فضائح المالية العليا في فرنسا
مدة
قراءة المادة :
13 دقائق
.
للأستاذ محمد عبد الله عنان
- 1 -
تشغل فرنسا منذ أسابيع بإحدى هذه الفضائح المالية الكبرى التي لا تقف آثارها عند اختلاس مئات الملايين ونكبة آلاف الضحايا، ولكنها تتغلغل في جميع نواحي الحياة العامة، وتثير في الشعب روحا جديدا من السخط والريب في سلامة النظم القائمة التي تحدث في ظلها أمثال هذه الفضائح المروعة. والحادث الذي نعنيه هو فضيحة ستافسكي التي يتتبع الشعب الفرنسي، والرأي العام العالمي تفاصيلها وتطوراتها بمنتهى الدهشة، والتي كان من خطورتها وفداحة آثارها أن سقطت وزارة مسيو شوتان بعد أن حاولت عبثا أن تغالب العاصفة وأن تهدئ روع الرأي العام. ولا بد قبل أن ندخل في تفاصيل هذا الحادث العجيب أن نشير إلى أن هذه الفضائح المالية الكبرى لم تبق في عصرنا حوادث شخصية أو فردية يسئل عن تدبيرها أفراد معينون، وتحصر نتائجها وآثارها في حدود معينة، بل غدت بالعكس ظاهرة بارزة في سير المالية العليا، وظاهرة من ظواهر الحياة العامة حيثما تبلغ النظم الاقتصادية ذروة التعقيد والتقدم.
وتقع في جميع الأمم الأوربية من آن لآخر حوادث من هذا النوع، وتحدث دائما آثارها السياسية والاجتماعية؛ ولكن هنالك حقيقة واضحة: هي أن هذه الحوادث تكثر في فرنسا بنوع خاص وتمتزج امتزاجا قويا بحياتها العامة، وتتخذ فيها صورا هائلة مثيرة، وتلقى دائما سحبا من الريب على كثير من الرجال المسئولين.
ونستطيع أن نمثل لذلك بأمثلة عديدة من حوادث العصر الحديث؛ من ذلك فضيحة شركة باناما التي أسسها فردينان دي لسبس سنة 1881 لتقوم بحفر قناة باناما، ثم انهارت دعائمها لأعوام قلائل بعد أن اتسعت أعمالها اتساعا هائلا وكثرت قروضها وعجزت عن الوفاء بتعهداتها، وكشف التحقيق القضائي عن اشتراك كثير من النواب والشيوخ في أعمالها والدعوة إلى تعضيدها اشتراكا مريبا، وأحيل بسببها وزير سابق وبعض الشيوخ على محكمة الجنايات سنة 1892، وقضي على الوزير بالسجن.
ووقعت في أوائل هذا القرن بفرنسا عدة فضائح مالية أخرى، بيد أنها لم تكن بمثل هذه الخطورة.
ووقعت منذ أعوام قلائل فضيحة (الجازيت ده فرانك) التي اتهمت فيها مدام هانو الكاتبة الصحفية باختلاس مئات الملايين، واتهم فيها عدد من أكابر الصحفيين والكتاب بالمعاونة في التستر على مشاريعها المريبة والترويج لها في صحف كبيرة محترمة.
ثم وقعت منذ ثلاثة أعوام فضيحة شركات أوسترك فكانت من أعظم الكوارث المالية التي عرفت، حيث أفلست من جرائها عدة بنوك كبيرة واختلس نحو مليار فرنك (يومئذ نحو عشرة ملايين جنيه)، وألقيت بسببها ريب خطيرة على وزيري المالية والحقانية وإدارة بنك فرنسا، وانتهت بسقوط وزارة مسيو تاردييه (أواخر سنة 1930)، وقد كان أوسترك بطل هذه الكارثة خادما في مطعم ثم انتهى إلى صف أعظم رجال المال وأسس بنوكا وشركات عديدة قامت علت التزوير والنصب والدعوة، ونكب انهيارها مئات الألوف من أصحاب الودائع، وكان كل جزائه بعد تحقيقات طويلة معقدة أن قضى عليه بالحبس عاما واحدا! وليست فضيحة ستافسكي التي تشغل فرنسا اليوم إلا مثلا جديدا مروعا يؤيد هذه الحقيقة.
