تفسير سورة النمل [17-27]


الحلقة مفرغة

قال الله جل جلاله: وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:17-18].

لا نزال مع سليمان عليه السلام في قصته مع جنده من الجن والإنس والحيوان والطير، وما خصه الله به دون الأنبياء السابقين من الجمع بين الملك والنبوة.

فهنا أخبر الله جل جلاله بأن سليمان جمع له وحُشد له وحُشر له جيوشه من الجن والإنس والطير، فَهُمْ يُوزَعُونَ أي أن النقباء والقادة من جيشه كانوا يكفّونهم وينظمونهم ويرتبونهم كما تُرتب الجيوش، فهذا أمام هذا وهذا خلف هذا، وهذا عن اليمين وهذا عن اليسار.

وذكر أن جنده بلغوا مئات الآلاف، ويظن أن ذلك مبالغ فيه وأنه من الإسرائيليات.

ومما ذكروه أنه كان ملكاً على كل الأرض، وهذا لا يُعرف؛ إذ كان سليمان نبياً أُرسل إلى قومه من بني إسرائيل خاصة كبقية أنبياء بني إسرائيل، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (وكان الأنبياء يبعثون إلى أقوامهم خاصة، وبعثت إلى الناس كافة) وكون الدين عالمياً لا يُعرف إلا في دين الإسلام الخاتم وفي رسالة نبينا عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.

فقوله تعالى: فَهُمْ يُوزَعُونَ أي: ينظمون ويكفّون، ومنه قول عثمان رضي الله عنه: (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن) أي: يدفع ويكف، فكثير من الناس لا يؤثر فيهم وحي الله ولا أمر الله ولا أمر نبيه، فإذا هُددوا بالسياط وبالسيوف تجدهم قد رُعبوا وذلوا وخضعوا خوفاً من القوة لا خوفاً من الله، والناس ليسوا سواء.

قوله: حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ [النمل:18].

أي: حتى إذا أتى هذا الجيش المحشود من الجن والإنس إلى واد النمل.

وقد قال قوم: وادي النمل في الشام، وهذا هو الأقرب إلى الواقع، وقال كعب : في الطائف، ومن المعلوم أنه لا يزال إلى اليوم في أرض الطائف على بعد ثلاثة أميال منها واد يسمى وادي النمل، وقد قيل: إن نمل هذا الوادي يكاد يكون قدر الأنملة أو يزيد، ويعلم هذا كل من وصل إلى هناك من أهل البلاد والسائحين والمارين، والوادي: هو الطريق بين جبلين.

فالنملة رأت الجيش اللجب الكثير المتراص من الجن والإنس والطير، فإذا بها تصيح في بقية النمل: يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ [النمل:18] كي لا يسحقكم سليمان بأقدامه مع جنده وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ لصغر النمل وحقارته، وكثرة الجيش.

وكان من خصائص سليمان إدراكه قول النمل وفهمه له، وقيل: إن الله سخّر لسليمان الريح، فتارة تحمله وجنده على بسط يتنقل بها حيث شاء من أرض الله، وتارة تحمل له الريح ما يقوله عنه الجن والإنس والدواب والطير، وكان مما حملته الريح إليه كلام هذه النملة، فسمع ذلك سليمان.

قال تعالى عنها: لا يَحْطِمَنَّكُمْ أي: لا يسحقنكم ولا يدوسنكم، فتذهبون تكسيراً وتحطيماً بين أرجله وجيوشه وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي: حال كونهم لا يشعرون بما جرى لكم ولم قالت كذلك؟

لقد علمت أن سليمان نبي من أنبياء الله لا يظلم، وأنه إن حدث شيء من ذلك يحدث بغير علم منه وبغير شعور منه، ولو أدرك ذلك وشعر به لحرّمه ومنعه وعاقب عليه، ولكن هذه النملة كبقية النمل والدواب والطير أيام سليمان، علمت بأن ذلك لن يكون؛ لأن سليمان نبي عادل، ولا يليق بأنبياء الله ورسله إلا العدل، ولذلك لم تتصور أن يسحقها ويسحق النمل إلا إذا كان ذلك بغير شعور منه ومن جنده.

فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل:19].

