه      وأراه أسهل ما عليك يضيع

قال بعضهم في تعريف العمر: يا ابن آدم! إنما أنت أيام، إذا ذهب يوم ذهب بعضك.

وكل يوم يمر يأخذ بعضي       يورث القلب حسرة ثم يمضي

وقال عليه الصلاة والسلام: (اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وفراغك قبل شغلك) أخي العزيز: أنت اليوم تشعر بفراغ، وعندك بعض الفراغ، وسوف يأتي عليك يوم: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:37] سوف يأتي يوم لك فيه شأن وشغل يغنيك عن الآخرين.

قيل لـسفيان: إنما أنت أيام معدودة، فإذا ذهب يومك ذهب بعضك، ويوشك إذا ذهب البعض أن يذهب الكل، وأنت تعلم فاعمل لهذا اليوم.

هذا أبو الوفاء بن عقيل؛ عالم من علماء الحنابلة، يقول: والله لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري! ولو عاش بيننا ماذا سيقول؟ المسألة ليست مسألة ساعة ولا ساعتين، بل عشرات الساعات تضيع بين الفينة والأخرى، وبين مجلس وآخر، وبين حادثة عن فلان وحادثة عن علان، وأحاديث في الدنيا.

ماذا سيقول ابن عقيل لو عاش بيننا؟ وهو الذي يقول: والله لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري. وقد ألف كتاباً اسمه الفنون ، وهو يقع في ثمانمائة مجلد، لو وضعتها في بيتك لامتلأت مكتبتك، وابن القيم ألف كتاباً سماه زاد المعاد ، هذا الكتاب الآن عمدة لكثير من الناس في السيرة والتاريخ والفقه يرجع إليه كثير من أهل العلم وطلبة العلم، سماه زاد المعاد وهو مكون من خمس مجلدات، يزيد أو ينقص بحسب الطبعات، لقد ألفه وهو في السفر على الراحلة!! هؤلاء كان لهم هم، وعندهم هدف من حياتهم، يعيشون لغاية، أما أكثر الناس في هذا الزمن، تسأله: لم تعيش؟ فيقول لك: لا أدري

يا أخي! لماذا أنت حي؟ لماذا تأكل وتشرب وتبقي على صحتك وجسمك؟ يقول: لا أدري، أعيش من أجل أن أعيش، وآكل وأشرب من أجل أن أعيش.

جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت

ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت

وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت

كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري!

ولماذا لست أدري؟ لست أدري!

ما يدري لماذا يعيش؟ وأين المصير؟ ولمَ خلقه الله جل وعلا؟ شيخ الإسلام ابن تيمية ، الذي ما ولدت النساء مثله، هذا الرجل ألف كتاباً بطلب من قضاة واسط ، سماه العقيدة الواسطية ، وهو الآن عمدة لطلبة العلم في العقيدة، ويدرس في الدورات العلمية ولطلبة الجامعات الإٍسلامية، ولا يتخرجون إلا بعد أن يتموا هذا الكتاب، ويختبرون فيه، أتعرف كم جلس يؤلف هذا الكتاب؟ لقد ألفه في جلسة بين صلاة العصر والمغرب! أرأيت إلى بركة الوقت عندهم وحرصهم على العلم؟! أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون:115-116]. شيخ الإسلام ابن تيمية كان طالباً صغيراً، وسمع به العلماء فجاءه عالم إلى دمشق ، يسأل عن هذا الطفل الصغير النابغة الذي تميز في صغره، فقال لأهل بلده: أين هذا الشباب الذي يسمى أحمد؟ قالوا: تقصد ابن تيمية قال: نعم. قالوا: ماذا تريد منه؟ قال: سمعت أن له شأناً في العلم، فأريد أن أختبره -شيخ يريد أن يختبر هذا الصبي- فقال له البائع الذي سئل: اجلس وسوف يمر إلى الكتاب من هذا الطريق.

وبعد قليل مر صبي صغير بيده لوح يحمله، فقال البائع للشيخ: هذا صاحبك، هذا الذي تبحث عنه. فناداه الشيخ فلما جاءه قال له: أنت أحمد بن تيمية؟ قال: نعم. قال أعطني لوحك، فأخذ الشيخ اللوح، فكتب فيه بضعة عشر حديثاً، ثم قال: اقرأ. فقرأ بأحسن ما يكون، ثم قال: هات اللوح، فأخذ اللوح ومسحها وقال: أعد ما قرأته، فقرأها شيخ الإسلام مرتبة كما قرأها من قبل، لم ينقص حرفاً واحداً، فعجب الشيخ منه، وعلم أن له شأناً ليس كالصبيان، وعقلاً ليس كالعقول، وكأن الله عز وجل أراد أن يجدد للأمة دينها بهذا الصبي .. ثم أخذ اللوح مرة أخرى وكتب أسانيد: حدثنا فلان، قال: حدثنا فلان، عن فلان، إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بضعة عشر سنداً، وقال: اقرأ، فقرأه كأحسن ما يكون، ثم مسحها وقال: أعدها عليّ. فأعادها ولم ينقص منها حرفاً .. أعرفت كيف كانوا يحفظون أوقاتهم؟!

أخي العزيز!