فهي كسابقاتها تقوم على اختلاس مئات الملايين، ونكبة مئات الألوف، وهي كسابقاتها تلقي كثيرا من الريب الخطيرة على الرجال المسئولين، وقد سقطت بسببها وزارة قوية تستند إلى أغلبية كبيرة في البرلمان.
بيد أنه يمكن أن يقال أن هذه الفضيحة الجديدة تفوق سابقاتها في التغلغل إلى صميم النظم والحياة العامة، وفي التدليل على فسادها، وفي آثارها السياسية والاجتماعية.
وقد شهدنا نتائجها الأولى في سقوط وزارة مسيو شوتان وقيام وزارة مسيو دلادييه، ولكن من الصعب أن نتنبأ الآن بما يمكن أن يتلو هذا الانقلاب الأول، خصوصا وان الفضيحة مازالت تتمخض كل يوم عن حوادث وأسرار جديدة، ومازال الرأي العام يضطرم سخطا ودهشة، ويتطلب أجراء العدالة بمنتهى القسوة واصلاح هذا الفساد الدفين بسرعة حرصا على سلامة النظم الجمهورية، وتوطيد للثقة العامة التي زلزلت أركانها. ولنر الآن ما هي هذه الفضيحة المروعة التي تقيم شعبا بأسره ولنر من هو ستافسكي هذا الذي غدا بطلا من أعظم نكبات العصر. أن هذه الشخصية المدهشة، شخصية - ستافسك - مازالت تبدو خلال التحقيق الذي تقوم به عدة جهات قضائية وادارية لغزا مغلقا؛ وكان مصرع ستافسكي أو انتحاره عاملا في ازدياد هذا الغموض؛ فمن جهة نرى ستافسكي الفتى الأنيق الجواد الذي ينثر المال أينما حل بسخاء لم يسمع به، ورب الأسرة الوفي الذي يعبد زوجته وولديه، والمالي الذكي الساحر الذي لا يفتر نشاطه والذي يتقدم كل يوم لإنشاء مشاريع وشركات مالية جديدة ظاهرة القوة والنجاح، إذا بنا نرى من جهة أخرى ذلك الأفاق البارع الخطر الذي لا يفتأ يرتكب جرائم التزوير والنصب والاختلاس تباعا، والذي يحيط نفسه بعصابة مريبة من كبار المزورين، ويشتري ذمم جميع الرجال المسئولين الذين يوجدون في طريقه ويستخلص لنفسه مئات الملايين من أموال الأرامل واليتامى وصغار المودعين، ثم ينفقها على ترفه وبذخه المجرم دون ضمير ولا وازع، ونرى آثار مشاريعه الخيالية الجهنمية تتغلغل في صميم المالية العليا والحياة ت العامة، ونرى أعين السلطات والمحققين تغضي عن تتبع جرائمه مع العلم بها، تلك هي شخصية ستافسكي. ولد سرج الكساندر ستافسكي سنة 1886 في سبودكا من أعمال روسيا؛ ونزح إلى فرنسا بعد الحرب وتجنس بالجنسية الفرنسية، وبدأ حياته المالية في باريس وسيطا في تجارة الجواهر والحلي.
ثم نشط إلى تأسيس الشركات المالية المختلفة، فأسس شركة لصنع اللحوم المقددة، وأخرى للسينما، وثالثة لبيع بعض الأجهزة الطبية وهكذا: ولكن هذه الشركات كانت مريبة، ولم تكن سوى ستار لسلسلة من جرائم التزوير والنصب ارتكبها ستافسكي، واستولى بواسطتها على ملايين عديدة.
وكانت أعظم وسائله اذ ذاك تزوير قيم التحاويل المسحوبة لإذنه.
واستطاع بهذه الوسيلة أن يحصل خلال سنتي 1925و1926 على ستة ملايين فرنك، وهنا اكتشف أمره وصدر الأمر بالقبض عليه بناء على عدة شكاوى قدمت في حقه من البنوك، فاختفى مدة ولم يستطع البوليس أن يقبض عليه الا بعد أشهر.
وقضى ستافسكي في الحبس الاحتياطي حينا ثم استطاع أن يحصل على قرار بالإفراج عنه ريثما تتم المحاكمة.
