لبيك اللهم لبيك


الحلقة مفرغة

لا جهاد إلا بعدة، والإعداد فرض كالجهاد نفسه، غير أنه مقدم عليه وسابق عليه، والجهاد الشرعي المحقق لإحدى الحسنيين: السيادة أو الشهادة، وله أركان، منها: النية الصالحة، وأن يكون الجهاد وراء إمام مسلم، وإعداد العدة مما يلزم في الجهاد، ورضا الأبوين وإذنهما في جهاد الطلب، وطاعة الإمام فيما يأمر به وينهى عنه، كما على المجاهد أثناء القتال أن يكثر من ذكر الله تعالى، وأن يثبت ويستميت حال الزحف، ويصبر، ويصابر، ويطيع الله ورسوله، ويترك النزاع والخلاف الذي قد يكون سبباً للفشل والهزيمة.

الاستجابة لله ينبغي ألا تعقبها مخالفة

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد.

فهذه هي أول ليلة من هذا الشهر الحرام شهر ذي القعدة، ونحن نستقبل جميعاً وإياكم موسماً عظيماً، وأياماً فاضلة من أيام الله سبحانه وتعالى، تلك الأيام التي فضلها الله عز وجل على سائر الأيام، فما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام، أي عشر ذي الحجة، وأفضل عمل صالح يؤدى في هذه الأيام هو الحج إلى بيت الله الحرام، ومن ثم أحببنا أن نقف في هذه الأمسية وفي هذا الدرس حول بعض المعاني المتعلقة بهذه الشعيرة العظيمة، ولهذا أقترح أن يكون عنوان هذا الدرس: لبيك اللهم لبيك، وهو لا يخرج عن العنوان المعلن فهي وصايا هامة.

في هذا الدرس -معشر الإخوة الكرام- لن أتحدث عن أحكام الحج، ولن أتحدث عن آدابه، ولا عما ينبغي أن يفعله الحاج، أو عن الأخطاء التي يقع فيها الحجاج، وهي جوانب مهمة ولا شك ونحتاج إلى الحديث عنها كثيراً، وحين أختار ألا أتحدث عنها فإن هذا لا يعني بحال أني أرى أن ما أقوله هو أولى من ذلك، ولكني أردت أن أطوف وإياكم في هذه الأمسية حول واقع المسلمين الذين يفدون إلى بيت الله الحرام لنأخذ بعض الدروس وبعض الوقفات التي نتأمل فيها واقعنا جميعاً وخاصة واقع أولئك الحجاج الذين يلبون نداء الله عز وجل، ويأتون إلى هذا البيت ملبين مهلين، وأول قضية نقف عندها هي وقفات حول التلبية.

الوقفة الأولى: ما إن يخلع الحاج ملابسه ويرتدي ملابس الإحرام حتى يجهر بهذا النداء وهذا الذكر: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. إنه يعلن استجابته لله عز وجل استجابة بعد استجابة، يعلن استجابته لنداء الله سبحانه وتعالى ولأمره، ويكرر هذا ويصدح به على رءوس الملأ، ويتعبد إلى الله عز وجل بهذا الذكر، لكنك حين ترقب هذا الذي يلبي في سائر حياته ترى له شأناً آخر مع حدود الله عز وجل، إنه يتجرأ على أن يتجاوز حدود الله عز وجل، ويتجرأ على أن يخالف أوامر الله سبحانه وتعالى، إنه يرى الأمر واضحاً أمامه مما أمر الله عز وجل به وافترضه عليه، ومع ذلك يترك هذا العمل عن عمد وسبق إصرار، وهو أيضاً يرى الأمر مما نهاه الله عز وجل عنه وحذره منه وتوعده عليه بأليم العقاب، ومع ذلك يتجرأ على مخالفة أمر الله عز وجل وعلى انتهاك حدوده، فأين تلك الاستجابة التي كان يعلنها وهو يقول: لبيك اللهم لبيك؟

أين ذاك الخضوع الذي لم يكتف بأن يكون سراً في نفسه حتى جهر به وأعلنه على رءوس الملأ استجابة لله عز وجل بعد استجابة، وخضوعاً لله سبحانه وتعالى بعد خضوع؟

إنه لو تأمل هذا المعنى لعاد به ذلك كثيراً ولفكر ملياً وهو يجهر بهذا الدعاء وهذا الذكر، ولعادت به الذاكرة إلى حياته تلك التي يسطرها بالصفحات المخالفة لأمر الله عز وجل، إن هذا الدافع الذي يدعوه إلى إعلان الاستجابة لأمر الله عز وجل على رءوس الخلائق ينبغي أن يدفعه للاستجابة لأوامر الله عز وجل ونواهيه في سائر حياته.

