نزغات الشيطان بين الإخوة
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
نزغات الشيطان بين الإخوةرابطة الأخوة أمتن رابطة عرفها الناس، وهي ثلاثة أنواع: إمَّا أن تكون أُخوَّةَ نَسَبٍ، أو تكون أخوَّةَ دِينٍ ومعتقدٍ، وإمَّا أن تجمع بين النوعينِ، فتكون أخوَّةَ نسَبٍ ودِين، وهذه أمتنُ علاقةٍ على الإطلاق، وهي من أقرب الرَّحِم.
والرَّحِمُ: موضعُ تكوين الجنين ووعاؤُه في البطن.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الرَّحِم (القرابة) بقوله: ((الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بالعَرْشِ تَقُولُ: مَنْ وصَلَنِي وصَلَهُ اللهُ، ومَن قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللهُ))، فأي دين غير إسلامنا اهتمَّ بقوة الروابط بين الإخوة؟
ولقد بدأت في الظهور على السطح بشكل مُقلِق ظاهرة تأزُّم العلاقات بين الإخوة والأخوات، وسرعة تَفَكُّك هذه الرابطة - لأدنى سَبَبٍ- وانقلابها إلى عداوة مُستَحكَمَة قد لا تكون مع الأعداء الحقيقيين، فربما لجؤوا إلى المحاكم، واستفحل النزاع وورَّثوه لأبنائهم، وتفرَّقت العائلة فصارت فريقين أو أكثر، وباض الشيطان فيهم وفرَّخ.
مع أن رابطة الأخوَّة من أعظم نِعَم الله تعالى علينا، ففيها يعيش الناس في دنياهم متحابِّين متراحمين مترابطين متناصرين، يجمعهم شعور أبناء الأسرة الواحدة، التي يحبُّ بعضها بعضًا، ويشعر كل منهم بحزن أخيه وتعبه وألمه، ويشد بعضهم أزْرَ بعض، يحسُّ كلٌّ منهم أن قوةَ أخيه قوةٌ له، وأن ضعفَه ضعفٌ له، وهذه والله هي السعادة في دنيا الناس.
قال الله تعالى ممتنًّا على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ﴾ [آل عمران: 103]، فتأمَّل كيف عبَّر الله عن العلاقة القوية بين المؤمنين بـ (الأخوَّة)، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((وكونوا عبادَ اللهِ إخْوانًا)).
فالأخوَّة ليست أسماء مرصوصة في بطاقة رسمية، ولا أوراقًا مرسومة في شجرة العائلة، ولا علاقة صداقة قد تُنْهِيها حين يغدر بك الصديق ويخون؛ إذ لا تخضع هذه العلاقة لميزان المقابلة فإن زرتني زرتُك، وإن أعطيتني أعطيتُك، وإن أحسنتَ إليَّ أحسنتُ إليك، إن الأمر يختلف تمامًا عند الرَّحِم كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: ((ليس الواصِلُ بالمُكافئِ؛ ولكنَّ الواصلَ مَن إذا قطَعَتْه رَحمُه وصَلَها)).
فمن يقيس عطاء الأخوة بقانون الأخذ والعطاء لن يحصد سوى جفاف المشاعر، وقسوة القلب.
ولا تقطع أخًا لك عند ذنب
فإن الذنب يغفره الكريم
إن روعة الأخوة أن تُشعِر أختك أو أخاك بقيمته في حياتك، باشتياقك له، بأن أمرَه وهمومَه ومشكلاته تعنيك، بأن دموعَه تنحدر من عينيك قبل عينيه، أن تسنِدَه قبل أن يسقط، أن تكون عكازه قبل أن يطلب منك ذلك.
وما المرء إلا بإخوانه
كما تقبض الكفُّ بالمعصم
ولا خير في الكف مقطوعة
ولا خير في الساعد الأجذم
فأنتم إخوة، خُلقتم وتشكَّلتم في بطن واحد، وعشتم في البيت نفسه، وأكلتم من الصحن نفسه، وشربتم من الكأس نفسها، واحتفظتم بالذكريات نفسها؛ ولذلك لن تستطيع نفسُك الأمَّارة بالسوء أن تمحو كل ذلك، وحتى لو حاولت، ستشعر في نهاية كل يوم بتأنيب الضمير، فالدم الذي يسري في عروقك سيُشعرك بالحنين لإخوة يقاسمونك كريات دمك نفسها!
فيفترض أن تغلق كل الأبواب بوجه شياطين الإنس والجن الذين يريدون أن يوقِعوا العداوة والبغضاء بينك وبين إخوانك.
ومن الضروري- في سبيل ذلك - أن تضع خطوطًا حمراء لزوجتك (أو لزوجكِ) ولأبنائك وبناتك حين يكبرون، ولا تسمح لهم بتجاوزها، خاصة فيما يتعلق بإخوانك وأخواتك، فأغلب مشكلات القطيعة بين الإخوة تكمن في تدخُّل الزوجات أو الأزواج والأبناء والبنات، وإيغار صدور الإخوة على بعضهم البعض؛ لذلك فاحذر أن تسمح لهم أو لغيرهم بالتدخُّل في تشكيل إطار علاقتك بإخوتك، فقد يدفعون بك نحو طريق القطيعة والبُعْد، وهم يُشعِرونك أنهم أكثر إخلاصًا ومحبَّةً لك، وخوفًا عليك.
وإذا ما سمحتَ بذلك فسترى المشهد نفسه يتكرَّر بين أبنائك، والقطيعة تدبُّ بينهم وأنت تتحسر عليهم؛ لأنه كما تَدِينُ تُدانُ، وكما تَزْرَعُ تَحْصُدُ.
احفظ أخاك وسارع في مسرَّته
حتى يرى منك في أعدائه خبر
أخوك سيفُك إن نابتك نائبةٌ
وشمَّرَت نكبةٌ في عطفها زور
ومهما بدا من أخيك إساءة فاغفرها له، وخذ بالقاعدة الربانية: ﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ [فصلت: 34].
تأمَّل كيف عبَّر الله عن عمق العلاقة بين القاتل والمقتول أو أوليائه - في شأن القِصاص - فذكَّر بالأخوة بينهما، إشارة وندبًا إلى الصفح والعفو فقال: ﴿ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ﴾ [البقرة: 178].
وعند الاقتتال ذكَّر بأن علاقة الأخوة لا تزول بالبغي: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الحجرات: 10].
فالأخوة لا تعني السلامة من كل إساءة، فنحن بشَرٌ ضِعاف، وأحدُنا قد يخطئ بجانب خالقه الذي غمره بفضله وإحسانه وعظيم نعمه، ورحم الله من قال:
أخاك أخاك فهو أجل ذخر
إذا نابتك نائبة الزمان
وإن بانت إساءته فهبها
لما فيه من الشيَم الحسانِ
تريد مهذَّبًا لا عيبَ فيه
وهل عُودٌ يَفوحُ بلا دُخَانِ
فإياك ثم إياك أن تفرِّط بإخوتك من أجل تَرِكَةٍ مهما كانت، أو من أجل مال زائل، أو أي شيء في هذه الدنيا الملعونة، فكل شيء يمكن تعويضه ما عدا الأخوة.
يمضي أخوك فلا تلقى له خلَفًا
والمال بعد ذهاب المال مكتسبُ
وتذكَّر - أخي المسلم - أن هذه الدنيا قصيرة فانية، وصفها الله بقوله: ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ ﴾ [يونس: 45]، فاستمتع بدنياك مع أهلك وإخوانك ورَحِمك، ودعك من نزغات الشياطين، فالدنيا - والله - لاتستأهل ساعة هجر أو قطيعة مع إخوانك، وابتسامة واحدة أو مكالمة أو رسالة تلقي فيها السلام على أخيك تنسف جبالًا من القطيعة والضغينة بينكما، وتُغذِّي روحه وتُبهِج نفسه لأيام وأيام.
فبادر أنت بالخطوة الأولى، واصفح واعفُ عن المخطئ منهم، واستأنس باجتماعهم، فوالله، إن لقاءً مع الأهل والقلوبُ بيضاء نقيَّة من أمراض الغِلِّ والحسد والضغينة، والأحاديثُ خالية من الغيبة والنميمة، نعمةٌ لاتعدلها نعمة في الدنيا، وأجرٌ وثوابٌ لا يعدِله ثواب عند الله تعالى.
أسأل الله أن يقينا من شرور أنفسنا والانتصار لها، ومن شَرِّ الشيطان وشِركه، ويجعلنا ممن يصل رحمه ويبلها ببلالها، ويتقبل دعاءنا: ﴿ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [الأعراف: 151].