خطب ومحاضرات
نحو تربية جادة
الحلقة مفرغة
الصيام ركن من أركان الإسلام، وهو كغيره من الشرائع له نواقض ومبطلات، والتي يمكن ضبط معظمها بأن كل عين وصلت إلى الجوف من منفذ مفتوح فهو ناقض للصوم، فيدخل قطر الأنف والفم والقبل والدبر وغيرها، إضافة إلى الردة والجماع، أما غبار الطريق، وذوق الطعام، وترطيبه بالفم للطفل دون ابتلاعه، والتبخر فكل هذا لا يبطل الصوم.
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
أما بعد:
فتدرك الأمم أجمع اليوم أهمية التربية وضرورتها، وتدرك أنها لن تحقق أهدافها ولن تصل إليها إلا من خلال التربية وإعداد الجيل، ومن هنا فإن الأمم التي تقدر جيلها وناشئتها تشعر أن أولى ما تقدمه لهذا الجيل هو التربية؛ لذا تحظى هذه التربية عند أولئك بعناية كبيرة، بغض النظر عن فلسفتهم للحياة، وبغض النظر عن قيمة الحياة عندهم، لكنهم جميعاً يشعرون أن هناك مبادئ ومعارف وقضايا ينبغي أن تتربى عليها الأمم والشعوب، ولا شك أن الأمة التي تطمح إلى قيادة الأمم، والأمة التي تطمح إلى أن تتبوأ المكانة التي خلقها الله عز وجل واختارها من أجلها، لا شك أنها تدرك أن بلوغ هذا الهدف يعني أن تربي جيلاً يؤهل لذلك، وأن تكون مستوى تربيتها وأن يكون جيلها وأن يكون أفراد هذه الأمة مؤهلين بقدر هذا الهدف الذي تتطلع إليه.
ولئن كانت الأمة تحتاج إلى التربية في كل وقت وحين فهي في هذا العصر أحوج ما تكون إلى التربية الجادة.
إننا أمام متطلبات ضخمة وأهداف طموحة ينتظر من هذه الأمة أن تبلغها وتحققها، وهي لا يمكن أن تتم من خلال عواطف تفجر هنا وهناك، أو من خلال كلمات لا تعدو أن تكون نتاج خواطر مبعثرة، وإذا كنا نتصور أننا نستطيع أن نصنع الجيل من خلال هذا الجهد فإننا نبني قصوراً في الرمال ونسعى وراء السراب.. إننا بقدر ما تسمو أهدافنا وبقدر ما تعلو طموحاتنا ينبغي أن تكون تربيتنا، من هنا كنا نحتاج ونفتقر إلى التربية الجادة التي تخرج لنا الأمة الجادة.. وتخرج لنا الجيل الجاد الذي يحمل المسئولية ويقدر الأمانة ويكون أهلاً بإذن الله أن يكتب النصر والتمكين على يديه.
وسبق أن تحدثت بمناسبة سابقة حديثاً كان بعنوان: التربية الجادة ضرورة، وكتبت في ذلك، ووردت علي اقتراحات عدة من بعض الإخوة الذين استمعوا إلى هذا الحديث أو قرءوا ما كتب في ذلك؛ اقتراحات تؤكد على ضرورة طرح برامج ووسائل يمكن أن نصل من خلالها إلى هذه التربية.
لقد كان الحديث منصباً فيما سبق حول أهمية وضرورة أن نرتفع بتربيتنا وأن تربى الأمة وجيلها المبارك تربية جادة، وأشعر أن مثل هذا الحديث يقطع خطوات جيدة ويشعر الناس بضرورة المراجعة، لكن أيضاً لأننا اعتدنا -وهي ظاهرة سلبية نعاني منها- أن نحتاج إلى قضايا محددة وألا نكلف أنفسنا عناء التفكير والابتداع المشروع في ميدان التفكير.. حين اعتدنا هذا الكسل الفكري أصبحنا نحتاج إلى أن توضع لنا النقاط على الحروف؛ ولهذا أحببت أن أتحدث في هذا اللقاء حديثاً أركزه حول بعض الوسائل والمقترحات من أجل تربية جادة.
أما الحديث عن أهمية التربية الجادة وما يتعلق بها وشواهد ذلك فقد سبق فيما أشرت إليه، وأقرأ في بداية هذا اللقاء مقتطفات من رسالة لأحد الشباب وردت إلي حول هذا الموضوع، ولا أخفي أنها كانت من العوامل وراء طرح مثل هذا الموضوع.
يقول الأخ: قرأت كتابكم: التربية الجادة ضرورة وكذلك استمعت إلى الشريط، وبدافع من آصرة التواصل ومبدأ المناصحة وجدتني أخط هذه الرسالة.
عند سماعي للشريط كنت متلهفاً للوصول إلى نقطة: مقترحات للنقلة؛ لأنها في رأيي أهم نقاط الموضوع إذ هي التي تحول العلم النظري إلى واقع عملي ولكن صدمت عندما سمعت نقاطاً عامة، أو معالم في طريق التربية الجادة، فقلت في نفسي: لعل في الكتاب زيادة بسط في الحديث ولكن ما زاد الكتاب عن الشريط في شيء، وقد عزيت ذلك بأن الهدف من الكتاب هو الاقتناع بضرورة التربية الجادة، ولكن هل مشكلتنا تكمن في عدم اقتناعنا بضرورة التربية الجادة، أم المشكلة في تخاذلنا في القيام بهذه التربية وتحمل مشاقها، ثم ذكر قضية خاصة له وقال في نهاية الرسالة: أعود إلى الكتاب فأقول: إن هذا الجهد وهذا الكتاب لا بد أن يتوج حتى تكتمل فائدته بكتاب أو رسالة يؤخذ فيها فصل مقترحات للنقلة بشيء من التفصيل والتوسع.
