شرح لمعة الاعتقاد [9]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين .

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [أراد ما العالم فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه، خلق الخلق وأفعالهم، وقدر أرزاقهم وآجالهم، يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته، قال الله تعالى: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23] ، وقال تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49] ، وقال تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الفرقان:2] ، وقال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [الحديد:22] ، وقال تعالى: فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً [الأنعام:125].

روى ابن عمر أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، فقال جبريل: صدقت) رواه مسلم .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (آمنت بالقدر خيره وشره وحلوه ومره)

ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي علمه الحسن بن علي يدعو به في قنوت الوتر: (وقني شر ما قضيت)]

يقول المؤلف رحمه الله في صلة كلامه عما يتعلق بالقدر وما يجب من الإيمان به: (أراد ما العالم فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه):

وقد تكلمنا على هذا في الدرس السابق، وذكرنا عند قوله: (أراد ما العالم فاعلوه) أن ما يكون في هذا الكون من خير وشر، ومن صلاح وفساد، ومن طاعة ومعصية؛ كله مراد لله جل وعلا، يدخل في إرادته لا يخرج شيء عما أراده الله جل وعلا، وهذه الإرادة هي الإرادة الكونية الخلقية القدرية، أي: التي يصدر عنها خلق الله ويصدر عنها كل شيء، فهي تنتظم كل ما يكون في الكون.

وقوله رحمه الله: (ولو عصمهم لما خالفوه)؛ فيه بيان أن ما يكون من المعصية إنما هو بتقدير الله جل وعلا، ولو شاء لمنع العاصي من أن يعصيه، ولذلك قال رحمه الله: (ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه)، وقد ذكر الله جل وعلا هذا في مواضع عديدة من كتابه، فذكر أنه لو شاء جل وعلا لهدى الناس جميعاً، كما قال الله تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا [السجدة:13]، وكما قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً [يونس:99] ، فكل هذه الأدلة تدل على أن الله جل وعلا لو شاء هداية أهل المعصية وأهل الكفر لهداهم، لكن هذه المشيئة ليست حجة لهم على ما هم عليه من كفر وعصيان كما سيأتي إن شاء الله تعالى في كلام المؤلف.

والذي نريد أن نقرره الآن: أنه ما من شيء في الكون إلا بمشيئة الله عز وجل، ومعلوم أن الإيمان بأن مشيئة الله أحاطت بكل شيء، مرتبة من مراتب الإيمان بالقدر، وقد ذكرنا المراتب في الدرس السابق، وقلنا: إن أولها: علم الله ثم كتابته ثم مشيئته ثم خلقه.

خلق أفعال العباد

قال رحمه الله: (خلق الله الخلق وأفعالهم): خلق الله الخلق، أي: الأعيان، وأفعالهم: أي: ما يصدر عنهم من أعمال وأقوال وسائر ما يعد من كسبهم سواء كان ظاهراً أو مستتراً، فكله خلق الله جل وعلا كما قال الله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96]، وسيأتي دليل ذلك في كلام المؤلف رحمه الله.

قال: (وقدر أرزاقهم وآجالهم):

أرزاقهم، أي: أرزاق الخلق، وآجالهم: أي: أعمارهم، وتقدير الأرزاق والآجال هو على مراحل ومراتب، فالتقدير الكلي السابق هو الذي جرى به القلم لما قال الله جل وعلا له: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة، كما في حديث عبادة وغيره، فهذا تقدير سابق، وجاء أيضاً في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أن الله قدر مقادير الأشياء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة).

وهناك أيضاً التقدير الذي يكون في الأرحام، وهو ما جاء به الخبر عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يبعث ملكاً فيكتب أجل الإنسان وعمله ورزقه، وشقي أو سعيد) جاء هذا في حديث ابن مسعود ، ومن حديث أبي هريرة ، ومن حديث حذيفة وغيرهم.

وقد اتفق سلف الأمة على أن الشقي من شقي في بطن أمه، أي: أن الشقاء يكتب قبل الخلق، وقد أشار حديث ابن مسعود الذي في صحيح مسلم إلى مراحل وأطوار الخلق، وما يكون من مجيء الملك لكتابة الأربع الكلمات التي تكون قبل خلق الإنسان.

قال رحمه الله: (يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته): وهذا يدل على أن ما يكون من هداية المهتدين ومن ضلال الضالين، إنما هو بمشيئة الله عز وجل، ومشيئته ليست مجردة عن حكمته بل كل ما شاءه فلحكمة، فهو الحكيم الخبير سبحانه وبحمده.

