شرح الفتوى الحموية [19]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اتفاق المهاجرين والأنصار في التوحيد

نقل المؤلف رحمه الله تعالى قائلاً: [ وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن خفيف في كتابه الذي سماه: (اعتقاد التوحيد بإثبات الأسماء والصفات). قال في آخر خطبته: فاتفقت أقوال المهاجرين والأنصار في توحيد الله عز وجل ومعرفة أسمائه وصفاته وقضائه قولاً واحداً وشرعاً ظاهراً، وهم الذين نقلوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك حتى قال: (عليكم بسنتي)، وذكر الحديث. وحديث: (لعن الله من أحدث حدثاً)، قال: فكانت كلمة الصحابة على الاتفاق من غير اختلاف، وهم الذين أمرنا بالأخذ عنهم إذ لم يختلفوا بحمد الله تعالى في أحكام التوحيد وأصول الدين من الأسماء والصفات كما اختلفوا في الفروع، ولو كان منهم في ذلك اختلاف لنقل إلينا، كما نقل سائر الاختلاف، فاستقر صحة ذلك عند خاصتهم وعامتهم، حتى أدوا ذلك إلى التابعين لهم بإحسان، فاستقر صحة ذلك عند العلماء المعروفين، حتى نقلوا ذلك قرناً بعد قرن؛ لأن الاختلاف كان عندهم في الأصل كفر ولله المنة ].

فكلام الشيخ رحمه الله في هذا بين واضح أن السلف لم يختلفوا في مسائل الاعتقاد كاختلافهم في مسائل الفروع، وهذا لا إشكال فيه، فإن أهل السنة والجماعة من السلف الصالحين من الصحابة التابعين ومن بعدهم رضي الله عنهم كانوا على اتفاق في باب الاعتقاد، ولم ينقل عنهم خلافه، وهذا من حيث الأصل، وإلا فهناك بعض المسائل التي لا تعد من أصول الاعتقاد وقع فيها اختلاف، كرؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه في الدنيا.

هذا وقع فيه اختلاف بين الصحابة رضي الله عنهم، فقال بعضهم: بأنه رآه. وقال بعضهم: بأنه لم يره. وهذا الخلاف لا يعد شيئاً، فإنهم اتفقوا في مسائل الاعتقاد وأصول الدين ولم يقع بينهم خلاف، وإنما الخلاف في بعض المسائل الفرعية التي لا يعد الخلاف فيها مؤثراً على اتفاقهم في جملة ما يجب لله سبحانه وتعالى من الأسماء والصفات، ومن الكمال الواجب له سبحانه وتعالى.

قال رحمه الله: [ ثم إني قائل -وبالله أقول-: إنه لما اختلفوا في أحكام التوحيد، وذكر الأسماء والصفات على خلاف منهج المتقدمين من الصحابة والتابعين، فخاضوا في ذلك من لم يعرفوا بعلم الآثار، ولم يعقلوا قولهم بذكر الأخبار، وصار معوّلهم على أحكام هوى النفس المستخرجة من سوء الظن به، على مخالفة السنة والتعلق منهم بآيات لم يسعدهم فيها ما وافق النفوس؛ فتأولوا على ما وافق هواهم، وصححوا بذلك مذهبهم. احتجت إلى الكشف عن صفة المتقدمين، ومأخذ المؤمنين، ومنهاج الأولين؛ خوفاً من الوقوع في جملة أقاويلهم، التي حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته، ومنع المستجيبين له حتى حذرهم ].

ما ذكره رحمه الله تقدم لنا في بيان مفارقة منهج المتأخرين لمنهج المتقدمين في باب الإيمان وأحكام التوحيد والدين، ولا حاجة للتعليق عليه، إلا أنه تأكيد لما تقدم من مخالفة هؤلاء للآثار، ولما تقتضيه العقول الصحيحة من إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه، أو إثبات ما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم.

قال رحمه الله: [ ثم ذكر أبو عبد الله خروج النبي صلى الله عليه وسلم وهم يتنازعون في القدر وغضبه، وحديث: (لا ألفين أحدكم)، وحديث: (ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة)، فإن الناجية ما كان عليه هو وأصحابه؛ ثم قال: فلزم الأمة قاطبة معرفة ما كان عليه الصحابة، ولم يكن الوصول إليه إلا من جهة التابعين لهم بإحسان، المعروفين بنقل الأخبار ممن لا يقبل المذاهب المحدثة، فيتصل ذلك قرناً بعد قرن ممن عرفوا بالعدالة والأمانة، الحافظين على الأمة ما لهم وما عليهم من إثبات السنة.

إلى أن قال: فأول ما نبتدئ به ما أوردنا هذه المسألة من أجله: ذكر أسماء الله عز وجل في كتابه، وما بين صلى الله عليه وسلم من صفاته في سنته، وما وصف به عز وجل مما سنذكر قول القائلين بذلك، مما لا يجوز لنا في ذلك أن نرده إلى أحكام عقولنا بطلب الكيفية بذلك، ومما قد أمرنا بالاستسلام له].