حين نتحدث عن التربية الجادة، أو حين نقترح بعض الوسائل التي نرى أننا حين نسلكها في تربيتنا توجد بإذن الله جيلاً وأمة جادة فإننا بحاجة إلى أن نقف وقفة ولو كانت قصيرة حول صفات الشخصية الجادة التي نتطلع إليها؛ لأنه قد يسير معك الناس في الحديث والنقاش حول هذه القضية لكن مواصفات الشخصية الجادة ليست مشتركة بينك وبينهم، ومن هنا ربما لا يدركون لماذا كان مثل هذا الحديث ومثل هذه النقطة وهذا الاقتراح.
قد ينطبع في الأذهان حين نتحدث عن الشخصية الجادة أو الرجل الجاد أن الجد الذي نعنيه هو المعنى المضاد للهزل والضحك، وأننا نعني بالرجل الجاد ذاك الذي لا يمزح إلا نادراً ولا يضحك إلا لمماً، ولا تبدو منه الابتسامة إلا في الحول مرة أو مرتين.
لا شك أن استمراء الضحك والهزل والفكاهة مدعاة لموت القلب، لكن ليست في الضرورة هذه التي نريد، وماذا نريد من رجل صامت قد أطرق رأسه، ماذا عسى أن يصنع في هذا العصر الذي تواجه الأمة فيه تحديات وتواجه فيه الخطورة، إن هذا أسهل حل يمكن أن يسلكه المرء، أعني: أن يطرق وأن يخرس لسانه وأن يستمع ولا يتحدث وينظر ولا يتحرك ولا يعمل.
إننا حين نطلب الشخصية الجادة فإننا لا نعني مثل هذا النموذج، إنما نعني الرجل الذي يملك صفات محددة، ويمكن أن نلخص هذه الصفات بصفات ثلاث:
الأولى: العمل والإنتاج، إن الرجل الجاد الذي نعنيه ونريده هو الذي يعمل.. هو الذي ينتج.. هو الذي يعمل أكثر مما يتحدث.. وحين تريد أن تتفقد مدى جديتك وأن تعرف مدى القدر الذي تحمله من هذه الجدية فانظر إلى نفسك وإلى عملك: كم يشكل العمل من اهتماماتك، وما هي النسبة بين حديثك وعملك.. بين مقترحاتك وأعمالك.. بين أفكارك العالية الطموحة وما تقدم وتعمل، فالرجل الجاد هو العامل الذي يعمل في كل الميادين والظروف.
أيضاً من المواصفات الهامة: جدية الاهتمامات، الناس تأسرهم اهتمامات شتى في هذا الواقع، فمنهم من الدنيا أكبر همه، ومنهم من همه الشهوات، ومنهم من همه الرياضة واللهو اللعب، ومنهم من همه تحصيل الجاه أمام الناس، وهكذا تتنوع اهتمامات الناس، انظر الآن كم تأخذ قضية الفن والرياضة من أجيال المسلمين.. من أوقاتهم ومن حماسهم ومن اهتماماتهم، أليست هذه صورة وعلامة وأمارة على قلة الجدية.
إن الرجل الجاد قد يمتع نفسه بشيء من الرياضة واللهو المباح لكن أن تسيطر عليه هذه القضية وتشغل باله وتصبح من الأولويات لديه فهذه أمارة على قلة جديته.
وقل مثل ذلك في ذاك الشخص الذي أصبحت الدنيا أكبر همه وأصبحت هي قضيته الأولى والأخيرة، فلا يفكر إلا في المستقبل والمستقبل هنا ينتهي بالدنيا.. قضية الدار الآخرة غير واردة عنده فيما يتعلق بالمستقبل، لا يفكر ولا يقيس الأمور ولا يزنها إلا بما يجلب له الخير والمصلحة في الدنيا.
إن هذه الشخصية التي تقف اهتماماتها عند هذا النموذج أو ذاك شخصية غير جادة، وشخصية لا ننتظر منها النتاج، فحين نراجع اهتماماتنا والقضايا التي تشغلنا نستطيع أن نقيس من ذلك مدى جديتنا.
المعيار الثالث والمقياس الثالث: أوقاتنا وكيف نعتني بها وكيف نصرفها، وانظر إلى المرء كيف يتعامل مع وقته.. وكيف يقضي وقته لتقيس مدى جديته، ومدى جدية الحياة لديه؛ لأن الرجل الجاد يشعر أن الوقت هو حياته.. هو عمره.. هو رصيده؛ ولهذا يضن به ويبخل به، ويكون كما قال السلف: أدركنا أقواماً كانوا على أوقاتهم أحرص منكم على دراهمكم ودنانيركم.
لا أريد أن أطيل في هذه المقدمات لأدخل في الحديث في بعض البرامج والمقترحات للوصول للتربية الجادة، وهي مقترحات قد يتناسب بعضها مع طبقة من الناس أو مع فئة من الناس وقد لا يتناسب غيرها، بل ربما تستطيع أن تضيف على هذه المزيد، وهي لا تعدو أن تكون محاولة لأن نضع أقدامنا في هذا الطريق.. هذا الطريق الذي نشعر أنه يستحق منا الكثير وأن قضية التربية والعناية به تستحق منا أكثر؛ لأنها هي التي تعنى بإعداد الرجال في كل جوانب الحياة.
