شرح لمعة الاعتقاد [7]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد الله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيقول الإمام موفق الدين ابن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى:

[ فصل : والمؤمنون يرون ربهم في الآخرة بأبصارهم، ويزورونه ويكلمهم ويكلمونه، قال الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، وقال تعالى: كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]، فلما حجب أولئك في حال السخط دل على أن المؤمنين يرونه في حال الرضا وإلا لم يكن بينهما فرق، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته) حديث صحيح متفق عليه، وهذا تشبيه للرؤية بالرؤية لا للمرئي بالمرئي، فإن الله تعالى لا شبيه له ولا نظير ].

مذاهب الفرق في إثبات الرؤية

هذا الفصل عقده المؤلف رحمه الله تعالى لبيان عقيدة أهل السنة والجماعة في مسألة الرؤية، فإن أهل السنة والجماعة يؤمنون بما دل عليه كلام النبي صلى الله عليه وسلم صراحة من أن المؤمنين يرون ربهم، وإثبات الرؤية جاء في كتاب الله عز وجل وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، واتفق عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون ومن تبعهم من أئمة الدين.

فالرؤية من أعظم ما ينعم به أهل الجنة نسأل الله أن نكون منهم، والأدلة متواترة مستفيضة في إثبات هذا الفضل.

وقد خالف في إثبات الرؤية المعتزلة والرافضة والجهمية، وكذلك خالف في هذا الأشاعرة، فهم يقولون: بأن المؤمنين يرون ربهم، لكنهم يخالفون أهل السنة والجماعة في هذا الإثبات، فيقولون: يرونه من غير معاينة ولا مواجهة، وهذا القول انفردوا به دون سائر الناس، وهو من عجائب الأقوال ؛ لأن إثبات الرؤية في غير جهة ومن غير معاينة أمر لا يعقل، إذ لابد للرؤية من أن يكون المرئي في جهة وأن يعاين، وإلا فلا تقع رؤية، ولذلك قال محققوهم -أي محققو الأشاعرة-: إن قولهم في الحقيقة قول المعتزلة الذين ينفون الرؤية، أي: ينفون رؤية المؤمنين لله عز وجل في الآخرة.

فهذه الصفة يثبتها أهل السنة والجماعة كما دل عليها الكتاب والسنة وإجماع السلف.

يقول المؤلف رحمه الله: (والمؤمنون يرون ربهم)، المؤمنون: هم كل من آمن بالله وباليوم الآخر وأتى ببقية أصول الإيمان، (يرون ربهم بأبصارهم)، فأثبت الرؤية وأثبت آلتها، فالباء بقوله: (بأبصارهم) للاستعانة، أي: لبيان الآلة التي تحصل بها الرؤية، أي يرونه بأعينهم، وإنما نص على الأبصار نفياً لقول من يقول: إن الرؤية ليست رؤية بصر وإنما هي رؤية كشف، فيكشف لهم من المعارف والعلوم ما ليس لغيرهم، يكشف لهم يوم القيامة من معرفة الرب جل وعلا مالم يكن يعرفونه، وأيضاً للرد على الأشاعرة بالتنصيص على الأبصار لأنهم يقولون: إنهم يرونه من غير معاينة ولا في جهة، فإنه لا يدرك ولا يعقل رؤية بالبصر إلا ما كان في جهة.

والمعتزلة أولوا هذا الذي جاءت به النصوص إلى أنه رؤية كشف أو رؤية ثواب الله عز وجل، فالذين لا يثبتون الرؤية يؤولونها برؤية الثواب أو برؤية كشف يحصل لأهل الإيمان.

حصر الرؤية في الآخرة على المؤمنين

وقوله رحمه الله: (والمؤمنون يرون ربهم بأبصارهم) يفيد حصر الرؤية في أهل الإيمان، فخرج بذلك أهل الكفر وأهل النفاق، أما أهل الكفر فلأنهم ليسوا مؤمنين لا في الظاهر ولا في الباطن، وأما أهل النفاق فلأنهم لم يحققوا الإيمان الذي به يحصل الفضل والسبق، وإن كانوا قد أتوا بالإسلام في الظاهر، لكنه لم ينفذ إلى قلوبهم فلم ينتفعوا به.

