تفسير سورة النور [11-13]


الحلقة مفرغة

قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:11].

هذه القصة -وهي في عشر آيات ابتداءً من هذه الآية- هي سبب نزول السورة كلها.

قوله: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ [النور:11].

الإفك: أشد أنواع الكذب، وهو قلب الحقائق، والافتراء على الله، والكذب على الناس بما لا يصدر عنهم، وبما لا يمكن أن يكون منهم.

وكان هذا الافتراء على السيدة المطهرة أم المؤمنين عائشة، وهي أحب نساء الرسول صلى الله عليه وسلم إليه بعد السيدة خديجة رضي الله عنها، فافتري على أم المؤمنين عائشة واتهمت بالفاحشة وحاشاها من ذلك، ولولا أن الله ذكر هذا ليبرأها لما وجدنا لساناً ينطق به، ولما قدمنا الكلام به، ولكن شيئاً قد قيل، وكانت البداية سيئة، وكانت النهاية مكرمة ورفعة لأم المؤمنين، ورفعة لـأبي بكر وآله وزوجته أم رومان ، ورفعة للمتهم صفوان بن المعطل .

إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ [النور:11].

أي: جاءوا بالكذب والافتراء على السيدة عائشة أم المؤمنين .

عُصْبَةٌ مِنْكُمْ [النور:11] جماعة منكم، فيهم نساء وفيهم رجال.

لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ [النور:11].

أي: لا تظنوه كان شراً لكم، بل كان طريقاً للرفعة، وكان طريقاً للخير، وقد يأتي الخير عن طريق الشر، وقديماً قال العرب في جاهليتهم: رب ضارة نافعة، وقال ربنا جل جلاله: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:216].

فكانت هذه التهمة القاسية التي تألم لها رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً كاملاً قبل البراءة، وتألمت لها عائشة شهراً كاملاً وهي تبكي، وتألم لها أبو بكر ، وتألمت لها أم عائشة أم رومان ، وكان الحزن مخيماً على البيت النبوي، وعلى بيت أبي بكر ، وعلى آل محمد صلى الله عليه وعلى آله، وهم يعيشون في أحزاناً متوالية، ولم يستطيعوا أن يصنعوا شيئاً.

لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ [النور:11].

لكل كاذب من هؤلاء كان امرأة أو رجلاً إثمه وجرمه وعذابه ونقمة الله منه بمقدار ما اكتسبه من الافتراء والكذب على الله، والكذب على البيت الطاهر، والكذب على عرض سيد البشر وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم.

وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:11].

وكبير هؤلاء الذي أفشى ووشى ذلك، وكذب في ذلك له العذاب العظيم، وما العذاب له إلا الخلود في النار والغضب واللعنة الدائمة في الدنيا والآخرة.

والقصة كما وردت في السنن والمسانيد والصحاح عن عائشة رضي الله عنها نفسها، وعن أمها أم رومان ، وعن ابن عباس وعن الجماهير من الصحابة، يدخل حديث بعضهم في بعض، مجموعه وملخصه كما في البخاري ومسلم ومسند أحمد تقول عائشة وهي صاحبة الشأن: كان من عادة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه أنه إذا أراد غزاة أو خروجاً من المدينة أن يخرج معه أحد أزواجه، ولا يفضل واحدة على أخرى، ولكنه يصنع القرعة، فأيها خرج سهمها خرجت معه، وفي غزوة من الغزوات أقرع بين النساء وإذا بالقرعة تخرج لـعائشة ، فخرجت عائشة مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، فغزا وجاهد وحارب، وأتم غزوته وحربه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، تقول عائشة : وبينما نحن عائدون وقد قربنا من المدينة المنورة إذا بالجيش النبوي ينزل ويستريح ليلاً، قالت: فخرجت لقضاء حاجة فغبت قليلاً ثم عدت، وإذا بي أنتبه أن عقداً من عقيق ظفار قد ضل مني -وظفار مدينة مشهورة في دولة عمان- ففقدته من عنقها فلم تجده، وكان هذا العقد بمثابة عقد اللؤلؤ اليوم، فعادت لنفس الطريق الذي كانت فيه وهي تبحث إلى أن وجدته، وفي هذه المدة التي بحثت عن العقد كانت القافلة قد ذهبت، وكان هودجها قد كلف به من يحمله، ومن يقود بها جملها، فجاءوا وحملوا الهودج فوضعوه على جملها وهم يظنون أنها راكبة، وكانت لا تزال صغيرة خفيفة اللحم، كما تقول: لم نكن نأكل إلا العلقة من الطعام، فنحن خفاف الأجسام خفاف الأبدان.

