تفسير سورة النور [32-34]


الحلقة مفرغة

قال تعالى: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:33].

فإن كان ولا بد وكان العذر لهؤلاء هو الفقر، فمن لم يكن كذلك مكفياً فليستعفف وليطلب العفة بألا يزني ولا يفسق: لا بعينه، ولا بأذنه، ولا بيده، ولا بفرجه، وقد كتب الله الزنا في العين، فإذا ما رأت ما لا يحل لها فقد زنت، والأذن إذا أنصتت لما لا يحل لها فقد زنت، واليد إذا باشرت ما لا يحل لها من بشرة محرمة فقد زنت، وهكذا تجد هذا الذي لا يتزوج تعللاً بالفقر لا يكاد يخلو من الزنا يومه كله، فينظر لأعراض الناس في الطرق والأزقة، ويسمع لغناء النساء ورخامة أصواتهن وفحش قولهن، ويمد يده مصافحاً لمن لا يجوز له أن يصافحها، وهكذا تجده يومه كله في مخالفة وعصيان لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، وابتعاد عن أخلاق المؤمنين.

فقوله تعالى: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ السين والتاء إذا دخلت الفعل فهو للطلب، أي: ليطلب العفة، فهؤلاء الفقراء إن أصروا على عدم الزواج للفقر فليكونوا عفيفين عن النظر والسمع والزنا والفرج فيما لا يحل لهم؛ عسى الله أن يغنيهم ويكفيهم، فإن الله قد تعهد بذلك من قبل، وكلمة النكاح إذا أُطلقت تعني الزواج، وقل ما تعني الجماع.

قال تعالى: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا هذه الفقرة من الآية تتعلق بحكم آخر كبير الشأن، هذا الحكم يتعلق بتحرير العبيد الأرقاء قبل أن يدّعي هؤلاء الأعداء اليوم أنهم قد أعتقوهم وأوجبوا ذلك، فأعتقوهم أفراداً واستعبدوهم شعوباً وأمماً، استعبدوهم للبطش والذل والهوان والاسترقاق، وأنتم ترون وتسمعون كل حين كيف أن أمم الكفر أطلقت كلب الصيد اليهود فكانوا كلاباً وقردة وخنازير، لضرب المسلمين براً وبحراً وجواً، فيريقون الدم الحرام، وينتهكون العرض الحرام ويستذلون ويقتلون ويستعبدون، وكأن الدنيا لم يبق فيها مسلم، ولم يبق فيها من يدّعي ويزعم الدفاع عن ما يسمونه إنسانية أو آدمية أو بشرية، وهكذا لا نزال نجد أمم الكفر قد تواطأت وتآمرت على إذلال الإسلام والمسلمين، بل حتى المسلمين تواطئوا على أنفسهم ليذلوا أنفسهم ويستعبدوها، وقد قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [المائدة:51]، فنحن قد رأينا ولا نزال نرى جميع أمم الكفر والنصرانية في الأرض كيف والوا اليهود وناصروهم وعزّزوهم وعزّروهم وملّكوهم من الأسلحة والأموال والدفاع والكفاح؛ ليذلوا المسلمين، وليذهبوا وجودهم من المشرق العربي؛ إعادةً للصليبية الأولى، وحقداً على المسلمين وعلى دين الإسلام.

قال تعالى: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ (والذين يبتغون) أي: الذين يريدون، والكتاب: المكاتبة، (مما ملكت أيمانكم) من عبيدكم وأرقّائكم رجالاً ونساء، فَكَاتِبُوهُمْ ، ومعنى الكلام: إذا جاءكم أيها السادة والموالي عبيدكم وأرقاؤكم وجواريكم وفتياتكم فطلبوا منكم أن يعقدوا معكم مكاتبة في تحريرهم وشراء أنفسهم فافعلوا وكاتبوهم، والمكاتبة في لغة الرق والأرقّاء: أن يأتي الرقيق ذكراً كان أو أنثى فيقول لمولاه: كاتبني، أي اكتب بيني وبينك عقداً أؤدي لك قدراً من ثمن، أو أؤدي لك ما يمكن أن أتفق وإياك عليه خلال فترة معينة.

