علو الهمة


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فلِمَ نعيش أيها الإخوة؟ ولِمَ نحيا؟

وما هدفنا في هذه الدنيا؟ أو لنأكل ونشرب، ثم نموت ويظن الواحد منا أنه لا حساب ولا عذاب؟

ما هدفك في هذه الحياة؟ تستيقظ في الصباح وتنام في الليل، لم تستيقظ؟ ولم تنام؟ علام تخرج من البيت وترجع إليه؟ هلا جعلت لنفسك هماً في هذه الدنيا؟! وهلا كان هذا الهم عالياً؟

كان المصطفى عليه الصلاة والسلام يعلم أصحابه الهمة العالية، فقال: (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى -لا تطلب إلا بالفردوس- فإنه أعلى الجنة، ووسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة) من منا لا يريد هذا؟!

ويحضر له رجل وضوءه وبعد أن ينتهي من الوضوء قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (سلني) ما الذي تطلبه؟

الآن لو قيل لك: أي شيءٍ تريده في الدنيا يأتيك، منا من يطلب مالاً، ومنا زوجةً، ومنا ذهباً وفضة، ومنا منصباً عالياً، أما هذا الرجل فطلب أغلى ما يستطيع أن يطلبه، تقول لي: الجنة، أقول لك: أعظم مكان في الجنة، تقول لي: هو الفردوس، أقول لك: أعظم مكان في الفردوس، قال: (أسألك مرافقتك في الجنة).

وهل هناك همةٌ أعلى من هذه الهمة؟ ماذا نطلب أكثر من هذا؟

فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ [آل عمران:185] وكأن الأمر صعب، انظر! إلى الآية القرآنية (زحزح) كأن الأمر فيه شيء من الصعوبة، فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ [آل عمران:185] نجاة من النار ودخول الجنة، وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185] وهذا هو الفوز الحقيقي.

علو همة الرسول صلى الله عليه وسلم في العبادة

ولهذا كان الأولون وعلى رأسهم محمد عليه الصلاة والسلام يقومون الليل حتى تتشقق القدم، تخيل! لو قمت حتى تعبت القدمان قد تنام، ولو فترت القدم قد تتوقف عن الصلاة، لكن من منا يستطيع أن يصلي حتى تتفطر القدم؟! من يقدر على هذا إلا أفضل الخلق عليه الصلاة والسلام؟ همةٌ أعلى من الجبال، حتى قال عنهم القائل:

كنا جبالاً فوق الجبـال وربما     سرنا على موج البحار بحارا

بمعابد الإفرنج كان أذاننا     قبل الكتائب يفتح الأمصارا

علو همة السلف في العبادة

هؤلاء هم أهل الهمم العالية، واسمع وتدبر ثم حاسب نفسك، أين أنت من أولئك؟ وأين نحن من هؤلاء؟

هذا سفيان الثوري إذا أذن الصبح نام على الأرض ورجله على الحائط، تعرف لمه؟ حتى يرجع الدم إلى رأسه من شدة قيامه في الليل، ومن طول قيامه، أي همةٍ هذه؟ وأي نفسٍ تلك التي يقوم بها الليل حتى إن الدم ما يأتي إلى الرأس من شدة القيام؟ تقول لي: ألا ينام؟ أقول لك: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [السجدة:16] كلما نام يتجافى الجنب عن المضجع، ولا تهنأ نفسه بالنوم.

يقولون عن سعيد بن جبير : ردد آية من الليل إلى الصباح، فكان يبكي ويرددها، وأي آية تلك؟ وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس:59] يوم القيامة ينفصل المجرمون المنافقون عن المخلصين الصادقين، ويتميزون، فهو يبكي ويردد الآية حتى الصباح.

بل يقولون عن ثابت البناني أحد الصالحين العباد، أنه كان يقول: جاهدت نفسي بالصلاة عشرين سنة -انظر الهمة العالية- أجاهد نفسي بالصلاة وأقاوم النفس حتى أصلي بالليل، ثم تنعمت بها عشرين سنة أخرى، هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ [الرحمن:60] تعب عشرين سنة، وتنعم عشرين سنة من الله جل وعلا.