وقدم إلى المحاكمة بتهم النصب والتزوير والاختلاس مع آخرين.
ولكن هذه المحاكمة لم تتم قط منذ سنة 1926، ولا زالت حتى اليوم معلقة للنظر امام محكمة الجنح.
وكانت مدى أعوام ثمانية تؤجل في كل مرة إلى آجال طويلة لأتفه الأسباب؛ وظهر فيما بعد أن ذلك يرجع إلى نفوذ مؤثرات معينة، وأن الأفاق استطاع أن نؤثر عن طريق أصدقائه الأقوياء على سير القضاء كما استطاع أن يؤثر في عمل البوليس، ولما ظهرت هذه الحقيقة المدهشة أخيرا كانت مثار السخط والريب في نزاهة القضاء.
وكان ستافسكي طريد القضاء أثناء ذلك يعيش في بذخ لم يسمع به في داره الفخمة بحي الشانزليزيه مع زوجته الحسناء أرليت سيمون التي تزوجها منذ سنة 1922، وولديه الصغيرين، وكان يظهر في المسارح والأوساط الرفيعة وفي ملاهي الليل وميادين السباق وأندية المقامرة بأعظم مظاهر الغنى والترف، وينفق الملايين الطائلة في كان ومونت كارلو وبيارتز وغيرها من مدن المياه، كل ذلك باسم (مسيو آلكس) وقد ظهر من التحقيق فيما بعد أن كثيرين ممن اتصلوا به لم يكن يدور بخلدهم أن مسيو آلكس هذا أو آلكس الجميل هو نفسه الكساندر ستافسكي بطل الفضيحة الكبرى. وفي سنة 1930 وقع ستافسكي في مازق جديد وافتضح أمره مرة أخرى، ذلك أنه قدم إلى بنك التسليف البلدي باورليان طائفة كبيرة من الجواهر الزائفة واستطاع برهنها أن يحصل على سندات للخزينة قيمتها عشرة ملايين فرنك، وأن يقطع هذه السندات ويحصل على قيمتها ولكن هذا التزييف الهائل اكتشف غير بعيد، وظهر أن الجواهر المودعة كلها زائفة لا تساوي أكثر من عشرة آلاف فرنك، بيد أن ستافسكي فطن في الحال للخطر الذي يهدده، وبادر بتسوية المسألة ورد قيمة السندات المسحوبة، وبذا أسبل الستار على الفضيحة بسرعة، وأنقذ ستافسكي مشاريعه من خطر الانهيار وأنقذ نفسه من ظلام السجن. ولم يمض على ذلك أشهر قلائل حتى استطاع ستافسكي أن ينفذ مشروعه الجديد، وهو انشاء بنك التسليف البلدي في مدينة بايون.
وهذه البنوك المحلية الصغيرة تنشأ في عواصم الأقاليم طبقا لقانون خاص، وتقوم بمهمة التسليف برهونات منقولة مثل الجواهر والحلي، وهي تنشأ عادة برؤوس أموال صغيرة، ولكنها تستطيع متى اتسعت أعمالها أن تزيد في رأسمالها باصدار سندات على الخزينة بالاعتمادات اللازمة، وهذه السندات تتمتع بنوع من الضمان الحكومي، لأنها تصدر بمصادقة السلطات المحلية فضلاً عن ادارة البنك، وتمثل السلطات المحلية في إدارة البنك على يد مدير المقاطعة وعمدة المدينة، وتمنح هذه السندات عادة ربحا حسنا لا يقل عن خمسة في المائة، وتعفى من ضريبة الدخل، وهي لذلك تجد إقبالا من شركات التأمين وغيرها من شركات الادخار فتسارع إلى اقتنائها كوسيلة حسنة لتوظيف المال.
وقد رأى ستافسكي في الحال أنه يستطيع أن يجعل من إصدار هذه السندات وسيلة سهلة مدهشة لاختلاس عشرات بل مئات الملايين.
بيد أنه حرص بادئ بدء أن يتمتع مصرفه الجديد بسمعة حسنة؛ واستطاع أن يجعل منه مؤسسة ناجحة متسعة العمل.