وهذه الفقرة من الآية الكريمة تدعو إلى تحرير العبيد منذ 1400 عام نزل بها الوحي الكريم على سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك قبل أن يدّعي هؤلاء الأرذال إخوان القردة والخنازير أنهم حرروا العبيد، فحرروهم أفراداً فيما زعموا واستعبدوهم شعوباً وأمماً.

ومعنى ذلك: أن العبد إذا أراد حريته والجارية إذا أرادت حريتها فأعطوها إياه مقابل ما صرفتم من مال يؤدونه إليكم، يقول عمر : يجب على كل مولى وسيد إذا رغب مولاه -عبده أو جاريته- في المكاتبة على قدر من المال من ثمنهما، إن يفعل.

ذكر إجبار عمر بن الخطاب لأنس بن مالك أن يعتق سيرين

كان سيرين غلام أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووالد الإمام العالم الربّاني محمد بن سيرين مولى لـأنس ، فجاء إليه وقال: يا مولاي! كاتبني، أي: اعتق رقبتي من الرق مقابل شيء أتفق وإياك عليه، وإذا بـأنس يمتنع، فيذهب سيرين إلى عمر وكان إذ ذاك أميراً للمؤمنين فيشتكي بـأنس ، فدعا عمر أنساً وقال له: كاتبه وأجبه لرغبته، وإذا بـأنس يمتنع، فيضربه عمر بالدرة كما يفعل عادة مع كل مخالف لما يعتقده أمراً من الله وأمراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلك أجبر أنساً على مكاتبة سيرين وعتقه مقابل مال يؤديه منجّماً، أي: زمناً بعد زمن ووقتاً بعد وقت.

وما فعله عمر إلا لأنه يعتقد أن قوله تعالى: فَكَاتِبُوهُمْ أمر ليس للاستحباب ولا للانتداب، وقد قال بهذا عالم مكة عطاء بن رباح ، وعالم بغداد الإمام المجتهد داود الظاهري ، وعالم الأندلس أبو محمد بن حزم وقال بهذا الكثير من الأئمة المجتهدين سلفاً وخلفاً: إن المكاتِب إذا جاء يطلب حريته فإنه يجاب لرغبته بقيد الله الذي قيّد، حيث قال الله تعالى: إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا أي: إن علمتم في هؤلاء الأرقاء خيراً.

واختلف المفسّرون في هذا الخير ماذا يعني؟ فقال بعضهم: المال، ولكن هذا كلام غير مقبول؛ لأن العبد لا يملك، وما يملك فهو لسيده ومولاه، فالفرض أنه لا مال له حتى يُقال: إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ، وقالوا: الخير هو الأمانة والصدق والصلاة، ويجمع كل ذلك: إذا علمتم فيهم إسلاماً، بمعنى أن الرقيق كان غير مسلم، ثم أسلم وجاء يريد مكاتبة مولاه على حريته وعتقه في هذه الحالة، فيجب على سيده أن يستجيب لحريته وأن يكاتبه، وبهذا يُصبح الأمر أن كل من أراد حريته ممن مُلكوا رجالاً أو نساءً في أسر في معركة مع الكافرين ثم أسلموا، أو توالدوا مسلمين عن أرقاء ليسوا بمسلمين، إن جاء هؤلاء وأرادوا حريتهم فاستجيبوا لهم، ويُكتب عادة عقد فيه: أن فلاناً مولى فلان الرقيق استجاب لرغبة مولاه فلان أو فلانة من الأرقاء في عتق رقبته وحرية بدنه، مقابل قدر من المال أو عمل من الأعمال يعمله مؤقتاً زمناً بعد زمن لشهر أو سنة أو سنتين أو أكثر أو أقل، فإذا كُتب كتاب عقد الحرية وأعطى الرقيق قدراً من ثمنه ثم عجز عن تسديد الباقي فإنه يصبح مديناً لمولاه، وقد قال تعالى عن المدين: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، فيُصبح ذا عسرة، وذو العسرة من المدينين يُنتظر غناه فيسد ما عليه.

إذاً: المسلم بمجرد طلب حريته -إن كان رقيقاً- فإنه يجب على مولاه أن يستجيب للمكاتبة، وبمجرد أن يبتدئ بالمكاتبة ويُعطي بعضها يُصبح بعد ذلك مديناً، فإن استطاع أن يؤدي فذاك، وإن أعسر فيُنتظر غناه، وهو حر معتق، قال بالذي أقول الكثير من الأئمة سلفاً وخلفاً.