قالت: فحملوا الهودج وهم يظنونني فيه، وإذا بي أعود فلم أجد أحداً، وقد وجدت العقد ولم أجد الراحلة ولا الجمل ولا الهودج، فجلست في مكاني وأنا أعتقد أنهم سيفتقدونني ويبحثون عني، وإذا بالنوم يأخذني، وإذا بي أسمع عند رأسي رجلاً يسترجع ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون!

وكيف كان ذلك؟ كان من العادة في الجيوش النبوية المحمدية وجيوش المسلمين في العصر الأول، وفي كل وقت أنهم يدعون مؤخرة تتبع القافلة فيما إذا نسيت شيئاً، أو تركت مريضاً، أو غير ذلك فيأتون به، فكان خلف الجيش في هذه الرحلة صفوان بن المعطل السلمي ، فجاء إلى مكان القافلة بعد ساعات، وإذا به يجد أم المؤمنين هي التي نسيت وتركت، تقول عائشة : وكان يعرفني قبل الحجاب، وإذا بي أستيقظ وأسمع الترجيع، والله لم أسمع منه كلمة سواها ولم يكلمني سواها، فأناخ جمله، فصعدت الجمل وذهبت، وأدركنا القافلة مع حر الظهيرة.

وإذا بالجيش المحمدي كان فيه منافقون، وكان من عادة هؤلاء المنافقين ألا يجلسوا مع الجيش النبوي مباشرة، إنما ينتبذون في الأركان والأطراف ليتم لهم التكلم والاستهزاء والمسارة في الكيد للإسلام والمسلمين ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هؤلاء المنافقون معهم كبيرهم عبد الله بن أبي ابن سلول ، فإذا به يقول: انظروا إلى زوجة نبيكم تبيت الليل كله مع رجل من أصحابه.

تقول عائشة : ولما رجعت إلى البيت إذا بي أمرض، وطال مرضي شهراً، وما كنت أنكر شيئاً إلا أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يأتيني صباحاً على خلاف عادته عندما أشتكي.

أي: أن من عادته إذا اشتكت ومرضت أن يلاطفها ويجالسها ويتكلم معها، ولكن في مدة هذا الشهر كله يأتي إلى الباب ويقول: كيف تيكم؟ أي: كيف تلك المرأة؟

قالت: فقدت منه اللطف الذي كنت أعرفه قبل، ولكن مع ذلك لم يخطر ببالي شيء.

وبعد تمام الشهر أرادت حاجة فخرجت معها أم مسطح بن أثاثة ، وبينا هي تذهب لحاجتها إذا بها تعثر فتقول: تعس مسطح ! فتقول لها عائشة : بئس ما قلت، أتدعين على رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حضر غزوة بدر! وإذا بها تقول لها: يا عائشة ! أنت في غفلة مما يقول الناس، قالت: وماذا يقول الناس؟ قالت: يقولون كذا وكذا!

قالت: وإذا بكل ما كان بي قد توقف، فعادت إلى البيت، ودخل عليها رسول الله على العادة فوقف عند الباب في صباح اليوم التالي فقال: كيف تيكم؟ قالت له: يا رسول الله، ائذن لي بالذهاب إلى أبوي، فأذن لها، فدخلت البيت وأبو بكر يسمع ما حدث، وأم رومان أمها تسمع ما حدث، فأخذت أم رومان تقول لها: ما الذي جاء بك؟ خطر ببالها أن تكون قد طلقت نتيجة ذلك، وسيكون الأمر عظيماً، وأبو بكر كان يقرأ في العلية في تلك الساعة التي دخلت فيها عائشة ، فسمع صوت عائشة فنزل، فأخذت عائشة تسأل أمها: ماذا هناك يا أماه؟ قالت: تحدث الناس وتحدث، فقالت: أسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: أسمع ذلك أبي؟ قالت: نعم. وإذا بها تبكي، ويشتد بكاؤها، فنزل أبو بكر على ذلك، فلم يستطع الأب ولا الأم أن يقولا شيئاً.