التلبية يجب ألا يعقبها الشرك

الوقفة الثانية حول التلبية:

لقد كان أهل الجاهلية يعلنون الشرك الصراح وهم يلبون ويجاهرون به، فيقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك!

فجاء الإسلام بتلبية التوحيد والإخلاص، إنه إعلان للبراءة من الشرك بكل صوره وأبوابه، من الشرك في ربوبية الله عز وجل، فالله سبحانه وتعالى هو وحده المتصف بصفات الجلال والتعظيم فاعتقاد أن أحداً من البشر يشاركه سبحانه وتعالى الخلق أو الرزق أو أنه يملك الضر والنفع هو إشراك مع الله عز وجل المتفرد بالربوبية، وكم يتجرأ أولئك الذين يعلنون هذا الدعاء صباح مساء: لبيك لا شريك لك .. كم يتجرأ هؤلاء على الشرك بالله عز وجل في مقام ربوبيته، فيعطون تفويضاً لمن يسمونهم بمشايخ الطرق أو الأئمة أو غيرهم، يعطونهم تفويضاً في التصرف في الكون فيعتقدون أن فلاناً ينفع، أو أن فلاناً يضر، أو أن فلاناً بيده هذا الأمر أو ذاك.

واعتقاد أن هناك من يملك التشريع للناس والتحليل والتحريم هو أيضاً خرق لسياج التوحيد، واستخفاف بالله عز وجل وعظمته، وهو القائل: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21] وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121] وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45] وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47].

إنها قضية واضحة كل الوضوح لا لبس فيها ولا غموض ولا مجال فيها للمجادلة والمراء، إن إعطاء حق التشريع والإباحة والتحريم لأحد غير الله عز وجل خرق لسياج التوحيد وإشراك بالله عز وجل في ربوبيته، ويصدق على أولئك قول الله عز وجل: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ [التوبة:31] فما بال هذا الرجل الذي يُعلن التلبية ويصدح بها نافياً للشرك عن الله عز وجل، يتجرأ في الإشراك بالله عز وجل ومنازعة الله سبحانه وتعالى في ربوبيته وأمره: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54]، وقد قرن الله عز وجل الحكم بشرعه بعبادته: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [يوسف:40].

والتوجه لغيره سبحانه وتعالى بالدعاء وطلب الحاجة إعلان ممن فعل ذلك أنه يجهل قدر الله عز وجل، وأنه لا يعظّم الله عز وجل حق التعظيم، وهو القائل: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18] وهو القائل: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:13-14] فما بال البعض ممن يعلن البراءة من الشرك هاهنا ويكررها، حين يعود إلى بلاده يتوجه إلى غير الله عز وجل فيدعو غير الله عز وجل، ويرغب إلى غير الله سبحانه وتعالى، ويتوجه إلى غيره عز وجل.

الجهر بالتلبية

الوقفة الثالثة حول التلبية:

يسن الجهر بالتلبية، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أفضل الحج العج والثج) والمقصود به رفع الصوت بالتلبية وإراقة الدم في سبيل الله عز وجل، وحين أحرم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا يلبون رفعوا أصواتهم فما بلغوا الروحاء حتى بحت أصواتهم.

إنه مشهد جميل ورائع وصوت شجي وندي يملأ الميادين والأزقة والطرقات معلناً التوحيد لله عز وجل: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك! لكنك ترى المسلم الذي يجهر بالتلبية ويعلنها ويكررها ويرفع بها صوته، تراه حين يعود بعد ذلك إلى بلده يستحي أن يجهر بما ينبغي أن يجهر به، فهو يستحي أن يعلن انتماءه الحقيقي وولاءه لدينه، يستحي أن يصلي النافلة وربما صلاة الجماعة، يستحي أن يترك معاقرة الخمرة، يستحي أن يفعل ذلك أمام الناس وهو الذي كان يجهر بالتلبية لله عز وجل.

