تفسير سورة النمل [1-5]


الحلقة مفرغة

سورة النمل سورة مكية اشتملت على ثلاث وتسعين آية.

قال الله تعالى: طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ [النمل:1].

الحروف المقطعة اختلف الناس فيها اختلاف طويلاً، ولا يوجد في القرآن ما يقطع بتفسيرها، ولم يصح عن نبي الله صلى الله عليه وسلم تفسير لها، وكثير مما قيل قيل بغير دليل، كقول بعضهم: اسم الله الأعظم، وقول بعضهم: هي تدل على رموز وأرقام، وقال ابن عباس : لقد أعجز العلماء تفسير هذه الحروف المقطعة في فواتح السور.

ولكن الإمام الزمخشري في تفسيره يقول: معنى هذه الحروف واضح بين، وقد استقرأ في فواتح السور وخرج بتفسير يقطع به ويتأسى به، وأكد تفسيره هذا صديقنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في تفسيره الذي يعتبر أعظم تفسير في هذا الوقت، وهو أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن، وقد مات قبل أن يتمه، وقد أيد ما ذهب إليه صاحب الكشاف، وقد قبلت ذلك وآمنت به عن قناعة قبل أن أقرأ ذلك للشيخ الشنقيطي رحمه الله.

فنحن نجد من استعراض هذه الحروف أنه يذكر معها القرآن، كقوله تعالى: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ [البقرة:1-2]، وقوله: طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ [النمل:1]، وقوله تعالى: حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الأحقاف:1-2]، وهكذا، فلا تكاد تذكر هذه الأحرف إلا ويذكر معها القرآن.

وهي حروف الهجاء التي منها تتركب اللغة العربية، كقوله تعالى: الم [البقرة:1]، طس [النمل:1]، حم [الأحقاف:1].

فهذه الأحرف منها كان القرآن الكريم المعجز الذي تحدى الله الخلق منذ أنزله إلى يوم القيامة في أن يأتوا بسورة من مثله، أو أن يأتوا بآية مثله، ولم يستطيعوا على كثرة البلغاء وكثرة الفصحاء، وسيدهم وإمامهم نبينا صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فإننا عندما نقرأ السنة النبوية على فصاحتها وعلى بلاغتها ثم نقرأ القرآن الكريم نجد الفرق شاسعاً وعظيماً بين كلام الله في كتابه وبين قول نبيه في سنته صلى الله عليه وسلم.

فالمعنى: أن هذا القرآن الذي أعجزكم فلم يستطع أحد أن يأتي بمثله ما خرج عن حروف اللغة العربية.

وعندما أنزل القرآن كانت قريش والعرب تتكلم باللغة العربية سلاقة، وما كانت تحتاج إلى سيبويه ولا إلى الكسائي ولا إلى أحد من علماء النحو وعلماء اللغة، فالقرآن نزل بلغتهم.

فكانوا يفهمونه كما نفهم اللغات الدارجة بيننا اليوم، وطالما استمعوا إلى القرآن خفية وعلناً فلم يجدوه شعراً، ولم يجدوه نثراً، بل أخذوا يعجبون ويقولون: إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق.

وما جاءوا بمثله، وما استطاع ذلك أحد، وقد حاول الكذاب مسيلمة معارضة القرآن فأتى بخزعبلات وأتى بهذيان وأتى بركيك القول الذي يضحك الثكلى، فأصبح موضع سخرية وهزء به وبنبوته وبقرآنه وبقوله أبد الآباد.

فنحن هنا نؤكد ما قاله الزمخشري وأكده الشنقيطي ، فالقرآن عندما يأتي بهذه الحروف المقطعة فمعنى ذلك أن هذا القرآن المبين، كتاب الأولين والآخرين، دستور المسلمين وقانونهم ومجمع آدابهم ومجمع قصص من سبقهم ومن سيلحقهم وإلى يوم القيامة، نظم وجمع وقاله الله جل جلاله من هذه الأحرف بلا زيادة ولا نقصان، فما زاد فيها حرفاً ولا نقص منها حرفاً.

قال تعالى: تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ [النمل:1].

آيات القرآن: معجزاته.

فمعجزاته وبيناته قد جمعت وألفت ونظمت من هذه الأحرف بلا زيادة ولا نقصان، فهي كلغة العرب لم تخرج عن أحرف الهجاء التي تبتدئ بالألف وتنتهي الياء.

والقرآن والكتاب كلمتان مترادفتان، فالقرآن دل على قراءة وتلاوة هذه الآيات، والكتاب دل على كتابتها بهذه الأحرف التي أنزلها الله تعالى على محمد سيد البشر صلى الله عليه وعلى آله، ومما يؤكد الترابط بينهما قوله تعالى في سورة أخرى: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ [الحجر:1]، فحلت هذه محل هذه.

