أرشيف المقالات

تفسير القرآن الحكيم .. سورة الحجر (الآية 9)

مدة قراءة المادة : 17 دقائق .
تفسير القرآن الحكيم..
سورة الحجر (الآية 9)

قول الله - تعالى ذِكْره -: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9].

هذا جوابٌ ردَّ به الله تعالى على أئمَّة الكفر، وقادة الباطل، وشيوخ الوثنيَّة، سخروا من النبي -صلى الله عليه وسلم- وهَزِئوا به، وقالوا له: ﴿ وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ﴾ [الحجر: 6] فقال الله لهم: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ ﴾ [الحجر: 9]، وساقَه بأسلوب التأكيد بـ "إنَّ" و "نَحْن" ، التي هي مبتدأ وخبرها "نزَّلْنا" ومعمولُها، وهي مع خبرها خبَرُ "إنَّا"، أو "نَحْن" منصوبٌ تأكيدًا لاسم "إنَّ"، فهو على كلِّ حال كلام مؤكَّد بمؤكِّدين؛ ليدلَّ على أنه سَبَقَ للمخاطَبين به إنكارٌ متكرِّر، أنكروا أن يَكون القرآن جاء لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقالوا: إنه مِن عَمَلِه، لكنهم وجدوا أنَّ هذا لم يَجِد عند العامَّة مَساغًا؛ لأنَّه من المُحال أن يَلْبَث فيهم هذا العمر لا يأتي بالقرآن، ثم يأتيهم به بغتة وهم لا يشعرون، فَهُم لا بدَّ أن يأخذوا على أنفسهم أن يسدُّوا عليه كلَّ المسالك، وأن يُقيموا في سبيله كلَّ العقبات، وأن يَحُولوا بينه وبين الناس بكلِّ ما استطاعوا، وبكلِّ ما يملكون، فإنَّ في بلوغه قلوبَ الناس تَحطيمَ كُلِّ ما هم فيه من دين ودنيا، ورئاسة وشرف.
 
وهم يَعْرفون جيِّدًا أنَّ لِمُحمَّد مكانةً في نُفوس الناس ساميةً؛ لِمَاضيه الكريم الذي حَمَل السَّادة والأَتْباع ألاَّ يَدْعوه إلاَّ بالأمين، وهم قد عَلِموا أنَّ رَمْيهم إيَّاه بالكذب لم يَجِد في نُفوس العامَّة قَبُولاً، بل وجدوا منهم استهجانًا واشْمِئزازًا، وإنْ كانوا لم يَقْدروا أن يُصَرِّحوا؛ لِمَا غلب عليهم من الْمَهانة في أنفُسِهم، والاستكانة لأولئك السَّادة المُتَحكِّمين بالبَغْي والاستكبار؛ فلَمْ يَبْق إلاَّ أن يقولوا: "إنَّ الذي ألقى إليه هذا القولَ، وأنطقَه بهذه الحِكْمة هو الشَّيطان، وشأنه في ذلك شأن غيره من الشُّعَراء والقوَّالين، ومِن ثَمَّ كانوا حين يُعْجِزهم إسكاتُ مُحمَّد -صلى الله عليه وسلم- ومَنْعِه من تبليغ رسالة ربِّه، يَقُولون لبعضهم على سبيل التَّسلية لأنفُسِهم، وتَهْوين شأنه الذي يُزْعِجهم ويُخِيفهم من هَوْل ما هم قادمون عليه حينما تَنْجَح دعوته، ويَقْبَل النَّاس رسالتَه: ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ ﴾ [المؤمنون: 25] ﴿ وَيقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ﴾ [الطور: 30] فيقول الله متحدِّيًا: ﴿ قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى ﴾ [طه: 135] ﴿ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ﴾[الشعراء: 227].
 