تبرئة الله تعالى لأم المؤمنين عائشة مما رميت به

وسأل رسول الله أسامة بن زيد مولاه ابن مولاه عما يعرفه عنها، وسأل علي بن أبي طالب، فقال لـأسامة : ماذا تعلم يا أسامة عن عائشة ؟ قال: يا رسول الله! والله ما سمعت إلا خيراً، والله ما رأيت إلا خيراً.

وسأل علياً فقال له علي : يا رسول الله! النساء غيرها كثير، واسأل الجارية تصدق، فسأل رسول الله جاريتها وخادمتها وكان اسمها بريرة ، وإذا بـبريرة تقول: يا رسول الله! والله ما أعلم إلا خيراً، ولا رأيت إلا خيراً، وإن يكن شيء في عائشة فهو أنها كانت تعجن العجين فتأتي الداجن فتأكله. أي: هذا كل ذنبها.

فسأل زوجاته أمهات المؤمنين الأخريات -أي: سأل الضرائر- سأل زينب بنت جحش ، قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني من ضرائري، فقالت زينب : يا رسول الله! أحمي سمعي وبصري عن أن أقول نظرت سوءاً، وعن أن أقول: سمعت سوءاً، والله ما أعلم عليها إلا خيراً.

ولكن تأتي أختها حمنة بنت جحش زوجة طلحة بن عبيد الله فأخذت تقذفها وأخذت تتهمها انتصاراً لأختها عليها.

وكذلك مسطح بن أثاثة أخذ يتهمها، وأخذ يشيع ذلك، وحسان بن ثابت شاعر النبي عليه الصلاة والسلام أخذ يتهمها وأخذ يقذفها ويقول ما يقول الناس.

وأما الذي تولى كبر المهمة وتولى إشاعتها والتشنيع بها فهو: عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين، الذي قال الله عنه: وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:11]، فقد عاش منافقاً ومات منافقاً وإلى لعنة الله والجحيم الدائم.

تقول عائشة : كنت أبكي ليلي وأبكي نهاري، حتى ظننت أن البكاء فالق كبدي، وإذا بأمي تريد أن تسليني فتقول لي: يا بنيتي ما كانت امرأة وضيئة حسناء عند زوج يحبها ولها ضرائر إلا وحسدنها، وشنعن عليها، فما يزيدني ذلك إلا بكاءً.

وبينا هم على هذه الحال صعد النبي عليه الصلاة والسلام المنبر يوماً فقال للناس: (من عذيري في هؤلاء الذين يشتمون عرضي ويقذفون أمهات المؤمنين) فوقف سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله! إن كان هذا منا الأوس قتلناه، وإن كان من الخزرج فسنفعل به ما تأمر، فقام سعد بن عبادة وقال: والله لن تقتله إلا لأنه ليس من عشيرتك، فقام أسيد ين حضير وقال: إنك منافق تدافع عن المنافقين! وكادوا يقتتلون بالسيوف في المسجد النبوي والنبي على المنبر فأسكتهم.

ثم ذهب إلى عائشة فدخل عليها فوجد عندها أباها وأمها في الغرفة التي هي فيها، فقال لها: (يا عائشة ، إن كنت قد ألممت بذنب فاعترفي)، تقول عائشة : كانت الدموع جارية على عيني مدراراً، وإذا بي عندما أسمع رسول الله يقول لي: اعترفي، يرقأ دمعي وكأنني لم أدمع قط، والتفتت إلى أبيها فقالت: يا أبت، أجب عني رسول الله، فقال لها: وبماذا أجيبه؟ وسكت، فقالت لأمها: يا أمتاه، أجيبي عني رسول الله، قالت: بماذا أجيبه، وسكتت، فالتفتت هي تجيب فقالت: إنني إن قلت نعم -والله يعلم أني بريئة- سركم ذلك، وإن قلت: والله لم يكن ذلك لكذبتموني ولما صدقتموني، قالت: ولم أكن حافظة إذ ذاك من القرآن الكثير، ونسيت اسم يعقوب أبي يوسف فقلت: ولا أقول لك إلا كما قال أبو يوسف: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف:18].