وقد قسمت هذه الوسائل إلى شقين رئيسين:
الشق الأول: وسائل معرفية.
والشق الثاني: وسائل عملية تطبيقية.
الشق الأول: في بعض القضايا التي يمكن أن نطرحها للناس، ونتحدث مع الناس من خلالها، فتساهم هذه القضايا في تحقيق التربية الجادة والوصول إليها سواء من خلال تعرفنا عليها بأنفسنا أو من خلال حديث المربين مع من يربونهم أو من خلال إبراز هذه الجوانب أمام الجيل وأمام الناشئة.
والشق الثاني: هو الحديث عن بعض الوسائل التطبيقية العملية.
ولعلي أعطي الشق الثاني والقسم الثاني النصيب الأكبر من الحديث.
العناية بموضوع التربية وإدراك أهميته
نبدأ في الحديث عن بعض الوسائل المعرفية التي حينما نتعرف عليها ونعتني بها تدفعنا كثيراً نحو مستوىً أعلى من الجد والنتائج، وحين نطرحها أمام الجيل فإنها تساهم أيضاً في إيجاد وخلق جيل جاد يدرك المسئولية.
أول قضية: العناية بالموضوع أصلاً والنقاش فيه وإدراك أهميته، إننا حين نعتني بهذه القضية وتصبح هدفاً ونطرحها في مجالسنا وفي منتدياتنا وفي مناسباتنا سواءً في المنتديات الثقافية العلمية الرسمية من خلال محاضرة أو خطبة الجمعة أو الدرس في الفصل أو الكتابة من خلال هذه الوسائل التي تأخذ طابع الحديث المنظم الموجه إلى من يستمعون أو من خلال مجالسنا التي نتبادل فيها الحديث ونتناقش فيها والتي كثيراً ما يأخذنا الحديث فيها حول قضايا من أمور دنيانا ومن متاع الدنيا، بل ربما وكثيراً ما يلابس هذه المجالس اللغط واللغو والقول الباطل.
إننا حين نطرح هذه القضية بل أي قضية للنقاش في مجالسنا ومنتدياتنا أجزم أننا سنصل من خلال هذا النقاش إلى فوائد وإلى نتائج وإلى توصيات مهمة في حياتنا، وحين ننبه الناس ونتحدث فنحن نوقظ الوسنان النائم ونذكر الناسي وننبه الغافل حول هذه القضية أو تلك.
إدراك سير الجادين من السابقين
الجانب الثاني أو الأسلوب الثاني: إدراك سير الجادين.
إن النماذج والقدوات العملية تترك أثرها في النفوس وتبقى شواهد حية على مدى تأهل هذه المعاني النظرية إلى أن تتحول إلى واقع حي ملموس وإلى أن تترجم هذه المشاعر وهذه الاقتناعات في عمل وفي سلوك وفي مواقف في جوانب الحياة كلها، والتاريخ مليء بهذه النماذج التي حين نقرأ فيها ونبرزها أمام الجيل فإنها تورث التطلع إليها، إن جيلنا اليوم يعاني من أزمة حادة في القدوة، نعم، إنه تبدو أمامه قدوات ونجوم لامعة في مجالات وجوانب من اللهو والعبث الفارغ، وما كان لمثل هذه النماذج الساقطة أن تتبوأ هذه المنزلة لولا أن الساحة شاغرة، ولو منحت هذه الساحة للنماذج الحقة المنتجة لم تجد تلك الشخصيات الساقطة لها مكاناً في مثل هذا الميدان.
وهو منهج وأسلوب قرآني.. فقد عني القرآن كثيراً بإبراز النموذج الجاد أمام المسلمين وأمام الأمة، ولنأخذ على ذلك أمثلة من قصص القرآن!
لو سألتكم: عددوا لي القصص التي جاءت في كتاب الله.. عن أنبياء الله والمرسلين وفي كم موطن كررت.. القصص التي جاء الحديث فيها عن أقوام ليسوا بأنبياء.. كم يأتي الحديث كثيراً في كتاب الله عن مثل هذه النماذج خاصة في الفترة المكية والتي كانت فترة تعد فيها تلك القاعدة التي حملت الرسالة وحملت هذا الدين.. كم كررت قصة موسى مع قومه في القرآن؟ وماذا يعني إبراز هذا النموذج أمام المسلمين من المستضعفين في مكة إذ ذاك؟
إنه كان يعني أن يبرز هذا النموذج الجاد قدوة للمسلمين حين آمن سحرة فرعون وتوعدهم فرعون إذ آمنوا دون أن يأذن لهم.. وهذا الإيمان كان في مصطلح فرعون وعرف فرعون حيلة ومؤامرة يخفى وراءها مطامع وأهداف: إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الأعراف:123] وقال لهم متوعداً مهدداً: فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى [طه:71] كان فرعون يقول هذه الكلمة وهو يعي ما يقول وكان على أتم استعداد أن ينفذ ما يقول، وكان أولئك السحرة هم الأداة التي يبطش بها فرعون فهم يعرفونه جيداً ويعرفون أنه سينفذ ما يقول، فماذا كانت مقالتهم وماذا كان موقفهم؟
قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى [طه:72-75].