كل أفعال الله عز وجل فيها حكمة ولكن قد تخفى على البعض

قال المؤلف رحمه الله في الاستدلال لما تقدم: (قال الله تعالى: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]):

(لا يسأل) أي: الله جل وعلا لا يُسأل عما يفعل، يعني: عما يكون منه من خلق وتقدير، ( وهم يسألون ) أي: الخلق يسألون، وفي هذه الآية نفي السؤال عن الله عز وجل، فلماذا: هل لكونه يفعل لغير حكمة؟ الجواب: لا، وإنما (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) هذا لكمال حكمته وعلمه جل وعلا، وأنه يضع الأشياء في مواضعها، وأنه ليس في فعله خلل ولا عبث ولا فساد حتى يسأل عنه، بل فعله في غاية الحكمة، فله فيما يقضي ويقدر الحكمة البالغة، هذه الحكمة قد يدركها الإنسان بنظره وفكره وتدبره، وقد يحال بينه وبين إدراكها، لكن امتناع الحكمة من أن تدرك ومن أن يعقلها الإنسان لا يدل على أنه ليس لهذا الفعل حكمة أو ليس لهذا القضاء أو هذا القدر حكمة، بل لابد له من حكمة، لكن هذه الحكمة قد تخفى ولا تدرك.

فقوله تعالى: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23] هذا لكمال حكمته جل وعلا وعلمه وأن ما يفعله ليس فيه خلل ولا عبث، وأنه جل وعلا يضع الأشياء في مواضعها، خلافاً لمن استدل بهذه الآية على نفي التعليل، فقال: إن الله يفعل لا لحكمة.

وهذا لجهلهم بكلام الله عز وجل وصفاته وما يجب له، لأن المؤمن يدرك أن الله جل وعلا حكيم كما وصف نفسه بذلك، وحكمته لا تقتصر على شيء من فعله جل وعلا أو من قضائه وقدره، بل هي منتظمة جميع أفعاله، وجميع أقضيته، وجميع ما يقدره الله جل وعلا.

وهذه الآية بدأ بها المؤلف في بداية الأدلة الدالة على ما تقدم من الكلام لبيان أنه يجب على الإنسان إذا عجز عن إدراك الحكمة في قضاء الله ألا يعارض القدر، بل يجب أن يسلم للقدر، فالقدر سر الله في خلقه، لم يُطْلِع عليه ملكاً مقرباً، ولا نبياً مرسلاً، فإذا عجز الإنسان عن إدراك شيء مما يقضيه الله ويقدره، فالواجب عليه أن يسلم وألا يتهم الله جل وعلا بظلم أو بشيء من ذلك، بل يجب عليه أن يعتقد كمال الرب وأن يتهم نفسه، وأنه جل وعلا لعلمه وحكمته لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ولذلك لما جاء ابن الديلمي إلى أبي بن كعب وقال له: (إن في نفسي شيئاً من القدر) قال له مبتدئاً الجواب: (لو أن الله عذب أهل سماواتته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته أوسع لهم وأفضل لهم).

فالواجب على المؤمن فيما يتعلق بالقدر إذا وقع في قلبه شيء أن يطلب حله من كلام الله وكلام رسوله ومن سؤال أهل العلم، كما قال الله جل وعلا: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43] فإن لم يجد جواباً فالواجب عليه أن يرد هذا الاشتباه إلى ما يعلمه من عظيم صفات ربه، وأنه الحكيم العليم الخبير الذي لا يظلم الناس شيئاً، وأن يعلم أن قدر الله من جملة ما يدخل في قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، فإنه ليس كمثله شيء في شأن من شئونه، فإذا اعتقد العبد أنه ليس كمثل ربه شيء، فإنه ينحل ما قد يورثه الشيطان أو ما يوسوسه الشيطان من انتفاء الحكمة أو وجود الظلم أو ما أشبه ذلك في شيء من أقضية الله وقدره، وليكن على باله قول الله تعالى: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23].

كل شيء بقدر

ثم قال المؤلف رحمه الله في الاستدلال لما تقدم من أن الله خالق كل شيء وأنه ما من شيء إلا بقضاء وقدر: (قال الله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]):

(إنا) الضمير يعود إلى الرب جل وعلا، وتكلم الله عز وجل بضمير الجمع، وهو يريد التعظيم لنفسه جل وعلا، (كل شيء): يشمل كل شيء في هذا الكون، فكل شيء في هذا العالم قد خلقه الله عز وجل بقدر، (بقدر): الباء هنا سببية، ويمكن أن تكون للمصاحبة؛ يعني: أنه مع تقدير، وليس خالياً عن التقدير فهو متلبس بتقدير الله عز وجل، وقدر الله محيط به، وقد روى الإمام مسلم عن طاوس قال: (أدركت أناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: كل شيء بقدر)، وهذه حكاية لإجماع الصحابة على هذا.