وكان إذا أصبح الصباح يعصر رجله؛ لأنها تخدرت من شدة القيام، وهو يقول: مضى العابدون، وقطع بي وا لهفاه! وا لهفاه! مضى العابدون أي: سبقني العابدون وهو يقوم الليل أكثره، ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر:32].

الإمام أحمد بن حنبل لما أدخل السجن، أمضى ثمانية وعشرين شهراً وهو في السجن وهو شيخ كبير، أول ليلة في السجن ماذا صنع؟ تخيل! مظلوم؛ لأنه ينصر عقيدة أهل السنة دخل السجن، أول ليلة وكان البرد قارساً، وسجنهم ليس كسجننا، بل كان مظلماً وهو لوحده، فأخذ يتحسس بيده يبحث عن ماء، فوقعت يده على ماءٍ بارد جداً، فأخذ يتوضأ وصلى حتى الصباح. كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17-18].

جاء أحد طلبة العلم لينام عند الإمام أحمد بن حنبل ، فوضع له الإمام أحمد إناء فيه ماء ليتوضأ قبل النوم، وفي الصباح جاء الإمام أحمد فرأى الإناء ما تغير، الماء هو الماء، فقال له: أما توضأت؟ قال: لا. قال: أما صليت شيئاً من الليل؟ قال: لا، أنا مسافر. فقال له الإمام أحمد : صاحب حديث -يعني طالب علم- لا يكون له وردٌ من الليل! فقال: أنا مسافر يا إمام! قال: وإن كنت مسافراً -أي حتى ولو كنت مسافراً ليس لك عذر- قال: وإن كنت مسافراً، حج مسروق فما نام إلا وهو ساجد. يعني من شدة التعب.

أي همةٍ هذه؟ أي همةٍ تلك؟ الواحد منهم يقول: حتى وإن كنت مسافراً ليس لك عذر في ترك النافلة.

يحكي شخص عن أبي حنيفة فيقول: فلما هدأ الناس خرج إلى المسجد، يقول: فتبعته فدخل المسجد، فأخذ يصلي حتى طلوع الفجر. يقول: تابعته ثلاث ليال على هذه الحال.

أبو حنيفة يقرأ آية فما استطاع أن يكمل الذي بعدها، فاستمر يبكي ويرددها حتى أصبح الصباح، أي آية تلك؟ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:27] همةً وأي همة!!

ولهذا كان الأولون وعلى رأسهم محمد عليه الصلاة والسلام يقومون الليل حتى تتشقق القدم، تخيل! لو قمت حتى تعبت القدمان قد تنام، ولو فترت القدم قد تتوقف عن الصلاة، لكن من منا يستطيع أن يصلي حتى تتفطر القدم؟! من يقدر على هذا إلا أفضل الخلق عليه الصلاة والسلام؟ همةٌ أعلى من الجبال، حتى قال عنهم القائل:

كنا جبالاً فوق الجبـال وربما     سرنا على موج البحار بحارا

بمعابد الإفرنج كان أذاننا     قبل الكتائب يفتح الأمصارا

هؤلاء هم أهل الهمم العالية، واسمع وتدبر ثم حاسب نفسك، أين أنت من أولئك؟ وأين نحن من هؤلاء؟

هذا سفيان الثوري إذا أذن الصبح نام على الأرض ورجله على الحائط، تعرف لمه؟ حتى يرجع الدم إلى رأسه من شدة قيامه في الليل، ومن طول قيامه، أي همةٍ هذه؟ وأي نفسٍ تلك التي يقوم بها الليل حتى إن الدم ما يأتي إلى الرأس من شدة القيام؟ تقول لي: ألا ينام؟ أقول لك: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [السجدة:16] كلما نام يتجافى الجنب عن المضجع، ولا تهنأ نفسه بالنوم.

يقولون عن سعيد بن جبير : ردد آية من الليل إلى الصباح، فكان يبكي ويرددها، وأي آية تلك؟ وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس:59] يوم القيامة ينفصل المجرمون المنافقون عن المخلصين الصادقين، ويتميزون، فهو يبكي ويردد الآية حتى الصباح.