كم أبرز هذا النموذج أمام المؤمنين في مكة حيث كانوا يعانون الاضطهاد والإيذاء في دينهم، وذلك ليكون هذا نموذجاً وقدوة حسنة.
الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه يقول ربه تبارك وتعالى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا [الأنعام:34] .. وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ [الأنعام:34] .. وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [هود:120] .. حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يوسف:110] .. لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ [يوسف:111] .. فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ [الأحقاف:35].
وهكذا في آيات كثيرة يُخاطَبُ النبي صلى الله عليه وسلم ويُخاطَبُ المؤمنون وتُخاطَبُ الأمة بمثل هذه النماذج والصور الجادة.
وفي غزوة أحد حين أصاب المسلمين ما أصابهم ونزلت تلك الآيات تعقيباً على هذا الموطن أبرز هذا النموذج الجاد أمام أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال تبارك وتعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران:146-147] ماذا يعني الحديث عن هذه الفئة وهذه الطائفة في هذا الموطن إلا أنه إبراز للنموذج الجاد أمام الصحبة المؤمنة.. أمام أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين مسهم القرح وأصابهم ما أصابهم أبرز هذا النموذج وقيل لهم: إن هذا الدين على مدى التاريخ لم يقم إلا بهذه الجهود وهذه التضحيات!
وأيضاً يبرز لنا القرآن نماذج وقدوات من غير الأنبياء والمرسلين من البشر.. قد يشعر البعض من الناس أن قضية الأنبياء قضية عالية.. وأنها لأولئك الذين يأتيهم الوحي والرسالة من عند الله تبارك وتعالى وإن كانوا أهلاً ومحلاً للقدوة؛ لكن القرآن يعرض نماذج أخرى، يقول تبارك وتعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ [يس:13-14].
ثم قال تبارك وتعالى: وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ [يس:20-21].
ثم حكى تبارك وتعالى بعد ذلك صراع هذا الرجل مع قومه ضاقوا به ذرعاً فقتلوه، فحين أكرمه الله فأدخله الجنة ما زالت قضية الدعوة تعيش في نفسه فقال: يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [يس:26-27] .
ونموذج آخر يبرزه لنا القرآن في أهل الكهف، وهو نموذج أمام الجيل المبارك جيل الشباب: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا [الكهف:13-14].
ففارقوا قومهم واعتزلوهم وأووا إلى الكهف وشعروا أن هذا الكهف الضيق الخشن كهف واسع في ظل رحمة الله تبارك وتعالى، وشعروا أن قضية الدين تحتم عليهم أن يفروا بدينهم، إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا [الكهف:20].
وخلد القرآن ذكرهم على مر التاريخ، وصار المسلمون كل أسبوع يقرءون هذه الآيات ويتأسون بها ويتمعنون معانيها ويتأملون فيها؛ ولهذا يقول تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في هذه السورة: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28] لقد كان أولئك نموذجاً في الاستعلاء على زينة الحياة الدنيا.
وفي السورة نفسها نجد النموذج الذي أسرته الحياة والدنيا ومتاع الدنيا الذي قال: مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا [الكهف:35] ثم أصبح يقلب كفيه على جنته.
والرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً يقتبس هذا الهدي وهذا المنهج فيحدثنا في ذلك ويبدي النبي صلى الله عليه وسلم هذه النماذج أمام أصحابه لتكون معيناً لهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم حين جاءه خباب رضي الله عنه يشتكي وقد أصابه ما أصابه من المشركين، أتدرون كم كان عمر خباب رضي الله عنه حين أسلم وبذل في الإسلام ما بذل؟ لقد كان رضي الله عنه دون العشرين من عمره، وكان من السابقين الأولين للإسلام ولقي ما لقي من الأذى، حتى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في وقت خلافته لما أتى خباب قال له: اجلس فما أحد أحق بهذا المكان منك غير عمار رضي الله عنه!
يعني عمر رضي الله عنه أن عماراً قد أصابه من الأذى ما أصابه، فكشف خباب رضي الله عنه له عن ظهره وأراه آثار التعذيب التي لا تزال باقية على ظهره على مر هذه السنين المتطاولة، وقد بقيت شاهدة على إيمانه رضي الله عنه وصلابته وصبره وهو لا يزال شاباً غض الإهاب.. لا يزال في هذا السن جاء يشتكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد لقي من المشركين ما لقي، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (لقد كان من كان قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيشق نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما يصده ذلك عن دينه).
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يشعر أن خباباً رضي الله عنه يحتاج إلى مثل هذا النموذج، وفعلاً كانت هذه التربية من النبي صلى الله عليه وسلم هي التي أخرجت مثل هذا الجيل الذي حمل الرسالة واستعصى على الفتنة والصد عن سبيل الله عز وجل.
والحديث يطول حول هذه القضية، لكنك وأنت تتأمل في القرآن والسنة تجد العناية بهذا النموذج.
إن إبراز هذا النموذج -ولن نعدم- من خلال الحديث عن قصص الأنبياء وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم والسابقين مع التعليق والتأكيد ووضع الخطوط والإضاءات حول المواقف المهمة.. إن مجرد سرد القصة وحدها قد لا يكفي حتى نوقف الناس على مضامينها؛ ولهذا حين نقرأ القصة في القرآن نجد أن القرآن يعقب عليها ويأمر بالاعتبار والاتعاظ قبل سياق القصة وبعدها، وفي أثناء السورة تجد الإشارة إلى هذا المعنى.