وقال آخرون: المكاتب رقيق ما لم يؤد آخر ما اتفق عليه مع مولاه، والرقيق ليس واجباً على المولى أن يُعتقه أو يُكاتبه، وإنما ذلك شيء مندوب إليه ومستحب؛ وهكذا اختلفوا، ولكن الآية بالأمر الصادر لا يمنع من كونه واجباً، والذي قال أمير المؤمنين عمر عنه إنه واجب، وسُنة عمر في ذاتها تعتبر سُنة نبوية؛ لحديث: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ).

ثم قال تعالى: وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ومعنى هذه الفقرة من الآية الكريمة: إن أراد أرقاؤكم وعبيدكم الحرية والعتق فاستجيبوا لهم، وأعينوهم على عتقهم بأن تُسقطوا لهم وتتنازلوا لهم عن بعض ما اتفقتم عليه معهم، كأن تكونوا قد اتفقتم على أداء عشرين ألفاً فقال البعض: يجب أن تتنازل له على نصف هذا القدر، وبعضهم قال: الربع، وبعضهم قال: الثلث.. وهكذا، فالآية خطاب للأولياء والسادة.

فقوله: وَآتُوهُمْ أي: آتوا الموالي المُكاتبين في حريتهم وعتقهم مساعدة وعطاءً، مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ أي: من هذا المال الذي ملككم الله إياه ورزقكم، وهو في الأصل مال الله رزقكم إياه وأعطاكم إياه، وفرض فيه فرائض وألزم فيه لوازم: من النفقة على العيال، ومن الزكاة الواجبة للفقراء والمساكين، ومن إعطاء كل سائل، قال تعالى: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:24-25]، فهذا المال خرجت أنت من بطن أمك ولا تملك منه نقيراً، وقد رزقك الله إياه بعد ولادتك، فمال الله هذا لا تبخل به على مستحقيه نفقةً وزكاةً وصدقةً وعطاءً، ولا تبخل به على مكاتبيك من أرقائك، بل ساعدهم وأعطهم منه.

وقال مفسّرون: وَآتُوهُمْ الخطاب لكل المسلمين بأن يؤتوا هؤلاء المساكين، سادة وغير سادة، ممن كاتبوهم أو من المسلمين ممن لم يكاتبوهم، يقول: أعينوا هؤلاء المكاتبين الطالبين لحريتهم والطالبين لعتقهم، وساعدوهم على ما اتفقوا عليه من عطاء وأداء مقابل حريتهم وعتقهم، وأعطوهم السهم الذي أوجبه الله في الزكاة وفي الرقاب، قال تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ [التوبة:60] فثمن الزكاة والعطاء جعله الله قسمة بين ثمانية، وأحد هؤلاء الثمانية: عتق الرقاب وإعفاء هؤلاء عن رقّهم.

ويبقى المعنى بذلك: أن الله يخاطب جميع المسلمين أن يُساعدوا في عتق الرقيق، وفي تحريره، وفي ألا يكون رقيقاً بعد هذا، والله جعل مع ذلك في كثير من الكفّارات عتق رقبة.

