تفسير سورة النمل [54-61]


الحلقة مفرغة

قال تعالى: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [النمل:54-55].

أي: واذكر -يا رسولنا- لوطاً إذ قال لقومه.

وقد أرسل لوط إلى أهل سدوم من أرض فلسطين عند البحر الميت الآن.

فالله تعالى يقول: واذكر -يا رسولنا- قصة لوط مع قومه الذين أتوا من المنكرات ما لم يسبقهم إليه أحد قبلهم قط، فكانوا الأئمة للفساق، فمن فعل ذلك بعدهم فعليهم مثل وزره إلى يوم القيامة.

قال تعالى: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [النمل:54] هذا استفهام تقريعي توبيخي، حيث يقول لوط: (أتأتون) يوبخههم ويقرعهم بهذا الاستفهام الإنكاري.

(أتأتون الفاحشة)، وقد قال في بعض السور عنها مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ [الأعراف:80]، وهنا قال: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [النمل:54] فمعناه أنهم كانوا يفعلون فعل الكلاب والخنازير على مرأى من بعضهم لبعض، وكما وصفهم الله بأنهم يأتون المنكر في ناديهم، فهذا المنكر الذي يأتونه في مجالسهم هو أنهم كانوا يفعلون فعل الخنازير والكلاب والدواب بصفة عامة.

وكل ما حدث في الأمم الماضية سيحدث في الأمة المحمدية، وقد حدث هذا الأمر اليوم في الكثير من أرض الله، فيفعل علناً، وأصبح بعض الناس يتجر بهذه الفاحشة، فيضعون لها الأفلام التي تدخل البيوت وتدخل الدور وتدخل الأسواق بما لم يسبق له مثيل حتى في عصر لوط، فلم يوصلهم الشيطان إلى ما أوصل إليه الناس اليوم، فقد كانوا يفعلون ذلك فيما بينهم، أما أن يصور ذلك ويسجل بالفعل والنظر لتراه المرأة ويراه الرجل، ويراه العزب والأرملة والأيم، فذلك لم يسبق له حدوث في الماضي، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!

قال تعالى: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [النمل:54] أي: يا هؤلاء! أين عقولكم؟! يرى بعضكم بعضاً كالكلاب والخنازير تعملون ذلك وترونه رأي العين! أتتركون نساءكم وتذهبون إلى الرجال فيستغني الرجال بالرجال والنساء بالنساء؟!

أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [النمل:55].

ثم عاد فقال موبخاً مقرعاً مستفظعاً ذلك ومستعظماً له: أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ .. [النمل:55] وهذا استفهام إنكاري للتأكيد، أي: هل أنتم الذين يفعلون هذا؟! أين عقولكم؟!

وقوله: (لتأتون) مؤكد بلام القسم للدلالة على إصرارهم على الفاحشة وبلائها ومصيبتها، أي: يا هؤلاء! أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ [النمل:55].

أتتركون نساءكم وهن موضع الشهوة الطبيعية والمكان الذي جعله الله لذلك، وتأتون إلى الأدبار وما فيها من أوساخ وقاذورات لتنشروا بذلك أمراضاً وبلاء عظيماً تنقلونه لزوجاتكم ولغيركم من الفساق؟! فهل يصنع ذلك إنسان؟! ومن أين تعلمتم ذلك؟! فلم يسبقكم إليه أحد من جميع الأمم، فما فعل ذلك قوم هود، ولا قوم صالح، ولا قوم نوح الذين بقي فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً وهو يدعوهم إلى الإسلام والتوحيد، فما فعلوا شيئاً من هذا قط.

وقوله تعالى: أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ [النمل:55] أي: يقتصرون في هذا البلاء على الرجال دون النساء، فلا يأتون النساء، فأتم الله دمارهم وهلاكهم عقوبة لهم على صنيعهم.

قوله: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [النمل:55] أي: تجهلون الحق، وتجهلون مكان الشهوة، حيث نقلتموها من النساء إلى الرجال، فأنتم أهل جاهلية لا دين لكم ولا عقل ولا شرف ولا فهم ولا إدراك.

قال تعالى: وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ [الأعراف:82] .