لذلك يقول الله لهم في أقوى تأكيد: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9] و"نَحْنُ" ضمير العظَمة والكِبْرياء؛ يقول - جلَّ ثناؤه -: إنِّي أنا الله ربُّ العالَمين، ومَلِكُ السَّموات والأرض، وما فيهما وما وراءَهُما، إنِّي أنا الله الكبير المُتَعال، إنِّي أنا الله القاهر فوق عبادِه الحَكِيم الخبير، إنِّي أنا الله الذي اصْطَفَيْتُ هذا العبد الذي ما حقَّق العبوديَّةَ على وجه الأرض، وأعطى الرُّبوبية حقَّها أحدٌ من النَّاس مِثْلَ ما حقَّق وأعطى ﴿ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ﴾ [الأنعام: 124] وليس بِدْعًا من الأمر أنْ أَصْطفِيَه وأُرْسِله رحْمَة للعالَمين، فمِن قَبْلِه أرسلتُ كثيرًا مِمَّن تأهَّلوا تحقيق العبوديَّة، وتَمْجيد الرُّبوبية، واليقظة التامَّة بالتفكير في آيات الله، فآمَنُوا بِسُنَن ربِّهم، وأذعَنوا لربوبيَّته وحِكْمته، فسَلُوا أنفُسَكم عن رسالة إبراهيم وإسماعيل اللَّذَيْن كفَرْتُم بهما، واتَّخَذْتُموها أوثانًا، وقد كانا يُحَطِّمان الأوثان، ويَدْعُوان إلى عبادة الله وحده بما أحبَّ وشرَع، لا بِمَا ابتدع لكم أربابُكم وشيوخُكم من عبادات، هي الكُفْر والاستهزاء بالله وآياته، واللَّعِب بِسُنَّته وحكمته ورحمته.
 
﴿ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ الضَّمير في "لَهُ" إما للذِّكر الحكيم، أو لِعَبد الله ورسوله المُنَزَّل عليه الذِّكر، والله تعالى قد حَفِظ عبْدَه ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وحَفِظ الذِّكر المُنَزَّل عليه بجميع أنواع الحفظ؛ فهو - جلَّ ثناؤه - قد حفظ عبودية عبده في جميع أطواره منذ نشأته إلى أنْ رفَعه الله إلى الرَّفيق الأعلى، بِأَبِي هو وأمِّي -صلى الله عليه وسلم- فلم يَقْدر الشيطان أن يَمسَّه بِذَرَّة من غفلة الجاهليَّة وبلادتِها، وتقاليدها وعاداتها، وتكذيبها الله وآياته ووثنيَّتها، فما مسَّت يدُه يومًا من الأيَّام خشبة ولا حجَرًا، ولا نُحاسًا ولا شجرة للتبَرُّك، ولا جَرى على لسانه يومًا من الأيَّام اسْمُ واحد من أوليائهم ومقدَّسيهم إلاَّ ساخرًا مستهزئًا، ولا ذاق يومًا من الأيام طعامًا صُنِع باسْمِ أوليائهم ومقدَّسيهم، ولا حضر يومًا من الأيام عيدًا ولا مَوْلدًا مما كانوا يقيمون لأوليائهم ومقدَّسيهم على كَثْرتها المُغْويات لِسُفَهاء الأحلام فيها، ولا شَهِدَ ليلة من ليالي رعوناتِهم وفسقهم وجَهْلِهم، ولا شاركَهم في صلاة من صلواتهم الصوفيَّة[1] التي كانت على مثال ما يَجْتمع له صوفيَّة اليوم من الرَّقص والْمُكاء والتَّصْدية الذي يزعمونه زُورًا وبُهْتانًا حلقاتِ ذِكْر، ولا غفَلَ يومًا عن آيات الله وسُنَّتِه الحكيمة، ونِعَمِه الكريمة في نَفْسِه وحَواسِّه، وفي الآفاق مِن حولِه.
 
فمِن ساعةِ عَقِل - وقد عقل في سنٍّ كان غيره فيها وفيما بعْدَها بكثير طفْلاً سفيهًا - عَرَف نعمة الله في يَدِه ورِجْله، وسَمْعه وبصره، فشَكَر كُلَّ ذلك، وسبَّح ربَّه أن يكون خلَق شيئًا منه وأنعَم به عبثًا ولعبًا باطلاً، فأبَى أن يكون شيءٌ من ذلك مُعطلاً عن العمل الجادِّ النافع لنفسه ولأهله وللناس، فكان عاملاً أصلح الأعمال بيديه ورجله وكلِّ حواسِّه، مُحْسنًا في الانتفاع والنَّفع بكل ما أعطاه الله من نعم.
 
