مميزات الدعوة المكية


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

أما بعد:

لعل هذا الموضوع واضح من عنوانه أن أغلبه سيرة؛ ولكن سيرة بشكل آخر، كيف نستفيد من هذه السيرة؟ ولعل الفاهم والفقيه في هذا الدرس من يعرف كيف يربط تلك السيرة بهذا الواقع المعاصر، وبالدعوة في هذه الأيام، لأن الوقت لن يسع، بل لن يسمح علم المتكلم أن يربط هذه السيرة بهذا الواقع، ولكن يكفينا إن شاء الله إشارات.

قبل البداية: هناك فرق بين العصر أو العهد المكي وهذا الوقت، ولا بد أن نعرف أمراً، وهو أنه ليس كل ما يقال في العهد المكي يطبق الآن، بل الأمر يختلف، ففي العهد المكي أولاً الإسلام لم يكتمل، فلربما يأتينا آتٍ فيقول: نفعل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم: لا نحرم الخمر على الناس.. نتدرج فيه.. نقول للناس: الخمر مباح، لكنه فيه إثم عظيم وفيه كذا، ثم بعد أيام نقول: اتركوا الخمر فقط في الصلاة واشربوا في غيرها، ثم بعد أيام نتدرج حتى نحرم الخمر على الناس، وهذا خطأ لأن الله عز وجل قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3] وقال: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208] فلا يجوز أن نقيس العهد المكي بعصرنا بأن نقول: والله نتدرج مع الناس في التشريع، فهذه مصيبة، أو نقول: ندعو كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم -حرفياً- بـمكة ، فالأمر يختلف، ففي مكة لم يكن هناك منافقون كما في عصرنا، في مكة كان الناس إما مسلم أو كافر، لا يوجد غيرهما، أما في هذا العصر فالأمر مختلف جداً، ففي المسلمين -كما يقال- اختلط الحابل بالنابل.. المنافق.. والمسلم.. ضعيف الإيمان.. وقوي الإيمان، ومنهم العلماني الذي يدعي الإسلام، وغيرهم كثير، حتى بعض الكفار والزنادقة قد يدعي الإسلام في هذه الأيام.

هذه مقدمة قبل البداية.

سأل سعيد ابن عباس: [أكان الناس في مكة يعذرون في ترك دينهم؟ -واسمع إلى هذه الآثار العجيبة جداً ثم قارنها بهذا العصر- قال ابن عباس: إن كانوا ليجيعونهم ويضربونهم ويؤذونهم حتى إنهم ما كانوا يستطيعون الجلوس من شدة الأذى -الواحد منهم لا يستطيع أن يجلس من الإيذاء- حتى إن الجعل ليمر عليه -الجعل: حشرة صغيرة حقيرة- فيقال له: أهذا إلهك من دون الله؟ فيقول: إي والله، هذا إلهي من دون الله] مسلم صحابي من خيرة الصحابة لكنه ما استطاع أن يصبر، حتى أنه يقول للجعل: هذا إلهي من دون الله، إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ [النحل:106].

مميزات الدعوة المكية:

سوف نذكر منها ستة إن شاء الله ونقتصر عليها ثم إن وسعنا المقام تكلمنا عن عوامل الصبر في تلك الدعوة.

الانتشار

أول ميزة من مميزات الدعوة المكية: الانتشار:

واسمع إلى تلك القصة، كان النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته منتشراً، لا يجلس في بيته ولا ينتظر الناس يأتونه، كان ينتشر، في كل قبيلة وفي كل بطن تجد له أحد الناس قد أسلم.

فهذا أبو ذر من غفار.

وهذا الطفيل بن عمرو من دوس.

وهذا عمرو بن عبسة السلمي .

وهذا بلال الحبشي .

وهذا سلمان الفارسي .

وهذا صهيب الرومي .

حتى من اليمن من أزد شنوءة، جاءه رجل يسمى ضماد الأزدي، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا ضماد كان يقرأ على الناس، ليعالج المريض، فسمع أن رجلاً يقال له: محمد، مجنون، فأتى إلى مكة يبحث عن هذا الرجل- كل الناس تتكلم عنه، رجل مجنون يقال له: محمد، وهو أعقل الناس عليه الصلاة والسلام، فأتى إليه ضماد فجلس عنده، فقال يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم: (هات ما عندك، فقال له أحكم الناس وأعقلهم: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، قال: حسبك! والله لقد سمعت قول السحرة والكهنة والشعراء، والله ما سمعت مثل كلماتك هذه، لقد بلغت والله قاموس البحر، هات أبايعك) فمد النبي صلى الله عليه وسلم يده فبايعه ضماد الأزدي رضي الله عنه، وهو من أزد شنوءة.

كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يجلس، كان يستقبل الوفود، يأتيه وفود في الحج فيأتيهم إلى خيامهم، فيفتـح الخيـمة ويقول: (من يؤويني حتى أبلغ دعوة ربي، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا) انظر الانتشار، يضرب على البيوت ويأتيهم في الأسواق وفي النوادي والمجالس، يقول: (من يؤويني حتى أبلغ دعوة ربي، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا).

ومن يقرأ السيرة يجد أمراً عجيباً.

هذا من بني جُمَح.

هذا من بني زهرة.

هذا من بني عبد مناف.

هذا من بني عامر.

وهذا من بني فلان وفلان وفلان.

كأن النبي صلى الله عليه وسلم كان دوامة في الناس يجول ويصول في كل المجالس وفي كل المنتديات، لا كحالنا وللأسف، ينتظر أحدنا من يأتيه فيطرق عليه الباب، فيقول له: دلني على المسجد، والله حال يُرْأف لها، ويحزن الإنسان لحالنا، بل إن بعضنا تمر عليه السنون تلو السنين وجاره لا يصلي ولم يبال، إن صلى فهذا المسجد! وإن لم يصل فعلى كيفه! أمر عجيب وحال غريب!

ففي الميزة الأولى تبين لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينتظر أمراً، لماذا كان يدعو في كل قبيلة؟ كان ينتظر ساعة الصفر التي أخبر عنها ورقة بن نوفل، قال: [يا ليتني كنت فيها جذعاً إذ يخرجك قومك، قال: أوَمُخْرِجِيَّ هم؟ قال: ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي] هل تريد أن تدعو إلى الله وتجلس في بيتك منعماً؟ لا، من كان مرتاحاً في دعوته ولا يصاب بأذى أو بلاء فليَتَّهِم نفسه، لعل فيه خللاً، ولعل إيمانه فيه خدش، يقول: (ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي).. وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً [الفرقان:31] ينتظر عليه الصلاة والسلام ساعة الصفر، لهذا كان يعد العدة، ويعد الرجال.

الجرأة في عرض الحق والمواجهة

الميزة الثانية: وهي من المميزات العظيمة جداً: الجرأة في عرض الحق والمواجهة:

كان النبي صلى الله عليه وسلم يواجه الناس فما كان يخجل، ولا كان والله يطأطئ رأسه ويخفي بعض المبادئ، فالإسلام كله كان يعرضه على المشركين، قبلوا أو لم يقبلوا: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ [الكافرون:1-2] جرأة ومواجهة، بل وقف على الصفا عليه الصلاة والسلام قال: (إني نذير لكم بين يدي عذاب أليم، قال أبو لهب: تباً لك ألهذا جمعتنا سائر اليوم؟! فأنزل الله تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1]) فالأمر فيه جرأة.

قام النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الناس فأسلم بعض الصحابة، وكان بعضهم يريد أن يكون جريئاً في الدعوة، كـأبي ذر، فقام، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تخرج) فخرج، ونطق بها صريحة أمام الناس: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فضرب حتى كان كأنه تمثال أحمر من الدم، رضي الله عنه.. جرأة.. إعلان.. مواجهة، لا نقول: مواجهة بالسلاح، ما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا؛ أما الكلام فهو المواجهة وهو الصدع: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الحجر:94] قال ابن الزبير (كان أشراف قريش يقولون في النبي صلى الله عليه وسلم كلاماً، يقولون: والله ما رأينا مثل محمد، سفه أحلامنا، وعاب ديننا، وسب آلهتنا -نعم ما كان يجامل، وما كان يماري، وما كان يداهن، هذه الأصنام في النار أنتم وهي، إن متم على هذا الشرك أنتم وهذه الأصنام كلكم في النار، ما كان يداهن- يقول ابن الزبير -واسمع لتلك القصة-: فخرج عليهم عليه الصلاة والسلام يوماً وكانوا جالسين في المجلس -أشراف قريش عند الكعبة- يقول: فذهب إلى الركن فاستلم الركن فطاف حول البيت -لعل سائلاً يسأل: كيف يطوف والأصنام حول البيت؟ ما كان يبالي عليه الصلاة والسلام، فهو يعبد الله، فأخذ يطوف- فلما طاف الشوط الأول ومر عليهم غمزوه -تكلموا عليه، فلم يبال- فطاف الشوط الثاني، فغمزوه، ثم طاف الشوط الثالث فغمزوه، فأقبل عليهم عليه الصلاة والسلام -ترك الطواف- فقال: تسمعون يا معشر قريش! أما والذي نفس محمد بيده! لقد جئتكم بالذبح -انظر المواجهة- يقول الصحابي: والله حتى ما كان أحد منهم إلا كأن طائراً واقع على رأسه -كل واحد من المشركين تجمد- يقول: أما والذي نفس محمد بيده! لقد جئتكم بالذبح -يعني: إما الدين وإما الذبح والقتل- فيقول الصحابي: حتى كان أشدهم فيه وطأة -يعني: أشدهم أذى للنبي صلى الله عليه وسلم- يقول: انصرف يا أبا القاسم راشداً -انصرف- فوالله ما كنت جهولاً) انظروا! جرأة!