أصبحت الطهارة جريمة، وأصبحت القذارة والوساخة هي الحسنة.

أي: ما كان جواب قوم لوط للوط عن هذا الذي استنكره من فعلهم، ومن فواحشهم، ومن بلائهم الذي لم يسبقوا إليه، إلا أن اتفقوا وتآمروا وقال بعضهم لبعض: أخرجوا لوطاً وآله من قريتكم، وما جريمتهم؟! إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ [النمل:56]؛ لأنهم طاهرون أتقياء مؤمنون، ولأنهم ابتعدوا عن الفحشاء والمنكر.

فجعلوا النجس الطاهر والمتطهر هو النجس، وجعلوا نجاستهم طهارة، وهكذا هو الكبر في كل وقت، وطالما شهدنا الفسقة يدعون لكفرهم وشيوعيتهم واشتراكيتهم وإباحيتهم فيجعلون المنكر هو المعروف، والمعروف هو المنكر، ويجعلون ذلك أشياء شخصية لا يملكها إلا صاحب الشأن، فالرجل يسلم نفسه أو لا يسلمها، والمرأة إن كانت متزوجة أو بلغت سن الرشد فالحق حقها، فلها أن تتصرف بما تريد وبما تشاء.

وقد سمعنا أشخاصاً كباراً ورؤساء محاكم يدافعون عن هذا، فيدعون إلى القذارة والوساخة والحقارة، وكنا ننظر إليهم نظرتنا إلى خنزير وكلب، فيسقط المرء منهم من أعيننا سقوطاً، لا يذكر معه في فصيلة الإنسان ولا في فصيلة الحيوان، إلا الكلب والخنزير.

قال تعالى: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ [النمل:56].

قوله تعالى: (آل لوط) يشمل لوطاً وأهله، (إنهم أناس يتطهرون) (أناس) جمع لا مفرد له من لفظه.

قال تعالى: فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ [النمل:57].

أي: عاقبهم الله ودمرهم وسحقهم وقضى عليهم، وأنجى لوطاً وأهله إلا زوجته، أنجاهم من بلائهم، ومن تدميرهم، ومن لعنة الله عليهم، ولم يهلك من أهله إلا زوجته، قال تعالى: (قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ).

فسبق في قدر الله وقضائه المبرم أنها من الغابرين الهالكين، ومن الباقين في البلدة غير الناجين، لا لأنها كانت فاسدة في نفسها، فأنبياء الله أكرم على الله من ذلك، ولكنها كانت تدل قومها إذا جاء لوطاً شاب أو رجل، كما فعلت عندما جاء ملائكة الرحمن، حيث جاءوا يخبرونه بأن يترك البلد خلال ثلاثة أيام، وبأنه سبق في علم الله تدمير قرية سدوم والقضاء عليها وسحقها، وجعل عاليها سافلها وإمطارها بحجارة من سجيل.

فجاء جبريل في اليوم الموعود فحمل قرى قوم لوط كما يحمل الشيء إلى أن سمع نباح كلابهم وأصواتهم في السماء الدنيا، ثم قلب بهم الأرض فهووا إلى الأرض ممزقين مقطعين مبعثرين، وقد رماهم الله كذلك بحجارة من سجيل كانوا يرجمون بها رجماً، وكان من أصيب وقلب به يذوب ذوباناً.

قال تعالى: فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ [النمل:57] فكانت في قدر الله السابق وإرادته المحكمة من الباقين في الهلاك، ومن المقضي عليهم؛ لأنها كانت تساعد قومها على هذه الفاحشة.

قال تعالى: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ [النمل:58].

أمطر عليهم ما يشبه المطر، والمطر عندما ينزل ينزل بالآلاف بل بالملايين، وهكذا كان الرجم بالحجارة ينزل نزول المطر، فسحقهم ودمرهم، وجعل الله عالي بلادهم سافلها، وفنيت معهم الأرض إلى الآن، وأصبحت موضع بحيرة سميت بالبحر الميت، فهذا البحر الميت لا ينبت وليس فيه حياة، فليس فيه سمك ولا غيره من أنواع الأحياء البحرية، ويطمع اليهود اليوم في أن يجدوا فيه شيئاً، ولكنهم لن يجدوا إلا اللعنة والخراب والدمار، وذلك شأنهم، فاللعنة منهم خرجت وإليهم تعود، وما يحصل لهم إنما هو استدراج للقضاء عليهم، وذلك وعد الحق، قال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [الأعراف:167] .