شكَر نِعْمة ربِّه في كلِّ ما خلَق مِن شجَرٍ وحجَرٍ ومدر وأنعام، وآمن أنَّ ربَّه الحكيم ما خلق ولا أنعم بذلك إلاَّ لِيُوضَع في موضعه، وينتفع به فيما سخَّره له العليمُ الحكيم، فحَفِظَه ربُّه أن يكون عالةً أو كَلاًّ على غيره من قريب أو بعيد، بل حَفِظَه وحَماه أن يكون غيرَ نافِع ولا مُفَضَّل على كلِّ ما حوله ومَن حوله، وما زال يَرْقى بهذا الحِفْظ وأسبابه الكثيرة حتَّى اطَّلَع الله سبحانه على أهل الأرض، فلم يكن أحقَّ ولا أجدَرَ ولا أهْلاً لِرِسالة الرَّحْمة وسفارة الهُدَى إلاَّ هو -صلى الله عليه وسلم- فاختاره لِأَهمِّ وأقوى وأصلَحِ وأبقى رسالة، واصطفى إنسانيَّتَه الكاملة المؤمِنَة لأنْ تكون أخصب حَقْل لكتاب الخُلود، فنَزَل به الرُّوح الأمينُ على قلبه؛ لِيَكون من المنذِرين، بلسانٍ عربِيٍّ مبين، واجْتَباه؛ ليكون إمام المهتدين، وقُدْوة المُتَّقين، وخاتَم المرسلين - عليه من الله أفْضَل الصَّلاة وأزكى التَّسليم - وما زال هذا شأْنَه فِي التربية والحِفْظ والصِّيانة، والحماية والرِّعاية من ربِّ العالمين، دائِمَ الرُّقِيِّ على مدارِج هذا الحِفْظ، لا تكون حالة ولا ساعة إلاَّ وهي خيرٌ له من الأُولى التي قبلها، وما زال ساجدًا كُلّه وكُل ما حوله مُسَبِّحًا بِحَمد ربِّه، حتَّى جاءه النَّصر والفَتْح المبين.
 
ولقد كان أهْلُ الأرض جميعًا بِصُوفيَّتِهم ووثنيَّتِهم الباغية، يَطُوف الشَّيطان بينهم، فيَجْمَع مِن شرر عداوتهم، ونيران حِقْدِهم، ويبيت في نُفوس سادة قريش وأئمَّة كُفْرِها وطُغاتِها، ويُوحي إليهم بأنواع المَكْر السيِّئ، والكيد اللَّئيم، ويُحَرِّشهم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واللهُ الذي حَفِظَه بأنواع الحِفْظ منذ نشأته من الماكرين، حتى أكملَ الله له الدِّين، وأتَمَّ به النِّعمة، ورَضِي للنَّاس هذا الإسلامَ دِينًا، يَنالون به أسعد السَّعادة إذا هُم آمنوا به على حقيقته التي جاءهم بها هذا الرَّسول الكريم، فدَعاه ربُّه أرحمُ الرَّاحِمين إلى الرَّفيق الأعلى، وقد بلَّغ الرِّسالة خير البلاغ، وأدَّى الأمانة حقَّ الأداء، فجاءه اليقين وفارق هذه الدُّنيا إلى ما أعدَّ الله له من الفِرْدَوس الأعلى قريرَ العَيْن بِمَا ترَك في النَّاس ما إنْ تَمسَّكوا به لن يَضِلُّوا بعده أبدًا؛ كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يدَيْه ولا مِن خَلْفِه، وسُنَّته وهَدْيه؛ فإنَّ الحافظ واحدٌ هو الله سبحانه، ولكن أسباب حِفْظِه وأنواعه كثيرة.
 