إن هذا الشعور الذي يدفع المسلم للجهر بالتلبية ينبغي أن يدفعه إلى أن يجهر بانتمائه وبدينه وأن يعلنها صريحة واضحة أمام الناس: ها أنا مسلم أدعو الله عز وجل وأدعو إليه وأنتمي لدينه، ها أنا مسلم أتعبد لله عز وجل بفعل ما أمر واجتناب ما نهى ولو خالف ما عليه الناس.

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد.

فهذه هي أول ليلة من هذا الشهر الحرام شهر ذي القعدة، ونحن نستقبل جميعاً وإياكم موسماً عظيماً، وأياماً فاضلة من أيام الله سبحانه وتعالى، تلك الأيام التي فضلها الله عز وجل على سائر الأيام، فما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام، أي عشر ذي الحجة، وأفضل عمل صالح يؤدى في هذه الأيام هو الحج إلى بيت الله الحرام، ومن ثم أحببنا أن نقف في هذه الأمسية وفي هذا الدرس حول بعض المعاني المتعلقة بهذه الشعيرة العظيمة، ولهذا أقترح أن يكون عنوان هذا الدرس: لبيك اللهم لبيك، وهو لا يخرج عن العنوان المعلن فهي وصايا هامة.

في هذا الدرس -معشر الإخوة الكرام- لن أتحدث عن أحكام الحج، ولن أتحدث عن آدابه، ولا عما ينبغي أن يفعله الحاج، أو عن الأخطاء التي يقع فيها الحجاج، وهي جوانب مهمة ولا شك ونحتاج إلى الحديث عنها كثيراً، وحين أختار ألا أتحدث عنها فإن هذا لا يعني بحال أني أرى أن ما أقوله هو أولى من ذلك، ولكني أردت أن أطوف وإياكم في هذه الأمسية حول واقع المسلمين الذين يفدون إلى بيت الله الحرام لنأخذ بعض الدروس وبعض الوقفات التي نتأمل فيها واقعنا جميعاً وخاصة واقع أولئك الحجاج الذين يلبون نداء الله عز وجل، ويأتون إلى هذا البيت ملبين مهلين، وأول قضية نقف عندها هي وقفات حول التلبية.

الوقفة الأولى: ما إن يخلع الحاج ملابسه ويرتدي ملابس الإحرام حتى يجهر بهذا النداء وهذا الذكر: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. إنه يعلن استجابته لله عز وجل استجابة بعد استجابة، يعلن استجابته لنداء الله سبحانه وتعالى ولأمره، ويكرر هذا ويصدح به على رءوس الملأ، ويتعبد إلى الله عز وجل بهذا الذكر، لكنك حين ترقب هذا الذي يلبي في سائر حياته ترى له شأناً آخر مع حدود الله عز وجل، إنه يتجرأ على أن يتجاوز حدود الله عز وجل، ويتجرأ على أن يخالف أوامر الله سبحانه وتعالى، إنه يرى الأمر واضحاً أمامه مما أمر الله عز وجل به وافترضه عليه، ومع ذلك يترك هذا العمل عن عمد وسبق إصرار، وهو أيضاً يرى الأمر مما نهاه الله عز وجل عنه وحذره منه وتوعده عليه بأليم العقاب، ومع ذلك يتجرأ على مخالفة أمر الله عز وجل وعلى انتهاك حدوده، فأين تلك الاستجابة التي كان يعلنها وهو يقول: لبيك اللهم لبيك؟

أين ذاك الخضوع الذي لم يكتف بأن يكون سراً في نفسه حتى جهر به وأعلنه على رءوس الملأ استجابة لله عز وجل بعد استجابة، وخضوعاً لله سبحانه وتعالى بعد خضوع؟

إنه لو تأمل هذا المعنى لعاد به ذلك كثيراً ولفكر ملياً وهو يجهر بهذا الدعاء وهذا الذكر، ولعادت به الذاكرة إلى حياته تلك التي يسطرها بالصفحات المخالفة لأمر الله عز وجل، إن هذا الدافع الذي يدعوه إلى إعلان الاستجابة لأمر الله عز وجل على رءوس الخلائق ينبغي أن يدفعه للاستجابة لأوامر الله عز وجل ونواهيه في سائر حياته.

الوقفة الثانية حول التلبية:

لقد كان أهل الجاهلية يعلنون الشرك الصراح وهم يلبون ويجاهرون به، فيقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك!

فجاء الإسلام بتلبية التوحيد والإخلاص، إنه إعلان للبراءة من الشرك بكل صوره وأبوابه، من الشرك في ربوبية الله عز وجل، فالله سبحانه وتعالى هو وحده المتصف بصفات الجلال والتعظيم فاعتقاد أن أحداً من البشر يشاركه سبحانه وتعالى الخلق أو الرزق أو أنه يملك الضر والنفع هو إشراك مع الله عز وجل المتفرد بالربوبية، وكم يتجرأ أولئك الذين يعلنون هذا الدعاء صباح مساء: لبيك لا شريك لك .. كم يتجرأ هؤلاء على الشرك بالله عز وجل في مقام ربوبيته، فيعطون تفويضاً لمن يسمونهم بمشايخ الطرق أو الأئمة أو غيرهم، يعطونهم تفويضاً في التصرف في الكون فيعتقدون أن فلاناً ينفع، أو أن فلاناً يضر، أو أن فلاناً بيده هذا الأمر أو ذاك.

واعتقاد أن هناك من يملك التشريع للناس والتحليل والتحريم هو أيضاً خرق لسياج التوحيد، واستخفاف بالله عز وجل وعظمته، وهو القائل: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21] وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121] وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45] وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47].

إنها قضية واضحة كل الوضوح لا لبس فيها ولا غموض ولا مجال فيها للمجادلة والمراء، إن إعطاء حق التشريع والإباحة والتحريم لأحد غير الله عز وجل خرق لسياج التوحيد وإشراك بالله عز وجل في ربوبيته، ويصدق على أولئك قول الله عز وجل: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ [التوبة:31] فما بال هذا الرجل الذي يُعلن التلبية ويصدح بها نافياً للشرك عن الله عز وجل، يتجرأ في الإشراك بالله عز وجل ومنازعة الله سبحانه وتعالى في ربوبيته وأمره: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54]، وقد قرن الله عز وجل الحكم بشرعه بعبادته: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [يوسف:40].

والتوجه لغيره سبحانه وتعالى بالدعاء وطلب الحاجة إعلان ممن فعل ذلك أنه يجهل قدر الله عز وجل، وأنه لا يعظّم الله عز وجل حق التعظيم، وهو القائل: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18] وهو القائل: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:13-14] فما بال البعض ممن يعلن البراءة من الشرك هاهنا ويكررها، حين يعود إلى بلاده يتوجه إلى غير الله عز وجل فيدعو غير الله عز وجل، ويرغب إلى غير الله سبحانه وتعالى، ويتوجه إلى غيره عز وجل.

الوقفة الثالثة حول التلبية:

يسن الجهر بالتلبية، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أفضل الحج العج والثج) والمقصود به رفع الصوت بالتلبية وإراقة الدم في سبيل الله عز وجل، وحين أحرم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا يلبون رفعوا أصواتهم فما بلغوا الروحاء حتى بحت أصواتهم.

إنه مشهد جميل ورائع وصوت شجي وندي يملأ الميادين والأزقة والطرقات معلناً التوحيد لله عز وجل: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك! لكنك ترى المسلم الذي يجهر بالتلبية ويعلنها ويكررها ويرفع بها صوته، تراه حين يعود بعد ذلك إلى بلده يستحي أن يجهر بما ينبغي أن يجهر به، فهو يستحي أن يعلن انتماءه الحقيقي وولاءه لدينه، يستحي أن يصلي النافلة وربما صلاة الجماعة، يستحي أن يترك معاقرة الخمرة، يستحي أن يفعل ذلك أمام الناس وهو الذي كان يجهر بالتلبية لله عز وجل.

إن هذا الشعور الذي يدفع المسلم للجهر بالتلبية ينبغي أن يدفعه إلى أن يجهر بانتمائه وبدينه وأن يعلنها صريحة واضحة أمام الناس: ها أنا مسلم أدعو الله عز وجل وأدعو إليه وأنتمي لدينه، ها أنا مسلم أتعبد لله عز وجل بفعل ما أمر واجتناب ما نهى ولو خالف ما عليه الناس.

النقطة الثانية: الحج وإبراهيم.

الولاء لله ولدين الإسلام وأهله

الحج يربط المسلم ويذكره بنبيه إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم، فهو الذي بنى البيت، وهو الذي أذن في الناس بالحج فجاءوا رجالاً وركباناً على كل ضامر من كل فج عميق يستجيبون لهذا النداء، وهو الذي نبع ماء زمزم لابنه إسماعيل حين تركه وودعه وأمه، فنادته أمه قائلة: إلى من تتركنا.. إلى من تتركنا؟ فلا يجيب إبراهيم النداء ولا يلتفت إليها، ثم تسأله فتقول: آلله أمرك بهذا؟ فيقول: نعم فتقول: إنه لن يضيعنا.

وتبقى تلك المرأة مع ولدها إسماعيل في واد غير ذي زرع، وحين يفارقهم إبراهيم يرفع يديه إلى السماء ويدعو الله عز وجل: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [إبراهيم:35-37] وتأتي حين يجوع ولدها ويبكي، تذهب ذات اليمين وذات الشمال، فتصعد الصفا وتصعد المروة وتتردد هنا وهناك حتى يمن الله عز وجل عليه بهذا الماء.

إن المسلم هناك وهو يطوف بالبيت، ويصلي خلف المقام، ويسعى بين الصفا والمروة، ويشرب ماء زمزم، وهو يتنقل بين هذه المناسك.. إنه يشعر بأنه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بإبراهيم عليه السلام، وهذا يعني..

أولاً: أن هذا يشعره بالانتماء والولاء لإبراهيم عليه السلام، وللحنيفية التي جاء بها، إن إبراهيم هو الذي دعا الله عز وجل: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ [البقرة:129] إن إبراهيم هو الذي سمانا المسلمين من قبل، هو الذي أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم وأمر أمته من بعده أن تتأسى به وأن تنتمي إليه.

ما بالنا نرى هذا المسلم الذي يأتي إلى البيت والذي يشعره بالولاء لإبراهيم، نراه حين يعود إلى بلاده يوزع ولاءه ذات اليمين وذات الشمال، فهو تارة ينتمي لاتجاه قومي، وتارة لاتجاه وطني، تارة يتبنى منهجاً علمانياً، تارة يتبنى منهجاً يعارض الملة الحنيفية التي جاء بها إبراهيم عليه السلام.

إنه هو الذي كان يطوف بالبيت وكان يصلي خلف المقام، وكان يطوف بين الصفا والمروة، هو الذي لا يستحي بعد ذلك أن يُعلن أمام الناس أنه قومي أو وطني أو علماني، إنه هو الذي يستقبل القبلة البيت الذي بناه إبراهيم كل يوم خمس مرات ويردد في صلاته: كما صليت على إبراهيم وعلى آله إبراهيم .. كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم.. إنه هو هو الذي يوزع ولاءه وانتماءه، ولهذا يأمر الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن تجهر بها صريحة وتعلنها واضحة في وجه من يدعوها لمنهج منحرف: وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [البقرة:135] .

ولئن كان الله عز وجل قد أمر المخاطبين بها لأول مرة أن يقولوها في وجه من يدعوهم لليهودية، أو من يدعوهم للنصرانية، فهو أمر لمن يدعوهم بعد ذلك لنحلة أرضية أو مذهب مادي، إن أمة الإسلام حزب واحد، وجماعة واحدة، وأمة واحدة لا يعرف فيها المسلم الولاء إلا لمنهج واضح المعالم، ذاك المنهج الذي اختصه إبراهيم عليه السلام: مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [البقرة:135].

عدم صرف العبادة لغير الله تعالى

ثانياً: إن منهج إبراهيم وملة إبراهيم لها معلم بارز وشعار ظاهر بيّنه الله لورثة إبراهيم، فقد اختصم اليهود والنصارى وكل منهم يدّعي أنه سائر على منهج إبراهيم، فجاء الوحي: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران:67] إن مجرد نزاع أولئك على الانتماء له والادعاء بالسير وراءه لأعظم دليل على سمو الانتماء لهذا النبي الكريم، إن ملة إبراهيم هي كما حكى الله عز وجل: كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران:67] وفي سورة الأنعام يقول حين أعلن بطلان إلوهية ما سوى الله: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:79].

وفي سورة النحل يصفه الله عز وجل بذلك: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل:120] ثم يأمر الله عز وجل نبيه، والأمر له أمر لأمته من بعده: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل:123].

أترى أخي المسلم وأختي المسلمة بعد ذلك أولئك الذين يصرفون العبادة لغير الله في شتى أنحاء بلاد المسلمين يحق لهم أن ينتسبوا وينتموا لإبراهيم؟ ومع هذا التأكيد على ملة إبراهيم فيوحي الله إليه محذراً إياه من الشرك ومبيناً له أن من أهم ما يقتضيه حج بيت الله الحرام إعلان البراءة من الشرك والخلوص منه: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [الحج:26] ثم يخاطب الله عز وجل أمة الإسلام في ثنايا آيات الحج: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:30-31].

وقد أخبر الله عز وجل في كتابه وهو العليم الحكيم أن الكثير ممن يدعي الإيمان يقع في الشرك فقال: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106] فما بال البعض ممن يحج إلى البيت وينتسب لإبراهيم يقعون في الشرك ويتوجهون لغير الله عز وجل؟ أيظن أولئك أن مجرد الانتساب للإسلام كاف لخلاصهم من الشرك وقد قال الله: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106]، أم يظنون أن مجرد إقرارهم بالإيمان والدين كاف وقد أخبر الله عز وجل أن أنبياءه لو أشركوا لحبطت أعمالهم: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65].

لقد حكى الله عز وجل عن المشركين أنهم وهم يتوجهون لأوثانهم بالعبادة ما كانوا يقصدون عبادة تلك الأوثان، بل كانوا يتخذونها وسيلة وزلفى إلى الله عز وجل: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3].

فبالله عليكم ما الفرق بين أعرابي كان في ذلك العصر البائد يتوجه إلى حجارة يركع لها ويسجد ويرى أنها تقربه إلى الله زلفى، وبين رجل في القرن العشرين في عصر العلم والوعي أصبح يطوف على رفات قد مضت عليها السنون، ويعتقد أن صاحب هذا الضريح يقربه إلى الله زلفى ومنزلة إلى الله عز وجل؟

إنها صورة واضحة، إنه الشرك بالله عز وجل .. إنه الشرك الذي جاء هذا الدين لمحوه، هو الذي أرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم لإبطاله والقضاء عليه، فما أجدر المسلم وقد أجاب نداء إبراهيم فجاء ملبياً أن يحرص على أن يتعلم ملة إبراهيم، أن يحرص على أن يعرف هذا الطريق وهذه الملة ليبتعد عن موجبات الشرك صغيره وكبيره.

عقيدة البراءة من المشركين

ثالثاً: لقد ورثت الأمة الإسلامية من أبيها إبراهيم عقيدة البراءة من المشركين وعداوتهم؛ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة:4].

فقد أعلنها إبراهيم صريحة واضحة: كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ [الممتحنة:4] ولحكمة عظيمة تنزل آية براءة في موسى الحج، ويرسل النبي صلى الله عليه وسلم من يقرأ بها في الموسم: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ [التوبة:1-2].