إذا كنت أعلم علماً يقيناً     بأن جميع حياتي كساعة

فلم لا أكون ضنينا بها     وأجعلها في صلاح وطاعة

بعد هذا كله لك أن تسأل وتقول: يا شيخ! عرفنا أهمية الوقت، وانتبهنا لعظم هذه الحياة، وأن كل دقيقة وكل لحظة، وكل ساعة سوف يسألنا الله عنها حين نقف بين يديه (لن تزولا قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع ... منها: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه) بعد هذا سوف تسألني وتقول: كيف أستغل وقتي؟ وبماذا أحفظ وقتي؟

اسمع إلى هذا الحديث، فربما تسمع نصيحة، وتكتشف أنك تستطيع أن تمضي بها وقتك، وربما تتحمس بعد هذا الدرس وتنظم وقتك وتستغله في طاعة الله جل وعلا.

إن الطلاب في هذه الأيام في اختبارات ولا يضيعون ساعة بل لا يضيعون دقيقة واحدة، وأعرف أن بعض الطلاب لا ينام إلا أربع ساعات فقط، وبعضهم حتى على وجبة الطعام وهو واضع الكتاب عنده؛ لأنه يعرف قيمة الوقت الآن، لماذا؟ لأن عنده هدفأً، وهدفه أن ينجح ويتفوق ويحصل على أعلى الدرجات، ويتخرج من الدراسة. والبعض إذا كان عنده هدف، مثل أن يشتري بيتاً أو يؤثثه، يعمل الليل والنهار حتى يجمع الريال بعد الريال والدرهم والدينار، من أجل أن يبني هذا البيت؛ لأن عنده هدفاً .. إذاً: اجعل لك هدفاً يا عبد الله! فسوف تستطيع بعدها أن تستغل وقتك.

دقات قلب المرء قائلة له      إن الحياة دقائق وثوان

كلما دق قلبك علمت أن كل دقة تقربك إلى القبر، وكل دقة تنقص من عمرك، حتى هذه اللحظات سوف يسألك الله عز وجل عنها.

العبادات

من الأمور التي تستغل بها وقتك: العبادات.

أن تعبد الله جل وعلا: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ [الشرح:7-8]. السلف كان الواحد منهم يقضي الليل في القيام والنهار في الصيام، فهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه الخليفة الراشد، الذي اشترى الجنة ثلاث مرات .. يروى أنه كان يختم القرآن كل ليلة قد تقول لي: خالف السنة. أقول لك: أين نحن من السنة؟ تسأل بعضهم: من رمضان إلى اليوم كم مرة ختمت القرآن؟ يقول: ولا مرة، إنا لله وإنا إليه راجعون! متى قمت الليل؟ يقول: من الشهر الماضي أو من الشهر الذي قبله، قمت الليل مرة، وقبل النوم .. أما الأولون: كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ [الذاريات:17] كان نومهم قليلاً، أتعرف ماذا يفعلون في الليل؟ كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17-18] عبادة وصلاة، كان ابن عمر يصلي في الليل وعنده نافع مولاه، فإذا سلم من صلاته يسأل مولاه: أسحرنا؟ أي: أجاء السحر؟ فيقول: لا. فيكبر ويصلي، ثم يسأله، فإذا قال له نعم. جلس يستغفر الله حتى طلوع الفجر.

وكان بعضهم إذا صلى العشاء وضع له حصير في المسجد ينام عليه بعد صلاة العشاء، ثم يقوم يتوضأ ويصلي، فإذا صلى وغلبته عيناه أخذ غفوة مرة أخرى -ينام كنومة الطير- ثم يقوم ويتوضأ ويصلي، فإذا نعس نام مرة ثالثة، وهكذا يقوم وينام، ويقوم وينام حتى طلوع الفجر .. تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [لسجدة:16]. وكان عمر بن عبد العزيز كل ليلة يجتمع حوله أهل العلم .. أمير المؤمنين! يحكم الدنيا بأجمعها، دولة الإسلام تحكم المشرق والمغرب، تحته الجيوش ويملك الأموال، وكل ليلة يجتمع عنده العلماء والفقهاء والوعاظ والزهاد، فيذكرونه بالآخرة، فيبكي ويبكون معه كأن جنازة بين أيديهم.

عباد ليل إذا جن الظلام بهم      كم عابد دمعه بالخد أجراه

وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم      هبوا إلى الموت يستجدون رؤياه

يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً     يشيدون لنا مجداً أضعناه

أين أنت من العبادات؟ كم ضيعنا من ليالي؟

إن بعض الناس يقول: يا شيخ! أحس بوحشة، أحس بضيق، أحس بظلام في قلبي، أقول له: هل تصلي في الليل؟ هل تقوم ركعات ينور الله لك قلبك، ويشفي لك صدرك؟ قم الليل يا أخي العزيز! يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً [المزمل:1-5]. يدخل بلال على النبي صلى الله عليه وسلم فيرى اجتهاده في قيام الليل وتفطر قدميه، فيقول: (يا رسول الله! تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر! فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً؟ قد أنزلت عليّ الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران:190-191]) إن كان قائماً فهو يذكر الله، وإن كان قاعداً فهو يذكر الله، وإن كان على جنبه فهو يذكر الله، لسانه رطب من ذكر الله، ويتفكرون في خلق السموات والأرض، فاللسان منشغل بالذكر، والقلب والعقل منشغلان بالفكر، يتفكران في خلق السموات والأرض: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:191].