بل يقولون عن ثابت البناني أحد الصالحين العباد، أنه كان يقول: جاهدت نفسي بالصلاة عشرين سنة -انظر الهمة العالية- أجاهد نفسي بالصلاة وأقاوم النفس حتى أصلي بالليل، ثم تنعمت بها عشرين سنة أخرى، هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ [الرحمن:60] تعب عشرين سنة، وتنعم عشرين سنة من الله جل وعلا.

وكان إذا أصبح الصباح يعصر رجله؛ لأنها تخدرت من شدة القيام، وهو يقول: مضى العابدون، وقطع بي وا لهفاه! وا لهفاه! مضى العابدون أي: سبقني العابدون وهو يقوم الليل أكثره، ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر:32].

الإمام أحمد بن حنبل لما أدخل السجن، أمضى ثمانية وعشرين شهراً وهو في السجن وهو شيخ كبير، أول ليلة في السجن ماذا صنع؟ تخيل! مظلوم؛ لأنه ينصر عقيدة أهل السنة دخل السجن، أول ليلة وكان البرد قارساً، وسجنهم ليس كسجننا، بل كان مظلماً وهو لوحده، فأخذ يتحسس بيده يبحث عن ماء، فوقعت يده على ماءٍ بارد جداً، فأخذ يتوضأ وصلى حتى الصباح. كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17-18].

جاء أحد طلبة العلم لينام عند الإمام أحمد بن حنبل ، فوضع له الإمام أحمد إناء فيه ماء ليتوضأ قبل النوم، وفي الصباح جاء الإمام أحمد فرأى الإناء ما تغير، الماء هو الماء، فقال له: أما توضأت؟ قال: لا. قال: أما صليت شيئاً من الليل؟ قال: لا، أنا مسافر. فقال له الإمام أحمد : صاحب حديث -يعني طالب علم- لا يكون له وردٌ من الليل! فقال: أنا مسافر يا إمام! قال: وإن كنت مسافراً -أي حتى ولو كنت مسافراً ليس لك عذر- قال: وإن كنت مسافراً، حج مسروق فما نام إلا وهو ساجد. يعني من شدة التعب.

أي همةٍ هذه؟ أي همةٍ تلك؟ الواحد منهم يقول: حتى وإن كنت مسافراً ليس لك عذر في ترك النافلة.

يحكي شخص عن أبي حنيفة فيقول: فلما هدأ الناس خرج إلى المسجد، يقول: فتبعته فدخل المسجد، فأخذ يصلي حتى طلوع الفجر. يقول: تابعته ثلاث ليال على هذه الحال.

أبو حنيفة يقرأ آية فما استطاع أن يكمل الذي بعدها، فاستمر يبكي ويرددها حتى أصبح الصباح، أي آية تلك؟ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:27] همةً وأي همة!!

علو همة الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة

اسمع إلى همة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي همةٌ عالية في الدعوة إلى الله، وفي نشر هذا الدين، وفي تبليغه للناس، بل وكما قال الله عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً [الأنبياء:107] هل هو رحمة لزوجته .. لأولاده .. لأهل بيته؟ لا. وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] أي: للناس جميعاً، بل للإنس والجن، فكان محمد عليه الصلاة والسلام رحمة. واسمع ماذا كان يصنع.

كاد من شدة حسرته على الناس أن يموت؛ لأن الناس ما استجابوا له، حتى قال الله عز وجل: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [فاطر:8].

هل مر بك يوم، أو مرت عليك لحظات دمعت فيها عينك؛ لأن الناس لا يهتدون؟

هل مرت بك لحظات أصابك فيها همٌ وغم؛ لأن الناس لا يصلون؟

هل بت سهران ليلةً في حياتك؛ لأن لك جاراً لا يطرق باب المسجد؟

هل في يومٍ من الأيام كنت في الطريق فأصابك همٌ وغم ودمعت العينان؛ لأنك رأيت بعض المتبرجات في الطريق؟

هل حصل هذا؟ أما الرسول، فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ [الكهف:6] أي: قاتل نفسك؛ لأنهم لم يؤمنوا بهذا الحديث، ولأنهم لم يدخلوا في دين الله.