فهل يُدرك المسلم وهو يلبي نداء إبراهيم أن عليه أن يقطع الولاء لكل مشرك وكافر، ولو كان أقرب قريب؟ وألا يوالي إلا من كان حنيفاً مسلماً؟

هل يدرك المسلم وهو يلبي، وهو يستجيب لنداء إبراهيم، وهو يستقبل البيت الذي بناه إبراهيم خمس مرات، هل يدرك أن ملة إبراهيم قائمة على البراءة من كل كافر بالله عز وجل، ومن كل مشرك أياً كان كفره وشركه، سواء كان يهودياً أو نصرانياً، أو كان وثنياْ أو مرتداً ما دام كافراً بالله عز وجل فملة إبراهيم تقتضي إعلان البراءة واضحة، وقد أعلنها الله عز وجل، ونزلت هذه الآيات في موسم الحج وقُرئت على الناس في ذاك العام أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، فما أجدر المسلم وهو يقضي هذه المناسك أن يتذكر هذه المعاني العظيمة.

إن قوماً من الزائغين رأوا أن الحج موطن إعلان البراءة من المشركين، والبراءة عندهم من المشركين تعني البراءة من أبي بكر وعمر وممن يحبهما ويترضى عنهم، وإن استعمال أولئك الضالين الزائغين لهذا المصطلح الشرعي لا يعني أن نتخلى عنه، فهو مصطلح جاء في كتاب الله عز وجل، وأمر الله سبحانه وتعالى به، ونودي بهذه الآيات في يوم الحج الأكبر في يوم النحر، فاستخدام أولئك لها استخداماً خاطئاً لا يعني بحال أن ينسى المسلم أنه مُتعبد بذلك، لكن البراءة التي يعرفها المنتمي حقاً لملة إبراهيم غير تلك البراءة.

الحج يربط المسلم ويذكره بنبيه إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم، فهو الذي بنى البيت، وهو الذي أذن في الناس بالحج فجاءوا رجالاً وركباناً على كل ضامر من كل فج عميق يستجيبون لهذا النداء، وهو الذي نبع ماء زمزم لابنه إسماعيل حين تركه وودعه وأمه، فنادته أمه قائلة: إلى من تتركنا.. إلى من تتركنا؟ فلا يجيب إبراهيم النداء ولا يلتفت إليها، ثم تسأله فتقول: آلله أمرك بهذا؟ فيقول: نعم فتقول: إنه لن يضيعنا.

وتبقى تلك المرأة مع ولدها إسماعيل في واد غير ذي زرع، وحين يفارقهم إبراهيم يرفع يديه إلى السماء ويدعو الله عز وجل: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [إبراهيم:35-37] وتأتي حين يجوع ولدها ويبكي، تذهب ذات اليمين وذات الشمال، فتصعد الصفا وتصعد المروة وتتردد هنا وهناك حتى يمن الله عز وجل عليه بهذا الماء.

إن المسلم هناك وهو يطوف بالبيت، ويصلي خلف المقام، ويسعى بين الصفا والمروة، ويشرب ماء زمزم، وهو يتنقل بين هذه المناسك.. إنه يشعر بأنه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بإبراهيم عليه السلام، وهذا يعني..

أولاً: أن هذا يشعره بالانتماء والولاء لإبراهيم عليه السلام، وللحنيفية التي جاء بها، إن إبراهيم هو الذي دعا الله عز وجل: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ [البقرة:129] إن إبراهيم هو الذي سمانا المسلمين من قبل، هو الذي أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم وأمر أمته من بعده أن تتأسى به وأن تنتمي إليه.

ما بالنا نرى هذا المسلم الذي يأتي إلى البيت والذي يشعره بالولاء لإبراهيم، نراه حين يعود إلى بلاده يوزع ولاءه ذات اليمين وذات الشمال، فهو تارة ينتمي لاتجاه قومي، وتارة لاتجاه وطني، تارة يتبنى منهجاً علمانياً، تارة يتبنى منهجاً يعارض الملة الحنيفية التي جاء بها إبراهيم عليه السلام.

إنه هو الذي كان يطوف بالبيت وكان يصلي خلف المقام، وكان يطوف بين الصفا والمروة، هو الذي لا يستحي بعد ذلك أن يُعلن أمام الناس أنه قومي أو وطني أو علماني، إنه هو الذي يستقبل القبلة البيت الذي بناه إبراهيم كل يوم خمس مرات ويردد في صلاته: كما صليت على إبراهيم وعلى آله إبراهيم .. كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم.. إنه هو هو الذي يوزع ولاءه وانتماءه، ولهذا يأمر الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن تجهر بها صريحة وتعلنها واضحة في وجه من يدعوها لمنهج منحرف: وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [البقرة:135] .