بكى من أجلها صلى الله عليه وسلم، وكان عنده عائشة سيدة النساء رضي الله عنها، فقالت: (تفعل هذا وقد غفر الله ذنبك؟ فيقول: يا عائشة! دعيني أتعبد لربي، يا عائشة! أفلا أكون عبداً شكوراً) يربيها عليه الصلاة والسلام، حتى كانت يوماً من الأيام تردد آية من الصباح إلى منتصف النهار، آية واحدة ترددها عائشة وتبكي وتصلي: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:27]. هل فكرت أن تشغل وقتك بطاعة الله؟ بالعبادة وفي الذكر وقراءة القرآن؟

إن العبادة أوسع من هذا، فهل فكرت في عيادة المرضى؟ هل فكرت في اتباع الجنائز؟ هل فكرت في زيارة المقابر؟ هل فكرت في صلة الأرحام؟ هل فكرت في بر الوالدين.

كان النبي عليه الصلاة والسلام ذات يوم بين أصحابه، وفيهم رجل كبير قد جاوز الستين من العمر، وقد اشتغل رأسه شيباً، إنه الصديق، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (من أصبح منكم اليوم صائماً؟ -وأنا أسأل هذا السؤال وأجبني بنفسك: من أصبح اليوم منكم صائماً؟- قال أبو بكر: أنا يا رسول الله! -ليس مجال إخلاص ورياء، الآن لا بد أن يجيب، متى صمت لله تطوعاً؟ متى يا أخي الكريم؟- من أطعم اليوم منكم مسكيناً؟ فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله! فقال: من عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا يا رسول الله! ثم قال: من اتبع اليوم منكم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده ما اجتمعن في مؤمن إلا وجبت له الجنة) ولو زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم لزاد أبو بكر .

إنه أبو بكر الذي عندما سمع أن للجنة ثمانية أبواب، ما رضي أن يدعى من باب أو بابين، ما رضي إلا أن يدعى من ثمانية أبواب، فقال: (يا رسول الله! ما على من يدعى من تلك الأبواب من ضرورة؟ قال: نعم يا أبا بكر! وإني لأرجو الله أن تكون منهم) هل فكرت أن تكون مثل أبي بكر؟ متى عدت المرضى؟ ليسوا بأقرباء لك ولا أرحاماً، مسلمون لا تعرفهم ولا يعرفونك، تأتي وتزورهم في أول اليوم أو في آخره، هل فكرت في هذا؟ فإنه يستغفر لك سبعون ألف ملك حتى تمسي، وإذا زرت مريضاً في المساء يستغفر لك سبعون ألف ملك حتى تصبح.

أخي العزيز: هل فكرت أن تزور المقابر؟ هل فكرت أن تتبع الجنائز؟ وأن تصل الأرحام؟ يقول عمر: صليت الفجر فإذا بـأبي بكر يخرج من المسجد، وكل يوم أصلي وإذا به يخرج من المسجد، ولا أدري إلى أين يذهب هذا الرجل -وكانا يتنافسان، وهذا في خلافة أبي بكر - يقول: فتبعته يوماً -انظر إلى الذين يعرفون كيف يحفظون أعمارهم- قال: تبعته فرأيته يدخل كوخاً في ناحية المدينة، -بيت قديم- فلما خرج، جئت إلى هذا البيت وطرقت الباب، واستأذنت ودخلت، فإذا في البيت امرأة عجوز كبيرة حسيرة كسيرة، لا تستطيع المشي، فسلمت عليها، وقلت لها: يرحمك الله! من هذا الرجل الذي يدخل عليك كل يوم؟ -خليفة رسول الله، أمير المؤمنين- قالت المرأة العجوز: والله لا أعرفه. قال عمر: ما يصنع عندك كل يوم؟ قالت: يأتيني كل يوم يصنع طعامنا، ويكنس بيتنا، ويغسل ثيابنا، ويحلب شياهنا، ثم يتركنا. فلما سمع عمر هذه الكلمات، بكى وخر على ركبتيه وهو يبكي ويقول: لقد أتعبت الخلفاء من بعدك يا أبا بكر، لقد أتعبت الخلفاء من بعدك يا أبا بكر.

وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الواقعة:10-11]. هل سمعنا أن أبا بكر أسس قصراً؟ أو أثث أثاثاً فخماً وثرياً؟ أو جمع ثروة؟ لا والله.

إن أبا بكر أول هذه الأمة دخولاً الجنة، وينادى من ثمانية أبواب، أتعرف لماذا؟ لأن أبا بكر عرف كيف يحفظ وقته من الصباح إلى المساء، لا ينسى امرأة عجوزاً ولا طفلاً صغيراً ولا يتيماً ولا مسكيناً، لقد عرف كيف يعود المرضى، وكيف يصوم لله تطوعاً، وكيف يتصدق من ماله، وكيف يقوم الليل، حتى قالت عائشة لما أمرها النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس. قالت: إن أبا بكر رجل أسيف) أي: إذا كبر واستفتح الفاتحة بكى، نعم. إنه رجل في الليل قوَّام، وفي النهار صوَّام، وفي الجهاد قاتل المرتدين لوحده، وهو يقول للصحابة: [والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه] ولعله جاوز الستين من العمر، وما بقي من حياته إلا سنة أو سنتين.

