إغاثة المنكوبين
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
الحمد لله ذي الفضل والإنعام على الجميع، يخـلق ويـرزق ويسـتر ويحمـد الصنيـع، يُطعـم ويسـقي، ويجـبر ويَشـفي الـوجيـع، يُعـز ويغـني وينصـر ويـرفـع الـوضيـع، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة حق وإنصاف واعتراف بفضله سبحانه وتعالى، وأَشهدُ أنَّ مُحمَّدًا عبدُ اللهِ ورَسولُهُ أَفضَلُ الْبَشَرِ على الإطلاقِ، صلَّى الله وسلَّم وبارَكَ عليه وعلى آلِهِ وأَصحَابِه ومن تبعهم بإحسانٍ؛ أما بعد:القرض في يد الله:
• فالدنيا لها من الله تصريف وأحوال لا تستقر على حال، حتى لا يركنوا إليها، وينسوا ما عند الله من خير يوم المعاد، فاليوم أنت في نعيم وغيرك يتجرَّع غُصص المآسي والنكبات، والإسلام عندما جاء وحَّد صف المسلمين، وجعل كِيانهم كالجسد الواحد، وطلب الباري عز وجل لضعفتهم أطيب العطايا قرضًا يربيها الرحمن كنزًا لك عندما تلقاه، فعن أنس بن مالك قال: ((لما نزلت هذه الآيةُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِما تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] أو {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: 245]، قال أبو طلحةَ وكان له حائطٌ: يا رسولَ اللهِ، حائطي للهِ، ولو استطعتُ أن أُسرَّه لم أُعلِنْه، فقال: اجعلْه في قرابتِك، أو أقرَبيك))[1].
• ليوثق عظيم صلة الفقراء بالأغنياء، فأنت لا تضع العطاء في يد الفقير، وإنما تضعه في يد الله تجارة رابحة رابحة.
النكبة والتحرك العملي:
• وأهل الإسلام يعلمون أن دينهم إيمان صادق وعمل صالح، فلا يكفي حبك للخير وأنت قادرٌ على بذله، ولا رغبة العطاء مع قبض اليد بالحرمان، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم يصوِّر العطاء كتحرك عملي لحل معضلة قائمة نُكِبَ فيها أناسٌ من أهل الإسلام، فعن جرير بن عبدالله قال: كُنَّا عِنْدَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ في صَدْرِ النَّهَارِ، قالَ: فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ، مُجْتَابِي النِّمَارِ أَوِ العَبَاءِ، مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ، عَامَّتُهُمْ مِن مُضَرَ، بَلْ كُلُّهُمْ مِن مُضَرَ، فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لِما رَأَى بهِمْ مِنَ الفَاقَةِ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ، فأمَرَ بلَالًا فأذَّنَ وَأَقَامَ، فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ فَقالَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} إلى آخِرِ الآيَةِ {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [ النساء : 1]، وَالآيَةَ الَّتي في الحَشْرِ: {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحشر: 18]، تَ «صَدَّقَ رَجُلٌ مِن دِينَارِهِ، مِن دِرْهَمِهِ، مِن ثَوْبِهِ، مِن صَاعِ بُرِّهِ، مِن صَاعِ تَمْرِهِ»، حتَّى قالَ: ولو بشِقِّ تَمْرَةٍ، قالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ بصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا، بَلْ قدْ عَجَزَتْ، قالَ: ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ، حتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِن طَعَامٍ وَثِيَابٍ، حتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يَتَهَلَّلُ كَأنَّهُ مُذْهَبَةٌ..
))[2].
• ففتح أبواب التبرعات لمنكوبي المسلمين هديًا نبويًّا وإرشادًا شرعيًّا، من أجل تحقيق روح العطاء في أعلى مستوياته.
فضل ما عندك:
• ودينُنا الحنيف دين عدل وإنصاف، فلا يطلب منك أن تعطي وأنت في حاجة، بل يحثك على إنفاق ما زاد عن حاجتك، وفضل عن احتياجك، فعن أَبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضيَ اللَّه عنه قَالَ: ((بَيْنَمَا نَحْنُ في سَفَرٍ إِذ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلةٍ لهُ، فَجعَلَ يَصْرِفُ بَصَرهُ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَقَالَ رسول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: «مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهرٍ، فَلْيعُدْ بِهِ عَلَى منْ لا ظَهر لَهُ، ومَنْ كانَ لَهُ فَضلُ زَادٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلى مَنْ لا زَادَ لَهُ» فَذَكَرَ مِنْ أَصْنافِ المَالِ مَا ذَكَرَهُ، حَتى رَأَينَا أَنَّهُ لاَ حقَّ لأحَدٍ مِنَّا في فضْلٍ ))[3].
• فالمال ملكًا حقيقًا لله عز وجل، وما فاض لديك منه، فلله فيه حق واجب، وأمر مستحب، وإن بَذْلَك للمستحب دليلٌ على إيمانك وحبك لطاعة الله وصدق مشاعرك، وعظيم إحساسك بنكبة إخوانك من المسلمين.
مقام العطاء:
• وإن شرف العطاء مرتبطٌ بشرف المعطَى، فلا أعظم من بذل مالك للغير؛ لأن النفوس جُبلت على حبه تملكًا وحرزًا له، ولكن عندما يرى المؤمن عبادة الصدقة والسعي في رفع الألم عن الضعفة والمعوزين وأهل النكبات، يجد أن المال في يد غيره كنز لا يفنى؛ فعن أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ، كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ -وَأَحْسِبُهُ قَالَ- وَكَالْقَائِمِ لَا يَفْتُرُ، وَكَالصَّائِمِ لَا يُفْطِرُ»[4].
• من يستطيع أن يصلي الليل كاملًا، ويصوم الدهر دائمًا، ويقدم نفسه باذلًا في سبيل الله، يكفيك عن هذا كله لقمة في بطن جائع وجبر مصاب منكوب، وإغاثة ملهوف، وسعي في حاجة يتيم موجوع.
• وفي البذل أمور يحسُن بنا الإشارة إليها؛ لتكون لنا عونًا بأمر الله على هذا الطاعة العظيمة:
الأول: القليل خير من العدم، فعن عائشة َ رضي اللَّهُ عنها قَالَتْ: (( جَاءَتني مِسْكِينَةٌ تَحْمِل ابْنَتَيْن لَهَا، فَأَطعمتُهَا ثَلاثَ تَمْرَاتٍ، فَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحدَةٍ مِنْهُمَا تَمْرَةً، وَرَفَعَتْ إِلى فِيها تَمْرةً لتَأكُلهَا، فَاسْتَطعَمَتهَا ابْنَتَاهَا، فَشَقَّت التَّمْرَةَ الَّتي كَانَتْ تُريدُ أَنْ تأْكُلهَا بيْنهُمَا، فأَعْجبني شَأْنها، فَذَكرْتُ الَّذي صنعَتْ لرسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «إنَّ اللَّه قَدْ أَوْجَبَ لَهَا بِهَا الجن َّةَ، أَو أَعْتقَها بِهَا من النَّارِ»[5].
الثاني: الإسلام كما يُثمن عمل القوي، فهو يعظم شأن الضعيف؛ فعن سعد بن أبي وقاص، قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، الرَّجُلُ يَكونُ حاميةَ القَومِ، أيَكونُ سَهمُهُ وسَهمُ غَيرِهِ سَواءً؟ قال: «ثكِلَتكَ أُمُّكَ يا بنَ أُمِّ سَعدٍ، وهل تُرزَقونَ وتُنصَرونَ إلَّا بِضُعَفائِكم» [6].
الثالث: المن بالأعطية كبيرة من الكبائر، لما فيها من رياء المعطي وأذية المعطَى، فعن عبدالله بن عمر قال صلى الله عليه وسلم: «ثلاثةٌ لا ينظرُ اللهُ إليهِم يومَ القيامة ِ: العاقُّ لوالِديهِ، والمدمِنُ الخمرَ، والمنّان بما أعطى»[7].
الرابع: لا يقبل الله إلا الحلال الطيب، فما خبُث مردود على صاحبه، فعن أبي هريرة قال صلى الله عليه وسلم: «ما تَصَدَّقَ أحَدٌ بصَدَقَةٍ مِن طَيِّبٍ، ولا يَقْبَلُ اللَّهُ إلَّا الطَّيِّبَ، إلَّا أخَذَها الرَّحْمَنُ بيَمِينِهِ وإنْ كانَتْ تَمْرَةً فَتَرْبُو في كَفِّ الرَّحْمَنِ حتَّى تَكُونَ أعْظَمَ مِنَ الجَبَلِ كما يُرَبِّي أحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، أوْ فَصِيلَهُ»[8].
• اللهم ارفَع عن المسلمين ما يجدون البلاء.[1] أخرجه البخاري (1461)، ومسلم (998).
[2] مسلم.
[3] رواه مسلم.
[4] رواه مسلم.
[5] رواه مسلم.
[6] قال شعيب الأرناؤوط في تخريج المسند: حسن لغيره.
[7] أخرجه مطولًا النسائي (2562)، وأحمد (6180)، وصححه أحمد شاكر في عمدة التفسير ، والألباني في صحيح الجامع، والأرناؤوط في تخريج صحيح ابن حبان.
[8] مسلم.
__________________________________________________________
الكاتب: د.
عطية بن عبدالله الباحوث