واستعباد الناس لم يكن شيئاً من الإسلام، بل جاء الإسلام فوجد الأمم السابقة والأديان السابقة أن هذا من جملة عملهم وتقاليد مجتمعهم، فالله عندما أنزل كتابه وأرسل محمداً برسالته صلى الله عليه وسلم دعا للتخفيف من قيود ذلك، مع الإحسان إليهم فيما إذا بقوا كذلك، واعتبارهم إخوةً وأولاداً لأوليائهم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إخوانكم خولكم -أي: عبيدكم إخوانكم- أطعموهم مما تطعمون، وألبسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم ما لا يطيقون، فإن كلّفتموهم فأعينوهم) وهؤلاء الذين يزعمون اليوم من أدعياء الحضارة والمدنية كذبة فجرة، فقد دعوا إلى ذلك أفراداً وعملوه شعوباً وأمماً، فاستعبدوا الشعوب والأمم وأزالوا عنهم كل حرية واختيار: من سفك دم، وهتك عرض، وزوال مال، وإذلال كرامة، ونحن نعلم أن في هذه الديار المقدّسة قد أُعتق العبيد لسنتين أو أربع مضت، ولما أعتقهم أسيادهم رفض الأرقاء وقالوا: إلى أين نذهب؟ فلا نعرف لنا والداً سواكم، ولا أُسرة غيركم، وإذا كان كذلك إما أن تبقونا أرقاء وإما نحن خدمكم؛ ولذلك فإن الرقيق إذا وجد راحته ووجد سعادته في أن يبقى رقيقاً فالأمر له، فقد يكون ذلك أربح له، وقد يكون ذلك أسعد له، والكثيرون منهم يجدون من مواليهم وساداتهم عطفاً وبراً وعناية، وإذا أُطلقوا سيعجزون حتى عن النفقة على أنفسهم أكلاً وسكناً وشرباً، وفي هذه الآية نرى الله جل جلاله قد ذكر المال منسوباً إليه، فأموالنا وكل ما في السماوات والأرض هو لله، فيجب أن يعتقد الإنسان المسلم أن ماله الذي بيده هو لله، فرض الله فيه فرائض من النفقة، وفرائض من الزكاة، وفرائض من المعاملات، فإن لم يفعلها انتزع منه المال على أنه مال الله ولم يحسن استعماله، بل اتخذ الحلال حراماً وآذى به الناس، والله شرع التملك بما تقدر وتستطيع من تجارة وزراعة وصناعة، ولكنه حد حدوداً فمن تجاوزها أزال الكرامة عما يملك، فمن ملك المال بواسطة ما حرّم الله: بواسطة الربا أو الرشوة أو الفساد أو ما لا يليق مما حرّم الشارع، فلا يُعتبر هذا المال مالاً حلالاً، وما لم يكن مالاً حلالاً فإنه يُنزع، ولا يُقال عنه: نزع الملكية، ولا يُقال عنه: التأمين، ولكن يقال عنه: رد المظالم.

رد المظالم إلى أهلها في عهد عمر بن عبد العزيز

إن أول من أقام هذه الإدارات بهذا النوع هو عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد الخامس، فقد جاء بين عهدين ظالمين، وخليفتين ظالمين، فوجد الفساد قد انتشر في البر والبحر والسهول والجبال، ففتح دائرة وأسماها دائرة رد المظالم، وابتدأ بزوجته وهي فاطمة بنت عبد الملك بن مروان الخليفة بن الخليفة، فقال لها: يا فاطمة ! كل ما تملكين من حلي وأرض وعقار قد أخذه أبوكِ وجدكِ من المسلمين من غير حق، وأنا سآخذه منكِ قهراً وأُعيده إلى بيت المال، فإن كان ذلك برضاكِ فأنت زوجتي في الدنيا والآخرة، وإن لم يكن فالمال سأعيده لأصحابه من المسلمين، وبعد ذلك لن تكوني لي زوجة لا في الدنيا ولا في الآخرة، وبعد ذلك سنّها بنفسه فأزال عنه كل ما كان يسمى ملكاً للدولة وأعاده إلى بيت المال؛ وهكذا تسلل إلى أولاد عمه وإلى أُسرته الحاكمة فنزع عنهم كل ما كان لهم، ثم الأمثل فالأمثل، وفي سنتين أعاد سنة الخلفاء الراشدين التي هي سنة محمد صلى الله عليه وسلم في المال وتملكه، ولكن بني عمه وأُسرته الحاكمة لم تتحمل ذلك فغدروا به وسمموه وقتلوه بالسم.

وهكذا سيبقى إلى أبد الآباد أن كل مال أُخذ بغير حق لا يُعترف بملكيته يجب أن يعود لأصحابه، فإن عُلم أصحابه رد إليهم، وإن لم يُعلم فإنه يعود إلى بيت المال، ولا يسمى تأميناً كما يقول لصوص اليوم الذين يسمون أنفسهم الاشتراكيين والشيوعيين، فيذهبون إلى أخذ مال الناس ظلماً وباطلاً لتوزيعه في أباطيلهم وأضاليلهم وحرب الإسلام والمسلمين، ولكن نسميه مظلمة، فيجب أن تزول ويعود الحق لأصحابه مهما طال الزمن، ولا نقول بالقانون الباطل أنه إذا مضى على الحق عشرون سنة فإنه يسقط طلب حقه، بل ما ضاع حق وراءه مطالب، وهكذا يقول الله عن هذا المال: (( وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ))، فالمال في أيدينا عارية لله، فاليوم هو بيدنا وبالأمس كان بيد غيرنا، وبعد فترة هو في يد آخرين.