هكذا عرفوا كيف يحفظون أوقاتهم.

تقول لي بعد هذا: يا شيخ! عندي أوقات كثيرة فارغة لا أعرف ماذا أعمل فيها!! أقول لك: يا أخي العزيز! لم تعرف حقيقة العبادة، فليست العبادة صلوات فقط، وليست قيام ليل فقط، العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، ولو كانت زيارة مقابر، أو عيادة مرضى، أو إطعام مسكين، أو كفالة يتيم، أو دعوة إلى الله جل وعلا، فكل شيء يحبه الله جل وعلا فهو عبادة، فحاول أن تكتشف أين الخلل في حياتك فتسده في طاعة الله.

طلب العلم وفضله

ثانياً: استغل وقتك وعمرك في طلب العلم.

يروى عن أحد السلف: أنه ذكر الله وهو ابن ثلاث سنين، وأنا لم أستغرب هذا؛ لأنني أعلم أنه في هذا العصر صغار سن، عمرهم سنتان، يحفظون بعض قصار السور، وسمعنا في هذا العصر من ختم القرآن وعمره سبع سنين، أرأيت كيف حفظوا أعمارهم في طلب العلم؟ تقول لي: لماذا يحفظ القرآن هذا؟ هذا يحفظ القرآن حتى ينادى بين الملأ يوم القيامة فيقال له: يا فلان، أتحفظ شيئاً من القرآن؟ فيقول: نعم يا رب! فيقال له يوم القيامة: (اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها) يقرأ القرآن بين الملأ، ويرتل بين الناس، ويرفعه الله درجات في الجنة.

أخي العزيز: هنالك يندم النادمون المفرطون: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر:56] يا حسرتى على ما ضيعت من عمري .. في الأسبوع الماضي جلست مع شباب صغار في السن، أحثهم على حفظ القرآن الكريم، وأخبرتهم بفضل الاجتهاد في حفظ القرآن الكريم وفضله، فما مرت خمسة أيام إلا وأحدهم حفظ جزءاً كاملاً من القرآن، الجزء الأول من سورة البقرة ختمه حفظاً مجوداً في خمسة أيام! بل أعرف رجلاً عنده أولاد، وعنده أعمال، ومتزوج في نصف عمره، حفظ خمسة أجزاء في شهر واحد! قد تقول لي: ذاكرتي ضعيفة، لا يا أخي العزيز! ليست القضية قضية الذاكرة، القضية ضياع للأوقات، وضياع للأعمار .. صغار في السن حفظوا القرآن كاملاً! وأعرف أحدهم لم يدخل الثانوية إلا بعد أن ختم القرآن حفظاً، وكلما آتيه وأقول له: ماذا حفظت بعد القرآن؟ يقول: مائة من الأحاديث النبوية وهكذا ... هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9].

أتظن أن صاحب العلم والجاهل يوم القيامة سواء؟ كلا وربي! لا يستوي هذا مع هذا، يقول عليه الصلاة والسلام: (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم) كفضل الرسول عليه الصلاة والسلام على أدنى الصحابة، فكيف لو جمع بين الأمرين العلم والعبادة؟ فإن العلم يراد به العبادة، وقد قيل للإمام أحمد: إن فلاناً علمه قليل، جُل وقته قيام ليل وقراءة قرآن وذكر. فقال: وهل يراد العلم إلا من أجل هذا، نحن لماذا نتعلم؟ حتى نخاف من الله، فإن العلم الخشية: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] وكلما ارتقيت في العلم كلما خشيت الله جل وعلا.

أعرف شاباً -ولعلك لا تصدق هذه الأخبار- حفظ جزءاً كاملاً في يوم واحد قد تقول: ليست هذه ذاكرة بشر؟ أقول لك: هذه ذاكرة بشر، ولكن القلب مفرغ من الدنيا، والوقت مفرغ لله جل وعلا .. كان في الحرم عند الكعبة، فجلس من الفجر إلى الليل حتى حفظ جزءاً كاملاً من القرآن الكريم بإتقان.

أخي العزيز: هلا عاهدت ربك في هذه العطلة، وفي هذه الشهور والأيام أن تحفظ نصف القرآن، قد تقول: حفظ عشرة أجزاء صعب ومستحيل أقول لك: اقسمها على هذه العطلة، فاحفظ خمسة أجزاء في سنة كاملة، فستختم القرآن خلال ست سنوات، هل فكرت في هذا؟ هل عاهدت ربك؟ يقال: أن امرأة جاوزت الستين من عمرها -وكلما كبر عمر الإنسان قل حفظه- أُخبرت عن فضل حفظ القرآن فحفظته عن ظهر قلب!! ويقول عليه الصلاة والسلام: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضىً بما يصنع).

قال الله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19] أول الدين العلم، قال البخاري: باب: العلم قبل القول والعمل.