أما دليل حصر الرؤية بالمؤمنين فالأدلة في ذلك كثيرة:

منها: قول الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23] كما ذكر المؤلف رحمه الله، فالوجوه التي بشرها الله عز وجل بالنضارة يوم القيامة هي وجوه المؤمنين ولا تكون للكفار، بل وجوه الكفار عليها غبرة ترهقها قترة.

فالوجوه الناضرة هي وجوه أهل الإيمان كما قال الله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [آل عمران:106]، فالمسودة هي وجوه أهل الكفر، وكذلك قول الله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26] فقد جاء تفسير الزيادة: بأنها النظر إلى الله عز وجل كما في الصحيح للإمام مسلم من حديث صهيب وفيه: (إذا دخل أهل الجنة الجنة ناداهم الله أو ناداهم مناد: إن لكم موعداً عند الله عز وجل يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ألم يبيض وجوهنا؟ ألم يثقل موازيننا؟ ألم يدخلنا الجنة ويعيذنا من النار؟ فيقول: بلى، فيكشف الحجاب، فينظرون إلى الله عز وجل) فما يكون من نعيم الجنة شيء عندهم ألذ ولا أطيب ولا أكمل ولا أرضى من النظر إلى الله جل وعلا!!

هذا الفصل عقده المؤلف رحمه الله تعالى لبيان عقيدة أهل السنة والجماعة في مسألة الرؤية، فإن أهل السنة والجماعة يؤمنون بما دل عليه كلام النبي صلى الله عليه وسلم صراحة من أن المؤمنين يرون ربهم، وإثبات الرؤية جاء في كتاب الله عز وجل وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، واتفق عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون ومن تبعهم من أئمة الدين.

فالرؤية من أعظم ما ينعم به أهل الجنة نسأل الله أن نكون منهم، والأدلة متواترة مستفيضة في إثبات هذا الفضل.

وقد خالف في إثبات الرؤية المعتزلة والرافضة والجهمية، وكذلك خالف في هذا الأشاعرة، فهم يقولون: بأن المؤمنين يرون ربهم، لكنهم يخالفون أهل السنة والجماعة في هذا الإثبات، فيقولون: يرونه من غير معاينة ولا مواجهة، وهذا القول انفردوا به دون سائر الناس، وهو من عجائب الأقوال ؛ لأن إثبات الرؤية في غير جهة ومن غير معاينة أمر لا يعقل، إذ لابد للرؤية من أن يكون المرئي في جهة وأن يعاين، وإلا فلا تقع رؤية، ولذلك قال محققوهم -أي محققو الأشاعرة-: إن قولهم في الحقيقة قول المعتزلة الذين ينفون الرؤية، أي: ينفون رؤية المؤمنين لله عز وجل في الآخرة.

فهذه الصفة يثبتها أهل السنة والجماعة كما دل عليها الكتاب والسنة وإجماع السلف.

يقول المؤلف رحمه الله: (والمؤمنون يرون ربهم)، المؤمنون: هم كل من آمن بالله وباليوم الآخر وأتى ببقية أصول الإيمان، (يرون ربهم بأبصارهم)، فأثبت الرؤية وأثبت آلتها، فالباء بقوله: (بأبصارهم) للاستعانة، أي: لبيان الآلة التي تحصل بها الرؤية، أي يرونه بأعينهم، وإنما نص على الأبصار نفياً لقول من يقول: إن الرؤية ليست رؤية بصر وإنما هي رؤية كشف، فيكشف لهم من المعارف والعلوم ما ليس لغيرهم، يكشف لهم يوم القيامة من معرفة الرب جل وعلا مالم يكن يعرفونه، وأيضاً للرد على الأشاعرة بالتنصيص على الأبصار لأنهم يقولون: إنهم يرونه من غير معاينة ولا في جهة، فإنه لا يدرك ولا يعقل رؤية بالبصر إلا ما كان في جهة.