معنى قوله تعالى: (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء ...)

قال تعالى: (( وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا )) الفتيات: الإماء، جمع فتاة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا يقل أحدكم: عبدي ولا أمتي، ولكن فليقل: فتاي وفتاتي)، فهذا من أدب النبوة وأدب الإسلام مع الأرقاء ألا نسميهم عبيداً ولا نسميهن إماءً، فنحن جميعاً عبيد لله المالك والمملوك سواء، ولذلك علمنا أن نقول كلمة تدل على الأخوة الإنسانية البشرية فتقول: فتاي وفتاتي، وهذا تعبير القرآن: (( وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا ))، والبغاء هنا: الزنا، والتحصّن: العفّة.

سبب نزول قوله تعالى: (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء ...)

كان الناس في الجاهلية يشترون الإماء ويتملكونهن ويجبرونهن على الزنا، فيجلبن لهم المال، وإذا حملن وولدن اعتبروا أولادهن كذلك رقيقاً، فيولَّدونهن كما يولد الإنسان حماره وبغلته، فجاء الإسلام فحرّم ذلك واستنكره، وبقي المنافقون وعلى رأسهم عبد الله بن أبي يفعل ذلك، وأسلم إماؤه، فعندما أراد إكراههن على ما اعتاد في الجاهلية قبل الإسلام وقبل هجرة محمد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة امتنعن، فضربهن مولاهن، فذهبن يشتكين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل قوله تعالى: وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا أي: لا تجبروهن على الزنا إن أردن العفة، والكثير ممن لم ينتبه لتفسير الآية قال: لا تكرهوهن إن أردن تحصناً، فإرادة التحصن خرج فخرج الغالب، وليس الكلام كذلك، فإنهن إن لم يردن التحصن فمعناه: أنهن زانيات من غير أن يكون مولاهن آمراً أو ناهياً، فإذا كانت الفتاة لا تريد التحصّن ولا تريد العفة ولا الكرامة والشرف، فما الحاجة إلى أن يكرهها سيدها! فهي من نفسها تذهب وترغب في الفاحشة.

نقول: هذا له حكم آخر، وعلى سيدها أن يقيم عليها الحد، وحدود الإماء والعبيد نصف حد الأحرار، فحد الزنا بالنسبة للعزب الحر مائة جلدة، وهو للإماء خمسون، وحد القذف للحر ثمانون جلدة، هو للإماء وللعبيد الأرقاء أربعون جلدة، فعليهم نصف ما على الأحرار من العذاب كما قال جل جلاله، ولا يُتصور القول بالإكراه إلا بالنسبة لمن أرادت العفة والتحصّن، وأما من لم ترده منهن فلا حاجة للإكراه، ولذلك فالكلام خرج كواقعه ولم يخرج على أنه فعل الغالب والكثير.

ونحن اليوم في عصر سوء؛ وعصر اليهود والتبرّج والفاحشة وأنواع البلاء، هذا العصر الذي يسمونه عصر الحضارة والنور، ما هو إلا عصر الكفر والفساد وعصر الحيوانية والبعد عن الله ورسوله وعن النبل والكرامة، فمن البلاء أن أصبحت هناك جمعيات يشارك فيه مسلمون فتجلب هذه الجمعيات من أوروبا وغيرها من بلاد الكفر ما يسمونه بالرقيق الأبيض، فيأتون بهن للزنا والفاحشة، ويأتون بهن لدور اللهو والرقص والسينما وما إلى ذلك، ويعطونهن قدراً ضئيلاً من المال، ويجبرونهن بأنواع الإيذاء ليكسبن من وراء زناهن وفسقهن ورقصهن وفاحشتهن، وأصبح هذا على الشكل القانوني المقبول في أكثر دول الأرض؛ وهذا من البلاء ومن العودة للجاهلية الأولى والعودة للكفر، فقد قال الله تعالى: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33]

فبالنسبة للمرأة المكرهة (فإن الله غفور رحيم) يغفر لها؛ لأنها مجبرة، ويرحمها لأنها لا إرادة لها في ذلك.