قوله: فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ [النمل:58]، أي: فما أسوأ وأقبح مطر المنذرين الذين أنذرهم رسولهم العاقبة، وأنذرهم النهاية، وأمرهم بأن يتوبوا إلى الله، ويعودوا إلى رحمته، ويتوبوا مما صنعوا، ويكفوا عما هم فيه، وإلا فسيحل عليهم عذاب لم يحل مثله على أحد ممن سبق، ولكنهم مع ذلك ما زادوا إلا عصياناً واستكباراً في الأرض واستعلاء على نبي الله لوط، وقد سبق أن قلنا: إن لوطاً ابن أخي إبراهيم، وكان في عصره إبراهيم خليل الرحمن وأبو الأنبياء.

فما أسوأ وأقبح مطر قوم أنذروا قبل ولم يقبلوا النذارة ولم يقبلوا النصيحة، فكيف تكون العاقبة؟! ستكون تدميراً وهلاكاً ولعنة مستمرة.

قال تعالى: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ [النمل:59].

قال الله لنبيه بعد أن قص عليه تدمير هؤلاء العصاة الكفار وجعلهم مثلاً لقومه فيما إذا استمروا على كفرهم وعصيانهم: (قل الحمد لله) أي: على نصر عباده ونصر رسله وأنبيائه وورثتهم من المؤمنين المتقين الصالحين، والحمد لله الذي عاقب أعداءه، فعاقب من كفر بالله، وخرج عن أمر الله، وعصى رسول الله، وخرج عن طاعة رسول الله، فالحمد كثيراً.

فالله علم نبيه أن يقول ذلك، ولقد أصبح هذا شعار المؤمنين من ذلك الوقت، فلا يلقي المؤمن خطبة ولا محاضرة ولا يكتب كتاباً ولا رسالة إلا ابتدأها بالحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ولا نزال نعيش في هذا إلى الآن، وقد تستبدل الحمد لله بـ(باسم الله) كما فعل سليمان عندما كتب إلى بلقيس ملكة اليمن: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [النمل:30].

قال تعالى: (وسلام على عباده الذين اصطفى) فمن هؤلاء العباد الذين اصطفى؟

قال جمهور المفسرين: هم رسل الله وأنبياء الله.

واستدلوا بقوله تعالى: وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ [الصافات:181] .

وقال ابن عباس : وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى [النمل:59] أي: الصحابة الذين اصطفاهم الله تعالى لدينه، وللإيمان برسالته، ولاتباع نبيه وخاتم أنبيائه وأشرفهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

وقال بعض العلماء: الآية تعم كل المؤمنين ممن اصطفاهم الله للإيمان به، ولتقواه، وللبعد عن فعل الكافرين والوثنيين والعصاة من المخالفين.

أما كون الذين اصطفاهم واختارهم هم الأنبياء والمرسلين فهذا لا شك فيه، فقد كانوا هم المصطفين، وصفوتهم نبينا عليه الصلاة والسلام، وقد أدبنا القرآن وأدبنا المنزل عليه صلى الله عليه وسلم إذا ذكرنا نبينا أن نصلي عليه، وقد أمرنا الله بذلك فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وكان نبينا عليه الصلاة والسلام يقول: (من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً)، وكان يقول عليه الصلاة والسلام: (البخيل من ذكرت عنده ولم يصل علي).

وأما الصحابة رضوان الله عليهم فلم يكن في عصرهم ولا بعد عصرهم ذكرهم بالسلام، فنقول: أبو بكر عليه السلام، أو: عمر عليه السلام، وإنما نخصهم بالرضا؛ وكان جماعة من سلفنا وجماعة من المفسرين والمحدثين وكبار العلماء المجتهدين يخصون بالسلام آل البيت بعد الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، صنع هذا البخاري ، وصنع هذا المحدثون الأئمة، ووجد في كتبهم.