والمعتزلة أولوا هذا الذي جاءت به النصوص إلى أنه رؤية كشف أو رؤية ثواب الله عز وجل، فالذين لا يثبتون الرؤية يؤولونها برؤية الثواب أو برؤية كشف يحصل لأهل الإيمان.

وقوله رحمه الله: (والمؤمنون يرون ربهم بأبصارهم) يفيد حصر الرؤية في أهل الإيمان، فخرج بذلك أهل الكفر وأهل النفاق، أما أهل الكفر فلأنهم ليسوا مؤمنين لا في الظاهر ولا في الباطن، وأما أهل النفاق فلأنهم لم يحققوا الإيمان الذي به يحصل الفضل والسبق، وإن كانوا قد أتوا بالإسلام في الظاهر، لكنه لم ينفذ إلى قلوبهم فلم ينتفعوا به.

أما دليل حصر الرؤية بالمؤمنين فالأدلة في ذلك كثيرة:

منها: قول الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23] كما ذكر المؤلف رحمه الله، فالوجوه التي بشرها الله عز وجل بالنضارة يوم القيامة هي وجوه المؤمنين ولا تكون للكفار، بل وجوه الكفار عليها غبرة ترهقها قترة.

فالوجوه الناضرة هي وجوه أهل الإيمان كما قال الله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [آل عمران:106]، فالمسودة هي وجوه أهل الكفر، وكذلك قول الله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26] فقد جاء تفسير الزيادة: بأنها النظر إلى الله عز وجل كما في الصحيح للإمام مسلم من حديث صهيب وفيه: (إذا دخل أهل الجنة الجنة ناداهم الله أو ناداهم مناد: إن لكم موعداً عند الله عز وجل يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ألم يبيض وجوهنا؟ ألم يثقل موازيننا؟ ألم يدخلنا الجنة ويعيذنا من النار؟ فيقول: بلى، فيكشف الحجاب، فينظرون إلى الله عز وجل) فما يكون من نعيم الجنة شيء عندهم ألذ ولا أطيب ولا أكمل ولا أرضى من النظر إلى الله جل وعلا!!

الجواب على المستدلين لنفي الرؤية بقوله تعالى: (لا تدركه الأبصار)

فالأدلة متواترة على إثبات النظر لأهل الإيمان، ولا يلزم منه أن يدرك الناظر ربه جل وعلا، فإن النظر لا يلزم منه الإحاطة والإدراك، ولذلك قال الله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام:103]، وقد استدل نفاة الرؤية بهذه الآية على ما ذهبوا إليه من أنه لا يرى جل وعلا، يقول الله جل وعلا: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103]، فإذا كانت لا تدركه الأبصار فإنه لا يرى.

نقول في الجواب على هذا: إن نفي الإدراك أمر زائد على نفي النظر، ولم يأت دليل ينفي النظر، وأما نفي الإدراك فقد تنظر إلى الشيء لكن لا تدركه، فالإنسان ينظر إلى السماء لكنه لا يحيط بها ولا يدركها، وينظر إلى القمر ولكنه لا يدركه ولا يحيط به، وينظر إلى الشمس ولكنه لا يدركه ولا يحيط به، بل ينظر إلى المخلوق الصغير الذي يمكن أن يحاط بوصفه ولكن قد لا يدركه ولا يحيط به، فليس من لازم الرؤية الإدراك، والمنفي في الآية هل هو مجرد النظر أو أصل النظر أم أنه الإدراك؟ المنفي هو الإدراك، وفرق بين نفي الإدارك ونفي الرؤية.