فالقرآن ما يقرأ ويتلى، والكتاب يدل على كتابة هذه الأحرف بهذه اللغة التي كانت شريفة في نفسها؛ لأنها لغة نبي الإسلام وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، وزادها الله شرفاً ورفعة فأصبحت سيدة اللغات على الإطلاق؛ لأن الله اختارها لغة كلامه في كتابه المهيمن على الكتب السابقة، وهو القرآن الكريم المبين الواضح الذي لا عيوب فيه ولا بعد فيه عن الحقائق.

قال تعالى: هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [النمل:2].

أنزل هذا القرآن على محمد صلى الله عليه وعلى آله حال كونه هدى، وليكون هداية للناس، فيخرجهم من الضلال ومن الظلام ومن الخزعبلات ومن عبادة الأصنام والأوثان ومن التعلق بالباطل إلى النور والحق والتوحيد والإيمان بالله الواحد الذي لا ثاني له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم عبداً ونبياً وخاتماً للرسل صلى الله عليه وسلم.

فقوله تعالى: هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [النمل:2].

أي: حال كونه يبشر المؤمنين بالجنة، ويبشرهم بالرحمة، ويبشرهم بالهداية، ويبشرهم بالسؤدد، ويبشرهم بالسيادة على العالم، وقد كان كل ذلك، فقد سادوا الدنيا قروناً، وحكموا العوالم قروناً، وبشروا بخيري الدنيا والآخرة وعز الدنيا والآخرة، فما مضى على نزول القرآن خمسون عاماً حتى كان الإسلام ضارباً بين السند شرقاً إلى عمق أوروبا غرباً، تلك الأمم التي تموج في بعضها كانت تتعبد الله بشعائر الإسلام، ورفعت كلمة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) على جميع منابرها، وعلم فيها القرآن، ودُرِّست السنة المحمدية.

قال تعالى: هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [النمل:2]، هذا في الدنيا، أما بشرى الآخرة فالخلود في الجنان والنظر إلى وجه الله الكريم.

ثم وصف تعالى المؤمنين فقال: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [النمل:3].

فالمؤمنون حقاً هم الذين يقيمون الصلاة في أول أوقاتها بشروطها وأركانها وواجباتها وسننها ومستحباتها، من طهارة واستقبال قبلة وقيام وركوع وجلوس وذكر وخشوع وحضور قلب، فيؤدون حق الله من صلاة ونحوها، ويؤدون حق العباد فيما أمرهم الله به من أموالهم عندما تبلغ النصاب.

وكثيراً ما يقرن الله بين حقه وحق العباد، ومما يدل على مكانة الزكاة في الإسلام أن أول حرب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت من أجل حقوق العباد، وهي أول حرب قام بها أبو بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث حارب المرتدين الذين امتنعوا عن أداء حق الله وحق عباد الله لاعتقاد بعضهم أنها وجبت في حياة رسول الله لا بعده، فقاتلهم أبو بكر رضي الله عنه.

وعندما حاول الأصحاب أن يعترضوا على ذلك قال: والله لو منعوني عناقاً -أو عقال بعير- كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه.

قال تعالى: وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [النمل:3] أي: يؤمنون بيوم البعث، ويؤمنون بالحياة الثانية، ويؤمنون بيوم الحساب والعقاب إما إلى جنة وإما إلى نار.

ولا يؤمنون بذلك مع شك وريب، ولا يؤمنون به صباحاً ويجحدونه مساء، بل يوقنون إيقاناً باتاً لا ريب فيه ولا شك بأننا بعد الموت سنعيش مرة ثانية.

وتلك الحياة الدائمة وجد من أنكرها فكفر بيوم البعث والنشور، ولذا قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ [النمل:4].

وهذه عادة القرآن الكريم، ليبقى المؤمن بين الخوف والرجاء، فيجمع الله بين عمل المؤمنين وعمل الكافرين، وبين عذاب الكافرين وبين الرحمة للمؤمنين.

يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ [النمل:4]، فالذين لا يؤمنون بالآخرة ولا يؤمنون بيوم القيامة ولا يؤمنون بالحياة بعد الموت ولا يؤمنون بالبعث، وأصروا على شركهم؛ يزين الله تعالى لهم أعمالهم عذاباً ومحنة.

فَهُمْ يَعْمَهُونَ أي: يعيشون في أمان وفي حيرة وفي تردد وفي ضياع، فيحاولون أن يؤمنوا بذلك ثم يشكون.

ولذلك فهم عمي صم بكم يعيشون عيشة الأعمى، الذي لا يعرف طريقاً أمامه أو خلفه.

قال تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الأَخْسَرُونَ [النمل:5].

عدلوا عن الطريق السوي فعاشوا في التردد وفي الضلال لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ [النمل:5].

أي: العذاب السيئ.

وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ [النمل:5] فهؤلاء في الآخرة هم الأخسرون.

والحمد لله رب العالمين.