قالت: بينما نحن كذلك وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذه رحضاء الوحي، وتأخذه الشدة التي تأتيه عادة عند الوحي، وإذا به يتفصد جبينه عن عرق كأنه الجمان واللؤلؤ، ثم يفيق ضاحكاً ويقول: (أبشري يا عائشة ، قد نزلت براءتك من الله) ففرح أبوها وفرحت أمها، وقالا لها: اشكري رسول الله، قالت: والله لا أشكره ولا أشكركما، ولا أحمد إلا الله الذي برأني.

قالت: والله ما كان ليخطر ببالي أن يتكلم الله عني بعشر آيات وحياً في كتابه، وإن كنت على يقين أن الله سيبرؤني، ولكن كنت أظن البراءة ستكون رؤيا نبوية، فيرى النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً في منامه فيقصه، وأما أن يقول الله عني ما قال فقد كنت أحقر في نفسي من أن يكون ذلك.

وبهذا أصبحت عائشة بريئة بنص القرآن، ومن قذفها بعد ذلك يعتبر كافراً حلال الدم.

ومن شتم أباها يعزر ولا يكفر؛ لأن الله لم يذكره في القرآن كما ذكر أم المؤمنين عائشة، وأما عائشة فقد برأها الله وطهرها وأشاد بها، فالذي يقذفها بعد ذلك يكون قد كذب الله، وكذب القرآن وكذب الوحي، وهنا يبقى معنى قوله تعالى: لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [النور:11].

عقوبة الذين خاضوا في حديث الإفك

كانت عائشة امرأة من النساء، وكانت من أمهات المؤمنين، فكونها يعتنى بها، وينزل في شأنها عشر آيات متصلات، فهذا لم يكن يخطر ببال، قالت عائشة : وبعد ذلك أمر صلى الله عليه وسلم بكل من تكلم في هذا من نساء أو رجال أن يجلدوا حد القذف، فجلدوا ثمانين جلدة، جلد حسان مع مقامه عند النبي عليه الصلاة والسلام، وجلدت حمنة ، وجلد مسطح بن أثاثة ، وبذلك برئت عائشة وكرمت، وشرفت، وأصبحت بهذه المثابة، وبذلك سلم عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهذا هو الأهم-، وبقي عزيراً منيعاً كريماً سيداً مصاناً، والنبوءة أكرم على الله جل جلاله من أن تقذف في عرضها وفي شرفها وفي نسائها.

ومن هنا جاء قول الله تعالى ونزلت هذه الآيات: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ [النور:11] إلى آخر الآيات.

فالله جل جلاله يعلن للخلق كلهم: أن الذين قذفوا وافتروا على الله وقالوا ما قالوه لم يقولوا ذلك عن شيء شاهدوه، ولا عن شيء سمعوه، ولكنهم أبوا إلا الفجور والكذب والبهتان.

براءة أم المؤمنين عائشة وبراءة مريم عليها السلام

إن النصارى يحاولون أن يتهموا عرض رسول الله، فقال لهم بعض السلف: إن يقل النصارى هذا فقد اتهمت من يعتقدونها إلهاً وأم إله!!

فأما أمنا فلم تحمل في بطن ولا تحمل على يد، وأما الأخرى فجاءت تحمله على يدها، ومع هذا فهي بريئة، وأم المؤمنين كذلك بريئة.

ونحن عندما نكرر هذا لا نريد أن نقول شيئاً، فـمريم عليها السلام هي البريئة المطهرة، وإنما يتهمها اليهود، وأم المؤمنين برأها الله من فوق سبع سموات، وكذلك مريم فإن الله جل جلاله هو الذي جبريل أمر بالنفخ، وكان ابنها آية من آيات الله، حيث خلق آدم بلا أب ولا أم، وخلق عيسى بأم بلا أب، كما خلق حواء بأب بلا أم، والله قادر على ما يشاء، فليس لأحد أن يسأله، وليس لأحد أن يقترح عليه، فهو وحده الفعال المختار، فلا يسأل عما يفعل، وقدرته صالحة لكل شيء، ولذلك نوع قدراته في خلق الإنسان، فخلق البعض -وهو الأب الأول للبشر- بلا أب ولا أم، وخلق حواء بأب بلا أم، وخلق مريم عيسى ابن مريم بأم بلا أب.