الجواب على المستدلين لنفي الرؤية بقوله تعالى: (لن تراني)

واستدلوا على نفي الرؤية بقول الله تعالى لموسى: لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143] ولكن هذا الاستدلال في غير محله؛ لأن نفي الرؤية في قول الله تعالى: لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143] هو في تلك الساعة، ولو كان يستحيل أن يرى لقال لموسى: إنني غير مرئي، أو لا تمكن رؤيتي بالكلية، أما لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143] فهو نفي للطلب الذي طلبه في تلك الساعة، و(لن) لا تفيد تأبيد النفي كما زعمه بعض المعتزلة حيث قالوا: (لن) تفيد التأبيد، وقد رد عليهم أهل اللغة وأئمة اللسان وقالوا: إن (لن) لا تفيد التأبيد، فسقط استدلالهم.

وبقية الأدلة سالمة محفوظة من أن يطرأ عليها ما يناقضها أو يردها: أَفَلَا يَتَدَبَرُنَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء:82] .

خلاف أهل السنة والجماعة في إثبات رؤية الكفار لربهم يوم القيامة

هل يرى الكفار الله جل وعلا يوم القيامة؟

ذكرنا قول المؤلف رحمه الله: (والمؤمنون يرون ربهم بأبصارهم)، في حصر الرؤية للمؤمنين، فإن أهل الكفر لا يوصفون بالإيمان وأهل النفاق لا يوصفون بالإيمان وإن كانوا مسلمين في الظاهر، وهذا في الجنة لا إشكال فيه، فإن الجنة لا يدخلها إلا مؤمن، فما ذكر من نعيم أهل الجنة من التنعم بالنظر إلى الله عز وجل لا يكون إلا لأهل الإيمان؛ لأنه لا يدخلها إلا مؤمن.

أما في عرصات القيامة فاختلف العلماء رحمهم الله من أهل السنة في رؤية الكفار لله عز وجل على ثلاثة أقوال:

القول الأول: أنه لا يراه في أرض المحشر يوم القيامة إلا أهل الإيمان دون غيرهم؛ لقوله تعالى: كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]، فأخبر الله عز وجل عن حجب الكفار عن الرؤية، فقوله: (يومئذ) يعني: يوم القيامة، وهذا عليه أكثر أهل العلم من المتأخرين.

القول الثاني: أنه يراه المؤمنون من هذه الأمة ويراه أيضاً أهل النفاق، أي: أهل الكفر الباطني، أما من أظهر الكفر فإنه لا يراه، واستدلوا لهذا بحديث أبي سعيد وأبي هريرة في الصحيحين وفيه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا جمع الله الناس نادى مناد: ليتبع من كان يعبد شيئاً ما كان يعبد، فيتبع أهل الشمس الشمس، ويتبع عباد القمر القمر، ويتبع عباد الطواغيت الطواغيت، فلا يبقى إلا هذه الأمة وفيها منافقوها، فيأتيهم الله عز وجل في صورة غير التي يعرفون، ثم يأتيهم بالصورة التي يعرفونها؛ فيسجد أهل الإيمان وفيهم أهل النفاق، فيريدون أن يسجدوا فلا يتمكنون من السجود) فقالوا: إن هذا الحديث يدل على أنهم يرونه.

القول الثالث: أنه يراه أهل المحشر مسلمهم وكافرهم، ولكن هذه الرؤية يختلف فيها الناس، كما أن رؤية الله جل وعلا في الجنة يختلف فيها أهل الجنة تفاضلاً ومنزلة، فكذلك الرؤية في المحشر، فإنهم يتفاوتون فيها تفاوتاً بيناً كبيراً، فأهل المحشر ينقسمون إلى قسمين في الرؤية، فأهل الإيمان يرونه رؤية تعريف، وهذه دون ما يكون لهم في الجنة، أي: أنها أنزل مما يكون لهم في الجنة، ولذلك إذا رأوه جل وعلا في الجنة لم يكن شيء أنعم ولا أطيب من النظر إليه عز وجل، فدل ذلك على أنها خلاف ما كان في أرض المحشر.

ثم إن أهل الجنة إذا قال لهم المنادي: إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، يقولون: ألم يبيض وجوهنا؟ ألم يدخلنا الجنة؟ ألم ينجنا من النار؟ ولم يذكروا تلك الرؤية التي جرت في المحشر، فالرؤيا التي تكون لأهل الإيمان في المحشر دون ما يكون لهم في الجنة، فهي رؤية تعريف.

أما رؤية الكفار على هذا القول بأنهم يرونه في المحشر، فإنها رؤية تعذيب وتحسير، وليست رؤية تنعيم وتكليم، واستدلوا لهذا بقوله تعالى: كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]، بنفس الآية التي استدل بها القائلون بعدم الرؤية، كيف ذلك؟ قالوا: إن الحجب لا يكون إلا بعد اطلاع، وهذه الأقوال كلها مما تكلم به أهل السنة والجماعة، فالخلاف في هذا خلاف محتمل، لا يخرج من اختار قولاً من هذه الأقوال عن دائرة أهل السنة باختياره.

ترك التخصيص إذا أوهم معنى قبيحاً

يبقى تنبيه مهم: أنه على القول بالثالث، وهو أن أهل المحشر جميعهم يرون الله مسلمهم وكافرهم، لا يسوغ أن يطلق بأن الكفار يرون الله، فلا يسوغ أن يأتي أحد ويقول: الكفار يرون الله؛ لأن إطلاق الرؤية يقتضي التكريم والتنعيم، ورؤية الكفار لله عز وجل ليست رؤية إكرام وتنعيم، فلا يسوغ هذا الإطلاق؛ لأن الإطلاق يوهم الإنعام والتكريم، وأفضل النعيم هو نعيم أهل الجنة، فلا يسوغ إشراك الكفار فيها، أو تسويتهم بأهل الإيمان.

الوجه الثاني الذي يمتنع به الإطلاق: أنه ما ورد في الشريعة من الأحكام العامة كقول: الله خالق كل شيء، إذا كان يلزم من تخصيصه نقص فإنه لا يسوغ التخصيص، وكذلك إذا كان يلزم من التخصيص معنى قبيح فإنه لا يسوغ التخصيص، مثاله كما قلنا: الله خالق كل شيء، هل يسوغ للإنسان أن يقول: الله خالق الكلاب، أو يدعو فيقول: يا خالق الكلاب! ارزقني؟ لا يسوغ، لماذا لا يسوغ مع أن الله خالق كل شيء ومن ذلك الكلاب؟ لأن مثل هذا يوهم معنى قبيحاً، والحكم العام إذا كان تخصيصه يقتضي معنى قبيحاً فإنه لا يسوغ أن يأتي به الإنسان.

مثله أيضاً: الإرادة، فما من شيء في الكون إلا أراده الله تعالى، ولكن لا يسوغ للإنسان أن يقول: يا مريد الزنا! ارزقني العفاف؛ لأن الإرادة وردت عامة في كل شيء، فتخصيصها إذا كان يترتب عليه إيهام معنى قبيح فإنه لا يجوز التخصيص.

مثاله الرؤية، جاء الخبر بأنه ما من أحد إلا سيرى الله: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته)، وهذا من الأدلة التي استدل بها القائلون بأن الكافرين يرون الله في المحشر، وفي رواية: (ما منكم أحد إلا وسيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان) قالوا: إن هذا يلزم منه أنهم يرونه في المحشر حتى الكفار، فإذا ورد النص المطلق فلا يسوغ أن نخصص ونقول: يراه الكفار يوم القيامة، وذلك للمعنى الأول الذي ذكرناه؛ ولأن التخصيص يوهم معنى قبيحاً، فلأجل هذين المعنيين منع أهل العلم من إطلاق إضافة الرؤية للكفار، بل لابد من التخصيص، يقال: يرونه في المحشر ثم يعذبون بالاحتجاب أو ما أشبه ذلك من التقييدات.