وأما السلام على الصحابة لصحبتهم فلم يذكر قبل ولا بعد، فمن المعروف أنه إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم نقول: صلى الله عليه وسلم، وإذا ذكر الصاحب نقول: رضي الله عنه، وإذا ذكر التابعي فمن بعده نقول: رحمه الله؛ لأن الله تعالى يقول لنا: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ [الحشر:10]، والرحمة دعوة بالمغفرة ودعوة والعفو ورفع الدرجة، وهكذا أمرنا أن ندعو لهم، ولا نصلي ولا نسلم.

وقوله تعالى: وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى [النمل:59] أي: اختار.

آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ [النمل:59] يقول الله مقرعاً أولئك بقول يقوله لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقوله كل مؤمن وكل مسلم وكل داع إلى الله، يقول لهؤلاء المشركين: الله الذي خلقكم، ورزقكم، وأعطاكم، وهو الذي صنع بالمخالفين من أقوام نوح وهود وصالح ولوط ما صنع، فهل يستطيع أولئك الذين عُبِدوا من دون الله أن يفعلوا كما يفعل الله؟

الجواب: لا.

والخيرية هنا ليست على بابها؛ لأن كلمة (خير) أصلها (أخير) وأفعل التفضيل تقتضي المشاركة وزيادة، فالخير كله في طاعة الله، وفي الإيمان به، والشر كله في الأوثان والأصنام والكفر والمخالفة.

يعود الله ليعدد ويمتن على عباده بقدرته على كل شيء، فيقول تعالى: أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ [النمل:60].

يقول الله جل جلاله: أم من خلق السموات والأرض؟! هل الله أو تلك الأوثان؟! هل الله القادر على كل شيء، أم تلك الأصنام؟!

قال تعالى: (أمن خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة) أنزل علينا من السماء أمطاراً وغيثاً مدراراً فأنبت حدائق -جمع حديقة- ذات بهجة، أي: ذات جمال وذات منظر حسن، والحديقة: البستان المسور المحدق به السور، فإذا لم يكن له سور يحدق به كان بستاناً، والحديقة تكون مسورة عادة؛ لأنها أكثر أشجاراً وأكثر ثمرة وأكثر مياها وأكثر بهجة وجمالاً، ولذلك يحافظ عليها بوضع سور خلفها يحيط بها.

فمن الذي خلق السموات بعلوها، وأفلاكها، وبأنجمها السيارة، وبما فيها، وخلق الأرض بما عليها من جبال وأشجار وأنهار جاريات ونبات يعيش به الإنسان ويعيش به الطير ويعيش به الحيوان؟! من الذي أنزل هذه الأمطار فسقى بها وأنبت بها الحدائق والبساتين ذات البهجة وذات الجمال الذي يسر العين، ويسر القلب، ويبهج النفس.

قال تعالى: فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا [النمل:60] فلا ينبغي لنا، وليس في قدرتنا ولا في طاقتنا أن ننبت هذه الأشجار التي في الأرض، ولا نستطيع أن ننبت نبتة واحدة، فنحن أعجز من ذلك وأضعف من ذلك، بل نحن ومالنا خلق الله، وكلنا فعل الله، وكلنا من قدر الله، وإذا وقف مدد الله للإنسان أصبح جماداً كما كان.

يقول تعالى: مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا [النمل:60] فما كان لنا وما ينبغي لنا، ولا نستطيع أن ننبت شجر هذه الحدائق ذات البهجة والجمال والأشكال والألوان من ورود وزهور وثمار، فلا يفعل ذلك إلا الله، ولا يقدر عليه غيره.

ولكثرة ما في الأرض من ذلك يظن أصحابها أنهم انفردوا بها، وليس لهم خلق شيء، فالذبابة التي ضرب الله بها المثل لا نستطيع خلقها، وإن أخذت الذباب منا شيئاً عجزنا عن أن نستنقذه، وكما قال تعالى: ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج:73].

قال تعالى: أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ [النمل:60].

أي: هل يوجد مع الله إله يعينه على هذا الخلق؟! وهل يوجد معه إله يستحق العبادة كما يستحقها الله؟! حاشا وكلا ومعاذ الله، ونبرأ إلى الله من كفر الكافرين، فلا إله بحق إلا الله الخالق الرازق، المعطي المانع، المحيي المميت جل جلاله وعز مقامه.