إدراك بذل الأعداء وجدهم في حرب الدين
الأمر الثالث في المقابل: إدراك بذل الأعداء وجهدهم وجديتهم:
كم يبذل الأعداء وكم يجتهدون في سبيل نشر ضلالهم وباطلهم وهو منهج أيضاً استخدمه القرآن، يقول تبارك وتعالى: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ [النساء:104] ويقول تبارك وتعالى: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140].
إننا حين ندرك ما يبذله الأعداء من صبر ومن جهد ومن تحمل للمشاق نستهين ونسترخص ما نبذله في سبيل دعوتنا، ونحن كما قال تبارك وتعالى: فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104] إنكم أصحاب منهج حق.. أصحاب نية صادقة خالصة؛ ولهذا حين يدرك المسلم ما يبذله الأعداء من جهد وجلد وصبر لأجل حرب هذا الدين.. لأجل نشر الباطل.. لأجل تحقيق شهوات الدنيا؛ يشعر أنه هو أولى أن يكون جاداً.. أولى أن يبذل أضعاف ما يبذله أولئك.
والحديث حول هذا الجانب يطول لكني أشير إلى موقف عجيب رأيته بعيني: قرية نائية في دولة كينيا من دول أفريقيا، لا تستطيع أن تصل إليها بالسيارة، فيها رجل منصر، ذهبنا إلى تلك القرية وزرناها، فوجدنا أساليب الحياة الضرورية فيها غير متوفرة، رجل جاء من أوروبا وبقي فيها عشرين سنة تقريباً لأجل أن ينصر المسلمين ويذهب ويسافر إلى أوروبا ويتلقى دعماً مباشراً من المؤسسات التنصيرية التي هناك، ويقيم المشاريع ويحفر الآبار ويبني المدارس لأجل أن ينصر أبناء المسلمين، وبالفعل تنصر فئات من المسلمين في تلك القرية والمنطقة؛ لأنهم لا يملكون الماء، وهذا الرجل هو الذي يحفر البئر فيعطيهم حتى يتنصروا.. فهذا رجل أوروبي اعتاد حياة الترف.. حياة النعيم.. حياة اللهو واللعب، يأتي إلى تلك البلد.. بلد أمراض.. فقر.. متطلبات الحياة الضرورية لا يكاد يجدها.. ليس هناك اتصال بالعالم الخارجي.. ليس فيها أي وسيلة من وسائل الحياة الضرورية، ومع ذلك يبقى فيها عشرين سنة.
ونحن الذين كثيراً ما نتحدث عن الدعوة والتضحية في سبيل الدعوة، وحاجة الأمة للدعوة، ونتحدث كثيراً عن سيرة مصعب بن عمير رضي الله عنه وما بذل حين يعين أحدنا في منطقة نائية.. جميع الخدمات فيها متوفرة.. ويذهب إليها بسهولة ويتصل بأهله متى شاء، ويسافر متى شاء، ينتظر اليوم الذي يستطيع أن ينتقل فيه من هذه البلدة، ويبدأ يبحث عن حجج ومعاذير، وقد نفع الله على يديه.. كم نفع الله على يد هؤلاء الشباب الذين يغتربون؟! ويغترب ويرتاح ويبتعد عن ضجيج المدينة وصخبها وكل وسائل الحياة متاحة له، والناس يستمعون إليه ويتقبلون ويرى نتاج عمله، ومع ذلك يتذمر ولا يكاد يبقى سنة أو سنتين إلا وقد أدركه اليأس وشعر أنه يريد أن ينتقل.. يريد أن يذهب، أين الحديث عن الدعوة وعن البذل والعمل والنشاط!
أذكر أحد الشباب تعين في منطقة محتاجة ودرس فيها سنة واحدة، ثم انتقل وأتى وأعطاني برنامجاً جيداً واقترح برنامجاً دعوياً للمنطقة وأعطاني إياه، فرميته عليه وقلت له: اسمح لي يا أخي الكريم! إذا كنت جاداً فابق هناك!
فمن السهل جداً أنك تأتي وتقترح برنامجاً على الناس تريد أن يقدموه، لكن العمل والنتاج الذي نريد هو أن تبقى هناك وأن تقدم وأن تعلم الناس بما أعطاك الله، ليس بالضرورة أن تكون صاحب علم وصاحب موسوعة.. ليس بالضرورة أن تكون صاحب قضايا بعيدة، والوسائل حتى الآن متوفرة وكل ما تريد يمكن أن يتيسر لك، فإذا كانت القضية تهمك وتشغل بالك فابق هناك حتى تترك الأثر.
هل نحن نبذل كما يبذل المنصرون؟ والنهاية أن جهدهم يضيع ومع ذلك يصبرون ويتحملون.. العجيب أن في نفس المنطقة جاء مجموعة من الشباب قدراتهم متواضعة ومحدودة ورآهم بعض الدعاة في تلك المنطقة وشعروا بالمشكلة، فقدموا بعض الأعمال وحفروا بئراً فبدأ الناس يعودون ويتركون هذا الرجل المنصر، وبدأ يشعر بالإفلاس، ومع ذلك فهو باق ومتحمل وهو يشعر فعلاً أن النتاج الذي يحصله لا يتناسب مطلقاً مع الجهد الذي يبذله.