وكذلك حفظ الله الذِّكر الحكيم بأسباب وأنواع لا يُحْصِي عدَّها إلاَّ هو سبحانه، فقد حَفِظ صورته - وهي السُّوَر والآيات، والكلمات والحروف، وإعرابُها وضبْطُها وحركاتها - مِن التزيُّد فيها أو التنقُّص، أو التَّقديم أو التأخير على مرِّ الدُّهور والأَعْصار، وعلى كثرة القارئين والكاتبين، واختلاف مذاهبهم ومشاربِهم؛ من مُؤْمن وكافر، ومُلْحِد وزِنْديق، ومُحِبٍّ للقرآن، وعدوٍّ له يتمنَّى بِجَدْع الأنف أنْ لو ذهَب هذا القرآنُ، وانطفأ نوره من هذا الوجود، فلقد كان أوَّل ما أخرجت مطبعة روما - قَلْب النَّصرانية الكافرة - باللُّغة العربيَّة: المصحف، والإنجيل، وكان بِحِفْظ الله طِبْقَ المصاحف التي كتَبَها المؤمنون بالقُرْآن في أوربا النَّصرانيَّة، فما تَبَدَّل منه حرفٌ ولا حركة، أمَّا الإنجيل كتابهم، فإنَّك لا تكاد تَجِد منه طبعة موافِقَة للأُخرى، بل في كلٍّ منها فروقٌ واختلافات عن أخواتِها، بل إنَّهم ليَزِيدون فيه ويُنْقِصون عامِدين، كلَّما عَنَّ لهم ذلك، لكنَّ المصحف تَأْخُذ منه ما طُبِع في الْهِند والأستانة، والْمَغرب ومصر والعراق، وغيرِها من البلاد، فتجدها جميعًا على حرف واحدٍ بحمد الله.
 
وكذلك حَفِظَ الله حقيقتَه ومعناه ومقصده، الَّذي مِن أجْلِه أنزَلَه على عبْدِه ورسوله هُدًى للنَّاس وبيِّناتٍ من الْهُدى والفرقان، فمَهْما اختلَف الْمُفسِّرون من قديم الزَّمن وحديثه على اختلافهم كذلك في مذاهبِهم ومشاربِهم، من مُؤْمن به وكافر، ومُلْحِد وزنديق، ومُحِبٍّ له وعدوٍّ، ما فسَّره إلاَّ عامدًا إلى إفْسَاده؛ كابْن عرَبِي الحاتِميِّ وإخوانه الصُّوفية جَميعًا - قبَّحَهم الله، ولعَنَهم في الدُّنيا والآخرة - فإنَّك واجِدٌ أخَا الصِّدق والإيمان بالله وآياته وسُنَّتِه، وحِكْمته ونعمته، يُبيِّن مقصد القرآن وحقيقته ومعناه غضًّا طريًّا جديدًا، كأنَّه نزل الآن يَتْلوه عليك عبْدُ الله ورسولُه الأمين -صلى الله عليه وسلم- يُشخِّص الدَّاء لكلِّ أمَّة وجَماعة، وحكومة وأسرة وفَرْد، ويصف الدَّواء الشافي، والتِّرياقَ النَّافع الذي يَسْتخرج كُلَّ ما ينفث الشَّيطان من سُموم مهما اختلف الطيب المبارك الذي يَهْديهم إلى صراط الله المستقيم، ويُسْبِغ على نفوسهم وقلوبِهم مِن سوابِغِ التَّقْوى ما يَكْفل لهم الأمن والسُّرور في الدُّنيا والآخرة.
 
ولَمَّا كان هذا الحِفْظُ بأسباب وأنواع لا يُحْصي عددَها إلاَّ اللهُ، جَمعَ وقــال: ﴿ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ أشكالَها وأسماءَها وآثارها، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا في الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 57].
 
ذلك أنَّ القرآن هو الحُجَّة البالغة لله على الناس إلى قيام السَّاعة، وأنَّه الكتاب المُهَيمِن على كلِّ كتابٍ وكاتب، وأنَّه الشَّمْس المُشْرِقة التي تَهْدِي الضَّالَّ في مَهامِهِ الأهواء والآراء، والشَّهوات والتقاليد، وألوان ما يَضْرِب به الشَّيطانُ الناس من فساد في العقائد والأعمال، والأخلاق والأحكام، والنِّظام المالي والسِّياسي؛ وذلك أنَّه كتاب ﴿ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 42].
 