ولئن كان الله عز وجل قد أمر المخاطبين بها لأول مرة أن يقولوها في وجه من يدعوهم لليهودية، أو من يدعوهم للنصرانية، فهو أمر لمن يدعوهم بعد ذلك لنحلة أرضية أو مذهب مادي، إن أمة الإسلام حزب واحد، وجماعة واحدة، وأمة واحدة لا يعرف فيها المسلم الولاء إلا لمنهج واضح المعالم، ذاك المنهج الذي اختصه إبراهيم عليه السلام: مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [البقرة:135].

ثانياً: إن منهج إبراهيم وملة إبراهيم لها معلم بارز وشعار ظاهر بيّنه الله لورثة إبراهيم، فقد اختصم اليهود والنصارى وكل منهم يدّعي أنه سائر على منهج إبراهيم، فجاء الوحي: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران:67] إن مجرد نزاع أولئك على الانتماء له والادعاء بالسير وراءه لأعظم دليل على سمو الانتماء لهذا النبي الكريم، إن ملة إبراهيم هي كما حكى الله عز وجل: كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران:67] وفي سورة الأنعام يقول حين أعلن بطلان إلوهية ما سوى الله: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:79].

وفي سورة النحل يصفه الله عز وجل بذلك: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل:120] ثم يأمر الله عز وجل نبيه، والأمر له أمر لأمته من بعده: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل:123].

أترى أخي المسلم وأختي المسلمة بعد ذلك أولئك الذين يصرفون العبادة لغير الله في شتى أنحاء بلاد المسلمين يحق لهم أن ينتسبوا وينتموا لإبراهيم؟ ومع هذا التأكيد على ملة إبراهيم فيوحي الله إليه محذراً إياه من الشرك ومبيناً له أن من أهم ما يقتضيه حج بيت الله الحرام إعلان البراءة من الشرك والخلوص منه: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [الحج:26] ثم يخاطب الله عز وجل أمة الإسلام في ثنايا آيات الحج: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:30-31].

وقد أخبر الله عز وجل في كتابه وهو العليم الحكيم أن الكثير ممن يدعي الإيمان يقع في الشرك فقال: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106] فما بال البعض ممن يحج إلى البيت وينتسب لإبراهيم يقعون في الشرك ويتوجهون لغير الله عز وجل؟ أيظن أولئك أن مجرد الانتساب للإسلام كاف لخلاصهم من الشرك وقد قال الله: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106]، أم يظنون أن مجرد إقرارهم بالإيمان والدين كاف وقد أخبر الله عز وجل أن أنبياءه لو أشركوا لحبطت أعمالهم: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65].

لقد حكى الله عز وجل عن المشركين أنهم وهم يتوجهون لأوثانهم بالعبادة ما كانوا يقصدون عبادة تلك الأوثان، بل كانوا يتخذونها وسيلة وزلفى إلى الله عز وجل: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3].

فبالله عليكم ما الفرق بين أعرابي كان في ذلك العصر البائد يتوجه إلى حجارة يركع لها ويسجد ويرى أنها تقربه إلى الله زلفى، وبين رجل في القرن العشرين في عصر العلم والوعي أصبح يطوف على رفات قد مضت عليها السنون، ويعتقد أن صاحب هذا الضريح يقربه إلى الله زلفى ومنزلة إلى الله عز وجل؟

إنها صورة واضحة، إنه الشرك بالله عز وجل .. إنه الشرك الذي جاء هذا الدين لمحوه، هو الذي أرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم لإبطاله والقضاء عليه، فما أجدر المسلم وقد أجاب نداء إبراهيم فجاء ملبياً أن يحرص على أن يتعلم ملة إبراهيم، أن يحرص على أن يعرف هذا الطريق وهذه الملة ليبتعد عن موجبات الشرك صغيره وكبيره.