ثم عمد بعد ذلك إلى إصدار السندات تغطية لاعتمادات يريد البنك تحقيقها، ويسدد قيمتها متى حلت آجالها، فأخذ يصدر منها الملايين ثم عشرات الملايين ثم مئاتها؛ وكان اختلاس هذه الأموال الطائلة يجري بالصورة الآتية: يصدر البنك سندات قيمتها عشرة ملايين مثلا، ثم يعرضها في السوق المالية للقطع، فتشتريها إحدى شركات التأمين بقطع مرغب جدا (5 في الماية مثلا) لكي تقبض قيمتها متى حل أجل استهلاكها وتستفيد بذلك من القطع ثم من الأرباح.
وقد بذل ستافسكي لترويج هذه السندات جهودا مدهشة، واستعان في ذلك بالجهات الرسمية وبالدعوة الصحفية.
ومن الغريب أنه استطاع بواسطة النائب جارا عمدة بايون، أن يستصدر من وزير المالية ووزير التجارة منشورا وجه إلى شركات الاستثمار المختلفة يحثها على اقتناء سندات بنوك التسليف المحلية باعتبارها أوراقاً ثابتة مضمونة ووسيلة حسنة للاستثمار، وذلك طبقا لما نصت عليه بعض القوانين المالية، فكان هذا التعضيد الرسمي أداة قوية في يد ستافسكي ومشجعا للشركات على شراء سندات مصرفه، وكانت هذه الملايين الطائلة بدلا من أن تودع خزينة البنك تذهب توا إلى جيب ستافسكي يبددها على بذخه المدهش وينفق منها على شركائه وأعوانه.
ولم تكن هذه الملايين ترصد في سجلات البنك لان السندات كانت زائفة تصدر دون مرجع أو سجل، وقد استطاع ستافسكي كما أثبت التحقيق أن يبيع من هذه السندات المزورة إلى مختلف الشركات والأفراد بما يساوي نحو خمسمائة مليون فرنك (أو نحو ستة ملايين جنيه) في أقل من ثلاثة أعوام! هذا إلى طريقة أخرى للاختلاس لجأ اليها ستافسكي، وهو أنه في فرص كثيرة كان يقدم إلى البنك بعض الجواهر المزيفة باعتبار أنها جواهر ثمينة ويسحب عليها مبالغ طائلة، وفي أحيان كثيرة كان يستخرج الجواهر الثمينة التي أودعها عملاء البنك في خزائنه رهنا للقروض ثم يضع مكانها جواهر زائفة، ويحصل بهذه الوسيلة على عشرات الملايين. والآن، لنر كيف اكتشفت هذه الاختلاسات الهائلة.
ومن المحقق أنه كان من المستحيل أن يمضي ستافسكي في جرائمه طول هذه المدة، وعلى هذا النحو المدهش لو لم يكن مستظلا بحماية الرجال المسئولين آمنا مطاردة البوليس والقضاء.
على أن حادثا فجائيا أدى إلى اكتشاف الحقيقة المروعة، وهو أن إحدى شركات التأمين، كانت قد اشترت من السندات الزائفة ما قيمته ثمانية ملايين حل أجل استهلاكها في أغسطس الماضي، فتقدمت إلى البنك بطلب هذا المبلغ فطلب مدير البنك تسييه رجل ستافسكي وشريكه مهلة للدفع، فرأت الشركة من باب الاحتياط أن توقع حجزاً على بعض المبالغ المطلوبة للبنك، فدهش مراقب الضرائب في بايون لهذا الحادث وارتاب في الأمر لأنه لا يعقل أن مصرفا كبيرا محترما مثل بنك بايون يتوقف عن الدفع بهذه الصورة، وتصادف عندئذ أنه فحص بعض السندات المسحوبة فلم يعثر لها على أثر في سجلات البنك أو حساباته، فأخطر الجهات المختصة، وكان ذلك في يوم 23 ديسمبر الماضي.
ولما رأى مدير البنك تسييه أن الأمر قد افتضح ذهب إلى مدير البوليس، واعترف له بطرف من هذه الجرائم، وفي الحال تدخلت النيابة، وقبض على تسييه وبدأ التحقيق في الفضيحة الكبرى وسنرى في فصل تال ماذا كشف التحقيق عنه، وماذا كانت خاتمة هذا الأفاق البارع وماذا كانت آثار هذه الجرائم المثيرة في سير الحياة الفرنسية العامة. محمد عبد الله عنان