قوله تعالى: وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ أي: من يحاول منكم أن يكره هؤلاء الضعيفات على أعراضهن وشرفهن وإسلامهن، فالله من بعد أن تكرهوهن غفور لهن رحيم بهن.

وأما أولئك فقد دخلوا في جملة من المعاصي والآثام، إذ نشروا الفاحشة والفساد وأكلوا به مالاً حراماً، فكانوا بذلك مستحقين لأنواع من الحساب والعقاب في الدنيا فضلاً عن الآخرة، ويعدون ممن دخلوا في الدياثة؛ لأن من يرى الفاحشة في أهله ويرضى بها فهو ديوث، فالجارية أهله ومكان عفّته إن أراد، فهو يذهب لعرضه فيبيعه للناس، ومن كان كذلك فإنه يستوجب عليه العقاب والنفي من الأرض، وقد يوصل ذلك إلى القتل إن كان فساداً في الأرض، وقد قال تعالى عن هؤلاء: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ [المائدة:33].

ونشر الفساد في الأرض يكون بنشر الفاحشة والمنكرات بأنواعها، ونشر الحرام وترك الحلال، وسفك الدم الحرام، والتعرض للحرم وللنساء، والتعرض للولدان، وهم بذلك يحاربون الله فيما أمر به، ويحاربون رسوله فيما أمر به، وجزاء هؤلاء وعقوبتهم أن يخيّر الحاكم في واحدة من ثلاث: إما أن ينفيهم من الأرض، أي: يسجنون، وهو النفي التام إلى الأبد، وإما أن يبعدوا إلى صحارٍ لا يراهم الناس ولا يرونهم، أو تقطّع الأيدي والأرجل من خلاف: اليد اليمنى والرجل اليسرى أو العكس، أو يصلّبون أحياءً حتى الموت.

وقول الله تعالى: أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا [المائدة:33] قال العلماء: زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى في لغة العرب، فلم يقل: يُقْتلون ولم يقل: يُصْلبون، بل قال: يُقتّلوا أو يصلّبوا، فهذا التشديد والتأكيد زيادة في المبنى للتأكيد، فتدل على أن القتل يكون في أشد أنواعه، وعلى أن الصلب يكون في أشد أنواعه، وما ذاك إلا أن يصلبوا أحياءً حتى الموت.

قال تعالى: وَمَنْ يُكْرِهُّهنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ هذه الآية الكريمة من جوامع الكلم في كتاب الله، وكل كتاب الله بليغ معجز، وهذه الآية من أبلغها وأفصحها وأجمعها للمعاني، إذ جمعت الدعوة إلى الكرامة والعفة، والصبر إلى أن يُغني الله هذا الفقير المستعفف، وفيها الأمر بتحرير الرقيق، وفيها الأمر بإعطاء الناس من مال الله، وأن يساعدوا على تحرير العبيد، وفيها منع وتحريم المتاجرة بالأعراض وبالشرف وبالمروءة، كل ذلك في آية كثيرة المعاني.

كان سيرين غلام أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووالد الإمام العالم الربّاني محمد بن سيرين مولى لـأنس ، فجاء إليه وقال: يا مولاي! كاتبني، أي: اعتق رقبتي من الرق مقابل شيء أتفق وإياك عليه، وإذا بـأنس يمتنع، فيذهب سيرين إلى عمر وكان إذ ذاك أميراً للمؤمنين فيشتكي بـأنس ، فدعا عمر أنساً وقال له: كاتبه وأجبه لرغبته، وإذا بـأنس يمتنع، فيضربه عمر بالدرة كما يفعل عادة مع كل مخالف لما يعتقده أمراً من الله وأمراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلك أجبر أنساً على مكاتبة سيرين وعتقه مقابل مال يؤديه منجّماً، أي: زمناً بعد زمن ووقتاً بعد وقت.

وما فعله عمر إلا لأنه يعتقد أن قوله تعالى: فَكَاتِبُوهُمْ أمر ليس للاستحباب ولا للانتداب، وقد قال بهذا عالم مكة عطاء بن رباح ، وعالم بغداد الإمام المجتهد داود الظاهري ، وعالم الأندلس أبو محمد بن حزم وقال بهذا الكثير من الأئمة المجتهدين سلفاً وخلفاً: إن المكاتِب إذا جاء يطلب حريته فإنه يجاب لرغبته بقيد الله الذي قيّد، حيث قال الله تعالى: إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا أي: إن علمتم في هؤلاء الأرقاء خيراً.