لأنه يا إخوان إذا كان المسلم جريئاً يعرض الحق بجرأة ويواجه الناس: هذا منكر وهذا معروف، لا يخجل ولا يجامل ولا يداهن، لو كان صاحب الدين وصاحب العلم في كل مجلس إن رأى منكراً قال: اتق الله هذا منكر -طبعاً بالحكمة ما نقول: بسفاهة لكنه جريء- لو كان في كل مجلس، في السوق مثلاً، في الديوانية، في الجامعة، في الدوام، كل من رأى منكراً، حاول تغييره، وعلم الناس أن هذا منكر، لما كان هذا الوضع الذي نحن فيه، حتى يستحي بعض الملتزمين أن يظهر الإسلام في بعض الأماكن، انظروا ماذا حدث في الأندلس كيف اندثر شيء اسمه إسلام! الآن تذهب إلى أسبانيا ما تتوقع أن هذه بلد خرَّجت علماء، وحكمها الإسلام لقرون طويلة، بل كان خليفة المسلمين فيها. ما أحد كان يظن هذا الأمر، من يذهب إلى أسبانيا ما يظن بأن الأمر نقصته الجرأة والمواجهة.

كان عمر رضي الله عنه فتىً جريئاً، عندما أسلم ذهب أمام المشركين فأعلن إسلامه، وعندما هاجر كان الصحابة يهاجرون مستخفين، أما عمر رضي الله عنه فلا، فقد أخبر كل المشركين أنه سوف يهاجر، أي: الذي عنده شيء يفعله، انظر المواجهة.

وأبو بكر كان جريئاً يا إخوان، ما كانت القضية في الدعوة المكية كما يقول بعض الناس: السرية والخوف والخجل وإخفاء ما عندك من المبادئ والدين، وكتِّم، لا يا إخوان، بل الأمر يحتاج إلى جرأة، تكتب في الصحافة، تتكلم في التلفاز، تكون جريئاً، تتكلم في المسجد، والسوق، تكلم حتى صاحب المنكر، تأتيه وتكلمه بينك وبينه، تقول: هذا منكر، هذا لا يجوز، حتى في السيارة، توقفها وتقول: يا أخي اتق الله.

أين الجرأة؟ افتقدها أكثر الدعاة.

أبو بكر رضي الله عنه من جرأته ما كان يصلي في بيته، خرج خارج البيت وجعل له مصلى، فأخذ يصلي في المصلى خارج البيت والناس يمرون حوله، وأخذ يبكي رضي الله عنه، تخيل أبا بكر يبكي، الناس ماذا يفعلون؟ يأتون يستمعون إليه، ماذا يفعل هذا الرجل؟ الأطفال والنساء والشيوخ والرجال، والأغراب يأتون فينظرون من هذا الرجل؟ ماذا يفعل؟ إنه يصلي يسجد ويركع ويتلو القرآن وهو يبكي في الصلاة، إنها جرأة -والله- نحتاج إليها.

عمر وحمزة عندما أسلما أخذ كل واحد منهم عشرين رجلاً وعملوا مظاهرة، شبه مظاهرة، خرجوا أمام المشركين بأربعين رجلاً، وأخذوا يمرون على المشركين، كل منهم عنده عشرون رجلاً فقط، يمرون أمام المشركين، ليعلم كل الناس أن هذا الدين باقٍ، لأن بعض الناس -يا أخي- ضعيف الإيمان، يخاف إن أسلم أنه سوف يفقد منصبه، سوف يضيع هذا الحزب الذي يتبعه، سوف تضعف مكانته، يستهزئ الناس به ويسخرون منه، سوف يكون -كما نقول- ذليلاً بين الناس، يخاف، لكنه لو يرى المسلمين جريئين أقوياء، والله يسلم كل الناس، ويتبع الناس هذا الدين.

