تفسير سورة النور [44-50]


الحلقة مفرغة

قال تعالى: يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ [النور:44].

يقلب الليل والنهار، وينوع فيهما، ويشكل فيهما، فتارة يطول النهار ويقصر الليل، وتارة يطول الليل ويقصر النهار، وتارة الليل يشتد حره، وتارة يشتد برده، ويشتد ما فيه من رياح وعواصف، حتى إنها تكاد تذهب بالبيت كله، حتى لا يكاد الإنسان ينام خوفاً، وهذه التقلبات من فعل الله وخلق الله، والليل والنهار لا يتجاوزان أربعاً وعشرين ساعة، ولكن يكون البعض على حساب البعض الآخر، ويقصر على حساب الآخر: يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ [النور:44]، فهو الذي يقلبه لا سواه، وهو وحده القادر على ذلك.

إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ [النور:44] إن في إنزال الأمطار، وفي تراكم السحب، وفي خروج الودق والمطر من خلالها، وصور الرعود والبروق، وفي تقليب الليل والنهار أنواعاً وأشكالاً: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً [النور:44] أي: لمدعاة للتفكير والتدبر، فيقول الإنسان يوماً: من الذي فعل ذلك؟

إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ [النور:44] لأصحاب البصائر، و(أبصار) جمع بصيرة، وقد تجمع على البصر، وهنا معناها: البصيرة، فهؤلاء بصيرتهم تتبع أبصارهم وما رأوه، وفكروا فيه، واعتبروا منه، ليقولوا يوماً: الله وحده القادر على هذا، والله وحده الخالق لهذا، وما يشركون به مع الله مما سوى الله لا يقدر على شيء من ذلك.

قال الله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [النور:45].

وهذا أيضاً من مدعاة الاعتبار والتفكير، فنحن نرى -هذا يراه المؤمن والكافر بالبصر، وينبغي أن يؤمن به ببصيرته- أن الله خلق الخلق كلهم من ماء، وعلى الأقل الخلق الذين نراهم من إنس، ومن دواب، ومن طير، ومن حشرات، فكلها خلقها من ماء: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ [النور:45]، فنحن خلقنا من الماء، قالوا: ولكن الملك خلق من نور، وخلق الجن من نار، لكنهم أيضاً تفرعوا عن الماء وخلقوا من الماء؛ لأن الله تعالى خلق الماء أولاً قبل السماء والأرض وكان عرشه على الماء كما قال نبينا صلى الله عليه وعلى آله، ولم يكن بعد قد خلقت حياة أخرى مع الله، فلم يخلق بعد لا ملكاً ولا إنساً ولا جناً، ثم بعد ذلك خلق من الماء كل شيء، وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء:30]، وهذه الآية تؤكد: أن الملك كذلك، وأن الجن كذلك، وأن النار من الماء، وأن النور من الماء، فالله قال: (كل شيء حي) وشيء: يطلق على كل ما سوى الله، والحي أيضاً كذلك كل خلق الله، فالله جل جلاله خالق الكل من ماء وأكد هنا ذلك وفي التلاوات السبع.

وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ [النور:45] والدابة: ما يدب على وجه الأرض، ثم ذكر هذه الأنواع من الدواب فقال: فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ [النور:45] وهي الزواحف: الحيتان والحيات والديدان، فكلها تزحف وتمشي على بطنها، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ [النور:45]كالإنسان والطير.

قال: وَمِنْهُم مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ [النور:45] كجميع الدواب والأنعام، فأغلب الخلق يمشون على أربع، قالوا: وهناك من يمشي على أكثر من أربع كبعض الحشرات، ولكنها تمشي على الأربع، وهناك قراءة تعتبر شاذة خارجة عن القراءات السبع: (ومنهم من يمشي على أربع ومنهم من يمشي على أكثر) ولكنها ليست تلاوة متواترة، وليست من السبع، والأمر كذلك، وكأنها تفسير وبيان، وهذا الذي جاء عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، فعندما جمع القرآن الكريم وجده هكذا مفسراً يشبه الآي على من جاء بعده، فأحرقه وأتلفه.

وعائشة كانت تزيد بعض الكلمات شرحاً وبياناً، وابن مسعود كان يفعل ذلك، كما زادت السيدة عائشة شرحاً وبياناً عند قوله تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238] زادت بخط يدها: وصلاة العصر، تريد بذلك الشرح، وأن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، وذلك ثابت في صحيح مسلم لا شك فيه، وفيه نزاع بين الأئمة.

قال تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [النور:45]، ومن خلق الله فيما شاء: أن جعل الحديد والأخشاب تطير وتتحرك بقدرته، وبما أقدر عليه خلقه من الإنسان: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21]، فقد أعطى الله للإنسان قدرة ليصنع هذه الأشياء، ولكن ماذا صنعنا؟ لم نخلق ولم نبتكر، وإنما جئنا لحديد خلقه الله، وإلى أخشاب خلقها الله، وإلى مياه سميناها: النفط والبترول وأنواعه، والله خلقها، ثم جئنا لهذه الأجواء، والله جعل فيها من الأثير ما يمكن أن يحمل الأجسام الثقيلة فتطير كما يطير الطائر، فقلدوا الطير في طيرانه، وقد أصبح ذا جناحين، قالوا: لِمَ يطير الطير ولا يطير غيره، وهكذا صنع الإنسان هذه الصناعات من الحديد والأخشاب، وبالمياه التي هي من خلق الله، فأصبحت تطير وهي من خلق الله، حتى إن أحدهم جعل لنفسه جناحين وهو عباس بن فرناس الأندلسي، فبعد أن فكر وأطال الفكر، وعاش بين الطيور زمناً وهو يرى كيف تطير وتحلق وكيف تنزل، وإذا به يصنع لنفسه جناحين وطار بهما في الجو، وإذا به وهو يحلق ويطير يريد أن يهبط فيعجز؛ لأن تفكيره كان مفرداً، ويد الله مع الجماعة، فقد فكر في التحليق ولم يفكر في كيفية نزوله، والله خلق للطائر ذيلاً يساعده على النزول.

ونحن نرى الطير وهو ينزل كيف يأتي إلى ذيله وينزله بما يصادم الهواء ويواجهه في النزول، لذلك فإن الطائرات والبواخر يوجد لها خلفها ما يشبه ذيل الطائر؛ ليساعدها عند النزول، وليقاوم شدة الأجواء والأثير والهواء، فهو عندما لم ينتبه لذلك وهو في الأرض تأكد أنه فقد حياته وانتهى، فحاول الاندفاع فعجز، فبقي يلف ويدور ويطير إلى أن تعب فسقط جريحاً مكسراً، وقال: فكرت في طيراني ولم أفكر في نزولي، ثم مات نتيجة عدم تدبره.

ثم جاء الذين بعده فما أرادوا أن يجعلوا التجربة في الإنسان نفسه فجعلوها في الأخشاب والحديد، ولكنهم لم يفكروا أن يجعلوا للبشر أجنحة كما صنع عباس بن فرناس ، ولا يبعد أن يتم هذا ويقع، وقد حصلت تجارب لا تتجاوز مئات الأمتار طار فيها الإنسان ونزل، ولكن حصول مثل هذا من الخطر بمكان، فلا يأمن الإنسان أن يطير إليه إنسان من النوافذ.

يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [النور:45].

ودائماً هذه الآية الكريمة يبقى مغزاها في خواتمها، فقد قص الله علينا خلقه، وقد رأيناه بالبصر وفكرنا فيه بالبصيرة، وأتم الله ذلك بأنه على كل شيء قدير، وهكذا جل جلاله على كل شيء قدير ويخلق ما يشاء، (ويخلق ما يشاء) فعل مضارع يدل على الحال والمستقبل، أي: وهو قادر جل جلاله كما خلق ما مضى من أشكال عرفها الماضون وعرفها الآتون قادر على أن يخلق شكلاً آخر وأنواعاً أخرى ليست كما مضى في الخلق، ومن ذلك هذه المخترعات التي نراها من أنواع الطائرات والصواريخ والسفن والقطارات والسيارات.