وإنَّك يا أخا الصِّدق والإيمان بالله وآياته وسُنَّته، وحكمته ونِعمتِه، مهما حاولَ أعداءُ اللهِ ورسولِه، وأعداءُ أنفسِهم وأعداءُ الإنسانية أن يضَعُوا على معانِي القرآن من أَغْلاق، ويسدُّوا دونه مِن أبواب، ويُقِيموا في سبيل فَهْمِه مِن عقبات - واجدٌ بِحَمْد الله حِسًّا يَعْلم الله صدْقَ إخلاصك، وشدَّةَ حاجتك وعظيم فَقْرِك إلى هُدَى القرآن وشِفائه؛ لِمَا أحسَسْت به وعرَفْتَه بعد يقظَتِك من غفلة الغُرور، وبعد خروجك من سِجْن التَّقليد وأغلاله القذرة، ووصولك شاطِئَ السَّلامة من أوهام العامَّة والدَّهْماء، والجمهور والكثرة - إنَّك بعد هذا بِفَضل الله ورَحْمته الواسعة واجدٌ أنْ قد فُتِحَت في قلبك أبوابُ الْهُدى والفقه لِمَقاصِد القرآن، والعلم بِمُراد الله في الأسماء والصِّفات والتوحيد والعقيدة والعبادة، والشَّرائع والأحكام، وذهب قلْبُك يسعى حثيثًا في سبيل الإيمان الصَّادق والعمل الصالح، وذهَبْت تَعْدو قدُمًا في سبيل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على بصيرة من رَبِّك، وهُدًى في كلِّ شأنك، لا تخاف درَكًا ولا تَخْشى، قد أخرجك رَبُّك بِنُور فَهْم القرآن من ظُلمات الشِّرك والوثنيَّة الصُّوفية إلى عقيدة التَّوحيد الصَّافية النقيَّة، وأخرَجَك بِحِكْمة القرآن ورُشْده من الرُّعونة والسَّفَه والطَّيْش، وأخرَجَك بِحُبِّ القرآن مِن باطل الآراء والمذاهب والشِّيَع والأحزاب؛ وأخرَجَك بِعَدْل القرآن مِن ظُلْمِ نَفْسِك وظُلْمِ الطُّغاة المتمرِّدين السَّاعين في الأرض بالفساد، وأخرجك بِصَفاء عِلْمِ القرآن ونقائه من قذارة ورِجْسِ الشُّيوخ والسَّادة والآباء، وأخرجك بعِزِّ القرآن من ذُلِّ استعباد الأعداء والمُجْرِمين، وأخرَجَك من فَقْر النُّفوس البهيميَّة الحقيرة الذَّليلة بِهَواها وشَهْوتِها، ومِن اتِّخاذهم آلهةً وأربابًا، إلى الغِنَى بالله والقناعَةِ، والرِّضا عن الله وعن تدبير الله وسُنَن الله، فذهَبْتَ تَضْرِب في الأرض التي ذلَّلَها لك وسخَّرَها لِتُقرَّها وتستخرج منها ما تقيم به سنَّة العليم الحكيم، البَرِّ الرحيم.
 
يا أخا الصِّدق والإيمان بالله وآياته وسنته، وحكمته وعدله ورَحْمته، إنَّما حَفِظ اللهُ القرآنَ هذا الحِفْظ خيرًا لك ورَحْمة وبُشْرى لك، تعزُّ به وتَسْعد، وتُفْلِح به وتصلح وتَنْجح، وتقوم به بالقِسْط، وفي النَّاس في حين حفظ الله القرآن حُجَّة على غيرِك من عبَدَةِ الأوهام والخُرَافات والطَّواغيت والشَّهوات، وعلى الظَّالِمين الذين كذَّبوا بآيات الله واستكْبَروا عنها، ودانُوا في عقائدهم وأخلاقهم وحُكْمِهم وعباداتِهم ونظُمِهم للطَّاغوت، وقد زعَموا أنَّهم آمنوا بما أَنْزَل اللهُ من كتاب - أولئك هم الكَافرون، وإن قَرؤوا القرآن بألْسِنة الْحَمير ليلاً ونهارًا، وإن أقسَموا جَهْدَ أيمانِهم أنَّهم مُسْلِمون، فهم المُسْلِمون للشَّيطان والأَوْثان، المُحاربون لله ولرسوله ولكِتَابه ولِسُننِه وآياته، فذَرْهم في غمرَتِهم حتَّى حين، أيَحْسبون أنَّ ما يُمِدُّهمُ الله به مِن مالٍ وبنينَ يُسارع لهم في الخيرات؟! بل لا يشعرون، فليَفْرحوا بما يَجْمَعون من قطْعَان الأنعام والطَّعام، ولْيَفرحوا بما يَجْمعون من تُراث وحُطَام، ولْيَفرحوا بما تقَطَّعوا أمرهم بينهم شِيَعًا، كلُّ حزْب بما لدَيْهم من مذاهبِ الفقه والكلام فَرِحون، ونَحْن بِفَضْلِ الله ورَحْمتِه فلْنَفرَح؛ فذَلِك خيرٌ لنا في دُنيانا وآخِرَتِنا من كُلِّ ما يَجْمعون وبه يفرحون.
 