عمر رضي الله عنه كان جالساً بعد الفجر بعدما أسلم -انظروا القوة في الدين- فأتاه المشركون فأخذوا يتعرضون إليه ويرد عليهم، ويسبونه، وهو يدفعهم، فاجتمع المشركون على عمر، وعمر كلنا يعلم من هو عمر، كان إذا ضرب أوجع، وإذا تكلم أسمع، وإذا مشى أسرع، كان رجلاً، فأخذ يدفع الناس ولم يسكت، بعض الناس يظن أن من الحكمة أنه إذا يُضرب يسكت، وأن الدين يُسب ويُشتم العلماء ويُستهزأ بسنة سيد المرسلين، ويظن أن من الدين أن يقول: جزاك الله خيراً، لا هذا ليس من الدين، هذا من الذلة، الدين أن تقول له: اتق الله هذا لا ينفع، هذا دين، تكلم فِيَّ وفي أي واحد، أما في الدين فانتبه.

عمر أخذ يُضرب ويُشتم ويُدفع، فأخذ عمر رضي الله عنه يضربهم، يقول الراوي والأثر صحيح ثابت، يقول: [حتى ارتفعت الشمس وهو يدفعهم -من الفجر، وهو يدفعهم رضي الله عنه- حتى جلس من شدة التعب -انظر الآن يدفعهم، ربما ساعات طويلة وهو يدفعهم عنه، حتى جلس من شدة التعب، فأجاره رجل من المشركين، وعندما ابتعدوا عنه أخذ يناديهم -الآن تعب الجسد لكن بقي اللسان، وفيه القوة والعزة، قال: يا أعداء الله -هو الآن يكاد يقتل، ثم يخاطبهم بهذه اللهجة- يقول: يا أعداء الله! والله لو بلغنا فيها ثلاثمائة لأخرجناكم منها] لو كنا في مكة ثلاثمائة لطردناكم من مكة كلكم، انظروا الجرأة، انظروا المواجهة، والله نحتاجها في هذه الأيام.

هذه الميزة الثانية، ولعلنا أطلنا فيها.

الابتلاء والصبر

الميزة الثالثة: والثالثة انتبه إليها: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدرس الخطط، وكان الله عز وجل يعلمه خطط المشركين، خطط كثيرة: استهزاء.. سخرية.. اتهام.. ضرب.. عنف.. مداهنة.. إغراء.. هذه وسائلهم وخططهم، وكان الله عز وجل يعلِّم النبي صلى الله عليه وسلم، بل كان يدرس النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه هذه الخطط، وكانوا يتخذون لكل خطة مسلكاً. فبعض المرات كان يقول للصحابة: اسكتوا الآن، لا أحد يظهر دينه، وبعض المرات كان يأمرهم بالإظهار، وبعض المرات هو الذي يظهر ويصدع، وبعض المرات لا، يسكت النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يتخذ لكل مشكلة حلاً.

وقد قالوا عن أفضل الخلق أنه كذاب والأمر صعب جداً يا إخوان! بعد أن توصف بأنك الصادق الأمين طوال هذه السنوات، ويضع الناس أماناتهم عندك يأتون ويقولون لك: أنت كذاب، وأنت كاهن، وأنت ساحر، بل جاءهم بأعظم البينات: القمر، قال: (اخرجوا معي -فخرجوا إلى البر، فشق الله عز وجل لهم القمر فلقتين، فلقة أعلى الجبل وفلقة دون الجبل- فقال لهم: انظروا، اشهدوا، ترون القمر ينشق أمام أعينكم. فأدبروا عن النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: سحرنا محمد، سحرنا محمد).. وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ [القمر:2-5] .

كان يأتيهم النبي صلى الله عليه وسلم فيدعوهم في المجالس فيقولون: أنت ساحر، أرسلوا إليه الوليد بن المغيرة، وهذا أحد فصحاء قريش وشعرائها، قالوا له: اذهب إلى محمد، فقل فيه قولاً، فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسمعه يقرأ القرآن، فرجع إلى المشركين قال: -عن هذا القرآن- والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى عليه -هذا القرآن، والحق ما شهدت به الأعداء- فقالوا له: قل فيه قولاً، فكر، وحسب الأمر وقدره، وعبس، وتضايق -ماذا يقول؟- فأدبر عن المشركين ثم التفت إليهم فقال: قولوا ساحر، فرق بين الولد وأبيه، وبين المرأة وزوجها، قال الله تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً [المدثر:11-12] الوليد: وَبَنِينَ شُهُوداً [المدثر:13] كان يمشي وأبناؤه عن يمينه وشماله، يفتخر بهم، ومع هذا ما اتعظ: ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً * سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً [المدثر:15-17] مكان في جهنم، انظر الوعيد، لمه؟ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ [المدثر:18-20] لعن لأنه قدَّر هذا التقدير ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ [المدثر:21-24].. كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً [الكهف:5] سحر؟! تعرفُ يا وليد أنه كلام الله حق، وأنه لا يُعلى عليه! إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر:24-25] ثم توعده الله عز وجل بعدها: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ [المدثر:26-28] خطط عظيمة جداً.

يقول ابن مسعود: [أول من أظهر الإسلام سبعة، كل منهم كان عنده من يحميه إلا بلالاً -يقول: بلال لم يكن عنده أحد يحميه- كان يجر في الرمضاء على ظهره والحجر على صدره وهو يقول: أحد أحد] .

يقول: بعض الصحابة أعطاهم ما أرادوا -كان ينطق بكلمة الكفر وهو مطمئن بالإيمان- إلا بلالاً، فـبلال لم يقلها، كان يقول: أحد أحد.

بعض الصحابة كان يُلَف بالحديد ويُسحب في الشمس الحارة.

بعضهم يا إخوة كان يوضع على الجمر.

وانظر حالنا، لعله لو يوقَف المعاش يبيع الدين!

لو الزوجة تحزن والله أول ما يضع اللوم على اللحية!

لو ينقص شيء من ماله يقول: خَلِّ دعوتك لك!

لو يُهان إهانه قليلة جداً يترك الدعوة شهراً كاملاً، سبحان الله! حال غريب عجيب!

كان يوضع على الجمر حتى يطبخ الجلد.

كانوا يأتون بأسياخ الحديد تحمى في النار ثم تكوى بها الظهور، أتعلم ما هو الكوي؟ بعض الصحابة كان يفتخر أن ظهره قد كُوِي في سبيل الله.

بعضهم كـعمار يرى أمه أمام عينيه يطعنها أبو جهل برمح في فرجها حتى تموت.

الأمر صعب جداً يا إخوان! الخيال سهل أن تتخيل، لكن الحقيقة مرة وصعبة جداً، صعب جداً أن تربط في رقبتك بحبل وتمر بالشوارع ويتبعك الأطفال والعبيد يرمونك بالحجارة فتصبغ الأرجل بالدماء ولا أحد يسأل عنك، يأتي النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمار وأهله فيقول: (صبراً آل ياسر -ما عندي شيء- فإن موعدكم الجنة) تريدون الجنة؟ اصبروا، فما عندي شيء، انظروا هذا الذي أراده الله عز وجل منهم: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:2-3].

حصار الشِّعب، أتدري ما هو حصار الشِّعب؟ وما أدراك ما حصار الشِّعب؟ (مرت علي ثلاثون ليلة ما عندي أنا وبلال إلا طعام يواريه إبط بلال) يخفي بلال الطعام تحت إبطه حتى يأكلونه، أتدري ما هو حصار الشعب؟! والله لو تتخيله لن تتصوره حقيقة، حصار فيه الأطفال والنساء والشيوخ والرجال، يبكي الأطفال من الجوع وينظرون إلى المشركين يتلذذون باللحوم والأطعمة، ولا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً، أحد الصحابة كان يبول في الليل من شدة الجوع، فارتد بولُه -عندما بال كأنه أحس أنه يبول على شيء- فتلمسه فأخذه فإذا هو جلد يابس، فأخذه فحرقه ثم فتته، ثم خلطه بالماء ثم شربه، من شدة الجوع، أتعرف أن أوراق الشجر تؤكل في حصار الشِّعب؟ إنه حصار عظيم ابتلي فيه المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً.

ما نفع هذا الأمر: التعذيب.. السخرية.. الاستهزاء.. الضرب.. حتى إن أحدهم يأتي النبي صلى الله عليه وسلم كـأمية عليه لعائن الله، فيخنق النبي صلى الله عليه وسلم برداء فما يأتي إلا أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه فيدفعه عنه ويقول: أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ [غافر:28] فيأتون إلى أبي بكر فيضربونه بنعلين عليه رضوان الله.

حتى قيل: (في أحد الأيام كان النبي صلى الله عليه وسلم يسجد عند الكعبة -انظروا التعذيب يا إخوان، لا يضرك نقص المعاش، لا تضرك الإهانة، لا تحزنك تلك الكلمة التي صدرت من الأهل أو من الجيران أو من الصحف، لا، لا تضرك، اسمع إلى الأوائل وإلى قصصهم وسيرهم- النبي صلى الله عليه وسلم يسجد عند الكعبة والأشراف جالسون -أشراف قريش، وما هم بأشراف- فبعضهم يقول: من يذهب إلى سلى جزور بني فلان فيطرحه على رقبة محمد وهو ساجد، فيذهب أشقى القوم عقبة بن أبي معيط، فيأتي بسلى جزور -قذارة من البعير- ويرميها على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، فما يستطيع عليه الصلاة والسلام أن يرفع رأسه، حتى الصحابة ينظرون، لا أحد يستطيع أن يتحرك فقد كتموا إسلامهم، فما تتحرك إلا فاطمة وهي تبكي رضي الله عنها، فتركض إلى أبيها عليه الصلاة والسلام فتدفع عنه ذلك الأذى، فأكمل النبي صلى الله عليه وسلم صلاته وهي تبكي رضي الله عنها وأرضاها، وهو يقول لها: لا عليك يا بنية، ثم قام يدعو فقال: اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بـعمرو بن هشام، اللهم عليك بـشيبة بن ربيعة، اللهم عليك بـعتبة بن ربيعة، اللهم عليك بـعقبة بن أبي معيط، وأخذ يسميهم، يقول الراوي: ولقد رأيتهم صرعى في يوم بدر) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر:45] .

نعم، إنه الصبر والابتلاء.

أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالإغراء: (إن أردت ملكاً ملكناك -ما نفع التعذيب- إن أردت امرأة زوجناك أجمل النساء، إن أردت مالاً أعطيناك من أفضل أموالنا -ماذا تريد؟ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم:9] -حتى يرسلون أبا طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يريد أن يغري النبي صلى الله عليه وسلم -ما ينفع- أتاه عتبة بن ربيعة يقول: ماذا تريد؟ تريد أي شيء نعطيك إياه، لكن كف عنا ما أنت فيه، اعبد الله وحدك، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم عندما انتهى: أوَانتهيت؟ قال: نعم. قال: اسمع الآن. قال: بسم الله الرحمن الرحيم: حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ [فصلت:1-4] وأخذ يقرأ، قال: حسبك، فخرج عتبة مولياً إلى بيته، فأغلق عليه بيته، يقول المشركون: والله إن به بأساً -يعني: أثر محمد في عتبة - فذهبوا إليه، فقال: والله خشيت أن تنزل عليكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، كفوا عنه) .

أتوا يغرونه لكن ما نفع هذا الأمر، وهذا يحصل في هذه الأيام، قد يكون بعض الأيام التعذيب والسجن والضرب ما ينفع عند بعض الدعاة، فيأتون إليهم بالإغراءات كما قال ابن القيم: كان يفعل النصارى بالمسلمين هذا الأمر، يأتون إليه في السجن بأجمل الطبيبات، لتداويه وهو في السجن وهي تفتنه، فتداويه وتطببه وتسهر على راحته، فبعضهم يفتن.

ما نفع معه السجن ولا التعذيب ولا الضرب، ما زاده إلا صلابة، لكن الفتنة قد أردته.

رجل يسمى سعيد الحلبي، وهو أحدالعلماء، كان جالساً في المسجد ماداً رجليه، وكان به وجع في رجليه، وكان يدرس التلاميذ، فدخل الباشا في ذلك اليوم، فقام إليه الناس، هذا يقبل يده وهذا يوسع له الطريق، وهذا يحيه وهذا كذا، والناس هذه عادتهم، إلا هذا الشيخ فاستمر جالساً مكانه مستنداً إلى اسطوانة المسجد وماداً رجليه باتجاه الباب، فنظر إليه الباشا فغضب، فلما ذهب إلى قصره، قال للحارس: اذهب بهذا المال -صرة بها مال- إلى ذلك الشيخ، وإن سألك فقل له: إن الباشا يريد أن يكرمك للعلم الذي عندك، فأتى ذلك الرجل بصرة المال، فدخل على سعيد الحلبي وهو شيخ كبير فأعطاه المال، فقال له: ما هذا؟ قال: الباشا يسلم عيك، ويقول لك: هذه هدية لك، فقال له: خذ المال وارجع به إليه، وقل له: إن الذي يمد رجليه لا يمد يديه. كلمات عظيمة جداً!

إغراء! وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم:9] تريد منصباً نعطيك منصباً، تصير وزيراً لكن تَنازَل، بعض الناس يفتن والله، وليس هو وزيراً، بل لعله منصب تافه جداً، وكل الناس يحصلون عليه، ولكنها الفتنة، وضعف الإيمان.

تريد أن تصبح دكتوراً، نعطيك إياها؛ لكن الأمر يحتاج إلى بعض التنازلات، وهذه المصيبة قد يقع فيها كثير من الناس في هذه الأيام.

عدم الاغترار بالكثرة

الرابعة: عدم الاغترار بالكثرة:

إياك إياك أن تغتر بالكثرة هذه الأيام، فقليل قد تربى على الإسلام وقد صلب عوده، خير من كثير غثاء كغثاء السيل، لأن الكثير -أيها الإخوة- وقت الفتن يتزلزلون، ووقت المحن يضعفون، ووقت الشدة يقول بعضهم: ((مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً)) [لأحزاب:12] ويتكلم البعض، ويثبط البعض، فما يبقى إلا الذين تربوا على الدين الصحيح.

لا تغرك الكثرة، ولا تطلبها ولكن اطلب الأقوى، حتى قال صلى الله عليه وسلم لـحذيفة في المدينة: (أحص لي كم يلفظ الإسلام، قال: أوتخاف ونحن أكثر من كذا وكذا -نحن كثيرون- قال له النبي صلى الله عليه وسلم: إنكم لا تدرون لعلكم أن تبتلوا) ما تدرون ماذا يحدث بعد هذا.

مجيء الرد من السماء مباشرة

الخامسة: الرد من السماء:

من مميزات الدعوة المكية: كان يأتي الرد مباشرة من السماء؛ قال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1] .

أمية بن خلف كان يهمز النبي صلى الله عليه وسلم ويغمزه فأنزل الله: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ [الهمزة:1-3] رد من السماء.

أبو جهل يمنع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى [العلق:9-10] يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: ادعُ الملائكة وأنا أدعو الذين معي، فقال الله عز وجل: فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ [العلق:17-18] حتى ذهب أبو جهل فقال: والله لأعفرن وجهه في التراب، وأطأ على رقبته وجسده في الأرض، وهو عند المشركين، فعندما سجد عليه الصلاة والسلام ذهب أبو جهل وقال: والله ما يسجد إلا وأضع رجلي على رقبته، وأعفر وجهه في التراب، فرجع إليهم أبو جهل وهو يضع يديه أمام وجهه، فيقولون له: ما بك؟ ما الذي حدث لك؟ قال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهولاً وأجنحة، ولو اقتربت منه لتخطفتني، يقول: والله ما أعرف ما الذي بيني وبينه.. خندق.. حفرة عظيمة.. هول.. وأجنحة.. وأمور عظيمة، ويقول: والله لو اقتربتُ لتُخُطِّفْتُ، ولتقطعت.

رد من السماء، ليس الأمر هزلاً ولا لعباً! أنت معك دين تجابه به الناس.. لا تخف.. لا تذل.. لا تكتم.. لا تداهن.. أنت معك رب السماء، والعدو من معه؟ معه الشيطان يغرر به، ومعه جنود إبليس، وحثالة من البشر! وأنت معك الله.

التركيز في الدعوة على الأكثر خدمة للدين

وآخر ميزة: تركيز النبي صلى الله عليه وسلم على أكثرهم خدمة للدين:-

كان يركز على عمر وحمزة، وهذه ميزة عظيمة أيها الإخوة، يستحب لك أيها الداعية عندما تدعو أي إنسان -ادعُ الناس كلهم ولكن في التركيز- أن تركز على من تظن أنه سوف يخدم الدين، النبي صلى الله عليه وسلم كان يركز على عمر، من عمر؟ يقول ابن مسعود رضي الله عنه: [ما كنا نقدر أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر] عندما أسلم عمر كل واحد أظهر إسلامه، وقد كان يخافون فيصلون في البيوت، لكن عندما أسلم عمر أعز الله به الإسلام، أعز الله به المسلمين.

وعندما أسلم حمزة لم يستطع أحد أن يتكلم على النبي صلى الله عليه وسلم، أتى إلى المشركين في نواديهم فضرب أبا جهل ضربة، قال: [أتقول فيه ما تقول وأنا على دينه] وأسلم حَمِيَّةً.

وبعد أن أسلم حمزة وعمر عزَّ الإسلام.

حاول في الدعوة، ادعُ الناس كلهم، وانتشر في الدعوة ولكن في التركيز حاول أن تنتقي الناس، تدعو الناس الذين تظن فيهم النفع، لهذا كان صلى الله عليه وسلم يدعو -إن صحت الرواية-: (اللهم أعز الإسلام بأحد العُمَرين) .

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

وجزاكم الله تعالى خيراً.

أول ميزة من مميزات الدعوة المكية: الانتشار:

واسمع إلى تلك القصة، كان النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته منتشراً، لا يجلس في بيته ولا ينتظر الناس يأتونه، كان ينتشر، في كل قبيلة وفي كل بطن تجد له أحد الناس قد أسلم.

فهذا أبو ذر من غفار.

وهذا الطفيل بن عمرو من دوس.

وهذا عمرو بن عبسة السلمي .

وهذا بلال الحبشي .

وهذا سلمان الفارسي .

وهذا صهيب الرومي .

حتى من اليمن من أزد شنوءة، جاءه رجل يسمى ضماد الأزدي، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا ضماد كان يقرأ على الناس، ليعالج المريض، فسمع أن رجلاً يقال له: محمد، مجنون، فأتى إلى مكة يبحث عن هذا الرجل- كل الناس تتكلم عنه، رجل مجنون يقال له: محمد، وهو أعقل الناس عليه الصلاة والسلام، فأتى إليه ضماد فجلس عنده، فقال يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم: (هات ما عندك، فقال له أحكم الناس وأعقلهم: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، قال: حسبك! والله لقد سمعت قول السحرة والكهنة والشعراء، والله ما سمعت مثل كلماتك هذه، لقد بلغت والله قاموس البحر، هات أبايعك) فمد النبي صلى الله عليه وسلم يده فبايعه ضماد الأزدي رضي الله عنه، وهو من أزد شنوءة.

كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يجلس، كان يستقبل الوفود، يأتيه وفود في الحج فيأتيهم إلى خيامهم، فيفتـح الخيـمة ويقول: (من يؤويني حتى أبلغ دعوة ربي، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا) انظر الانتشار، يضرب على البيوت ويأتيهم في الأسواق وفي النوادي والمجالس، يقول: (من يؤويني حتى أبلغ دعوة ربي، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا).

ومن يقرأ السيرة يجد أمراً عجيباً.

هذا من بني جُمَح.

هذا من بني زهرة.

هذا من بني عبد مناف.

هذا من بني عامر.

وهذا من بني فلان وفلان وفلان.

كأن النبي صلى الله عليه وسلم كان دوامة في الناس يجول ويصول في كل المجالس وفي كل المنتديات، لا كحالنا وللأسف، ينتظر أحدنا من يأتيه فيطرق عليه الباب، فيقول له: دلني على المسجد، والله حال يُرْأف لها، ويحزن الإنسان لحالنا، بل إن بعضنا تمر عليه السنون تلو السنين وجاره لا يصلي ولم يبال، إن صلى فهذا المسجد! وإن لم يصل فعلى كيفه! أمر عجيب وحال غريب!

ففي الميزة الأولى تبين لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينتظر أمراً، لماذا كان يدعو في كل قبيلة؟ كان ينتظر ساعة الصفر التي أخبر عنها ورقة بن نوفل، قال: [يا ليتني كنت فيها جذعاً إذ يخرجك قومك، قال: أوَمُخْرِجِيَّ هم؟ قال: ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي] هل تريد أن تدعو إلى الله وتجلس في بيتك منعماً؟ لا، من كان مرتاحاً في دعوته ولا يصاب بأذى أو بلاء فليَتَّهِم نفسه، لعل فيه خللاً، ولعل إيمانه فيه خدش، يقول: (ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي).. وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً [الفرقان:31] ينتظر عليه الصلاة والسلام ساعة الصفر، لهذا كان يعد العدة، ويعد الرجال.