محمد عليه الصلاة والسلام قام على الصفا فكذبه أبو لهب ، فذهب إلى الأسواق، سوق ذي المجاز ومجنة وعكاظ فكان يقول للناس: (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) أتعرف من الذي بجواره؟ إنه فرعون هذه الأمة، يأخذ -تخيل المنظر وأرجو أن تتصوره- يأخذ شيئاً من تراب ويرميه على وجه النبي عليه الصلاة السلام، والمصطفى عليه الصلاة والسلام لا يلتفت إليه أبداً، فهو يرمي عليه التراب ويصد.

يأتي إلى خيام المشركين في منى عندما يأتون إلى الحج وإلى مكة ، فيأتيهم النبي صلى الله عليه وسلم خيمة خيمة، ويدخلها منـزلاً منزلاً، وهو يقول: (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا).. (من يؤويني أبلغ دعوة ربي) ومن خلفه؟ إنه أبو لهب , أبو لهب أحول ذو غديرتين، كلما دخل خيمة دخل بعده، وقال: لا عليكم منه، إنه ابن أخي، إنه كذاب، إنه صابئ، إنه مجنون، تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ [المسد:1-5].

همته العالية جعلته يمشي على قدميه إلى الطائف، خرج في هذه الجبال الشاهقة من مكة إلى الطائف ماشياً وحده عليه الصلاة والسلام، تعرف لِمَ؟ همته أن يبلغ دين الله جل وعلا، فلما جاء إلى علية القوم استهزءوا به وسخروا، وقال أحدهم: أَمَاَ وجد الله غيرك يبعثه؟! وقال الآخر: أمرِّط ثياب الكعبة إن كان الله بعثك، ويقول الثالث: إن كنت صادقاً فلأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام، وإن كنت كاذباً فأنت لا تستحق أن أجيبك، ثلاثة من علية القوم يستهزئون به صلى الله عليه وسلم.

فخرج وقد صف له أهل الطائف صفين، والنبي عليه الصلاة والسلام يمشي بينهم وكل واحدٍ يرميه بالحجارة، كلما رفع رجلاً رموه بالحجارة، حتى دميت قدماه وسالت الدماء من قدميه الشريفتين، وخرج من الطائف مهموماً، حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى ظل شجرة، فجلس تحتها، فجاءه غلام يسمى عداساً ، وهو غلام نصراني أرسله عتبة وشيبة ابنا ربيعة بعنب، لما رأوا محمداً عليه الصلاة والسلام والدماء تسيل منه.

فجاءه بالعنب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: باسم الله وأكل، فقال عداس : ما قلت؟ قال: قلت: باسم الله، ما اسمك؟ قال: عداس ، قال: من أين أنت؟ -انظر الآن إلى الوضع الذي فيه المصطفى عليه الصلاة والسلام وما همه- قال: من نينوى ، قال: من قرية الرجل الصالح يونس بن متى، قال: وما أدراك ما يونس بن متى؟! قال: هذا أخي، هو نبي، وأنا نبي مثله، فقال عداس: إذاً أخبرني خبره؟ فأخذ يقص عليه من أخبار يونس ورجلاه تنـزفان الدم، ولكنه عليه الصلاة والسلام همته العالية تجعل أهم قضية عنده أن يؤمن الناس، فأخذ يخبره خبر يونس بن متى، فلما أخبره بالخبر انكب عداس يقبل رجلا النبي صلى الله عليه وسلم ويديه، فقال عتبة لـشيبة : انظر إلى صاحبك ماذا يصنع لمحمد، وهما مشركان. أرأيت هم النبي صلى عليه وسلم وهو ينطلق بين الناس ولسان حاله يقول: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108].

هل كانت همتك عالية أن توصل هذا الدين وهذا الخير إلى أهل الشوارع والأرصفة؟

هل فكرت يوماً من الأيام أن تزور أهل الدواوين والمجالس؛ لتبلغهم دين الله جل وعلا؟

تقول: ليس عندي شيء من العلم، أقول لك: عندك شيءٌ من الدينار، اشترِ بعض الأشرطة، وبعض الكتيبات النافعة ووزعها لله جل وعلا.