أخي، أخا الصِّدق والإيمان، آمِنْ بحكمة الله الذي حَفِظَ القرآن كما آمنتُ، فتدَبَّرْه كلَّما تلَوْتَ وكما تدبَّرْتُ، تَذُق من حلاوته وعذوبتِه ما ذُقْتُ، وتَعْرِفْ مِن هُداه ما عرفْتُ، وتشعر من سعادة الحياة ونعمة الإنسانية بما شَعرتُ، وتزدَدْ كلَّ يوم فِقْهًا في القرآن كما ازدَدْت، فواللهِ ما عرَفْتُ حلاوة الإيمان إلاَّ مِن يوم آمَنْتُ بحكمة الله في حفْظِ القرآن لي ولَك، ولمن يأتي بعدي وبَعْدك، وما عرَفْتُ إنسانيَّتِي ونِعْمةَ الله عليَّ إلاَّ مِن يوم أخذْتُ القرآن بِجِدٍّ وقوَّة، وقلَّبْتُ كلماته على وجوهِها، تقليب المريض المُشْرِف على الهلاك يَطْلب عافيته وشفاءه، وفلَيْتُها فَلْي الجائع النَّهِم يَرْجو قُوتَه وغِذَاءَه، فأخرج الله لي كُنوزَها النَّفيسة التي ليس في الوجود كلِّه ما يُدانيها في النَّفاسة.
ولا عرَفْتُ فضْلَ الله عليَّ في رسوله -صلى الله عليه وسلم- إلاَّ مِن يوم تدبَّرْتُ القرآن وتفقَّهْت فيه، فعرَفْت هدْيَ رسول الله، وأدَبَ رسول الله، ورسالة مُحَمَّدٍ عبْدِ الله ورسوله، وما أحببْتُ اللُّغَة العربية وحرَصْتُ على الاستزادة من حُبِّها والتضلُّع منها إلاَّ من يوم ذُقْت حلاوة القرآن، وعذب على قلبي مورِدُه السَّلسبيل، فأخذت أَرِد وأَكْرَعُ، وأَرِد وأكْرَع، زادني الله وإيَّاك من نَمِير هذا المَوْرد الذي لا تَشْبع منه قلوبُ المؤمنين بالله وآياته، ونعمتِه وحِكْمته، إلاَّ حين تَرِدُ الحوض المَوْرود على عَبْدِ الله ورسوله، فتشرب شربة لا تَظْمأ بعدها أبدًا.
 
وأسأل الله الكريم ربَّ العرش العظيم أن يَجْعلنِي وإيَّاك مِن الذين يُؤْمِنون بالله وكتابِه ورسوله، الذين يَتْلون كتاب الله حقَّ تلاوته، فلا يعرفون عقيدة إلاَّ منه، ولا خُلقًا ولا أدبًا، ولا عبادة ولا حُكْمًا إلاَّ مِنْه، ولا إمامًا يَقْتدون به إلاَّ عبْدَ اللهِ ورسولَه مُحمَّدًا خاتَم المُرْسَلين - صلَّى الله عليه وعلى آله، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا[2].



[1] يقول الباحثون المدقِّقون: إنَّ تاريخ الصوفيَّة يعود إلى ما قَبْلَ الإسلام.


[2] "مجلة الهَدْي النبوي"، ربيع الثاني (1367) العدد الرابع.

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير