تفسير سورة النور [1-2]


الحلقة مفرغة

قال الله تعالى: سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:1].

لقد أنهينا سورة المؤمنون، وقد فصل الله فيها حال المؤمنين وأخلاقهم، منذ ابتدأ السورة: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2] إلى أن أنهيت بقوله: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ [المؤمنون:117-118].

فابتدئت بصفات المؤمنين الذين هم أهل الجنة، والذين استحقوا من ربهم -فضلاً منه وكرماً- رحمته ورضاه والجنة، وختمت بالتنفير من الشرك، ومن اتخاذ الإله الذي لا برهان عليه، ثم ختمت بآخر آية بأن قال الله لنبيه: وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ [المؤمنون:118].

فطلب منه وأمره أن يستغفر لنفسه، وأن يستغفر لأمته، وأن يدعو لها بالرحمة، وأن يدعو لها بالسداد والهداية ليكون من أهل الجنة، وقد فعل صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

وننتقل الآن إلى السورة التالية وهي سورة النور، وهي سورة مدنية بإجماع علماء التفسير، وفيها أربع وستون آية، وتكاد تكون كلها أحكاماً وحدوداً، وأوامر ونواهي، ومن المعلوم عند علماء القرآن أن القرآن الكريم كان في نزوله بمكة يقرر التوحيد، وكانت الآيات تنزل لتسفيه الشرك، وتزييف الشركاء، وقلما يوجد في السورة المكية أوامر ونواه وحدود وأحكام، وإنما كان أغلب ذلك في المدينة المنورة، وقد استقر فيها قدم الإسلام حاكماً وآمراً، وأصبح النبي صلى الله عليه وسلم يتصرف تصرف الحاكم، فيقاتل ويجاهد، ويقيم الحدود من قتْل ورجم وجلد وقطع، ويعاقب الفئات والكتل المتمردة المخالفة: كما قاتل اليهود فقتل من قتل، وشرد من شرد، وصادر من صادر، وطرد من طرد، وأمر عند وفاته صلى الله عليه وسلم أن يطردوا جميعاً من جزيرة العرب نصارى ويهوداً، ولم يكن ذلك إلا أمر منه صلى الله عليه وسلم بطرد غير المسلمين من جميع ديار الإسلام، ومن العالم الإسلامي كله؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قد قال: (لا تصلح قبلتان في أرض، ولا يصلح دينان في أرض).

وعندما قال: (أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب) كان العالم الإسلامي هو جزيرة العرب لم يخرج بعد عنها.

فهذه السورة مدنية بجميع آيتها الأربع والستين، وقد ابتدئت بحدود الزناة، وحدود القذفة، وباللعان، ثم بعد ذلك ذكرت قصة الإفك، وكان سبب نزولها قصة الإفك.

سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا [النور:1].

ابتدأ الله جل جلاله بهذه البداية؛ ليلفت الأنظار إلى أهميتها، وإلى ما سيجيء فيها مما تعم بلواه كل البشر منذ نزول الرسالة المحمدية، ونزول كتاب الله الكريم، وإلى يوم النفخ في الصور، فأنزل له حدوداً وعقوبات لتكون زاجرة رادعة.

قال: سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا [النور:1] أي: أنزل الله تعالى هذه السورة بآياتها الأربع والستين على خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه.

وَفَرَضْنَاهَا [النور:1].

وفرض أحكامها وجعلها حكماً لازماً لكل إنسان يخرج عن حدود ربه، ويرتكب ما عنه الله نهى، وفرض فيه العقوبات اللازمة.

وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ [النور:1] واضحات مفسرات متلوات، فيها البداية والنهاية من ارتكاب الإثم والعقوبة عليه.

لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:1] لعلكم أيها المؤمنون تفكرون بأن الله هو الآمر والناهي، فلا ينبغي ولا يجوز أن يخالف ويعصى، فإذا خولف وعصي استوجب المخالف والعاصي غضب الله وعقوبته ونقمته في الدنيا، ولعذاب الله أشد وأنكأ.

معنى قوله تعالى: (الزانية والزاني)

ثم دخل في الموضوع فقال جل جلاله: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2].

هذه السورة كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أمته ورعيته ومن كان حاضراً معه في المدينة: أن يحفّظوا هذه السورة لنسائهم، وأن يتعلموها ويعوا ما فيها من أحكام وعقوبات، ومن لعنة وغضب؛ حتى يكونوا على بينة من أمرهم فيما أحل الله وحرم.

وهذه السورة كان سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين كثيراً ما يبينون أحكامها، ويلزمون أولادهم -صغارهم وكبارهم- والنساء منهم خاصة -عواتق ومحصنات- بأن يحفظوها ويعوا ما فيها؛ ليعلموا أن الدنيا لم تخلق عبثاً، وأن من عصى وخالف فسيكشف نفسه، ويفضح على رءوس الخلائق مع اللعنة والغضب من الله.

الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي [النور:2].

والزانية والزاني هما: المرأة والرجل إذا أتيا حراماً مما يأتيه الزوج والزوجة حلالاً، فإذا تجامعا وأدخل أحدهما في الآخر فرجه من غير زواج ولا ملك يمين فإنه يعتبر في هذه الحالة زانياً، وهي تعتبر في هذه الحالة زانية.

ومن صدر عنه ذلك جعل الله له حداً، فللعزب البكر حد، وللمحصن حد، وقد ذكر في هذه الآية بعض عقوبة الزناة الأبكار، والبكر هو من لم يتزوج ولم يجامع مرة حلالاً، فمن لم يفعل ذلك ولم يحصل منه ذلك في زوجة بعقد صحيح فهو بكر، ومن تم منه ذلك ولو مرة واحدة في عمره يعتبر محصناً، وحده وعقوبته غير هذه التي نذكرها الآن ونبينها ونفسرها.

معنى قوله تعالى: (فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة)

يقول الله جل جلاله: فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2].

أي: اضربوهما وأدبوهما بأن يجلد كل واحد منهما مائة جلدة، وكيف يكون الجلد؟

يكون الجلد بعصاً أو بجلد لا يكسر عظماً، ولا يجرح لحماً، ولكن بما يؤلم وبما يوجع، والجمهور على أن يجلد الزناة قائمين، ويضربون على كل عضو إلا المقاتل، فيتقي الوجه والرأس ومكان العفة قبلاً ودبراً، وفيما عدا ذلك يضرب على الظهر، ويضرب على الألية، ويضرب على الأظفار ويضرب على السيقان، ويضرب على البطن بما يوجعه ويؤلمه دون أن يجرح أو يكسر.

وجلد عمر مرة إنساناً على الرأس وكان يسأل أسئلة تتحول للشرك، واسمه صبيغ بن عسل ، ولكن ذلك كان مبالغة في الزجر، ولم تكن الضربات إلا عدداً يسيراً لا مائة جلدة.

و ابن عمر أقام الحد يوماً على إحدى إمائه وقد زنت، وكان ابنه واقفاً يراه فقال له: يا أبت إنك لا تضرب؛ لقد أخذتك بها رأفة! قال: يا بني لم نؤمر بقتلهم، ولكن أمرنا بجلدهم. أي: فأنا أجلدها حتى الوجع والإيلام.

قال تعالى: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2].

والمراد هنا بالرأفة: الشفقة والحنان على الزانية والزاني، والمراد: لا تضربوهما ضرباً خفيفاً كمن يلاعب ولداً أو يلاعب زوجة، ولكن اضربوهما ضرباً موجعاً، يتألمان منه الأيام المتوالية؛ غير ألا تجرحوا لحماً ولا تكسروا عظماً.

وأما الشفقة الطبيعية فلا مانع منها، وليس في إمكان الإنسان أن يمنعها، فقد جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنني لأذبح الشاة وأنا أرحمها، فقال: (لك بذلك أجر).

وليس معناه: أنه رحمها وأشفق عليها فلم يأكلها؛ لأن ذاك عمل المجوس، ولم يخلق الله هذه الأنعام إلا لنا لنتمتع بها، ولنأكل لحمها حلالاً طيباً إذا ذكر اسم الله عليها.

وهكذا فما منعه الله هو: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2].

وليس معناه: ألا تضربوهما، بل اضربوهم ضرباً مؤلماً موجعاً، لا ضرب من يغازل ويلاعب، أي: لا تصل بكم الرأفة إلى ألا يكون هناك أثر لهذه العقوبة ولهذا الحد.

معنى قوله تعالى: (إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر)

ثم قال تعالى: إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النور:2].

أي: إن كنتم حقاً مؤمنين فيجب أن تلتزموا بأوامر الله، وبأن تتركوا نواهي الله، ولو كان الحد على ولد، وعلى قريب، وعلى أب، وعلى زوجة، وعلى أي كان فلابد أن تقام الحدود، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (حد يقام في الأرض خير من أربعين يوماً تمطر فيه الأرض) .

ولو أقيمت الحدود كما يجب لقلت الكثير من الجرائم، والكثير من الفساد في الأرض، وكمثل نضربه في بلدنا هذا المقدس الذي لا يزال يقيم الحدود في بعض أحكامها وأشكالها، نجد السرقة في جميع بلاد الله لا يكاد يخلو منها مكان صباحاً ومساءً، فلا يأمن الإنسان على مال في أرض، ولا في بيت ولا على عرض، وإذا عاقبوا لا يزيدون على أكثر من أن تسجنه الدولة مدة، وبهذا تضيع أموال المسلمين عبثاً، ولا يوجد السجن في الإسلام إلا بأشياء لا تكاد تذكر، كأن يوقف ليبحث عنه، ولا يتجاوز ذلك أياماً فإن طالت فأسابيع، ولا يكون السجن المؤبد إلا في حالتين وليس هو عند كل المذاهب:

فعند الأحناف إذا امتنع المصلي المسلم من الصلاة فإنه يسجن إلى نهاية وقتها، فإن صلى أطلق سراحه، وإن لم يصل بقي في السجن إلى الصلاة أو الموت.

وكذلك يكون السجن المؤبد في حال القتل فيما قال عنه صلى الله عليه وسلم: (اقتلوا القاتل وأمسكوا الممسك) فإذا اشترك شخصان أحدهما حبس القتيل أو أمسكه، والآخر نفذ القتل فالقاتل يقتل، والممسك يسجن إلى الأبد حتى الموت.

وأما هذه الآلاف التي تعمر السجون في ديار الإسلام حتى تفسد أخلاقها، وينتشر بينهم ما لا يليق بين المسلمين من فسوق، وتصرف عليهم أموال طائلة وحراسة شديدة، فهذه كلها تنفق من بيت مال المسلمين ظلماً وعدواناً، وليس في ذلك أي حق إضافة إلى أنه مخالفة لأمر الله، وعصيان في ترك الحدود، ولا يليق ذلك بدولة إسلامية بحال من الأحوال.

وأما الديون التي يسجن فيها الكثيرون فلا يخلو: إما أن يكون المدين عامر الذمة له مال، وإما ألا يكون له مال، فإن كان له مال فيجب أن يؤدي المال قهراً وغلاباً، فإن لم يفعل بيع ماله حتى مسكنه لأداء الدين، ولا حاجة للسجن، وإن كان لا مال له فقد قال الله جل جلاله: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، فينتظر به إلى أن يغنيه الله فيؤدي.

قال تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2] أي: في حكم الله وفي حد الله.

إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النور:2] ولفظة (تؤمنون) لا تكاد تفهم إلا في عصرنا الفاسد، فنزعم أننا مسلمون ومع ذلك تبيح قوانيننا في أكثر ديار الإسلام أنواعاً من الزنا والفسوق والعصيان، بل تعطى الزانية رخصة للزنا، وهي تعيش بالزنا، فهناك قوانين كفر استوردت من بلاد الكفر فتبناها المسلمون، وامتلأت بها ما تسمى كليات الحقوق، ومجالس الدولة، ويقوم مدعي الدولة والمحامون وما إلى ذلك ليدافعوا عن هذا القانون المجرم، وعن هذه المواد القانونية الفاسدة التي تنشر الكفر والمخالفة والفساد والفجور في الأرض، فيقولون عن البنت إذا ملكت أمرها وبلغت سن الرشد إن عرضها لها تؤديه لمن شاءت، ويقولون عن الزوجة: لها أن تسلم عرضها لمن شاءت، ولا حق لأحد في المعارضة إلا زوجها، فإن لم يعارض فقد أذن لها.

وللرجل أن يخالل من شاء وهو مسلم وهي مسلمة، فإذا رفعت به قضية يقول القاضي والوزير والحاكم في أكثر ديار الإسلام: أنت تخالف القانون الذي أعطاها حريتها وأعطاه حريته، ولذلك عندما نقرأ الآن: إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النور:2] فما أشد وقعها، وما أصدق معناها، أي: هؤلاء يزعمون أنهم مسلمون ومع ذلك لا يقيمون حداً على زانية ولا زانٍ، ولو كانوا مؤمنين حقاً لكان كتاب الله واجب الطاعة في كل ما أمر به، واجب الطاعة في ترك كل ما نهى عنه، وعندما لم يفعلوا ذلك دخلوا في قوله تعالى: إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النور:2] أي: إن لم يفعلوا فلا يكون إيمانهم صحيحاً، وبالتالي لا يكون تاماً ولا كاملاً بحال من الأحوال.

معنى قوله تعالى: (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين)

ثم قال تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2].

أي: وليحضر جلدهما وعقوبتهما طائفة من المؤمنين، والطائفة: قال البعض من الأئمة: تشمل الواحد فما فوق، وما أرى هذا صحيحاً، بل الطائفة: تشمل الجماعة، وقد حدد الإمام مالك والإمام الشافعي الطائفة بالأربعة فما زاد، قالوا: لأنه إذا لم يكن هناك اعتراف فإنه لا تتم إقامة الحد إلا بأربعة شهداء، ولذلك ينبغي أن يكون هؤلاء الأربع من الحاضرين، فإن كان عن اعتراف فليحضر أربعة.

وحضور هؤلاء فيه زيادة العقوبة النفسية، وزيادة الزجر والردع لمن تحدثهم أنفسهم بهذه الجرائم، وبهذه اللصوصية على الأعراض، فإن الإنسان قد يقبل ألف جلدة ولا يفضح بتلك الفضيحة، ولكن هذا من تمام الحد، فلا يفلت منهم وجيه ولا غير وجيه، كبير ولا صغير، ذو جاه أو صعلوك من مساكين المسلمين، فالكل أمام الحق سواء.

في هذه الآية بالنسبة للزناة ذكوراً وإناثاً: أن يجلدوا مائة جلدة، وأن تكون هذه الجلدات دون شفقة ولا رحمة تؤدي إلى النقص من الجلد، أو إلى ألا يكون جلداً موجعاً.

الثالثة: أن يحضر عقوبتهما جماعة من المؤمنين، ولا يتم الحد في الآية الكريمة إلا بذلك.

التفريق بين حد الزاني البكر والزاني الثيب

أنزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو المكلف بالبيان، فكان بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم التفريق في حدود الزنا بين البكر والثيب، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) .

وكان هذا إجماعاً لم يختلف عليه أحد من الصحابة، فكان إجماعاً صحابياً حقيقياً، وأولى الإجماعات بالصحة والعمل إجماع الصحابة، وحدث بعد ذلك خلاف لا يعتبر؛ لأنه خروج على إجماع الصحابة، وإلغاء للنصوص المتواترة المفروضة الواجبة، فقال بعض الخوارج وبعض المعتزلة: ليس في كتاب الله في حد الزناة إلا مائة جلدة، فلا تغريب ولا رجم، والمحصن وغير المحصن سواء.

وقد خطب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يوماً على المنبر فقال رضي الله عنه: (يوشك أن يزعم زاعم وأن يقول قائل: ليس الرجم في كتاب الله، وقد نزلت آية فيه قرأتها وقرأها الناس، ولولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لألحقتها بالمصحف، ثم قال: وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجم أبو بكر).

فأما النبي صلى الله عليه وسلم فلا يخالفه إلا كافر، وأما أبو بكر فلم يخالفه أحد، ولم يعترض على فعله أحد، فكان أيضاً أجماعاً صحابياً، ثم قال عمر : لم تنته الدنيا حتى يكذب الناس بالرجم، وبعذاب القبر، وبالشفاعة، وبكون الإنسان يخرج من الجحيم بعد أن يمتحن، وبعد أن تكون أعضاؤه فحمة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: الرجم حق، وعذاب القبر حق، وسؤال القبر حق، والشفاعة حق، وبكل ذلك شهد عمر وشهد معه عبد الرحمن بن عوف وفلان وفلان من الصحابة.

وعن زيد بن ثابت العالم بكتاب الله، قال: لقد قرأنا زمناً في القرآن الكريم آية هي من سورة الأحزاب: الشيخ والشيخة إذا زنيا فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة، وارجموهما البتة.

والقراءة الشهيرة: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، وهو حديث مالك في الموطأ.

وقوله: (الشيخ والشيخة) أي: المحصن والمحصنة.

ومن المعلوم من الدين بالضرورة عند علماء القرآن والسنة أن آيات القرآن ثلاثة أنواع: آية نسخت ورفعت حكماً كما رفعت تلاوة ووجوداً.

وآية نسخ عملها وبقي لفظها، وآية نسخ لفظها وبقي حكمها، ومنها الشيخ والشيخة، وقد قال تعالى: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة:106].

وقد رجم صلى الله عليه وسلم في حياته رجالاً ونساءً، فرجم من النساء الغامدية، والجهنية، والسيدة التي زنت بعسيفها وأجيرها، واليهودية واليهودي اللذين جاءا يحتكمان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجمهما معاً صلى الله عليه وسلم.

وماعز بن مالك الأسلمي رجمه صلى الله عليه وسلم حتى الموت، ورجم أبو بكر ، ورجم عمر ورجم عثمان وجلد علي شراحة يوم الخميس مائة جلدة، ورجمها يوم الجمعة، فقال: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله.

ولكن جمهور الفقهاء اعتبروا كقاعدة أصولية أنه إذا اجتمعت عقوبتان يعاقب بأشدهما، ويكتفى بها، فإذا اجتمعت عقوبتان: الرجم والجلد، فالرجم أشد من الجلد، فيكتفي بالرجم عن الجلد، وجاء أعرابيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما: يا رسول الله! إن ابني كان عسيفاً عند هذا فزنا بزوجته، وكنت قد فديت ولدي منه بمائة شاة وجارية، فاحكم بيننا بكتاب الله، فقال صلى الله عليه وسلم: (لأحكمن بينكما بكتاب الله، أما الشياه والوليدة فهي عليك رد، وأما ولدك فعليه مائة جلدة وتغريب عام، وقم يا أنيس إلى زوجة هذا فإن اعترفت فارجمها. فاعترفت فرجمت).

وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله جعل للزناة سبيلاً: الثيب بالثيب مائة جلدة الرجم، والبكر بالبكر مائة جلدة وتغريب عام) .

وهذا متواتر عن جماهير الصحابة، وهذا ما قاله وأفتى به الأئمة الثلاثة: مالك ، والشافعي وأحمد ، وأنه لابد مع المائة جلدة من أن ينفى ويغرب عاماً.

وقال الحنفية: التغريب بيد الحاكم إن شاء غرب وإن شاء ترك، واعتبروا ذلك تعزيراً زائداً، وقالوا عن التغريب: هو سجن لا يترك في البلدة قريباً، هكذا فهم أبو حنيفة وأصحابه، وعلى هذا فالآية بقيت غير منسوخ فيها حكم الأبكار، والتغريب أبانه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرجم كان يتلى قرآناً.

لكن عندما نسخت ورفع نصها لم تبق آية معتبرة، فلا تتلى، ولا يصلى بها، ولا يعتبر القراءة بها كالقراءة بالقرآن على كل حرف عشر حسنات.

أضرار الزنا

حذر الشارع من الزنا لعدة أسباب ظاهرة معلومة قبل وبعد، يقول عليه الصلاة والسلام كما في الصحاح وعند أحمد في المسند وعند أصحاب السنن: (ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والمرأة المسترجلة تتشبه بالرجال، والديوث).

والديوث: هو الذي يرى المنكر في أهله فيقره ولا يغار، ولا يكاد يحرك ساكناً.

وإذا كان التلصص على الأموال جزاؤه قطع اليد أولاً، ثم قطع الرجل ثانياً، ثم قطع اليد ثالثاً، ثم قطع الرجل الرابعة إلى أن يصبح لحماً على وضم، فالذي يتلصص على الأعراض ويفسد على الناس أنسابها، هل جزاؤه إلا الرجم، على أن الزنا قد حذر منه الشارع حفاظاً على الأنساب والأحساب، وحفظاً للصحة، وسلوا اليوم الأطباء جميعاً في بلاد الإسلام وبلاد غيرهم، فسيقولون: أكثر ما نعالج هي أمراض الفروج وأمراض الأدبار، وما ذلك إلا نتيجة للزنا، وذلك أن الإنسان مجمع القاذورات ومجمع الأوساخ، ومجمع الجراثيم حتى إذا زنى جمع جراثيمهما لبعضهما، ثم ذهب المتزوج فأفسد بذلك زوجته، وأفسد رحمها، وأفسد أولاده وهم في بطون أمهاتهم، ويحملون من الأمراض والجراثيم ما يصبح عدوى للأم، وعدوى للوليد، وعدوى لمن سيعاشر هذا الوليد.

فهذا القيح والصديد الذي يتوالى من فروج النساء والرجال، وأدبار النساء والرجال، يفسد على الإنسان شبابه، ويفسد على الرجل رجولته، ويفسد على المرأة أنوثتها، ويفسد شهامتهم، ويفسد أخلاقهم، ويصبح كل عضو يحمل مرضاً دائماً مزمناً ينتشر بالمصافحة أحياناً.

وهذا القيح وهذا الصديد الذي ينزل منها أماماً وخلفاً يعلق بالثياب، ويعلق بالمجالس، ويعلق بالحمامات، فيأتي الآخر وإذا به قد علق به، ثم قد يلزمه، فاسألوا الأطباء وقولوا لهم: لم هذه الأمراض؟ فسيجيبونك: هذا نتيجة نشر الزنا، ونشر الفساد، ونتيجة نشر التلصص على الأعراض، فكيف إذا أصبح ذلك في الدولة شيئاً رسمياً تفتح له الدور، وتقوم له بغايا تنتشر في الأحياء، وبين الشباب، وبين المتزوجين، وبين البنات، وبين المتزوجات، فماذا ستكون النتيجة؟ يصبح البلد كله ماخورة من المواخير، وبؤرة فساد، وخمارة من الخمارات، وعادة يضاف لذلك الخمرة والحشيش والبلاء من كل نوع.

ومن هنا ضاعت الغيرة من الناس الذين يرتكبون مثل هذا، وضاع الشرف، وضاعت الرجولة، وضاعت الشخصية، وصاروا أشبه بالكلاب والخنازير؛ لأن هذه هي التي تفقد الغيرة، وتجد أحدهم ينزو على إحداهن والآخرون ينتظرون دورهم دون أن يحركوا ساكناً، ولا يقلدون الجمل في غيرته، ولا الديك على الأقل الذي يكاد يفترس الإنسان فيما إذا حاول أن يمس دجاجته، فتجده يثور ثورة الأسد الهصور، وليس إلا طائراً مسكيناً يذبحه الناس بالملايين يومياً، فلا هو تعلم غيرة الرجال ولا غير ذلك، فما بالك بغيرة المسلمين!

وأما الجمل فمن المعلوم عنه أنه إذا رأى إنساناً يأتي ناقته فإنه يحقد عليه إلى أن يقتله، ولا يقبل حتى أن ينظر إليه، وطالما تقاتل فحلان من الجمال في سبيل ناقة فقتل أحدهما الآخر، ولا يفقد الشهامة، ولا يفقد الغيرة إلا إنسان فقد إنسانيته وآدميته بعد أن فقد دينه وإسلامه من قبل، وأصبح كالكلب والخنزير.