وأنا أعرف بعض العوام ما يقارب من نصف معاشه ينفقه في شراء الأشرطة الوعظية الإيمانية، يقول: أوزعها في كل مكان، قلت: أين توزعها؟ قال: كل مكانٍ تتصوره، ورأيته قبل يومين وعنده أكياس كثيرة، قلت: أين ذهبت هذه الأكياس؟ قال: عند مجلس الأمة وزعتها للحاضرين، يقول: لا يدخل شخص إلا وأعطيه شيئاً من هذه الأشرطة، ما تركت أحداً إلا وأعطيته، فأين هذه الهمة؟ طالما افتقدناها، أين شباب الصحوة؟ أين طرقهم للأبواب؟ أين جولاتهم على الناس؟ أين دخولهم في المنتديات، والمجالس العامة؟ أين الكلمة الطيبة الحسنة؟ أين الموعظة؟ أين هداية الناس؟ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً [فصلت:33] من أحسن من هذا الذي يدعو إلى الله سبحانه وتعالى؟

علو همة موسى عليه السلام في الدعوة

موسى عليه السلام بكى لما سلم عليه محمد عليه الصلاة والسلام في المعراج، قال الملك: هذا أخوك موسى سلم عليه يا محمد! فسلم عليه صلى الله عليه وسلم ورد عليه السلام، فلما غادر محمد عليه الصلاة والسلام بكى موسى، فقيل له: لِمَ تبكي يا موسى؟! قال: أبكي -اسمع! موسى نبي الله، وكليم الله يبكي من أي شيء- قال: أبكي؛ لأن غلاماً بُعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي.

يقول: إن المتبوعين من أمته أكثر من أمتي، فهذا بكاء الرجال، وهذا بكاء أهل الهمم العالية، وهذا بكاء الذي يستشعر (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم).

قد هيئوك لأمرٍ لو فطنت لـه     فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل

بعض الناس يقول: دعوت ودعوت ودعوت فلم يستجب لي، دعوت خمس سنين، ودعوت عشر سنين والمسجد هو المسجد، والبيت هو البيت، والناس هم الناس، فأقول له: إن نوحاً عليه السلام دعا ألف سنة إلا خمسين عاماً، فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً [العنكبوت:14] لبث تسعمائة وخمسين سنة، فهل تعرف كيف كان يدعو؟ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً [نوح:5-6].

علو همة أبي بكر الصديق في الدعوة

أبو بكر الصديق رضي الله عنه يلح على النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! لنجهر بالدعوة إلى الله، والنبي صلى الله عليه وسلم يهدئه، فما صبر أبو بكر حتى أذن له النبي عليه الصلاة والسلام، فكان أول خطيب يدعو إلى الله ورسوله، فقد قام بين الناس بعد أن جمعهم وأخذ يدعوهم إلى الله وإلى دين الله، فقام إليه المشركون يضربونه ضرباً مبرحاً، وأبو بكر لوحده حتى سقط على الأرض، وجاء أشقى القوم يضربه حتى وطئ على بطن أبي بكر ، ثم أخذ نعله هذا المشرك وأخذ يضرب بالنعل وجه أبي بكر ، والدم يسيل، حتى ظن الناس أن أبا بكر قد مات، فما جاء إلا بنو تيم وهم قوم أبي بكر يدفعون المشركين عن صاحبهم، فحملوه وظن الناس جميعاً أن أبا بكر قد مات، فقد ضرب من كل جهة، وتجمع المشركون عليه، حتى لا يعرف وجهه من قفاه من الضرب ومن الدم الذي سال عليه، وكل هذا ليبلغ دين الله، أي همةٍ تلك؟!!

حتى حمل أبو بكر إلى داره، فما أفاق إلا آخر النهار، وقد قالت بنو تيم وقد جاءوا إلى المسجد: لئن مات أبو بكر لنثأرن له، فلما جاء آخر النهار استيقظ أبو بكر فرأى أمه أم الخير ، فقال لها: ما صنع رسول الله؟ قالت: يا بني! كُلْ شيئاً واشرب، قال: والله لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى تأتيني بخبر رسول الله، وأمه كانت مشركة، فقالت: وكيف أعرف لك خبر محمد؟ فقال: ائتيني بـأم جميل بنت الخطاب ، فذهبت إليها وقالت: يا أم جميل ! إن ابني يسألك عن رسول الله، قالت: لا أعرف لا ابنك ولا رسول الله، فتعجبت أم الخير ، فقالت: تعالي معي إلى ابني أبي بكر ، فجاءت إلى أبي بكر ، فقالت أم جميل لـأبي بكر : إن أمك هنا، قال: لا عليكِ منها، أي: لن تخبر عن أمرنا، وكانت تكتم أم جميل إيمانها، فقال لها: ما صنع رسول الله؟ قالت: هو بخير، وهو بدار ابن أبي الأرقم ، فقال أبو بكر : إذاً احملاني إليه، قالت أمه: كل شيئاً أو اطعم شيئاً، قال: والله لا أذوق طعاماً حتى أرى رسول الله.