ونبقى دائماً نقول: ويخلق الله ما يشاء، ونبقى نقول ونحن نعطف على أنواع المركوبات، قال تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8]، وقد سبق أن قلت: بأن ابن عباس حبر القرآن قال: ما عطف الله قوله تعالى: وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8] على أنواع المركوبات حتى كان من جنسها، وتم هذا الفهم لـابن عباس بعده بألف وأربعمائة عام.

قال تعالى: لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [النور:46].

فالله أرسل محمداً صلى الله عليه وعلى آله بالكتاب الكريم، وبما فيه من آيات مبينات، مفسرات، موضحات، شارحات، تبين الحلال والحرام، والآداب والرقائق، وتبين القدرة الإلهية، وتبين خلق السماء وما فيها من عجائب، وخلق الأرض وما فيها من عجائب، تلك الآيات المبينات، المفسرات، الشارحات، الواضحات أنزلها الله تعليماً لعباده، وتعليماً لخلقه، تعليماً للناس علهم يؤمنون به، علهم يؤمنون بنبيه، علهم يؤمنون بالكتاب المنزل إليه، علهم يعيشون مؤمنين، ويموتون مؤمنين، ويبعثون مؤمنين، وذلك من رحمة الله بعباده.

ولذلك إن ضل من ضل فستبقى الحجة البالغة لله وحده، وسيقال للإنسان في القبر بسؤال الملكين: من ربك؟ من نبيك؟ ما دينك؟ كيف أنت مع صلاتك؟ كيف أنت مع بقية الأركان؟ فإذا قال: لا أدري فسيسأل: ألم يأتك نبي؟ فيقول: نعم ولا سبيل للإنكار، وإن أنكر شهد عليه جلده ولسانه وجوارحه، ولا سبيل للإنكار قط، وبعد ذلك يعترف الإنسان أحب ذلك أم كرهه.

وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [النور:47].

يتكلم الله عن قوم كان منهم في العصر الأول منافقون، والكلام عندما يكون له سبب فذلك السبب ليس إلا سبباً للنزول وإلا فالعبرة دوماً واستمراراً في كتاب الله وسنة رسوله العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وما أشد تطبيق هذه الآية علينا، فاليوم وما قبل اليوم وإلى ما بعد اليوم يقول تعالى عن طائفة من أدعياء الإسلام: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا [النور:47] يقول: نحن مسلمون آمنا بالله رباً وإلهاً، وآمنا بمحمد نبياً ورسولاً، وماذا يكون بعد ذلك؟ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ [النور:47] يتولى فريق -من هؤلاء الذين يقولون: آمنا بالله وبرسوله وأطعنا- ويعرضون ويبتعدون ويستنكفون عن الإيمان حقاً وعن الطاعة حقاً، فالله تعالى يقول عن هؤلاء: وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [النور:47].