واختلف المفسّرون في هذا الخير ماذا يعني؟ فقال بعضهم: المال، ولكن هذا كلام غير مقبول؛ لأن العبد لا يملك، وما يملك فهو لسيده ومولاه، فالفرض أنه لا مال له حتى يُقال: إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ، وقالوا: الخير هو الأمانة والصدق والصلاة، ويجمع كل ذلك: إذا علمتم فيهم إسلاماً، بمعنى أن الرقيق كان غير مسلم، ثم أسلم وجاء يريد مكاتبة مولاه على حريته وعتقه في هذه الحالة، فيجب على سيده أن يستجيب لحريته وأن يكاتبه، وبهذا يُصبح الأمر أن كل من أراد حريته ممن مُلكوا رجالاً أو نساءً في أسر في معركة مع الكافرين ثم أسلموا، أو توالدوا مسلمين عن أرقاء ليسوا بمسلمين، إن جاء هؤلاء وأرادوا حريتهم فاستجيبوا لهم، ويُكتب عادة عقد فيه: أن فلاناً مولى فلان الرقيق استجاب لرغبة مولاه فلان أو فلانة من الأرقاء في عتق رقبته وحرية بدنه، مقابل قدر من المال أو عمل من الأعمال يعمله مؤقتاً زمناً بعد زمن لشهر أو سنة أو سنتين أو أكثر أو أقل، فإذا كُتب كتاب عقد الحرية وأعطى الرقيق قدراً من ثمنه ثم عجز عن تسديد الباقي فإنه يصبح مديناً لمولاه، وقد قال تعالى عن المدين: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، فيُصبح ذا عسرة، وذو العسرة من المدينين يُنتظر غناه فيسد ما عليه.

إذاً: المسلم بمجرد طلب حريته -إن كان رقيقاً- فإنه يجب على مولاه أن يستجيب للمكاتبة، وبمجرد أن يبتدئ بالمكاتبة ويُعطي بعضها يُصبح بعد ذلك مديناً، فإن استطاع أن يؤدي فذاك، وإن أعسر فيُنتظر غناه، وهو حر معتق، قال بالذي أقول الكثير من الأئمة سلفاً وخلفاً.

وقال آخرون: المكاتب رقيق ما لم يؤد آخر ما اتفق عليه مع مولاه، والرقيق ليس واجباً على المولى أن يُعتقه أو يُكاتبه، وإنما ذلك شيء مندوب إليه ومستحب؛ وهكذا اختلفوا، ولكن الآية بالأمر الصادر لا يمنع من كونه واجباً، والذي قال أمير المؤمنين عمر عنه إنه واجب، وسُنة عمر في ذاتها تعتبر سُنة نبوية؛ لحديث: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ).

ثم قال تعالى: وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ومعنى هذه الفقرة من الآية الكريمة: إن أراد أرقاؤكم وعبيدكم الحرية والعتق فاستجيبوا لهم، وأعينوهم على عتقهم بأن تُسقطوا لهم وتتنازلوا لهم عن بعض ما اتفقتم عليه معهم، كأن تكونوا قد اتفقتم على أداء عشرين ألفاً فقال البعض: يجب أن تتنازل له على نصف هذا القدر، وبعضهم قال: الربع، وبعضهم قال: الثلث.. وهكذا، فالآية خطاب للأولياء والسادة.

فقوله: وَآتُوهُمْ أي: آتوا الموالي المُكاتبين في حريتهم وعتقهم مساعدة وعطاءً، مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ أي: من هذا المال الذي ملككم الله إياه ورزقكم، وهو في الأصل مال الله رزقكم إياه وأعطاكم إياه، وفرض فيه فرائض وألزم فيه لوازم: من النفقة على العيال، ومن الزكاة الواجبة للفقراء والمساكين، ومن إعطاء كل سائل، قال تعالى: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:24-25]، فهذا المال خرجت أنت من بطن أمك ولا تملك منه نقيراً، وقد رزقك الله إياه بعد ولادتك، فمال الله هذا لا تبخل به على مستحقيه نفقةً وزكاةً وصدقةً وعطاءً، ولا تبخل به على مكاتبيك من أرقائك، بل ساعدهم وأعطهم منه.