فـعائشة بريئة، ومريم بريئة مما اتهمتا به من قبل أولئك اليهود الكفرة، وهؤلاء المنافقين الكفرة، والمغفلين البله ممن اتهموها من الصحابة من مثل حسان ، ومسطح ، وحمنة ، فهؤلاء لم يكونوا راسخين، فنطقوا بما قاله آخرون، وهذا يعتبر قذفاً.

ومن كرر كلام الفاحشة في المحصنات من المؤمنات يجلد حد القذف، ويقال له: لماذا تقول ما لم تره وما لم تسمعه وما لم تشهد عليه؟ وقديماً قال صلى الله عليه وسلم: (ناقل الكذب أحد الكاذبين) ومن كذب لك كذب عليك.

معنى قوله تعالى: (عصبة منكم)

قوله: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ [النور:11].

أي: لم يكونوا يهوداً ولا نصارى، ولكن كانوا جماعة منكم، ومن هذه الجماعة عبد الله بن أبي ابن سلول الذي تولى كبره، وكان من أهل المدينة، وممن كان يدعي الإسلام وهو كاذب منافق.

وممن قال ذلك مسلمون صحابة، ولكن أخذتهم الغفلة والسذاجة والبلاهة، ونسوا مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقام عرضه، فذهبوا يكررون ما قاله المنافقون، وكان منهم حسان وحمنة ومسطح بن أثاثة .

وقد دخل أحد التابعين الكبار على السيدة عائشة -وكان بينه وبينها حجاب- فوجد عندها حساناً، فقال: يا أم المؤمنين! أتسمحين لـحسان أن يدخل عليك وهو الذي قذفك، وهو الذي جلد من أجلك حد القذف، وإذا بها تقول: إن حساناً كان ينافح عن رسول الله، إن حساناً كان ينصب له رسول الله صلى الله عليه وسلم منبراً ويقول له: (اهجهم -أي: الكفار- وروح القدس معك).

إن حساناً كان فيما قال:

وإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منك وقاء

وقد حُدّ، وأرجو أن يكون الله قد تاب عليه، ومع ذلك ماذا تريد أن يكون أكثر من ذلك؟ أهناك عذاب أشد مما يعيش فيه -وكان قد عمي في آخر أيامه-، فقالت: ألا يكفي هذا العذاب والمحنة التي عاش فيها؟ دعوه لعل الله أن يكون قد تاب عليه.

وأما مسطح فقد كان من أهل بدر، ومع ذلك جلده رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولم يقل عنه ما قاله عن حاطب بن أبي بلتعة عندما خان المسلمين غفلة، وكتب يتجسس عن جيش النبي صلى الله عليه وسلم، وحاول عمر أن يقتله، فوقف على رأس رسول الله عليه الصلاة والسلام وسل سيفه من غمده، وقال: يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق، وإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول له: (لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اصنعوا ما شئتم فقد غفرت لكم) فلم يقتله، ولم يحكم عليه بردة ولا بجاسوسية ولا بخيانة، وإنما اعتبرها غفلة وبلاهة.

وأما هذا فجلده مع كونه من أهل بدر.

وقوله: عُصْبَةٌ مِنْكُمْ [النور:11] العصبة: الجماعة، ولا مفرد لها من لفظها.

لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ [النور:11].

أي: لا تظن يا محمد أن هذا كان شراً لك، ولا تظني يا عائشة ، ولا تظن يا أبا بكر ، ولا تظني يا أم رومان ، ولا تظنوا يا أيها المسلمون جميعاً أن هذا الذي حدث لمدة شهر كان شراً لكم بل هو خير لكم، حيث زيد فيه مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطهر الله عرضه، وبرأ ساحته، وطهر زوجته، وبرأ ساحتها، وطهر أبا بكر من أن تكون ابنته كذلك، وهو الذي سيكون الخليفة الأول بعد ذلك، وهكذا كان الخير شاملاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأهل بيته ولأمهات المؤمنين، ولـأبي بكر صاحبه الأول، ولـأم رومان زوجته، كما قال تعالى: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:216].