قال تعالى: فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا أي: سمع كلامها وصوتها فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا، وكان ضحك الأنبياء التبسم، وهكذا نبينا صلى الله عليه وسلم فيما روته عنه السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ورواه غيرها من الصحابة رضي الله عنهم، فقد كان عليه الصلاة والسلام جل ضحكه التبسّم، ولا تُرى لهوات لسانه، فإذا تبسّم لا يكون ذلك إلى أن تفتر شفتاه وتظهر صلى الله عليه وسلم.

وهكذا قص الله عن سليمان، وذلك يدل على أنه من أدب الأنبياء ومن أدب المرسلين أنهم إذا ضحكوا تبسّموا، ولا يصل ذلك إلى القهقهة وظهور النواجذ، وقد كان هذا في الحياة المحمدية النبوية يُعد على الأصابع، حيث تبسّم حتى ظهرت نواجذه صلى الله عليه وسلم.

قال تعالى: فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا [النمل:19] عجباً من جانب وشكراً لله من جانب آخر على ما أولاه من نعمه وإفضاله وخصّه به من إكرامه.

وذهب يشكر الله، قال تعالى: وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ [النمل:19].

قوله تعالى: (أوزعني) أي: ألهمني شكرك وألهمني حمدك، وألهمني الاعتراف بإفضالك والحمد على كل إحسانك.

أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ [النمل:19] أي: أكرمتني بها من الإيمان بك ومن النبوة التي أكرمتني بها والرسالة، وأنعمت بمثل ذلك على والديَّ من قبل بأن جعلتهما مسلمين مؤمنين، وجعلت أبي داود نبياً ورسولاً، وأكرمته بما أكرمته به من النبوة والملك كذلك، وأشكرك على ما ألهمتني إياه من فهم لغات الطير ولغات الهوام ولغات الحيوان، وما سخّرت لي من الجن والإنس ما لم تسخّر مثله لأحد قبلي، فهو يشكر نعمة الله عليه وعلى أبيه وأمه.

قال تعالى: وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ أي: ووفقني للعمل الصالح الذي يُرضيك من طاعتك والدعوة إليك والقتال في سبيلك، وإجبار أعدائك الكافرين على توحيدك والإيمان بك، وإذلال الكافرين وسحق المنافقين.

ولا بد من الرضا عن العمل، وإلا فقد يفعل الإنسان ما يظنه صالحاً في وهمه وهو باطل وضلال، فلا بد من أن يكون هذا الصلاح مما يُرضي الله جل جلاله لا ما يُرضي من يُسمون بالفلاسفة وبالمفكّرين وهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر.

ثم قال تعالى عن سليمان: وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل:19] اجعلني من جملة الصالحين من عبادك برحمة منك لا بشيء أستحقه ولا بعمل عملته، فأنا وعملي منك وإليك يا ربي وخالقي، خلقتني وألهمتني العمل الصالح، وجعلتني من عبادك الصالحين وابن نبيك داود، وأكرمتني كذلك بالرسالة والملك، فاجعلني من جملة عبادك الصالحين، وأدخلني في جملتهم واذكرني بينهم، واجعلني ممن صلح في دينه وصلح في عمله وصلُح في طاعته وقد استجاب الله له كل ذلك، كيف وهو نبيه المعظّم ورسوله المكرم؟! فعندما اختاره للنبوة والرسالة استجاب دعوته وزاده من أنواع النعم والإفضال ما لم يصنع مثله إلا مع مثله من الأنبياء والمرسلين.

وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ [النمل:20].

قال تعالى: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ .

يقال: تفقد فلان كذا، أي: بحث عنه حين شعر بأنه مفقود غير موجود، وتفقّد فلان عمله: ذهب ليرى العمل هل يسير كما هو مطلوب، وهل العاملون يعملون كما خطط لهم.

قال تعالى: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ تفقّد سليمان الطير، وما سبب تفقُّد الطير وهو بين جنده في سياحته وفي تنقله؟! قيل: كان سليمان إذا خرج سائراً ماشياً على الأرض تظلله الطير بأجنحتها من حر الشمس، وتحرّك أجنحتها لتخفف عنه حرها وأذاها، وكان إذا نزل نزلت معه وانتظرت أمره، فكان إذا نزل في الصحاري والقفار يبحث أول شيء عن الماء، وكان الهدهد من خصائصه أنه يرى الماء في تخوم الأرض كما نرى نحن الماء في الزجاجة، فقد أعطاه الله من قوة البصر ما يشق به الأرض نظراً إلى تخومها فيرى المياه في أعماق الأرض، فيشير على سليمان أن: انزل هنا، فهنا الماء. فيأمر الجن بحفر الأرض مهما كانت المياه بعيدة.