فلما هدأ الناس آخر الليل، أمسكاه من كتفيه رضي الله عنه ورجلاه تخطان في الأرض حتى جيء به إلى دار ابن أبي الأرقم ، فلما فتح الباب وكان محمد عليه الصلاة والسلام جالساً مع الصحابة ممن كتم إيمانه، فلما دخل أبو بكر انكب على رسول الله يقبله وهو يقول: كيف أنت يا رسول الله؟! وبكى الصحابة جميعاً حوله وهم ينظرون إلى أبي بكر ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا بخير، كيف أنت يا أبا بكر ؟! قال: ليس بي بأس إلا ما أصاب الفاسق من وجهي.

أبو بكر هذا الرجل الصنديد الجبل، تعرف كم أسلم على يديه؟ أسلم على يده خلقٌ كثير، منهم خمسة من العشرة المبشرين بالجنة، وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33].

علو همة أم شريك في الدعوة

بل حتى النساء، أم شريك كانت في مكة ، وكانت مؤمنة تكتم إيمانهاً خوفاً، وكانت تدعو إلى الله سراً، وأسلم على يديها نساءٌ كن من خيرة نساء الصحابة، حتى فضح أمرها، واكتشفت، فجاء بها المشركون وكادوا يقتلونها، لولا أن قومها تدخلوا.

من هي أم شريك ؟ إنها امرأة في وقت البطش والظلم والقتل تدعو إلى الله جل وعلا.

أين نحن من هؤلاء؟

هل جربت يوماً من الأيام أن تنام على هم الدعوة، وتستيقظ على هم الدعوة، وتخرج من بيتك وهمك هم الدعوة؟ كيف يمتلئ المسجد؟ كيف تكون مساجدنا في صلاة الفجر كما تكون في صلاة الجمعة؟ كيف تغص المساجد بالمصلين؟ كيف ينتشر الحجاب؟ كيف يعبد الناس ربهم؟ هل فكرت بهذا الهم؟

علو همة الإمام أحمد في الدعوة

الإمام أحمد جلد وضرب وعذب فجاءه يوم من الأيام أحمد بن داود الواسطي يزوره، فدخل عليه، فقال: يا أبا عبد الله ! -انظر الكلمات- عليك عيال -أي: لك صبيان- وأنت معذور، قل أي كلمة، وانج بنفسك، قال: كأني أسهل عليه الإجابة، فهل تعرف ماذا قال الإمام أحمد ؟ قال: يا بن داود! إن كان هذا عقلك فقد استرحت. أي: إذا كان هذا تفكيرك وهذا همك فقد استرحت. ولكن الإمام أحمد عقله أكبر من هذا، وهمه هم الأمة، لا هم نفسه، فهو لا يبالي بنفسه.

فقد كان السلف همهم أعلى مما تتصور، الواحد منهم ليس همه الرغيف والأكل والشرب والنوم، بل أكبر من هذا.




استمع المزيد من الشيخ نبيل العوضي - عنوان الحلقة اسٌتمع
رسالة إلى كل من ابتلي بمس أو سحر أو عين 2685 استماع
فرصة للتوبة 2631 استماع
فصة برصيصا 2599 استماع
التوحيد 2596 استماع
قصة الفاروق الحلقة السادسة 2530 استماع
العبادة في رمضان 2487 استماع
الوقت وأهميته 2468 استماع
دعاة الفساد 2462 استماع
لنخرج العباد من عبادة العباد 2458 استماع
لقاء مع الشيخ المغامسي 2439 استماع