وقديماً قال العرب: رب ضارة نافعة!

وقد يأتي الخير عن طريق الشر؛ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [النور:11].

وهكذا كان الخير في التبرئة والتطهير الإلهي، وكان الخير في كذب أولئك وكشف عوارهم، ففضحوا على رءوس الخلائق، وجلدوا على رءوس الخلائق.

لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ [النور:11].

لكل منهم حده من الجلد في الدنيا، ولعذاب الله -إن شاء الله- أشد وأنكى وأبقى، وقد يكون قد تاب على المؤمنين لغفلتهم، وقد أوصى بعد ذلك بـمسطح كما ستأتي به الآية.

وأما المنافق ابن سلول فكان خزيه وعذابه وحده زيادة على عذاب الدنيا العذاب العظيم بالخلود في جهنم والسعير، وهو الذي تولى كبره كما قال تعالى: وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:11].

وسأل رسول الله أسامة بن زيد مولاه ابن مولاه عما يعرفه عنها، وسأل علي بن أبي طالب، فقال لـأسامة : ماذا تعلم يا أسامة عن عائشة ؟ قال: يا رسول الله! والله ما سمعت إلا خيراً، والله ما رأيت إلا خيراً.

وسأل علياً فقال له علي : يا رسول الله! النساء غيرها كثير، واسأل الجارية تصدق، فسأل رسول الله جاريتها وخادمتها وكان اسمها بريرة ، وإذا بـبريرة تقول: يا رسول الله! والله ما أعلم إلا خيراً، ولا رأيت إلا خيراً، وإن يكن شيء في عائشة فهو أنها كانت تعجن العجين فتأتي الداجن فتأكله. أي: هذا كل ذنبها.

فسأل زوجاته أمهات المؤمنين الأخريات -أي: سأل الضرائر- سأل زينب بنت جحش ، قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني من ضرائري، فقالت زينب : يا رسول الله! أحمي سمعي وبصري عن أن أقول نظرت سوءاً، وعن أن أقول: سمعت سوءاً، والله ما أعلم عليها إلا خيراً.

ولكن تأتي أختها حمنة بنت جحش زوجة طلحة بن عبيد الله فأخذت تقذفها وأخذت تتهمها انتصاراً لأختها عليها.

وكذلك مسطح بن أثاثة أخذ يتهمها، وأخذ يشيع ذلك، وحسان بن ثابت شاعر النبي عليه الصلاة والسلام أخذ يتهمها وأخذ يقذفها ويقول ما يقول الناس.

وأما الذي تولى كبر المهمة وتولى إشاعتها والتشنيع بها فهو: عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين، الذي قال الله عنه: وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:11]، فقد عاش منافقاً ومات منافقاً وإلى لعنة الله والجحيم الدائم.

تقول عائشة : كنت أبكي ليلي وأبكي نهاري، حتى ظننت أن البكاء فالق كبدي، وإذا بأمي تريد أن تسليني فتقول لي: يا بنيتي ما كانت امرأة وضيئة حسناء عند زوج يحبها ولها ضرائر إلا وحسدنها، وشنعن عليها، فما يزيدني ذلك إلا بكاءً.

وبينا هم على هذه الحال صعد النبي عليه الصلاة والسلام المنبر يوماً فقال للناس: (من عذيري في هؤلاء الذين يشتمون عرضي ويقذفون أمهات المؤمنين) فوقف سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله! إن كان هذا منا الأوس قتلناه، وإن كان من الخزرج فسنفعل به ما تأمر، فقام سعد بن عبادة وقال: والله لن تقتله إلا لأنه ليس من عشيرتك، فقام أسيد ين حضير وقال: إنك منافق تدافع عن المنافقين! وكادوا يقتتلون بالسيوف في المسجد النبوي والنبي على المنبر فأسكتهم.