قال تعالى: بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ [النمل:60].

أي: بل هؤلاء المشركون قوم يعدلون بربهم غيره، فيجعلون له نظيراً، ويجعلون له نداً، ويجعلون له مثيلاً، تعالى الله عن ذلك لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]، فلا شبيه له في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فهو الواحد الأحد جل جلاله وعلا مقامه.

ثم قال تعالى: أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [النمل:61].

يقول تعالى وهو يتكلم جل جلاله عما تراه عين الكافر والمؤمن والكبير والصغير، والرجل والمرأة: أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا أي: من الذي جعل الأرض قراراً نستقر عليها، ونقيم عليها، وننتقل عليها من قطر إلى قطر وقارة إلى قارة براً وبحراً وجواً؟!

فهذه الأرض التي جعلها الله تعالى قراراً لنا ومستقراً ومقاماً وداراً وسكناً ما دمنا أحياء من الذي جعلها كذلك؟! ومن الذي خلقها كذلك؟! هل جعل ذلك هؤلاء الذين زعموهم شركاء أم الله؟!

والجواب معلوم، وهو أن الله وحده لا شريك له، إلا في أذهان هؤلاء السخيفة المريضة، وما لهم على ذلك من برهان ولا دليل ولا سلطان.

يقول تعالى: أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا [النمل:61] أي: تخللتها في ترابها، وفي رمالها، وفي جبالها، أنهار عذبة للشرب ولمنفعة الإنسان والطير والحيوان ولا يستطيع الإنسان أن يحيا بدون ماء، ولا يأتي بالماء إلا الله، ولو أصبح هذا الماء غائراً في الأرض فمن الذي سيأتي به غير الله تعالى القادر على كل شيء؟!

قال تعالى: وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ ، أي: جعل فوقها جبالاً لتستقر كيلا تميد بنا، ولو لم يثبت الله الأرض بهذه الجبال لمالت بنا يميناً وشمالاً، ولأصبح عاليها سافلها، ولكن الله ثبتها بالجبال، ولولا ذلك لما استقرت، فامتن علينا بأن جعلها قراراً لنا ومقاماً ومستقراً، وثبتها بالجبال.

قال تعالى: وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا [النمل:61].

أي: بين البحر الحلو والبحر المالح، والكل من الأرض وفي الأرض، ومع ذلك حجز الله تعالى الماء الحلو عن أن يتغير بماء البحر فيصبح مالحاً لا يشرب، ولا يصلح لطبخ، ولا لسقي، فمياه البحر لو سقي بها لمات النبات ولما أدرك ولما أثمر، ولكن الله جل جلاله جعل الأرض واحدة يتصل بعضها ببعض، وجعل هناك حواجز بين الماء الحلو الذي لا يعيش حي إلا به، والماء المالح الذي نحتاج إليه كذلك؛ لأن الأرض لو لم يكن فيها البحر المالح لفسدت الحياة بسبب الأوساخ والقاذورات التي تنشأ عن الموتى والأحياء، فلولا ملوحة البحر لمات الناس منذ زمن.

فالله جل جلاله يخبرنا عن وصف السموات، ووصف الأرض وخلقها وما جعل فيها من فوائد ومصالح لهذا الإنسان الذي يعيش على الأرض، ثم هو مع ذلك يعبد مع الله غيره، فهل له عقل؟!


استمع المزيد من الشيخ محمد المنتصر بالله الكتاني - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة النمل [6-12] 2165 استماع
تفسير سورة النمل [13-17] 2013 استماع
تفسير سورة النمل [45-53] 2008 استماع
تفسير سورة النمل [82-87] 1848 استماع
تفسير سورة النمل [65-75] 1680 استماع
تفسير سورة النمل [88-93] 1680 استماع
تفسير سورة النمل [28-33] 1567 استماع
تفسير سورة النمل [76-81] 1557 استماع
تفسير سورة النمل [62-64] 1509 استماع
تفسير سورة النمل [1-5] 1411 استماع