وقال مفسّرون: وَآتُوهُمْ الخطاب لكل المسلمين بأن يؤتوا هؤلاء المساكين، سادة وغير سادة، ممن كاتبوهم أو من المسلمين ممن لم يكاتبوهم، يقول: أعينوا هؤلاء المكاتبين الطالبين لحريتهم والطالبين لعتقهم، وساعدوهم على ما اتفقوا عليه من عطاء وأداء مقابل حريتهم وعتقهم، وأعطوهم السهم الذي أوجبه الله في الزكاة وفي الرقاب، قال تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ [التوبة:60] فثمن الزكاة والعطاء جعله الله قسمة بين ثمانية، وأحد هؤلاء الثمانية: عتق الرقاب وإعفاء هؤلاء عن رقّهم.

ويبقى المعنى بذلك: أن الله يخاطب جميع المسلمين أن يُساعدوا في عتق الرقيق، وفي تحريره، وفي ألا يكون رقيقاً بعد هذا، والله جعل مع ذلك في كثير من الكفّارات عتق رقبة.

واستعباد الناس لم يكن شيئاً من الإسلام، بل جاء الإسلام فوجد الأمم السابقة والأديان السابقة أن هذا من جملة عملهم وتقاليد مجتمعهم، فالله عندما أنزل كتابه وأرسل محمداً برسالته صلى الله عليه وسلم دعا للتخفيف من قيود ذلك، مع الإحسان إليهم فيما إذا بقوا كذلك، واعتبارهم إخوةً وأولاداً لأوليائهم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إخوانكم خولكم -أي: عبيدكم إخوانكم- أطعموهم مما تطعمون، وألبسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم ما لا يطيقون، فإن كلّفتموهم فأعينوهم) وهؤلاء الذين يزعمون اليوم من أدعياء الحضارة والمدنية كذبة فجرة، فقد دعوا إلى ذلك أفراداً وعملوه شعوباً وأمماً، فاستعبدوا الشعوب والأمم وأزالوا عنهم كل حرية واختيار: من سفك دم، وهتك عرض، وزوال مال، وإذلال كرامة، ونحن نعلم أن في هذه الديار المقدّسة قد أُعتق العبيد لسنتين أو أربع مضت، ولما أعتقهم أسيادهم رفض الأرقاء وقالوا: إلى أين نذهب؟ فلا نعرف لنا والداً سواكم، ولا أُسرة غيركم، وإذا كان كذلك إما أن تبقونا أرقاء وإما نحن خدمكم؛ ولذلك فإن الرقيق إذا وجد راحته ووجد سعادته في أن يبقى رقيقاً فالأمر له، فقد يكون ذلك أربح له، وقد يكون ذلك أسعد له، والكثيرون منهم يجدون من مواليهم وساداتهم عطفاً وبراً وعناية، وإذا أُطلقوا سيعجزون حتى عن النفقة على أنفسهم أكلاً وسكناً وشرباً، وفي هذه الآية نرى الله جل جلاله قد ذكر المال منسوباً إليه، فأموالنا وكل ما في السماوات والأرض هو لله، فيجب أن يعتقد الإنسان المسلم أن ماله الذي بيده هو لله، فرض الله فيه فرائض من النفقة، وفرائض من الزكاة، وفرائض من المعاملات، فإن لم يفعلها انتزع منه المال على أنه مال الله ولم يحسن استعماله، بل اتخذ الحلال حراماً وآذى به الناس، والله شرع التملك بما تقدر وتستطيع من تجارة وزراعة وصناعة، ولكنه حد حدوداً فمن تجاوزها أزال الكرامة عما يملك، فمن ملك المال بواسطة ما حرّم الله: بواسطة الربا أو الرشوة أو الفساد أو ما لا يليق مما حرّم الشارع، فلا يُعتبر هذا المال مالاً حلالاً، وما لم يكن مالاً حلالاً فإنه يُنزع، ولا يُقال عنه: نزع الملكية، ولا يُقال عنه: التأمين، ولكن يقال عنه: رد المظالم.