ثم قال رحمه الله: (وسمعت عبد الله بن عمر يقول: كل شيء بقدر حتى العجز والكيس) يعني: حتى الضعف وعدم إدراك ما تحب، والكيس، أي: الفطنة والذكاء وإدراك المطلوب، فكل شيء بقضاء وقدر، كما قال تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49] وهذا إجماع أهل الإسلام.

فقد دلت الأدلة في الكتاب والسنة ودل أيضاً إجماع سلف الأمة على أنه ما من شيء إلا بقضاء وقدر، وعلى هذا مضى أهل العلم وأئمة الدين، ولم يقع خلاف في ذلك إلا عند أن تكلم معبد الجهني فيما يتعلق بالقدر وأن الأمر أنف، وقد رد الصحابة رضي الله عنهم عليه كـابن عمر وواثلة بن الأسقع وغيرهما، فردوا على هذه الشبهة، وبينوا خطرها، وأنه لا يبلغ الإنسان الإيمان إلا بأن يسلم لله عز وجل ويؤمن بالقدر.

قال رحمه الله في ذكر الأدلة: (وقال تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الفرقان:2]) أي: خلق كل شيء مصاحباً للقدر، فليس هناك شيء بلا تقدير،فقد خلق كل شيء وقدر كل شيء تقديراً، وأكد القدر بذكر المصدر تأكيداً له وتقريراً لمعناه، وأنه لا شيء إلا بقدر، وأما الخلق فإنه لم يؤكد فقال: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ [الفرقان:2]، أما القدر فذكره مؤكداً لتقريره ولنفي شبه المعارضين الذين يقولون: إن الله جل وعلا لم يقدر بعض أفعال الخلق، وليس كل شيء بقضائه وقدره.

ثم قال رحمه الله: (وقال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [الحديد:22]).

هذه الآية من الأدلة الدالة على ما تقدم من أنه ما من شيء في الكون من حركة وسكون يقع من الأنفس إلا بقضاء الله وقدره، يقول الله تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ)، وهذا يشمل كل ما يصيب الإنسان وينزل به مما يفرح به ويسر، ومما يسوءه ويكدره، فكل شيء بقضاء وقدر، فقوله تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ [الحديد:22] أي: أنه مكتوب، وهذا يدل على شيئين: على علم الله بهذا المصاب وبهذا النازل، وعلى أنه سبحانه وتعالى قد كتبه، وهذه الآية تدل على العلم وتدل على الكتابة.

الخلاف في عود الضمير في قوله تعالى: (نبرأها)

والآية تضمنت إثبات جميع المراتب: الكتابة، والعلم، والمشيئة، والخلق:

فقوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [الحديد:22] الضمير في قوله (نبرأها) للعلماء فيه أقوال: منهم من يقول إنه يعود إلى المصيبة، لقوله تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [الحديد:22] أي: من قبل أن نبرأ المصيبة، أي: من قبل أن نوجدها، وهذا يدل على الخلق والمشيئة.

وقيل: يعود الضمير على الأرض، فقوله تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [الحديد:22] أي: من قبل أن نبرأ الأرض، وهذا يدل عليه حديث عبد الله بن عمرو: (إن الله سبحانه وتعالى كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة).

القول الثالث في ضمير (نبرأها): إنه يعود على الأنفس، أي: من قبل أن نبرأ الأنفس، أي: نخلقها، وهذا مطابق لحديث عبد الله بن عمرو ولحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما، وغيرهما من الصحابة الذين أخبروا بالتقدير قبل الخلق، وأن الملك يؤمر بأربع كلمات، ثم ينفخ فيه الروح، وهذه الأربع الكلمات هي قبل الخلق؛ لأن نفخ الروح جاء بعدها، فأي هذه الأقوال الثلاثة أرجح؟

من حيث النظر أرجحها الأخير؛ لأن الضمير يعود إلى أقرب مذكور، وأقرب مذكور هو الأنفس قال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [الحديد:22] فأقرب مذكور هو الأنفس، وقال ابن القيم رحمه الله: إنه يصلح أن يكون الضمير عائداً إلى كل ما تقدم، ثم قال: وهو أحسن، فيكون قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا أي: من قبل أن نخلق المصيبة، ومن قبل أن نخلق الأرض، ومن قبل أن نخلق الأنفس، وكل هذه المعاني صحيحة دل عليها الكتاب والسنة، فتحمل الآية على جميع هذه المعاني.

الفرق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية

قال رحمه الله: (وقال تعالى: فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً [الأنعام:125]) هذه الآية فيها إثبات الإرادة لله جل وعلا، وهي هنا الإرادة الكونية الخلقية؛ لأن الله سبحانه وتعالى ذكر فيها إرادة الهداية وإرادة الضلال، وما الذي ينتظم هذين النوعين من الإرادة؟ الإرادة الكونية هي التي تنتظمهما؛ لأن هذه الإرادة يصدر عنها كل شيء يحدث في الكون من صلاح وفساد، وهداية وضلال، وخير وشر، فهذا النوع من الإرادة هو الذي يسمى بـ(الإرادة الكونية) وهي: بمعنى المشيئة.

