خطب ومحاضرات
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73
تفسير سورة النور [51-54]
الحلقة مفرغة
قال تعالى: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [النور:51].
أي: أنه يجب أن تظهر أمارات حب الله ورسوله على زاعمها قولاً وعملاً واعتقاداً؛ ليكون مؤمناً حقاً، فليس الإيمان قولاً يقال باللسان فقط، بل هو قول باللسان، وعقد بالجنان، وعمل بالأركان.
فإذا خلت هذه الصفة من إيمان المؤمن انقلب منافقاً كذاباً مشركاً يزعم الإيمان وما هو بمؤمن، قال تعالى: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:51] وهذا الذي يليق بالمؤمنين، وهنا تقدم خبر كان على اسمها وهذا كثير في لغة العرب، والقرآن نزل بلغة العرب فكان البليغ والمعجز والفصيح، وفائدة تقديم الخبر على الاسم هنا الدلالة على الحصر: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ [النور:51] أي: إذا طولبوا بتحكيم شرع الله فليس لهم إلا أن يقولوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النور:51] أي: سمعنا قول الله وأطعناه، وسمعنا قول رسوله صلى الله عليه وسلم وأطعناه، فهذه هي الصفة الواجبة واللازمة واللائقة بالمؤمن، وأما أن يقول: سمعت وهو عاصٍ فهذا ليس بمؤمن حقاً، وإنما هو ظالم لنفسه بشركه وعصيانه.
قال تعالى: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النور:51] إنما كان قول المؤمن الحق إذا دعي إلى تحكيم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: سمعت وأطعت في المنشط والمكره، فيما يريد وما لا يريد، فيما يعجبه وما لا يعجبه، وليس القرآن وليست السنة وليس الإسلام خاصاً لنزوات الناس، ولا لشهواتهم، ولا لما يتفق مع أغراضهم وألاعيبهم، وإنما جاء بالحق الصراح والعدل المطلق، وإنما جاء لردع الظالم وإعطاء المظلوم حقوقه رضي بذلك الظالم أم لم يرض، بل يجب عليه إن كان مؤمناً حقاً أن يتقبل ذلك بالرضا والسمع والطاعة وإلا كان منافقاً كذاباً.
قال تعالى: وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [النور:51] أي: هذا المفلح الذي حصل على الفلاح والنجاح والرحمة والرضا من الله على دخول الجنان، والبعد عن النار وسعيرها وعذابها، وعن النفاق وباطله، وهؤلاء الذي ينبغي لهم -وهم يقولون إنهم مؤمنون- أن يسارعوا إذا دعوا للحكم بكتاب الله والحكم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقولوا: سمعنا ووعينا وأدركنا، ويقولوا: أطعنا طاعة مطلقة سواء كان الحكم لنا أو كان علينا، وذلك ما يقول الله فيه: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45]، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47]، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44].
فالحكم بغير كتاب الله وبغير سنة رسوله صلى الله عليه وسلم إنما هو الظلم والفسق والكفر، وما سوى ذلك فهراء لا طائل تحته، فليس هناك إلا حق وباطل، والحق ما جاء به الإسلام، والباطل ما جاء به غيره، والعدل ما أتى به الإسلام، والظلم ما جاء به غيره من الكتب المنسوخة المحرفة، ومن الأديان الباطلة، ومن الفلسفات التي أدت مهمتها يوماً إن كانت صالحة ثم عادت إلى الظلم وإلى الفسق وإلى العصيان وإلى نشر الفواحش بكل أشكالها وألوانها.
وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [النور:52].
يقول ربنا جل جلاله: من يطع الله فيما أمر به في كتابه ونهى عنه في كتابه، ومن يطع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أمر به في سنته ونهى عنه في سنته، ويخش الله ويخافه على ما سبق منه من معصية ومن كفر ومن ظلم ومن ذنوب، مع توبته ومع استغفاره ومع ندمه على ما فات منه، فيجب أن يخاف أن يكون الله لم يقبل توبته ولن يرحمه بذلك؛ لأنه كان كاذباً، فهو يقول: أنا تائب وهو لا يزال يرتكب ذلك الذنب، والتوبة لا تتم إلا بالعدول عنه، والندم على فعله، والعزم على ألا يعود إليه، فإن حدث بعد هذا شيء فليجدد التوبة وهو يصر على هذه المعاني الثلاثة، ثم بعد ذلك عليه أن يلتزم التقوى، والتقوى: فعل الأوامر وترك النواهي، فالحل ما أحل الله، والحرام ما حرم الله، والتقوى: أن تجعل وقاية بينك وبين الباطل، بينك وبين المعصية، بينك وبين الذنوب، ولا تكون تلك الوقاية إلا بالعمل بكتاب الله والعمل بحديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله، فمن أطاع الله، وأطاع الرسول، وخشي من ذنوبه أن يحاسب عليها، وألا تكون توبته قد قبلت منه، ثم اتقى الله فيما يعمله بعد أن التزم الفعل كما أمر الله ورسوله، أو ترك الفعل كما نهى الله عنه ورسوله، فهؤلاء عندها يكونون مطيعين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، خائفين على أنفسهم من ذنوبهم، متقين فيما يعملونه من أعمالهم، وأولئك هم الفائزون الناجحون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون، وهؤلاء هم الفائزون برحمة الله ورضاه، ففازوا بخير الدنيا ونعيم الآخرة.
وهكذا الله جل جلاله يدلنا على الطريق المستقيم لنسلكه، وينفرنا من الطريق المعوج لنبتعد عنه، ويرشدنا إلى طريق أهل الاستقامة وإلى المؤمنين الصادقين لنفعل فعلهم ونسلك طريقهم، وينفرنا من الطريق المعوج طريق الظالمين لأنفسهم، طريق المنافقين والمشركين والكاذبين؛ لنبتعد عنها وننفر منها، هذا إذا كنا نريد الفوز ورضا الله ورحمته حقاً.
المنافقون الذين تسللوا بين الصحابة من أمثال عبد الله بن أبي بن سلول ، والمنافقون الذين تسللوا في عهد الخلفاء الراشدين وانكشفوا بألسنتهم وبمخالفتهم، والمنافقون الذين تتابعوا وإلى عصرنا الذين يدعون إلى إلغاء كتاب الله والحكم به، وإلغاء السنة المطهرة والحكم بها، والتعلق بأحكام الكافرين، والارتباط بحضارة المنافقين، هؤلاء يظهرون الإسلام ويبطنون سواه، فإذا دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم أو ورثته من أئمة الحق -ومنهم العلماء الصادقون- إذا دعوهم للخروج للجهاد والقتال فإنهم يقولون لهم: إذا أمرتمونا بالخروج للقتال وللجهاد سنخرج معكم، ويقسمون بالله على ذلك وهم كاذبون، فأقسموا ولم يفعلوا، فخرجوا وتراجعوا وزلزلوا الجيوش كما كان في غزوة أحد التي زلزلت بالمسلمين، وأوذي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إنه كاد يستشهد فيها بعد أن ذهب المنافق ابن أبي وأخذ طوائف معه حتى إذا التقى الجيشان وتقابلت الفئتان نكص على عقبيه، فتزلزل المسلمون وظنوا الهزيمة قد أحيطت بهم، والهزيمة بعد لم تحن ولكنه كان سبباً فيها، فقد قتل بسببه الكثير من المسلمين في هذه المعركة، ولكن الله تدارك المؤمنين بلطفه وبرحمته، وأولئك لم يأخذوا نتيجة ظفرهم ونصرهم من الكفار فعادوا لمكة، وهم الذين ظفروا بالجيش النبوي، ولو دخلوا المدينة ولو ذهبوا يجهزون على جرحى المسلمين لكان الموقف أصعب، وكانت الهزيمة أشد وأكبر.
كان هذا فعل المنافقين، فقد أقسموا بالله جهد أيمانهم، أخذوا يقسمون ويبالغون بجهدهم كله، يقسمون بالله وبصفاته ويؤكدون ويكررون الأقسام والأيمان: لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ [النور:53]، إن أمرتهم بالخروج للجهاد فسيخرجون معك، قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم: لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ [النور:53] لا تقسموا بالله فقد علمنا طاعتكم وعرفنا حقيقتها فهي طاعة كاذبة مزورة منافقة ملغومة، تقولون هذا بأفواهكم ويكذب ذلك قلوبكم بما كتمتم المسلمين وزعزعتم جيوشهم، وكنتم السبب في هزيمة المسلمين في الكثير من الغزوات، ولكن الله ناصر نبيه صلى الله عليه وسلم وناصر دينه وناصر كل صادق من المؤمنين، صلى الله على نبينا، ورحم الله سلفنا، وثبتنا على دينه.
قال تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ [النور:53] أي: إن أمرتهم بالخروج للقتال فسيفعلون ذلك، وقد أكدوا ذلك بلام القسم ونون التوكيد الثقيلة، فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وقد كشفهم: قُلْ لا تُقْسِمُوا [النور:53] أي: قل لهم يا محمد! لا تقسموا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ [النور:53] أي: قد علمنا طاعتكم ونفاقكم وكذبكم، فلن تخرجوا وإن خرجتم، فلن تقاتلوا، وإن قاتلتم تراجعتم واستؤسرتم وكنتم السبب في هزيمة المسلمين كما وقع في غزوة أحد وغيرها: قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [النور:53]، إن الله خبير عالم بما تضمره قلوبكم، وتنطوي عليه أجنحتكم، وما تعملون مما لا تقوله ألسنتكم، ومما تقولونه مما لا تعمله جوارحكم، وهؤلاء هم المنافقون.
والله عندما أعلمنا ذلك، وأرشدنا إليه، أعلمنا ذلك لنعلم المنافق من المخلص، ولنحذر المنافق عندما نراه يقول ما لا يفعل، ويفعل ما لا يقول.
ثم قال تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور:54].
يقول تعالى لمحمد سيد الخلق صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، أي: أطيعوا الله في كتابه بما أمر به ونهى عنه، وأطيعوا النبي إن كان بين أظهركم، هذا في عصر الصحابة وفي الحياة النبوية، وإن كان بعد ذلك فإلى يوم القيامة: أطيعوا نبيكم ورسولكم بطاعة سنته؛ لتكونوا بذلك مؤمنين صادقين، وفي هذه الحالة: فَإِنْ تَوَلَّوا [النور:54] أي: فإن أعرضوا، وصدوا عن الإسلام، ونافقوا، وأظهروا الطاعة لساناً، وأظهروا الإيمان قولاً، وكانوا في حقيقة الأمر ليسوا كذلك: فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ [النور:54] فإن على الرسول صلى الله عليه وسلم ما كلف وأمر به والذي أمر به: هو البلاغ: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور:54] كما ختم الله الآية الكريمة، فعلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبلغ دين الله مبيناً الحلال والحرام، وأن يأمر بالجهاد، وأن يكشف المنافقين؛ لينفر عنهم المؤمنون، وأن يعرفنا الصادق من الكاذب؛ ليكون الصادق قدوة، وليكون المنافق نفرة ينفر الناس عنه، ويبتعدون عن مجالسه، وعن قبول قوله، وعن ظاهر عمله، فهو منافق كذاب، ففي هذه الحالة يكون قد أدى ما حمل به من رسالة وأمانة.
وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ [النور:54] أي: عليكم يا هؤلاء! الذين أمرهم الله بطاعته وبطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ما حملتم، والذي حملنا وأمرنا به: هو أن نطيع الله في قوله، وأن نطيع الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله، فما حلله الله حللناه، وما حرمه حرمناه، لنكون مؤمنين صادقين ملتزمين بكل ما ورد في كتاب الله من الأركان الخمسة وواجباتها وآدابها وسننها، وهكذا في بقية الأعمال من الصدق في القول، والإحسان للمؤمن، وجهاد الكافر، وعمل ذلك ما دمنا أحياء حتى لقاء الله.
فالذي حملناه الطاعة، وتصديق الرسالة، وقبول ما جاء في كتاب الله على أنه من الله حقاً، وقبول ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه النبي الصادق المصدوق المبلغ عن الله، والمعصوم صلى الله عليه وعلى آله، والذي حمل نبينا هو تبليغ الرسالة، والذي حملناه طاعته، والتزام هذه الرسالة، والقيام عليها مدة حياتنا إلى أن نلقى الله، وأن نأمر بها غيرنا: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]، فهذه رسالة بلغنا إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله جل جلاله، فعلى رسولنا البلاغ، وعليه كذلك أن يعمل بالرسالة التي أرسل بها، فهو رسول إلى نفسه وهو أول المسلمين، وقد كان يصلي كما نصلي، ويصوم كما نصوم، ويزكي كما نزكي، ويحج كما نحج، بل كان أول مصل وأول حاج وأول مزك وأول صائم، بل إنه كان يتنفل فوق هذه الفرائض، فقد كان يتهجد حتى تتورم قدماه صلى الله عليه وسلم، وكان يجوع ويبتعد ويتزهد في الطعام حتى يربط الحجرة على بطنه الشريف، وكان صلى الله عليه وسلم يعمر جميع وقته بعبادة الله من أمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، وصلاة، وزكاة، وتهجد، وتدريس، وتعليم، وجهاد، فقد جاهد بسيفه، وجاهد بلسانه، وجاهد بحاله، وجاهد بمقاله.
وكان عليه الصلاة والسلام المثل الإنساني الكامل للمسلم، ولذلك فالله تعالى يقول لنا عنه: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، فهو أسوتنا وهو قدوتنا وهو نبينا صلى الله عليه وسلم، نهتدي بهديه، ونعمل بقوله، ونطيع أمره، ونفعل فعله، ومن هنا عندما كان يقول لنا عليه الصلاة والسلام: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة)، وقال عن أمته: (وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قيل: ما هي يا رسول الله؟! قال: ما أنا عليه وأصحابي).
ولذلك الاطلاع على السيرة النبوية والبحث عن ظواهرها وبواطنها وحفظها ووعيها واجب على كل مسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان القدوة في فعله، وكان القدوة في قوله، وما السنة إلا قول وفعل وإقرار، وهي السيرة النبوية كلها، فكل ما كان يفعله صلى الله عليه وسلم يعتبر شريعة، وكل ما يقوله شريعة، وكل ما يقره شريعة، فوجب إذاً على كل إنسان في الأرض أن يحكم بها، وأن يعمل لها، وإلا كان كافراً أو منافقاً أو عاصياً، ولذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام يصف هذه الفرقة التي هي على الحق: بأنها التي تأتسي به، وتعمل بعمله، وتجعله القدوة وتجعله الأسوة صلى الله عليه وعلى آله، وقل مثل ذلك عن أصحابه رضوان الله عليهم: السابقين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه، فهؤلاء رضي الله عنهم: فرضي قولهم، ورضي عملهم، كما رضي من اتبعهم في أعمالهم وفي أقوالهم، والذين اتبعوهم من جاء بعدهم وإلى يوم القيامة، وما سوى ذلك فباطل وضلال، ومهما زعم من زعم أن ذلك هو الإسلام وذلك هو الدين وذلك هو الرسالة إذا لم يكن ذلك حسب الشريعة المحمدية والقدوة المحمدية وأسوة الصحابة رضوان الله عليهم، مهما زعم الزاعم وقال القائل فإنه يكون كذباً ونفاقاً.
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النور:54]، إذاً: على الرسول صلى الله عليه وسلم ما حمله الله من أمانة، وأمره بها، وما هذا الذي حمله إلا الرسالة والنبوة، فهو الذي لا ينطق عن الهوى، فما هو إلا وحي يوحى.
وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ [النور:54] أي: وعليكم الطاعة في كل ذلك، وضابط ذلك ورابطه: ما قال نبينا صلوات الله وسلامه عليه: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فانتهوا)، ففعل الحرام يجب أن يترك كله، ولا تقل: سأترك هذه دون هذه، فلا يحتاج منك ترك الحرام أكثر من إرادة ومن عزيمة ومن قوة يقين وإيمان، وأما الفعل فقدرة الإنسان لا تسعه كله، فقد أمرنا بالصلاة قياماً لكن من مرض فليصل جالساً، فإن لم يستطع فليصل ممدداً، وأمرنا بالوضوء بالماء فمن لم يجده أو عجز عنه فليتيمم بالصعيد الطيب، وأمرنا بالصيام في شهر رمضان فمن كان مسافراً أو كان مريضاً، ومن كانت حائضة أو نفساء فليقضوا إذا زال هذا العرض.
وهكذا أمرنا الله تعالى بالأمر عزيمة ثم رخص لنا للأعذار وللضرورات، والضرورات تبيح المحظورات، وهذا أصل من أصول الشريعة.
وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النور:54] أي: إن أطعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمره، وأطعتم نهيه: اهتديتم إلى الطريق الحق، فصرتم الموحدين المؤمنين حقاً، فطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي الربح وهي الفلاح وهي الفوز، ومن حاد عنها فقد حاد عن الإيمان وحاد عن الإسلام، ويوشك أن يكون منافقاً أو كافراً، وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النور:54] فعلق الهداية على الطاعة، قال تعالى: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور:54] أي: ليس على الرسول محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلا أن يبلغ كل الناس في المشارق والمغارب، ففي حياته بما سمعوه منه، أو سمعوه عمن سمع منه، وبعد موته لمن قرأ حديثه وتلا سنته، أو سمع من ورثة الأنبياء وهم علماء الشريعة، فكل ذلك يوجب الطاعة على كل إنسان، فهو مرسل إلى الأبيض والأحمر والأسود، إلى المشارق والمغارب، فلا نبي بعده، وقد انفردت ديانته بأنها عالمية، فهي مرسلة لكل الخلق، وليست الرسالات السابقة إلا رسالات قومية محلية، فعيسى كان نبياً لبني إسرائيل، وموسى كان نبياً لبني إسرائيل، ولم يؤمر أحد بالإيمان به من غير بني إسرائيل، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كان الأنبياء قبلي يرسلون إلى أقوامهم خاصة، وبعثت إلى الناس عامة)، وهذا من الخصائص المحمدية.
وفي الإنجيل عن عيسى بأنه قال لهم: إنما أرسلت إلى خراف بني إسرائيل فلم يرسل لعرب، وإنما أرسل لبني إسرائيل فقط.
والقرآن أكد هذا وهو المهيمن على الكتب السابقة فقال: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ [الصف:6]، وتقديم المعمول على العامل في لغة العرب يدل على الحصر، أي: إنما كانت رسالته لبني إسرائيل خاصة وليست لغيرهم، وهذا ما صرح به الإنجيل وأكده من البداية إلى النهاية، وقد بقيت فيه دلالات أكدها القرآن المهيمن عليه.
إذاً: فعلى رسولنا البلاغ المبين البين الواضح، وقد بين صلى الله عليه وسلم رسالته ووضحها، فقد كان يقول الكلمة ثلاثاً لتفهم عنه، وكان ربما يقول القول الواحد في عدة مجالس، فإننا نجد الكثير من السنة نطق بها بألفاظ مختلفة، وليس ذلك من تصرف الرواة، ولكن نبي الله عليه الصلاة والسلام كان إذا قال القول -وهو سيد العرب فصاحة وقد أعطي جوامع الكلم- كان يقول القول في المرة الأولى بلفظ، وفي الثانية بلفظ، وفي الثالثة بلفظ، لكن المؤدى واحد؛ ليفهم عنه، وكان كثيراً ما يقول: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع)، وقال: (تسمعون ويسمع منكم، ويسمع ممن سمع منكم).
وهكذا انتشر الإسلام، فالصحابة سمعوا من نبي الله عليه الصلاة والسلام، وبعد ذهاب النبي للرفيق الأعلى صلوات الله وسلامه عليه قاموا بنشر رسالته وتبيينها بالسيف والقلم، وخرجوا بها عن جزيرة العرب فنشروها في مختلف أصقاع الأرض، وهكذا ذهبوا إلى ربهم راضين مرضيين، فجاء بعدهم التابعون ثم تابعوهم، وهكذا تسلسل دين الله إلى يومنا هذا.
وهكذا كانت رسالة نبينا عليه الصلاة والسلام الرسالة الخالدة فلا رسالة بعدها، وقد خوطب بها من كان في عصره ومن سيأتي بعده إلى يوم القيامة، وقد أشاد الله تعالى بالمسلمين فقال: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]، فالإيمان بالله هو الأساس والشرط الأول الذي يقوم عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمعروف هو ما عرفه الله ورسوله، والمنكر ما أنكره الله ورسوله.
وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور:54] والبلاغ للرسالة تبليغها؛ ولذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع وهو يخطب خطبة الوداع يقول لهم بين فقرة وفقرة: (ألا هل بلغت؟) فيقولون: نعم قد بلغت وأديت الأمانة وأحسنت، فكان يشير بسبابته الشريفة إلى السماء ويقول: اللهم اشهد! اللهم اشهد! فيشهد الله على شهادة هؤلاء الناس من الأصحاب، وكانوا عندما حجوا معه في حجة الوداع قد بلغوا مائة وعشرين ألف حاج رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً، كلهم كانوا يشهدون لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالبلاغ، فهو يريد أن يشهد الخلق على أن ما أمر به قد نفذه، وما أمر بتبليغه قد أبلغه؛ ليذهب لربه راضياً مرضياً صلوات الله وسلامه عليه، وجزاه الله عنا كل خير.