وفي ذلك اليوم احتاج إلى الماء فبحث عن الهدهد فلم يجده.

قال تعالى: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ [النمل:20] ولم يقل تعالى: وتفقد الهدهد، وذلك أنه كان على الطير كذلك وازع ونقيب مسئول ومكلّف، قالوا: وكان وازعها والمكلّف بها هو الصقر، والصقر قوي البصر كذلك، يعلو إلى أجواء الفضاء بحيث تصبح الأرض بين عينيه كالصحن بين يدي الآكل والشارب، فالصقور كانت تحرس الطيور في طيرانها وذهابها وإيابها، فتأمر من يتقدم ومن يتأخر.

فتفقد سليمان الطير فسأل عن الصقر فحضر، وسأل عن الهدهد فلم يحضر فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ [النمل:20] والهدهد طائر معروف موجود في كل مكان لطيف المنظر ذو عرف من شعيرات مرتفع القدمين والرجلين ذو عينين حادتين تظهر حدتهما من قرب لمن يراه.

وقوله: مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ [النمل:20] يقال في اللغة: مالي لا أرى فلاناً، أي: ما باله لا يرى.

وقوله: أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ [النمل:20] أي: أم كان غائباً فلم يحضر. وعدم حضوره وسليمان وجنده بحاجة إلى الماء يُعتبر جريمة يستحق المخالف عليها كل عذاب وكل عقاب وكل محنة؛ لأن هذا الجند على كثرته معرض للعطش ومعرض للعطب، والعطش في الصحاري -خاصة في الأيام الحارة الشديدة- يُسرع بالموت إلى العطاش الذين تجف حلوقهم من الريق، فقد يصبر الإنسان على الطعام أياماً ولا يصبر على الماء إذا اشتد الحر.

ولما لم يجب الهدهد بحضوره علم سليمان أن الهدهد غائب ليس بحاضر، فأخذ ينذر ويتوعد ويقول: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ [النمل:21].

تهدد هذا الهدهد لغيبته بأنه سيعذبه، وأقسم على ذلك، ودليل القسم اللام الموطئة للقسم مع نون التوكيد الثقيلة لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ [النمل:21] أي: أشد الذبح وآلمه أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ أو يأتي بدليل يدل على أن غيابه كان لمصلحة الجيش ولمصلحة سليمان.

قالوا: والعذاب الذي تهدده به هو أن ينتف ريشه ويتركه للنمل حتى يموت، وقيل غير ذلك، وعلى كل فهو عذاب يليق بالهدهد.

وذبحه أن يفقده الحياة، والهدهد لا يُذبح، فقد روينا عن أبي هريرة رضي الله عنه فيما أخرجه الإمام أحمد في المسند وأبو داود في السنن وابن ماجة في السنن (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل أربع: النملة، والنحلة، والهدهد، والصرد)، والصرد هو ذلك الذي يصيح صيحة مسترسلة متتابعة.

وفي رواية أيضاً (وعن قتل الضفدع)، فلا تقتل الضفادع، ولا يُقتل الصُرد ولا النملة ولا النحلة، نهى صلى الله عليه وسلم عن كل ذلك.

فسليمان كان يريد تعذيب الهدهد وقتله عقوبة لغيبته عنه دون إذن مسبق إن كانت غيبته فراراً من المسئولية، وقد أُمر بأن يكون معه لخدمة الجيش في شيء هام جداً، وهو الماء، فلم يكن سليمان يحمل ماءً، وما عسى أن يكفيه من الماء لمئات آلاف من الجن والإنس.

قال تعالى: فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ [النمل:22].

قوله: فَمَكَثَ قرئ في السبع: مكُثَ ، أي: أقام مدة قصيرة.

قوله تعالى: فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ أي: جاء إلى نبي الله سليمان متعالياً عليه على صغره وحقارته يقول له: أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ أي: جئتك بعلم لا تعلمه أحطت بحذافيره، وعلمت ما يجمعه ويُحيط بقصته بداية.

والإحاطة: العلم بالشيء من جميع جوانبه.

فجاء وهو يقول: قد أحطت بعلم ما سأقوله لك إحاطة كاملة، بحيث جعلت من العلم حوائط تُحيط بما سأقوله لك.

قوله: وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ [النمل:23] لست متردداً فيه ولا شاكاً فيه.