إثبات صفة النفس لله تعالى

[إلى أن قال: ثم إن الله تعرف إلينا بعد إثبات الوحدانية والإقرار بالألوهية أن ذكر تعالى في كتابه بعد التحقيق بما بدأ من أسمائه وصفاته، وأكد عليه السلام بقوله: فقبلوا منه كقبولهم لأوائل التوحيد من ظاهر قوله لا إله إلا الله -إلى أن قال-: بإثبات نفسه بالتفصيل من المجمل ].

بعد أن فرغ الشيخ رحمه الله من النقل الأول انتقل إلى أن ذكر صلة كلامه في أن الله سبحانه وتعالى تعرف لعباده، بعد أن أقروا بتوحيد الإلهية وتوحيد الربوبية، بأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى فبينها لهم، وبين ما يجب له من الأسماء وما يجب له من الصفات؛ لأنه بها يكتمل تحقيق العبودية له سبحانه وتعالى كما تقدم ذكر ذلك.

ثم قال (إلى أن قال) فبدأ بذكر صفة جاءت النصوص بذكرها فقال: (بإثبات نفسه) أي: بإثبات صفة النفس له، كما يقول الشيخ وسنذكر الخلاف في هذا.

[ إلى أن قال بإثبات نفيه بالتفصيل من المجمل فقال: لموسى عليه السلام: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه:41]، وقال: وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:28]، ولصحة ذلك واستقرار ما جاء به المسيح عليه السلام فقال: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة:116]، وقال عز وجل: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:54].

وأكد عليه السلام صحة إثبات ذلك في سنته فقال: (يقول الله عز وجل: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي)، وقال: (كتب كتاباً بيده على نفسه: إن رحمتي غلبت غضبي)، وقال: (سبحان الله رضا نفسه)، وقال في محاجة آدم لموسى: (أنت الذي اصطفاك الله واصطنعك لنفسه)، فقد صرح بظاهر قوله: أنه أثبت لنفسه نفساً، وأثبت له الرسول ذلك.

فعلى من صدق الله ورسوله اعتقاد ما أخبر به عن نفسه، ويكون ذلك مبنياً على ظاهر قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] ].

إثبات هذه الصفة التي ذكرها الشيخ رحمه الله واستدل لها بالآيات السابقة، يجب أن يكون على حد قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ، فعلى القول أن النفس صفة لذاته سبحانه وتعالى، فإنها ليست كنفوس المخلوقين لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] فهي كسائر الصفات يثبتها من أثبتها من أهل السنة من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.

إلا أن صفة النفس اختلف أهل العلم من أهل السنة في إثباتها على قولين:

اختلاف أهل السنة في إثبات صفة النفس

القول الأول: أن النفس المذكورة في الآيات هي الذات نفسها، وليست صفة لها، فقوله سبحانه: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ أي: تعلـم ما عندي ولا أعلم ما عندك. وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي أي: لي، وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ أي: يحذركم الله ذاته، وهذا ليس من التأويل حتى يقال: كيف تؤولون؟ لكن يقال: إن لسان العرب يطلق النفس ويريد به الذات، فتقول: سقط الجدار نفسه، ومعلوم أن الجدار ليس له نفس والمقصود ذاته.

فهذا جار على لسان العرب، أن يطلق لفظ النفس ويراد به الذات نفسها، وهذا القول مال إليه شيخ الإسلام رحمه الله وقال: إنه قول جماهير أهل العلم.

والقول الثاني: أن النفس صفة للذات كالسمع والبصر وغيرها من الصفات.

وهذا القول قال به جمع من أهل السنة، من أبرزهم إمام الأئمة ابن خزيمة رحمه الله في كتابه: التوحيد، وكذا الشيخ ابن خفيف رحمه الله في كلامه.

فهذان قولان في المسألة، والراجح منهما القول الأول، وهو قول الجماهير كما قال شيخ الإسلام رحمه الله.

إثبات صفة النور لله سبحانه وتعالى وذكر الاختلاف فيها

قال رحمه الله: [ ثم قال: فعلى المؤمنين خاصتهم وعامتهم قبول كل ما ورد عنه عليه السلام، بنقل العدل عن العدل؛ حتى يتصل به صلى الله عليه وسلم.

وإن مما قضى الله علينا في كتابه، ووصف به نفسه، ووردت السنة بصحة ذلك، أن قال: اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [النور:35] ثم قال عقيب ذلك: نُورٌ عَلَى نُورٍ [النور:35]، وبذلك دعاه صلى الله عليه وسلم: (أنت نور السموات والأرض)، ثم ذكر حديث أبي موسى: (حجابه النور -أو النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)، وقال: سبحات وجهه جلاله ونوره، نقله عن الخليل وأبي عبيد .

وقال: قال عبد الله بن مسعود : نور السموات نور وجهه ].