والنصارى لم يضلوا إلا لجهلهم، فقد عبدوا الله على جهل وبدع وضلال، قال الله تعالى: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ [الحديد:27].

يا أخي العزيز! هل فكرت في هذه العطلة الصيفية أن تقرأ رياض الصالحين وتحفظ أحاديثه وتقرأ معناه وشرحه؟ هل فكرت أن تقرأ تفسيراً واحداً لكتاب الله جل وعلا؟ هل فكرت في العطلة الصيفية أن تقرأ كتاباً ولو كان مختصراً؟ هل تصدقون أن بعض المسلمين لو سألته: ما أقصر سورة في القرآن؟ لقال: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1] تقول له: أحسنت، فما تفسيرها؟ لقال: الله أعلم. ما سبب نزولها؟ لا أدري، لا أدري، لكنك لو سألته عن بعض أنواع السيارات، وعن موديلاتها، وعن أحجامها، لجاءك بتقرير كامل، ولملأ عليك المجلس، ولو سألته عن بعض علوم الدنيا التي لا تنفع لجاءك بالتقارير والأخبار، والله المستعان!

وبعض المسلمين لو أخطأ في الصلاة لما عرف كيف يتم صلاته، يأتيني بعض الناس ويقول: فعلت كذا وكذا في الصلاة، ثم سجدت للسهو. فأقول: إنا الله وإنا إليه راجعون، يا فلان أعد صلاتك فالصلاة باطلة، وليس كل خطأ ينفع فيه سجود السهو، وليس كل خطأ يحتاج معه إلى سجود السهو. وبعض الناس يقول: أخطأت في الصلاة، فقطعتها وأعدتها مرة ثانية. لم يا أخي؟ لمَ تبطل عملك؟ كان يكفيك لو سجدت سجدتين قبل السلام أو بعدها، لكنه لا يدري ماذا يفعل.

كثير من المسلمين حتى الطهارة يسأل عنها، يأتيني سؤال من رجل من المسلمين متزوج وله أولاد، يقول: يا شيخ، هل صحيح أن الرجل إذا جامع زوجته ولم ينزل الماء عليه غسل؟ أقول له: نعم. يقول: والله يا شيخ أنا منذ عشرين سنة أجامع الزوجة وإذا ما أنزلت لا أغتسل. إنا لله وإنا إليه راجعون! أنت على جنابة إلى اليوم، ما تعرف الغسل! ما تعرف أحكام الطهارة! ما سبب هذا الجهل؟ إنه ضياع الأوقات، فقد ضاعت في القيل والقال، وضاعت في الدينار والدرهم، وفي أسعار العملات، وفي أخبار فلان وأخبار علان، وضاعت في نوم زائد عن الحاجة، وفي التجول في الأسواق، وفي أخبار الدنيا.

اسمع -يا أخي العزيز- إلى العلم كيف يرفع أهله، وجاهد نفسك لا تقل: كبرت في السن، بعض العلماء بدأ في طلب العلم بعد أربعين سنة، وصار عالماً من العلماء، فلا تقل: فاتني القطار، ولا تقل: ليس عندي وقت، ولا تقل: لا أصلح للعلم، إياك وشبهات الشيطان وحبائله!

يقول الأعمش -وهو أحد العلماء- لولا العلم والقرآن وتفسيره، لكنت بقالاً يقذرني الناس أن يشتروا مني. لكن ماذا صار؟ صار الناس يجلسون عند رجليه، ويطلبون كلمة تخرج من لسانه لكي يكتبوها عنه.

وهذا عطاء بن أبي رباح، كان عبداً لامرأة من أهل مكة، يباع ويشترى، وكان قبيح الوجه كأن أنفه باقلاً، وهو فقير مملوك، لكنه لما طلب العلم صار المرجع الأول في مكة للفتوى، حتى الملوك والأمراء إذا جاءوا إلى مكة في الحج يستفتونه، وكان بعض الأمراء يجلس عنده، وما يتجرأ أن يسأله سؤالاً حتى يأذن له، فإذا تنحنح علموا أنه الآن يسمح بالسؤال، فيسأله الأمير ويقول: فعلت كذا وكذا ما حكم حجي؟ أو ماذا أصنع؟ فيجيبه ذلك الرجل الذي كان مملوكاً، فصار يرجع إليه في الفتوى في مكة كلها .. إنه العلم!

وهذا أبو معاوية الضرير، أحد العلماء الذين ذهبت أبصارهم، ولم تذهب بصيرتهم، في يوم من الأيام دعاه هارون الرشيد للغداء وبعد أن دعاه للغداء -ومن المعلوم أن الأعمى بعد أن يأكل يصب على يديه الماء، لأنه لا يستطيع أن يغسل يديه، فصب على يديه الماء في مجلس الخليفة هارون الرشيد - فقال له هارون: يا أبا معاوية أتعرف من الذي يصب عليك الماء؟ قال: لا يا أمير المؤمنين! قال الخليفة: أنا الذي أصب على يديك الماء، قال: لِمَ؟ قال: إجلالاً للعلم الذي في صدرك. كيف رفعه الله جل وعلا إلى هذه المكانة؟ إنه بالعلم قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9].