وسبأ في أرض اليمن، وهي قبيلة من قبائل العرب تنتسب إلى قحطان ، سكنت اليمن في أرض مأرب على مقربة من مدينة صنعاء، ولا تزال تلك الأرض تسمى إلى الآن بمأرب، وسد مأرب الذي ذُكر في القرآن الكريم لا تزال آثاره في اليمن قائمة إلى اليوم، وهو من دقة الصنعة ومن بديع العمل.

ثم انطلق يتكلم فقال: إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ [النمل:23].

قال: وجدت في سبأ امرأة تملكهم، أي: ملكة عليهم تحكمهم وتصدر أوامرها ونواهيها فيهم، لها من كل شيء مما يحتاجه الملوك، أي: لست وحدك -يا سليمان- ملكاً عندك من أدوات الملك ما تحتاج إليه، فهذه المرأة وجدتها كذلك، فعندها جميع أدوات الملك من قصور ورفاهية وجند وسلاح وقوة وحضارة.

وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وهو الكرسي الذي تجلس عليه، وقد قيل: طوله كذا وكذا، وعرضه كذا وكذا، وهذه التفاصيل تحتاج إلى نقل، ولكن ذكر الله جل جلاله وصف الهدهد العرش بذلك يدل على أنه كان عظيماً، قالوا: كان ذهباً خالصاً مرصّعاً بأنواع الياقوت والجواهر واللآلئ والحجارة الكريمة مما لا ثمن له، وكان طوله ثمانين ذراعاً وعرضه تسعين ذراعاً.

فقال: وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ [النمل:24-25].

قوله: وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ [النمل:24] فأتى بهذا الخبر المفجع المثير لسليمان نبي الله الداعي إلى التوحيد، فقال: وجدت هذه المرأة مشركة وثنية تسجد للشمس من دون الله، وتعبد الشمس كما يعبدها قومها، فهي وقومها يعبدون الشمس من دون الله، ويفردون الشمس بالعبادة، ويفردون الشمس بالطاعة، ويفردون الشمس بالتأليه.

قال: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فهؤلاء يظنون أنهم على خير، وأنهم على عمل صالح، فالشيطان وسوس لهم في خواطرهم بعبادتهم للشمس من دون الله، فهم يتيهون بذلك، ويتفاخرون بذلك، وينشرون ذلك ويذيعونه، ويبنون معابد لعبادة الشمس.

قال تعالى: وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ أي: زيّن لهم الشيطان عبادتهم للشمس ووثنيتهم وكفرهم وجحودهم، فكان بذلك قد صدّهم عن السبيل، أي: عن السبيل المستقيم وعن الحق اليقين، وعن الواحد المعبود الحق جل جلاله.

قوله: فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ [النمل:24-25] فهؤلاء لا يهتدون فلا يجدون الهداية، ولا يجدون النور، ولا يجدون المعرفة ليتركوا عبادة الشمس وعبادة الوثن وعبادة الصنم وعبادة المخلوق من دون الله.

فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا [النمل:24-25] أي: كي لا يسجدوا لله، فصدّهم لكي لا يسجدوا لله ولكي لا يوحدوه، وذكروا هنا تلاوة، وهي: أَلَّا يَا سْجُدُوا فجعلوا (يا) ياء النداء، والمنادى محذوف، و(اسجدوا) فعل أمر، وهذا تكلُّف، وقدّروا القول: فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ [النمل:24]، أَلَّا يا هؤلاء اسجدوا لله، فيا هؤلاء، أو: يا قومنا، أو: يا سُكان مأرب، أو: يا أهل سبأ! ما الذي صدّكم عن عبادة الله؟ ألا فاسجدوا لله. ولا حاجة لهذا الكلف في التلاوة، والتلاوة لا تكون إلا بما ورد تواتراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليست هذه التلاوة كذلك.

والمعنى: فزيّن لهم الشيطان أعمالهم فصدّوا بذلك عن الطريق الحق ودفعوا عنه وأبعدوا عنه كي لا يهتدوا إلى عبادة الله والسجود لله.

قال تعالى: الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أي: الذي يُخرج الغائب غير المنظور في السماء الذي لا يعلمه إلا هو جل جلاله، وكذلك ما غاب في الأرض من أعمال العباد، ومن كل ما اختبأ واختفى عن أعين الناس مما لا يعمله إلا الله، فلا يعلم الغيب في السماء والأرض إلا الله عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ [الجن:26-27].