ونظير هذه الآية قوله تعالى: مَنْ يَشَأْ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام:39]، فإنه مطابق لمعنى هذه الآية، حيث ذكر الله مشيئته للهداية ومشيئته للإضلال، وهنا ذكر إرادته للهداية وإرادته للإضلال، فالإرادة هنا هي المشيئة هناك، فيكون المعنى: ما من شيء في الكون إلا بإرادة الله عز وجل، وهذه الإرادة هي الكونية.

الإرادة الثانية هي: الإرادة الشرعية، مثالها قوله تعالى: إنما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ [الأحزاب:33] وقوله تعالى: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ [النساء:27]. فهذه الإرادة المذكورة في هاتين الآيتين هي الإرادة الشرعية.

وما الفرق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية؛ لأن هذه المسألة هي التي يسلم الإنسان بمعرفتها من الضلال فيما يتعلق بباب القدر؟

الإرادة الشرعية تتعلق بالمحبة والرضا، فلا يريد الله إلا ما يحبه ويرضاه، وأما الإرادة الكونية فلا تتعلق بمحبة الله ورضاه بل هي متعلقة بكل واقع في الكون من خير أو شر، ومن صلاح أو فساد وغير ذلك، هذا هو الفرق.

وهناك فرق آخر بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية، وهو: أن الإرادة الشرعية غير لازمة الوقوع، فيحتمل أن لا تقع، فالله عز وجل يريد من الناس أن يعبدوه كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فالعبادة مرادة لله من جميع الناس، ولكن هل حصلت منهم جميعاً؟ لم تحصل كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [التغابن:2]، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ [هود:118]

أي: فمنهم مؤمن ومنهم كافر، فالإرادة الشرعية غير لازمة الوقوع، فقد تقع وقد لا تقع.

فإذا قيل: من أي أنواع الإرادة أمر الله عز وجل الناس بالصلاة؟

فالجواب: من الإرادة الشرعية؛ وكيف عرفنا أنها من الإرادة الشرعية؟ الجواب: لأنه مما يحبه الله ويرضاه؛ ولأنه قد لا يقع، فكثير من الناس لا يصلي كأهل الكفر وبعض من هو مسلم يترك الصلوات أو بعضها.

والمقصود: أن الإرادة الشرعية تتميز بميزتين:

أولاً: أنها محبوبة لله عز وجل مرضية.

ثانياً: أنها غير لازمة الوقوع.

أما الإرادة الكونية فهي لا تتعلق بالمحبة، وإنما تتعلق بكل شيء في الكون، هذا فرق.

والفرق الثاني: أنها لازمة الوقوع، فلابد أن تقع، ولا يمكن أن تتخلف.

قال رحمه الله: (خلق الله الخلق وأفعالهم): خلق الله الخلق، أي: الأعيان، وأفعالهم: أي: ما يصدر عنهم من أعمال وأقوال وسائر ما يعد من كسبهم سواء كان ظاهراً أو مستتراً، فكله خلق الله جل وعلا كما قال الله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96]، وسيأتي دليل ذلك في كلام المؤلف رحمه الله.

قال: (وقدر أرزاقهم وآجالهم):

أرزاقهم، أي: أرزاق الخلق، وآجالهم: أي: أعمارهم، وتقدير الأرزاق والآجال هو على مراحل ومراتب، فالتقدير الكلي السابق هو الذي جرى به القلم لما قال الله جل وعلا له: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة، كما في حديث عبادة وغيره، فهذا تقدير سابق، وجاء أيضاً في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أن الله قدر مقادير الأشياء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة).

وهناك أيضاً التقدير الذي يكون في الأرحام، وهو ما جاء به الخبر عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يبعث ملكاً فيكتب أجل الإنسان وعمله ورزقه، وشقي أو سعيد) جاء هذا في حديث ابن مسعود ، ومن حديث أبي هريرة ، ومن حديث حذيفة وغيرهم.

وقد اتفق سلف الأمة على أن الشقي من شقي في بطن أمه، أي: أن الشقاء يكتب قبل الخلق، وقد أشار حديث ابن مسعود الذي في صحيح مسلم إلى مراحل وأطوار الخلق، وما يكون من مجيء الملك لكتابة الأربع الكلمات التي تكون قبل خلق الإنسان.

قال رحمه الله: (يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته): وهذا يدل على أن ما يكون من هداية المهتدين ومن ضلال الضالين، إنما هو بمشيئة الله عز وجل، ومشيئته ليست مجردة عن حكمته بل كل ما شاءه فلحكمة، فهو الحكيم الخبير سبحانه وبحمده.