يقول عليه الصلاة والسلام: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً -خرج من بيته إلى هذا المسجد من أجل أن يستمع علماً أو يستفيد حديثاً أو حدثين- سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) يا إخواننا ماذا تريدون بعد الجنة؟ أتريدون شيئاً بعد الجنة؟ والله ما نريد شيئاً غيرها، قال صلى الله عليه وسلم للأعرابي: (ماذا تسأل في صلاتك؟ قال: أسأل الله الجنة وأستعيذ به من النار، قال عليه الصلاة والسلام: حولها ندندن) هذا هو ما يطلبه، ولا نريد شيئاً غير الجنة.

إن من أسهل الطرق إلى الجنة طلب العلم، فاطلب العلم، ابدأ بقراءة الكتب، اقرأ القرآن واحفظ بعض الآيات مع تفسيرها، واقرأ الأحاديث مع شرحها، واقرأ بعض الكتب في الفقه، وبعض الكتيبات الصغيرة، واحضر بعض المجالس، وهناك بعض الدورات الشرعية التي تقام فبادر، ولا تقل: أنا كبير في السن، أنا عندي أعمال وأشغال، لا يا أخي.. وبعض الناس لو طلب منه أن يذهب إلى الخارج للدعوة إلى الله، لقال: عندي الأولاد وعندي الزوجة، لكن لو يدعى إلى دورة لأجل معاشه لذهب ولو لمدة شهرين أو ثلاثة.

يا أخي العزيز! هذا ليس فيه زيادة معاش، هذا فيه زيادة إيمان وتقوى وعلم وبصيرة في الدين، وطاعة لله جل وعلا، وقربى إليه تبارك وتعالى، جند نفسك لمدة شهر أو شهرين في دورة علمية ينفعك الله بها.

خرج هارون الرشيد في يوم من الأيام فتجمع الشرط والأعوان والخدم والحشم والناس حوله، وكان عنده في حائط أو غرفة أو هودج زوجته، وبعد قليل تفرق الناس عنه، تقطعت النعال، وثارت الغبرة، إلى أين؟ إلى رجل آخر، فسألت الزوجة من هذا الذي ذهب الناس وراءه؟ قالوا: هذا عالم خراسان المجاهد عبد الله بن المبارك، المجاهد قدم الرقة . فقالت زوجة هارون هذا والله هو الملك، لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بالشرط والأعوان .. هذا هو الملك الحقيقي، والشرف الحقيقي وهذه هي الرفعة الحقيقية يا أخي الكريم.

فأنت إنما تقاس بعلمك، وإذا قيل: فلان جاهل ما عنده علم، فهذه مسبة وشتيمة، ويرتفع الإنسان بالعلم الذي شرفه الله عز وجل به.

إن العلم لا يريد راحة ونوم وأكل وشرب، العلم يريد جهاداً، وصراعاً، العلم يريد منك أن تسهر في الليل، فهذا الإمام البخاري عليه رحمة الله أمير المؤمنين في الحديث -مَن مِن المسلمين ما سمع بـالبخاري؟ إذا ذكر قلنا: رحمه الله، وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين كل خير- كان ينام في الليل، ثم يستيقظ عشرين مرة، ينام ويستيقظ عشرين مرة، أتعرف لماذا؟ كل مرة يستيقظ ليكتب خاطرة خطرت على باله، فائدة علمية وكان عندما يقوم يبدأ فيشعل السراج، والسراج يحتاج إلى زمن حتى يشعله، ثم يضع القلم في المحبرة، ثم يكتب الجملة والجملتين والثلاث، ثم يغلقها ويطفئ السراج، ثم يرجع وينام، وبعد قليل تأتيه خاطرة فيقوم، وربما قام في الليلة الواحدة عشرين مرة .. إذاً: العلم يحتاج إلى جهاد، ويحتاج إلى أن تضيق على نفسك في النوم..

أأبيت سهران الدجى وتبيته      نوماً وتبغي بعد ذاك لحاقي

كان هناك سبعة من طلاب العلم في مصر! وكانوا يطلبون العلم من شيخ إلى آخر، ومن عالم إلى آخر، ومن درس إلى آخر، وفي يوم من الأيام اشتهوا سمكة -أرادوا أن يأكلوا السمك، طبيعة الناس يشتهون هذا الطعام- لكن ليس عندهم وقت، وفي يوم من الأيام غاب أحد الشيوخ عن الدرس، لأنه كان مريضاً، فقالوا: هذه فرصتنا نشتري سمكاً فنأكله، فذهبوا واشتروا سمكة نيئة، ثم رجعوا إلى البيت، وقد حضر الدرس الثاني فتركوا السمكة وذهبوا إلى الدرس، وجاء الليل فقاموا ينسخون، كل واحد يطابق نسخته مع أخيه ويقرءون النسخ كلها فيكتبون ما فاتهم، وفي اليوم الثاني خافوا على السمكة أن تنتن وتفسد عليهم، فماذا فعلوا؟ هل فرطوا في درس، أو في مجلس ذكر؟ هل قالوا: نجعل لأنفسنا راحة وإجازة؟ لا. بل أكلوا السمكة نيئة، نعم. لأنه ليس عندهم وقت ليشوونها، ونحن لقد ضيعنا الأوقات وضعينا الأعمار ولا حول ولا قوة إلا بالله!