النور صفة لله سبحانه وتعالى، وهو يذكر في كتابه وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم على نحوين: النور المضاف إلى الله سبحانه وتعالى نوعان في الكتاب والسنة:

نور يضاف إليه سبحانه وتعالى وهو صفته سبحانه وتعالى، ونور يضاف إليه سبحانه وتعالى وهو خلقه.

وهذا معنى قول من فسر قوله جل وعلا: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: منور، فجعل النور المضاف هنا إضافة خلق لا إضافة صفة، فيضاف النور إلى الله جل وعلا ويراد صفته، ويضاف إليه النور ويراد به خلقه.

إثبات الصفات الخبرية

[ ثم قال: ومما ورد به النص أنه حي، وذكر قوله تعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران:1] والحديث: (يا حي يا قيوم! برحمتك أستغيث).

قال: ومما تعرف الله إلى عباده أن وصف نفسه أن له وجهاً موصوفاً بالجلال والإكرام، فأثبت لنفسه وجهاً، وذكر الآيات. ثم ذكر حديث أبي موسى المتقدم، فقال في هذا الحديث: من أوصاف الله عز وجل لا ينام موافق لظاهر الكتاب: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255]، وأن له وجهاً موصوفاً بالأنوار، وأن له بصراً كما علمنا في كتابه أنه سميع بصير.

ثم ذكر الأحاديث في إثبات الوجه، وفي إثبات السمع والبصر، والآيات الدالة على ذلك. ثم قال: ثم إن الله تعالى تعرف إلى عباده المؤمنين أن قال: له يدان قد بسطهما بالرحمة، وذكر الأحاديث في ذلك، ثم ذكر شعر أمية بن أبي الصلت ، ثم ذكر حديث: (يلقى في النار وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع فيها رجله)، وهي رواية البخاري ، وفي رواية أخرى: (يضع عليها قدمه).

ثم ما رواه مسلم البطين عن ابن عباس : أن الكرسي موضع القدمين، وأن العرش لا يقدر قدره إلا الله، وذكر قول مسلم البطين نفسه، وقول السدي ، وقول وهب بن منبه ، وأبي مالك ، وبعضهم يقول: موضع قدميه، وبعضهم يقول: واضع رجليه عليه.

ثم قال: فهذه الروايات قد رويت عن هؤلاء من صدر هذه الأمة موافقة لقول النبي صلى الله عليه وسلم، متداولة في الأقوال، ومحفوظة في الصدر، ولا ينكر خلف عن السلف، ولا ينكر عليهم أحد من نظرائهم، نقلتها الخاصة والعامة مدونة في كتبهم، إلى أن حدث في آخر الأمة من قلل الله عددهم، ممن حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مجالستهم ومكالمتهم، وأمرنا أن لا نعود مرضاهم، ولا نشيع جنائزهم، فقصد هؤلاء إلى هذه الروايات فضربوها بالتشبيه، وعمدوا إلى الأخبار فعملوا في دفعها إلى أحكام المقاييس وكفر المتقدمين، وأنكروا على الصحابة والتابعين، وردوا على الأئمة الراشدين، فضلوا وأضلوا عن سواء السبيل ].

ما ذكره في الروايات السابقة غالبه في الصفات الخبرية، وهي الصفات التي أخبر الله سبحانه وتعالى بها عن نفسه، وهي كالوجه، والأصابع، واليدين، والأنامل، والقدم أو الرجل، وما أشبه ذلك من الصفات التي جاءت الأخبار بها، أثبتها أهل السنة والجماعة له سبحانه وتعالى على الوجه الذي يليق به، وليس في ذلك تنقص؛ لأن ما جاء في الكتاب والسنة أحق أن يتبع، ولا يلحقه نقص بوجه من الوجوه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11].

المهم أن الشيخ رحمه الله أخبر بأن سلف الأمة المتقدمين ومن تبعهم ممن سار على طريقهم من المتأخرين يثبتون هذه الصفات الخبرية، ويثبتون أيضاً الصفات التي فيها نفي النقص عنه جل وعلا، فالصفات جاءت على نحوين: صفات مثبتة، وصفات منفية.

الصفات المثبتة: جاءت مفصلة وجاءت مجملة، لكن الأكثر في صفات الإثبات التفصيل كقوله تعالى: الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ [الحشر:22] كل هذه صفات ثبوتية مفصلة، وغيرها كثير في كتاب الله سبحانه وتعالى.

وأما الصفات المنفية: فجاءت مجملة وجاءت مفصلة، والأكثر فيها الإجمال؛ لأن التفصيل في صفات النفي لا يدل على الكمال، وإنما أتى النفي إما لبيان كمال الصفة، أو لنفي ما نسب إليه من النقص، وإلا فالأصل في صفات النفي أن تأتي مجملة: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:4]، هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً [مريم:65] لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11]، أما قوله: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255] فهذا نفي مفصل لإثبات كمال الحياة والقيومية اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255] فهنا لبيان كمال الصفة المذكورة، وكنفي العجز عنه سبحانه وتعالى، فنفي العجز لبيان كمال قدرته جل وعلا.

والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.