ونحن اليوم نجد أن الشعوب الإسلامية والدول الإسلامية يقولون: نحن مسلمون جميعاً، وإذا قلت له: اسكت يا كافر! أو يا زنديق! لقام في وجهك قيام الضواري والحيوانات المفترسة، وهم مع ذلك يتحاكمون بغير كتاب الله ويتحاكمون بغير سنة رسول الله، فأنت تقول لهم: كيف تقولون: نحن مؤمنون بالله ومؤمنون برسول الله، ثم لا تطيعون بعد ذلك؟! فالإيمان بالله له فرع والإيمان بالرسول له أثر، فالإيمان بالله يلزم من ادعاه أن يكون مطيعاً لكتاب الله، ممتثلاً للأوامر، مجتنباً للنواهي، والمدعي للإيمان برسول الله يجب أن يكون مطيعاً له فيما أمر، ومجتنباً لما نهى عنه وزجر، وإذا زعم أنه مطيع لله ورسوله، فقل له: أين الطاعة؟ أنت تهمل كتاب الله حكماً وقانوناً: في الشارع .. في الدولة .. في الجيش .. في المعاملة .. في جميع شئون الحياة، وتحكم بغير ما أنزل الله، وتعمل بغير ما أنزل الله، وتنشر الكفر أشكالاً وألواناً، فالله تعالى يقول عن هؤلاء الذين يصنعون ذلك بعد أن ادعوا الإسلام وقالوا: إنهم مؤمنون بالله وبالرسول صلى الله عليه وسلم ومطيعون لهما، قال الله عنهم: ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ [النور:47]، بعد دعواهم الإيمان والطاعة، قال تعالى مكذباً لهم: وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [النور:47] أي: هؤلاء الذين يدعون الإيمان والطاعة ليسوا من المؤمنين؛ لأن الإيمان له شروط، والإسلام له قواعد وله ضوابط، وقد قال تعالى في كتابه: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47]، فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45] وهل بعد كلام الله كلام لأحد؟ وهذا من ذاك، فتجده يدعي الإسلام والإيمان والطاعة وقد يصلي وقد يصوم، وإذا به عند الحكم وإذا به عند التعليم وإذا به عند التصرف تجده قد أباح الزنا بأنواعه، وأباح الربا بأنواعه، وأباح إلغاء الحدود بأنواعها، وكشف الأعراض، وأخرج النساء عراة في الشوارع، وملأ المدارس والجامعات بغير كتاب الله، وبغير سنة رسول الله، وبغير القرآن الكريم، وبغير مذاهب الأئمة الذين استنبطوا فقههم من كتاب الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين، فكيف بهؤلاء أن يدعوا بأنهم مطيعون مؤمنون؟! ولذلك أكد الله فقال عنهم: وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [النور:47].

وليس بعد كلام الله كلام، وإذا أرادوا أن يكونوا مؤمنين فليتوبوا إلى الله من كذبهم، ومن عملهم للباطل، وتركهم لكتاب الله وسنته، وليس هذا خاصاً بالمنافقين وإن كانوا سبباً في نزول الآية، بل إن الكفار في عصرنا هم السواد الأعظم ممن ألغوا كتاب الله عملاً وحكماً وآداباً، وألغوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حكماً وتعليماً وآداباً، إلا قلة أبعدت عن الحكم وأبعدت عن القضاء وأبعدت عن التوجيه والتفسير، وهذه القلة مع ذلك لا تزال موضع الأمل وموضع الرجاء، وهي الدليل الناطق لتحقيق قول نبي الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم إلى يوم القيامة).

سيبقى الحق حقاً إلى أبد الآباد، ولن يضره خذلان المنخذلين أو كفر الكافرين، وسيبقى الباطل باطلاً ولو تكاثر المتمسكون به، والدعاة إليه، والعاملون به، فهو هباء منثور، والباطل باطل لا يفيد بل يضر، وهؤلاء من خصائصهم: أنهم إذا دعاهم علماؤهم الصادقون ورثة النبي صلى الله عليه وعلى آله صاروا كما قال الله: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ [النور:48].

أي: إذا دعي هؤلاء من قبل العلماء أو بعض المؤمنين الصالحين إلى الإيمان بالله عملاً لا مجرد القول، أو إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وعلى آله عملاً لا قولاً، وليحكم بينهم كتاب الله، ولتحكم بينهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولتكون دعواهم صادقة، كانت النتيجة الإعراض: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ [النور:48].

ولماذا قال: ليحكم؟ أي: ليحكم الله بكتابه، فهو يرجع لهما معاً: ليحكم الله بكتابه وليحكم رسوله بسنته صلى الله عليه وعلى آله، فإذا فريق منهم وطائفة يعرضون عن ذلك، أي: الحكم بكتاب الله، أو الحكم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعرضوا عن الفقه والعمل به.