قيل للشعبي: من أين لك كل هذا العلم؟ من أين أتيت بهذا العلم كله؟ فقال: بصدق الاعتماد .. ما اعتمدت على غيري، والسير في البلاد، أي: سافرت لطلب العلم، ونحن لا نقول لك: سافر، إنما حرك سيارتك لتذهب إلى المنطقة الفلانية، فيها درس من الدروس، احضره في الأسبوع مرة واحدة، أما هذا فإنه كان يسافر على الناقة والدابة، وعلى الأقدام .. قال: وصبر كصبر الجماد. هل يشتكي الجماد؟ يقف آلاف السنين ولا يتكلم .. قال: وبكور كبكور الغراب، يقوم من قبل الفجر يطلب العلم .. وهكذا كانوا يطلبون العلم.

وهذا ابن الجوزي، كان كل يوم يخرج في الصباح، ويأخذ كسرة خبز يابسة، وبيده الكتب والكراريس، ويذهب عند النهر، يحفظ العلم، ويحفظ الأحاديث، فإذا جاع وضع كسرة الخبز اليابسة في النهر تلين قليلاً فيأكلها ويشرب معها شربة ماء، ويكمل طلبه للعلم .. يفعل هذا كل يوم، وألف كتباً فيها طب للقلوب، وعلاج لأمراض النفوس.

كيف وصلوا إلى هذا المرتبة من العلم؟ وصلوا بجهاد النفس، مع البذل والاجتهاد.

وعندي خطة لثلاثة أشهر: احفظ خمسة أجزاء من القرآن، واقرأ تفسيراً كاملاً لكتاب الله، واقرأ بعض الأحاديث، واحفظ الأربعين النووية، واقرأ شيئاً في النحو وفي المصطلح والأصول .. اجعل لك جدولاً, وابدأ بعزيمة واجتهاد أن تختم هذه العلوم وتدرسها إن شاء الله جل وعلا.

أيها الإخوة الكرام: لعلي أطلت في هذا الجانب، جانب طلب العلم والاجتهاد فيه، ولو أكثرت لطال الوقت بنا، ولم نكمل هذا الباب، ولكن حسبك ما سمعت.

الدعوة إلى الله تعالى

ثالثاً: الدعوة إلى الله:-

أرعني سمعك، وأعد اجتهادك مرة أخرى .. لقد قمتَ الليل، وعدتَ مريضاً، وتبعتَ جنازة، وحضرت درساً أو درسين، ولكن لا زال في الوقت متسع؛ فإن الأوقات كثيرة، ومن أعظم ما تشغل به وقتك: الدعوة إلى الله جل وعلا .. أن تبلغ هذا العلم الذي حصلت عليه، وأن يكون منهج حياتك: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108]. قد تقول: يا شيخ ليس عندي علم كثير؟ أقول لك: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية) تحفظ آية: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43] إذاً: بلغها للناس، فكم من الناس من لا يصلي .. تحفظ قول الله: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزاب:33] إذاً: بلغها، فإن كثيراً من النساء لا يتحجبن .. تحفظ قول الله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:278] بلغها للناس، فكم من الناس من يرابي ويتعاطى بالربا!

أخي العزيز: اسمع إلى هذا الرجل: لما سمع أن في أقصى مدينته -في ناحية المدينة- رسل جاءوا يدعون إلى دين الله جل وعلا ويدعون الناس إلى الحق، وكذبهم قومهم، فهل جلس في بيته؟ هل قال: أنا ما عليّ من الناس؟ هل قال: عليكم أنفسكم؟ هل قال: أهم شيء أحفظ ديني وما عليّ من الناس؟ لا. بل ركض مسرعاً من بيته إلى مكان الكفر بالأنبياء والضلال والإلحاد والجحود، ركض سعياً على قدمه، من أقصى المدينة إلى أقصاها، قال الله تعالى: وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ [يس:20-21] جاء يقول: يا قوم! توبوا إلى الله جل وعلا، ارجعوا إليه، أنيبوا إليه، فماذا فعلوا به؟ لقد قتلوه بغير ذنب، لأنه دعاهم إلى الله جل وعلا، فلما بعثه الله جل وعلا وأدخله الجنة قال: قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ [يس:26] لا زال حريصاً على قومه، لا زال مشفقاً عليهم بعد أن قتلوه: قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [يس:26-27].

أيها الإخوة: نحن نحتاج إلى دعاة لا قضاة، نحتاج أناساً مشفقين على الناس، رحماء بهم، ينشرون دين الله جل وعلا كما كان ينشره عليه الصلاة والسلام الذي قال الله عنه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] فبلغ دين الله جل وعلا في الطائف، وسافر مشياً على الأقدام حتى أتى إليها، فقال له أحدهم: أما وجد الله غيرك ليبعثك؟! انظروا إلى السخرية، والاستهزاء والتكذيب! وقال الثاني: لو كنت صادقاً فلا أجرؤ على مخاطبتك، وإن كنت كاذباً فأنا أرفع من أن أتكلم وأجيبك. فخرج وهو يُتبع بالحجارة، وهو أفضل الخلق عليه الصلاة والسلام، ويضرب ويهان من العبيد والسفهاء والأطفال، فجاءه ملك الجبال وقال: (دعني أطبق عليهم الأخشبين؟ قال: لا. إني أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33].