لا أريد أن أطيل في هذه القضية لكن أشعر أننا بحاجة أن ندرك ما يبذله الأعداء في كل مجال.. وما يتحملون في سبيل نشر أفكارهم، ماركس وإنجلز اللذين كانا وراء نشر الفكر الشيوعي في نصف الكرة الأرضية يوماً من الأيام وكانا وراء دولة حكمت نصف العالم وكان الغرب يرهبها، بقيا في السجن كثيراً واغتربا وطوردا من بلد إلى بلد!
واليهود كم تحملوا وكم بذلوا حتى استطاعوا أن يجتمعوا.. كانوا شرذمة في الآفاق حتى جاءوا مصداقاً لوعد الله: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا [الإسراء:104] كم بذلوا في سبيل تحقيق هذا الهدف والتخطيط له؟! يا إخوان! نحن المسلمين أسمى وأعلى هدفاً: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104]، وتأمل في حال كل هؤلاء فيما يتحملون من جوع ومن مشقة ومن بذل ومن دعوة.. كل ما تتصور أنت من عقبات يمكن أن تواجهك في هذا الطريق فإنها تواجه غيرك، فإذا كان أولئك يتحملون فأنت أولى بذلك.
إدراك الواقع وتحدياته
الأمر الرابع: إدراك الواقع وتحدياته:
إننا حين ندرك الواقع وتحدياته وندرك واقع الأمة إدراكاً جيداً، والفساد المنتشر في الأمة وتحدياته، يدفعنا إلى أن نكون جادين، لأنه إذا أدركنا هذا الفساد المنتشر في الأمة.. إذا أدركنا انتشار الجهل.. إذا أدركنا حاجة الأمة إلى البذل والجهد والعمل والتربية؛ فإن هذا يجعلنا نشعر أننا لا نستطيع أن نقوم بهذا العبء إلا أن نكون جادين، وأن نبذل كل ما نستطيع من طاقتنا ووسائلنا.
الثقة بتحقق الهدف
الأمر الخامس: الثقة بتحقق الهدف:
وهي قضية يجب أن نربطها مع القضية التي قبلها؛ لأننا أحياناً قد يسيطر علينا الشعور بالمرض الواقع، فقد ينقلنا إلى مرحلة اليأس، لكننا حينما ندرك الهدف وندرك أن هذا الهدف لا بد أن يتحقق وأن نصر الله عز وجل للأمة لا بد أن يتم، فذلك يعطينا دافعاً أن الإنسان الذي عنده شعور يتحقق هدفه، وأنه سيبلغ الهدف، فيزيده هذا الشعور طاقة وحيوية والله تبارك وتعالى يقول: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33].. وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة:32].
يا أخي! مهما كاد أعداء الله ومهما فعلوا ومهما بذلوا فلا تخف على الدين ولا تخش عليه، القضية فقط أن نملك الروح التي نعمل بها وأن نكون على مستوى المسئولية، وهذا الدين دين الله سيظهره الله وينصره مهما كاد أولئك، وسيكون كل جهدهم كما قال تبارك وتعالى: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ [الصف:8].. وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ [التوبة:32].. إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا [الطارق:15-17].
وانظر كيف علق القرآن على ما فعله قوم صالح: وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [النمل:48-49] ماذا كان تعقيب القرآن؟ وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:50] انتهت القضية خلاص.. لك أن تتصور ماذا سيفعل هؤلاء وماذا سيحيق بهم؟! فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ [النمل:51] .
إذاً: حين ندرك جميعاً أن الهدف سيتحقق وتكون البشائر واضحة أمامنا، وشعورنا بأن الأمة مهما وصلت إلى حال التخلف والتقهقر أنها بإذن الله قادرة أن تتأهل إلى هذا الدور.. فإن هذا يدفعنا للعمل، ونضيف إلى ذلك شيئاً آخر مهم جداً: أن يشعر الداعية ويوقن أنه لو لم يحقق الهدف كأن لم يستجب له الناس ولم يصل إلى تحقيق ما يريد فإن أجره على الله.
أرأيت أولئك الأنبياء الذي مضوا إلى ربهم ولم يستجب لهم أحد؛ أترى أن ذلك ينقص من قدرهم؟! وغيرهم كثير من أولئك الذين لم يستجب لهم أحد ولم يحققوا أهدافهم في الدنيا؛ أترى أن جهدهم ذهب هدراً؟ كلا!
إنك أيضاً حين تدرك هذه القضية وتدرك أن العمل بحد ذاته هدف -بغض النظر عن النتيجة- فإنك تشعر فعلاً بالروح التي تدفعك للعمل وأن جهدك لم يذهب سدى.
إدراك حقيقة الحياة الدنيا وزوالها
الأمر السادس: إدراك حقيقة الحياة الدنيا وزوالها:
الحديث حول هذا يطول، لكن في القرآن: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ [الكهف:45] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لروحة في سبيل الله أو غدوة خير من الدنيا وما فيها)، (ولقاب قوس أحدكم في الجنة أو موضع قيد -يعني: سوطه- خير من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما ولملأته ريحاً، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها) والحديث في الصحيحين.
وفي الحديث الآخر عن جابر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بالسوق والناس كنفته فمر بجدي أسك -قصير الأذن أو مقطوع الأذن- ميت فتناوله فأخذه بأذنه فقال: أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟! فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء وما نصنع به؟ قال: أتحبون أنه لكم، قالوا: والله لو كان حياً كان عيباً فيه أنه أسك فكيف وهو ميت فقال: والله للدنيا أهون من هذا عليكم) .
وحين مر النبي صلى الله عليه وسلم بشاة ميتة يسحبها أهلها قال: (أترون هذه هانت على أهلها؟ قالوا: نعم، قال: والله للدنيا أهون على الله من هوان هذه على أهلها) هذه الدنيا، وهذه حقيقة الدنيا.
حينما نعي هذه القضية ترخص عندنا الدنيا بكل ما فيها ويشعر الإنسان أنه مهما بذل من وقت ومن جهد، ومهما ضحى ومهما فاتته من الفرص الدنيوية، فإن ذلك يهون كثيراً عند تحقيق مرضاة الله تبارك وتعالى وعند تحقيق الأهداف التي يسعى إليها.
نبدأ في الحديث عن بعض الوسائل المعرفية التي حينما نتعرف عليها ونعتني بها تدفعنا كثيراً نحو مستوىً أعلى من الجد والنتائج، وحين نطرحها أمام الجيل فإنها تساهم أيضاً في إيجاد وخلق جيل جاد يدرك المسئولية.
أول قضية: العناية بالموضوع أصلاً والنقاش فيه وإدراك أهميته، إننا حين نعتني بهذه القضية وتصبح هدفاً ونطرحها في مجالسنا وفي منتدياتنا وفي مناسباتنا سواءً في المنتديات الثقافية العلمية الرسمية من خلال محاضرة أو خطبة الجمعة أو الدرس في الفصل أو الكتابة من خلال هذه الوسائل التي تأخذ طابع الحديث المنظم الموجه إلى من يستمعون أو من خلال مجالسنا التي نتبادل فيها الحديث ونتناقش فيها والتي كثيراً ما يأخذنا الحديث فيها حول قضايا من أمور دنيانا ومن متاع الدنيا، بل ربما وكثيراً ما يلابس هذه المجالس اللغط واللغو والقول الباطل.
إننا حين نطرح هذه القضية بل أي قضية للنقاش في مجالسنا ومنتدياتنا أجزم أننا سنصل من خلال هذا النقاش إلى فوائد وإلى نتائج وإلى توصيات مهمة في حياتنا، وحين ننبه الناس ونتحدث فنحن نوقظ الوسنان النائم ونذكر الناسي وننبه الغافل حول هذه القضية أو تلك.
الجانب الثاني أو الأسلوب الثاني: إدراك سير الجادين.
إن النماذج والقدوات العملية تترك أثرها في النفوس وتبقى شواهد حية على مدى تأهل هذه المعاني النظرية إلى أن تتحول إلى واقع حي ملموس وإلى أن تترجم هذه المشاعر وهذه الاقتناعات في عمل وفي سلوك وفي مواقف في جوانب الحياة كلها، والتاريخ مليء بهذه النماذج التي حين نقرأ فيها ونبرزها أمام الجيل فإنها تورث التطلع إليها، إن جيلنا اليوم يعاني من أزمة حادة في القدوة، نعم، إنه تبدو أمامه قدوات ونجوم لامعة في مجالات وجوانب من اللهو والعبث الفارغ، وما كان لمثل هذه النماذج الساقطة أن تتبوأ هذه المنزلة لولا أن الساحة شاغرة، ولو منحت هذه الساحة للنماذج الحقة المنتجة لم تجد تلك الشخصيات الساقطة لها مكاناً في مثل هذا الميدان.
وهو منهج وأسلوب قرآني.. فقد عني القرآن كثيراً بإبراز النموذج الجاد أمام المسلمين وأمام الأمة، ولنأخذ على ذلك أمثلة من قصص القرآن!
لو سألتكم: عددوا لي القصص التي جاءت في كتاب الله.. عن أنبياء الله والمرسلين وفي كم موطن كررت.. القصص التي جاء الحديث فيها عن أقوام ليسوا بأنبياء.. كم يأتي الحديث كثيراً في كتاب الله عن مثل هذه النماذج خاصة في الفترة المكية والتي كانت فترة تعد فيها تلك القاعدة التي حملت الرسالة وحملت هذا الدين.. كم كررت قصة موسى مع قومه في القرآن؟ وماذا يعني إبراز هذا النموذج أمام المسلمين من المستضعفين في مكة إذ ذاك؟
إنه كان يعني أن يبرز هذا النموذج الجاد قدوة للمسلمين حين آمن سحرة فرعون وتوعدهم فرعون إذ آمنوا دون أن يأذن لهم.. وهذا الإيمان كان في مصطلح فرعون وعرف فرعون حيلة ومؤامرة يخفى وراءها مطامع وأهداف: إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الأعراف:123] وقال لهم متوعداً مهدداً: فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى [طه:71] كان فرعون يقول هذه الكلمة وهو يعي ما يقول وكان على أتم استعداد أن ينفذ ما يقول، وكان أولئك السحرة هم الأداة التي يبطش بها فرعون فهم يعرفونه جيداً ويعرفون أنه سينفذ ما يقول، فماذا كانت مقالتهم وماذا كان موقفهم؟
قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى [طه:72-75].
كم أبرز هذا النموذج أمام المؤمنين في مكة حيث كانوا يعانون الاضطهاد والإيذاء في دينهم، وذلك ليكون هذا نموذجاً وقدوة حسنة.
الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه يقول ربه تبارك وتعالى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا [الأنعام:34] .. وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ [الأنعام:34] .. وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [هود:120] .. حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يوسف:110] .. لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ [يوسف:111] .. فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ [الأحقاف:35].