وقول الله صريح ودليل على أن الإسلام سيبقى خالداً إلى يوم القيامة، فإن الكل لم يعرضوا عن كتاب الله، ولم يعرض الكل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يترك الإسلام كل الناس، بل إن دين الله سيبقى وإلى أبد الآباد خذله من خذله وحاربه من حاربه، وسيبقى الحق منصوراً مبصراً، وستبقى هذه المصابيح والسرج التي تنير أوساط المسلمين وتنير بلادهم، فالمسلمون الآن في ضعف وغداً في قوة، وليس شيء يدوم سوى الله، وهكذا علمنا تاريخ الإسلام في أحقاب ودهور مضت، فكم من حروب طاحنة مرت على المسلمين ثم كانت العاقبة لجند الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

وقد حاولوا في عصر الصحابة أن يقتل من الصحابة الكثير، وأن يوقف الزحف الإسلامي في فتح العالم، وطال ذلك واستطال وتولاهم منافقون ادعوا الإسلام، وكاد الإسلام يذهب، وأخذ الرومان في الزحف حتى أوشكوا على الوصول إلى العواصم، وإذا بالله ينصر دينه، ويذهب من فعل ذلك، ويزيد الإسلام انتشاراً، ثم بعد وقت تأتي الصليبية فتحتل نفس الأرض المحتلة اليوم ويبقون فيها أكثر من مائة سنة، وتنزل الجيوش إلى ينبع، وتنزل في الحجاز، وتأخذ طريقها إلى المدينة المنورة، وإذا بالله الكريم ينصر دينه، فيسحق أولئك ويرمون في البحار في بطون الحيتان والمقابر، ويعود الإسلام أقوى مما كان، وينتشر أكثر مما كان.

وهكذا في القرن التاسع الهجري يزحف بالإسلام وينتشر ويدخل أقطاراً ما سبق له أن دخلها، فقد فتحوا القسطنطينية التي كانت مكمن النصرانية في الشرق، ويتحقق بذلك ما أخبر به المصطفى عليه الصلاة والسلام في قوله: (رأيت أمتي ملوكاً على الأسرة أو كالملوك على الأسرة، يفتحون مدينة نصفها في البر ونصفها في البحر يقال لها: القسطنطينية)، وتصبح بعد ذلك عاصمة للإسلام سبعمائة عام إلى أن ارتد من ارتد وخزي من خزي وتزندق من تزندق، وأخذ الإسلام يتقلص، فسلط عليهم الاستعمار الأوروبي والاستعمار الأمريكي والاستعمار الروسي، ولكن بعد أن استقل المسلمون لم يحمدوا الله على نعمه، ولم يشكروه على آلائه، وإذا بهم يسلط عليهم الاستعمار اليهودي، وقد قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [مريم:83]، وما ذاك إلا عقاب الله تعالى، وكأنها لطمة سكران عندما يشتد سكره لعله يفيق ويعود، وسيعود المسلمون وسيسحق اليهود سحقاً هم وأنصارهم ومن خلفهم من المنافقين الذين يتخللون أوساطنا، أو من اليهودية الدولية أو الصليبية العالمية، وقد قال بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: (تقاتلكم يهود فتقاتلونهم فتنتصرون عليهم، حتى يقول الشجر والحجر والمدر: يا عبد الله! هذا يهودي خلفي تعال فاقتله).

ولم يكن هؤلاء يوماً أقوى ولا أشمل ولا أكثر من الصليبيين قبلهم، ثم هم لا يتجاوزون كلاب الصيد اصطادت بهم الصليبية في هذا العصر بعد أن وجدت المسلمين في ضعف وتشتت، وكذلك ما هم فيه من ترك لكتاب الله وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، فسلطوا عليهم لا لقوتهم ولكن لشتات المسلمين وضياعهم، وستكون هذا تربية صعبة رادعة، وسيكون العود بعد ذلك لله ولكتاب الله، ولقيادة سيد البشر محمد صلوات الله وسلامه عليه.

وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ [النور:48]، وهكذا يبقى دائماً الذي يعرض ويكذب، فهو فريق من الناس وليس كل الناس، فالإسلام كان وما يزال شمساً مشرقة في رابعة النهار، وقد قال الله بشأن حفظ دستور الأمة: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، ومن حفظ القرآن حفظ بيانه وهو سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والمستنبطات كذلك من الفقه الإسلامي، واللغة التي بها نزل القرآن، بل إنه يوجد في هذا العصر حركات في جامعات وفي أقطار عربية شرقية تجمع فقه الصحابة، وفقه آل البيت، وفقه التابعين، وقد صدر من ذلك الكثير الطيب بما يعد ميزة لهذا العصر، وإن كان هذا قد حصل في التاريخ، فقد ذكر: أن ابن مفوز من أعلام الأندلس جمع فقه الحسن البصري، وجمع فقه ابن شهاب الزهري ، ولكنه ضاع مع ما ضاع من تراث الأندلس وعلوم الأندلس وخزائن الأندلس.

ثم يقول الله عن هؤلاء المنافقين القدماء والمحدثين: وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ [النور:49] يعني: إذا وجدوا في الشريعة ما يتفق مع مصالحهم بادروا إليه مذعنين خاضعين مستسلمين، فتجدهم ملتزمين بما يخص مصالحهم كالمواريث والسياحة والمعاملة وغيرها.

فإذا أتت الحدود بالرجم والصلب وتقطيع الأيدي والأرجل وبالجلد أمام الشهود، إذا بهم يصيحون ويستنكرون ويقولون بوحشية هذه الحدود، ولم يروا إفكهم ودعارتهم وضلالهم، ومن قتل القاتل وظلم الظالم وفسق الفاسق، فلم يفكروا في ذلك، وهكذا هم في كل زمان ومكان، فإنهم إذا دعوا لما يرون فيه مصلحة في الإسلام قبلوه وأذعنوا إليه وخضعوا له، ومن هنا كان المنافقون في العصر النبوي -وما أشبه اليوم بالأمس- إذا علموا أن رسول الله سيحكم لهم ذهبوا إليه وتحاكموا إليه، وإذا رأوا أن الحكم عليهم نفروا منه وحكموا بعضهم، وقد يحكمون اليهود كـكعب بن الأشرف وأمثاله، وهكذا هم اليوم، فقد ألغوا الشريعة وتركوا منها آثاراً أشبه بآثار الوشم في اليد.

ثم قال تعالى عن هؤلاء موبخاً ومقرعاً ومسفهاً: أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [النور:50].

يقول الله موبخاً على طريقة الاستفهام في لغة العرب وفصاحتها: أفي قلوب هؤلاء مرض؟ فهؤلاء الذين يصنعون ذلك ويقولون: سمعنا وأطعنا ثم لا يصنعون شيئاً، ويؤمنون ببعض الحق في تصورهم ثم يتنكرون له وينقلبون عليه: أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [النور:50] أي: أفي قلوبهم كفر؟ إذا قيل في الإنسان: قلبه مريض فيعني: أنه منافق مخادع يظهر خلاف ما يبطن، أهؤلاء مسلمون حقاً أم هم منافقون؟! أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا [النور:50] أي: أم شكوا في ربهم من جديد وعادوا للكفر صراحة؟ أم شكوا في صدق نبيهم؟! أم شكوا في صدق الكتاب المنزل على نبيهم وهو القرآن الكريم؟

أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ [النور:50] أي: أن يجور عليهم الله ورسوله، فيخافون أن يكون في أحكام الله جور عليهم وظلم لهم، وهل هذا يخطر في بال مسلم؟!