إن الدعوة إلى الله لا تريد شيوخاً فقط أو علماء أو دكاترة، لكنها تحتاج إلى صادقين ناطقين، يخرج عشرة ريالات يشتري بها شريطين أو ثلاثة، ويأتي الشارع ويسلم على فلان، ويتعرف عليه، ويهدي إليه هدية لله جل وعلا، ويقول: يا فلان أرجو أن تستمع إلى هذا الشريط هذه الليلة، فربما فتح الله قلبه.

كان هناك بنت لاهية غافلة، ما من أغنية إلا وتستمع إليها، فرجعت إلى بيتها بعد يوم دراسي مسعد، تقول وهي تحدث عن نفسها: اقتربت من البيت، فوقعت قدمي على شريط لا أدري ما هو، فأخذته وكانت تقول في نفسها: ربما يكون الشريط لأحد المطربين الذين سمعتهم أو لم أسمع بهم، تقول: فجئت إلى البيت ووضعت الشريط في المسجل، فإذا رجل يتحدث عن الجنة والنار، والقبر والموت، والدار الآخرة، فسمعت حديثه حتى انتهى، وما انتهى الشريط إلا وفتح الله قلبي وصلح حالي، واهتديت إلى الله، وأنا اليوم أدعو إلى الله جل وعلا .. من رمى هذا الشريط؟ وهل كان يقصد أن يدعوا إلى الله به؟ أرأيت؟! وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17].

وكم من الناس هداهم الله بورقة، أو بشريط، أبو برسالة، أو بدمعة، فهذا شاب داعية إلى الله جل وعلا، شاب صغير هداه الله، ركب في سيارة أخيه الفاسق يوماً من الأيام، وأخوه لاهٍ غافل عن الدين والدار الآخرة، وفي الطريق وضع أخوه شريطاً للغناء، فقال الشاب الصغير: يا أخي أغلق الشريط، إذا لم ترد أن تسمع فاسمع لوحدك، أنا لا أريد أن أسمع. فقال بغلظة: إذا ما أردت أن تسمع أنزلك من السيارة الآن، فسكت الصبي، لقد أرغمه على سماع الأغاني، وبعد قليل نظر الأخ الكبير إلى أخيه الصغير فإذا هو يبكي، فقال: ما الذي يبكيك؟ قال: أرغمتني على معصية الله جل وعلا. فأوقف الأخ الكبير السيارة، وأخرج الشريط ورماه من النافذة، ثم أعلن توبته من تلك الدمعة، فرب دمعة تاب على يديها كثير من الناس.

أين الصادقون؟ وأين الناصحون؟ وأين الدعاة إلى الله جل وعلا؟!

والله تعالى يقول: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة:71] وحديثي للرجال والنساء .. فهل فكرنا أن ننشئ مجتمعات إسلامية، ومجالس إسلامية، وحلقات ذكر في بعض البيوت؟ هل فكرنا في شارعنا وفي حينا وفي حارتنا؟ هناك رجل لا يصلي، هل فكرنا أن نجعل له زيارة، ونطرق عليه الباب وندعوه إلى الله جل وعلا؟! هل فكرنا أن نأتي محلاً تباع فيه بعض المحرمات، نأتي إلى صاحبه بأسلوب حسن، وبأخلاق كريمة، ونعطيه هدية، وننصحه في الله جل وعلا؟ هل فكرنا في هذا؟

أحد الناس فكر أن يدعو إلى الله جل وعلا، لكن ليس عنده أموال ولا أسلوب، فقال لإخوانه: من منكم عنده مجلات إسلامية قديمة؟ هو لا يريد أن يقرأها، فجمع من فلان وفلان، حتى جمع كراتين من المجلات الإسلامية، فقالوا: يا فلان! ما تريد أن تفعل بها؟ أتعرف ماذا فعل؟ ذهب إلى محلات الحلاقة والمطاعم والصالونات وغيرها، التي فيها مجالس انتظار، وعلى الطاولة مجلات خليعة فاسقة فاجرة، فأخذ هذه المجلات الإسلامية ووزعها على تلك الطاولات ومحلات الانتظار، يقول: ربما يجلس بعض الناس فيتصفحون هذه المجلات، فرب نصيحة تفتح قلوبهم، تأمرهم بمعروف أو تنهاهم عن منكر.

وشاب آخر قال لإخوانه في الله: من منكم عنده أشرطة يتبرع بها لا يريد أن يستمع إليها الآن؟ فأعطاه بعضهم ثلاثة وبعضهم أربعة حتى جمع مجموعة من الأشرطة، ثم جاء إلى بعض الباصات وبعض سيارات النقل والأجرة، فقال: هذه بعض الأشرطة الإسلامية، في حلة طيبة هدية لله جل وعلا، وقال: ربما يركب معكم رجال أو أناس أو بعض من تريدون أن توصلوهم، فربما يفتح الله عز وجل قلوبهم. أرأيت إلى الإخلاص ماذا يفعل؟! وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ [فصلت:33].

هم في القلب يؤثر على الجوارح فيجعلك تطرق الأبواب، وتتصل، وترسل رسائل، وت