وهكذا في آيات كثيرة يُخاطَبُ النبي صلى الله عليه وسلم ويُخاطَبُ المؤمنون وتُخاطَبُ الأمة بمثل هذه النماذج والصور الجادة.
وفي غزوة أحد حين أصاب المسلمين ما أصابهم ونزلت تلك الآيات تعقيباً على هذا الموطن أبرز هذا النموذج الجاد أمام أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال تبارك وتعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران:146-147] ماذا يعني الحديث عن هذه الفئة وهذه الطائفة في هذا الموطن إلا أنه إبراز للنموذج الجاد أمام الصحبة المؤمنة.. أمام أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين مسهم القرح وأصابهم ما أصابهم أبرز هذا النموذج وقيل لهم: إن هذا الدين على مدى التاريخ لم يقم إلا بهذه الجهود وهذه التضحيات!
وأيضاً يبرز لنا القرآن نماذج وقدوات من غير الأنبياء والمرسلين من البشر.. قد يشعر البعض من الناس أن قضية الأنبياء قضية عالية.. وأنها لأولئك الذين يأتيهم الوحي والرسالة من عند الله تبارك وتعالى وإن كانوا أهلاً ومحلاً للقدوة؛ لكن القرآن يعرض نماذج أخرى، يقول تبارك وتعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ [يس:13-14].
ثم قال تبارك وتعالى: وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ [يس:20-21].
ثم حكى تبارك وتعالى بعد ذلك صراع هذا الرجل مع قومه ضاقوا به ذرعاً فقتلوه، فحين أكرمه الله فأدخله الجنة ما زالت قضية الدعوة تعيش في نفسه فقال: يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [يس:26-27] .
ونموذج آخر يبرزه لنا القرآن في أهل الكهف، وهو نموذج أمام الجيل المبارك جيل الشباب: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا [الكهف:13-14].
ففارقوا قومهم واعتزلوهم وأووا إلى الكهف وشعروا أن هذا الكهف الضيق الخشن كهف واسع في ظل رحمة الله تبارك وتعالى، وشعروا أن قضية الدين تحتم عليهم أن يفروا بدينهم، إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا [الكهف:20].
وخلد القرآن ذكرهم على مر التاريخ، وصار المسلمون كل أسبوع يقرءون هذه الآيات ويتأسون بها ويتمعنون معانيها ويتأملون فيها؛ ولهذا يقول تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في هذه السورة: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28] لقد كان أولئك نموذجاً في الاستعلاء على زينة الحياة الدنيا.
وفي السورة نفسها نجد النموذج الذي أسرته الحياة والدنيا ومتاع الدنيا الذي قال: مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا [الكهف:35] ثم أصبح يقلب كفيه على جنته.
والرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً يقتبس هذا الهدي وهذا المنهج فيحدثنا في ذلك ويبدي النبي صلى الله عليه وسلم هذه النماذج أمام أصحابه لتكون معيناً لهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم حين جاءه خباب رضي الله عنه يشتكي وقد أصابه ما أصابه من المشركين، أتدرون كم كان عمر خباب رضي الله عنه حين أسلم وبذل في الإسلام ما بذل؟ لقد كان رضي الله عنه دون العشرين من عمره، وكان من السابقين الأولين للإسلام ولقي ما لقي من الأذى، حتى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في وقت خلافته لما أتى خباب قال له: اجلس فما أحد أحق بهذا المكان منك غير عمار رضي الله عنه!
يعني عمر رضي الله عنه أن عماراً قد أصابه من الأذى ما أصابه، فكشف خباب رضي الله عنه له عن ظهره وأراه آثار التعذيب التي لا تزال باقية على ظهره على مر هذه السنين المتطاولة، وقد بقيت شاهدة على إيمانه رضي الله عنه وصلابته وصبره وهو لا يزال شاباً غض الإهاب.. لا يزال في هذا السن جاء يشتكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد لقي من المشركين ما لقي، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (لقد كان من كان قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيشق نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما يصده ذلك عن دينه).
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يشعر أن خباباً رضي الله عنه يحتاج إلى مثل هذا النموذج، وفعلاً كانت هذه التربية من النبي صلى الله عليه وسلم هي التي أخرجت مثل هذا الجيل الذي حمل الرسالة واستعصى على الفتنة والصد عن سبيل الله عز وجل.
والحديث يطول حول هذه القضية، لكنك وأنت تتأمل في القرآن والسنة تجد العناية بهذا النموذج.
إن إبراز هذا النموذج -ولن نعدم- من خلال الحديث عن قصص الأنبياء وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم والسابقين مع التعليق والتأكيد ووضع الخطوط والإضاءات حول المواقف المهمة.. إن مجرد سرد القصة وحدها قد لا يكفي حتى نوقف الناس على مضامينها؛ ولهذا حين نقرأ القصة في القرآن نجد أن القرآن يعقب عليها ويأمر بالاعتبار والاتعاظ قبل سياق القصة وبعدها، وفي أثناء السورة تجد الإشارة إلى هذا المعنى.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد بن عبد الله الدويش - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
الباحثات عن السراب | 2589 استماع |
الشباب والاهتمامات | 2464 استماع |
وقف لله | 2325 استماع |
رمضان التجارة الرابحة | 2257 استماع |
يا أهل القرآن | 2190 استماع |
كلانا على الخير | 2189 استماع |
يا فتاة | 2183 استماع |
الطاقة المعطلة | 2120 استماع |
علم لا ينفع | 2087 استماع |
المراهقون .. الوجه الآخر | 2084 استماع |