ثم ذهب إلى عائشة فدخل عليها فوجد عندها أباها وأمها في الغرفة التي هي فيها، فقال لها: (يا عائشة ، إن كنت قد ألممت بذنب فاعترفي)، تقول عائشة : كانت الدموع جارية على عيني مدراراً، وإذا بي عندما أسمع رسول الله يقول لي: اعترفي، يرقأ دمعي وكأنني لم أدمع قط، والتفتت إلى أبيها فقالت: يا أبت، أجب عني رسول الله، فقال لها: وبماذا أجيبه؟ وسكت، فقالت لأمها: يا أمتاه، أجيبي عني رسول الله، قالت: بماذا أجيبه، وسكتت، فالتفتت هي تجيب فقالت: إنني إن قلت نعم -والله يعلم أني بريئة- سركم ذلك، وإن قلت: والله لم يكن ذلك لكذبتموني ولما صدقتموني، قالت: ولم أكن حافظة إذ ذاك من القرآن الكثير، ونسيت اسم يعقوب أبي يوسف فقلت: ولا أقول لك إلا كما قال أبو يوسف: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف:18].

قالت: بينما نحن كذلك وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذه رحضاء الوحي، وتأخذه الشدة التي تأتيه عادة عند الوحي، وإذا به يتفصد جبينه عن عرق كأنه الجمان واللؤلؤ، ثم يفيق ضاحكاً ويقول: (أبشري يا عائشة ، قد نزلت براءتك من الله) ففرح أبوها وفرحت أمها، وقالا لها: اشكري رسول الله، قالت: والله لا أشكره ولا أشكركما، ولا أحمد إلا الله الذي برأني.

قالت: والله ما كان ليخطر ببالي أن يتكلم الله عني بعشر آيات وحياً في كتابه، وإن كنت على يقين أن الله سيبرؤني، ولكن كنت أظن البراءة ستكون رؤيا نبوية، فيرى النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً في منامه فيقصه، وأما أن يقول الله عني ما قال فقد كنت أحقر في نفسي من أن يكون ذلك.

وبهذا أصبحت عائشة بريئة بنص القرآن، ومن قذفها بعد ذلك يعتبر كافراً حلال الدم.

ومن شتم أباها يعزر ولا يكفر؛ لأن الله لم يذكره في القرآن كما ذكر أم المؤمنين عائشة، وأما عائشة فقد برأها الله وطهرها وأشاد بها، فالذي يقذفها بعد ذلك يكون قد كذب الله، وكذب القرآن وكذب الوحي، وهنا يبقى معنى قوله تعالى: لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [النور:11].

كانت عائشة امرأة من النساء، وكانت من أمهات المؤمنين، فكونها يعتنى بها، وينزل في شأنها عشر آيات متصلات، فهذا لم يكن يخطر ببال، قالت عائشة : وبعد ذلك أمر صلى الله عليه وسلم بكل من تكلم في هذا من نساء أو رجال أن يجلدوا حد القذف، فجلدوا ثمانين جلدة، جلد حسان مع مقامه عند النبي عليه الصلاة والسلام، وجلدت حمنة ، وجلد مسطح بن أثاثة ، وبذلك برئت عائشة وكرمت، وشرفت، وأصبحت بهذه المثابة، وبذلك سلم عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهذا هو الأهم-، وبقي عزيراً منيعاً كريماً سيداً مصاناً، والنبوءة أكرم على الله جل جلاله من أن تقذف في عرضها وفي شرفها وفي نسائها.

ومن هنا جاء قول الله تعالى ونزلت هذه الآيات: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ [النور:11] إلى آخر الآيات.

فالله جل جلاله يعلن للخلق كلهم: أن الذين قذفوا وافتروا على الله وقالوا ما قالوه لم يقولوا ذلك عن شيء شاهدوه، ولا عن شيء سمعوه، ولكنهم أبوا إلا الفجور والكذب والبهتان.




استمع المزيد من الشيخ محمد المنتصر بالله الكتاني - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة النور [31] 2644 استماع
تفسير سورة النور [1-2] 2519 استماع
تفسير سورة النور [58-61] 2110 استماع
تفسير سورة النور [55-57] 2089 استماع
تفسير سورة النور [62-64] 2009 استماع
تفسير سورة النور [51-54] 1955 استماع
تفسير سورة النور [40-43] 1895 استماع
تفسير سورة النور [32] 1878 استماع
تفسير سورة النور [27-31] 1842 استماع
تفسير سورة النور [44-50] 1717 استماع