قال تعالى: الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ [النمل:25].

فهو يعلم جل جلاله ما نُخفي في أنفسنا وما نكتم في ضمائرنا، وما نعلنه كذلك قولاً وعملاً وكتابة وإشارة، فكل المعلن وكل المخفي لا يعلمه إلا الله.

فقوم سبأ بدلاً من أن يعبدوا الله العالم بكل شيء والمنفرد بعلم الغيب وبما تكنه الضمائر عبدوا خلقاً من خلقه، وهو الشمس، فقد استعظموا كبرها فذهبوا يعبدونها.

ثم قال: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [النمل:26].

فهو رب العرش الذي لا يقاس به عرش هذه المرأة، كل هذا من قول الهدهد، وكان الهدهد داعياً، وكان الهدهد جندياً مؤمناً، فقد قام بما لم يكلّف به وهو من جند سليمان، فدعا بما كان يدعو إليه سليمان من عبادة الله وتوحيده، ومكافحة الشرك وأهله، فجاء يكشف حال هؤلاء لنبي الله الملك سليمان.

قال تعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أي: الذي لا ثاني له ولا إله معبود معه بحق، ولكن الله وحده هو المعبود، وهو الخالق والمحيي والمميت.

قال تعالى: هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ دعك من عرش هذه المرأة، فهو عرش مصنوع ومخلوق، ومهما يكن فهو من مواد أرضية خلقها الله، فأين يكون من عرش الله المحيط بالسماوات والأرض؟! فالكرسي فقط قال لنا عنه نبي الله صلى الله عليه وسلم: (إن السماوات السبع والأرضين السبع بالنسبة له كسبعة دراهم ألقيت في ترس والكرسي بالنسبة للعرش كحلقة ملقاة في أرض فلاة).

فلما قال الهدهد ذلك كان سليمان قد أنصت للهدهد وأعطاه أُذنه وأعطاه سمعه إلى أن وعى عنه كل ما قال من خبر عن هذه المرأة.

وهذه المرأة قيل: هي بلقيس بنت شراحيل ، وهي قحطانية من سبأ، وكان أبوها ملكاً من الملوك العظام في أرض اليمن، ولم يخلّف سواها، وزعموا أن أمها جنية، وأن قدميها كانتا أشبه بقدمي الدابة، وهذا زعم لم يؤكده شيء من إجماع الصحابة ولا حديث نبوي، وهو أشبه ما يكون بما يروى في الإسرائيليات عن كعب الأحبار وعن نوف البكالي وعن وهب بن منبه وغيرهم من الذين أسلموا عن يهودية سابقة وحملوا بعض إسرائيلياتهم ورووها وأذاعوها ونقلوها، ودخل الكثير منها في الكتب، وهي مع ذلك مقطوعة الجذور لا سند لها ولا صحة.

فهذه المرأة قيل: اسمها بلقيس ، وهي مشهورة في التاريخ به، وذكرها القرآن، وكفاها ذاك شرفاً، وقد كانت على غاية ما يكون من الدهاء والحكم والإتقان في إدارة الدولة وفي تسييرها على كثرة رجالها وكثرة أتباعها.

قالوا: كان لها من الأقيال والأمراء والحكام ما عد بعشرات الآلاف، ولا شك في أن في ذلك مبالغة، ولكنها كانت عظيمة الشأن كبيرة السلطان، ولعل بعض ما كان عندها لم يصل إليه الناس إلى يومنا هذا، كانت إذا أمرت ارتعدت الفرائس منها، وإذا نهت ارتعدت الفرائس منها، وسيقص الله علينا بعض محاورتها لجندها وأقيالها وكبار موظفيها.

قال تعالى عن سليمان: قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [النمل:27].

فالهدهد نطق، ويحتمل قوله الكذب والصدق، ولكن سليمان سيحقق في قوله وسيبعث من يؤكد له ذلك أو ينفيه ليحق على الهدهد العذاب أو ليستحق المكافأة والجزاء إن كان صادقاً.

قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ والسين للمستقبل القريب، و(سوف) للمستقبل البعيد، فقال سليمان: سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أي: هل كنت صادقاً في خبرك فلم تبالغ ولم تقل ما ليس بواقع، أم كنت من الكاذبين، فسنرى إن كنت صادقاً أم كاذباً بعد فترة طالت أو قصرت.