تفسير سورة المؤمنون [99-118]


الحلقة مفرغة

قال تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99-100].

الكلام لا يزال نسقاً في آيات متتابعات عن الكافرين وشركهم، والمشركين وعنادهم، والمتمردين على الله ورسله فيما يصرون عليه من معصية وخلاف وكفر وشرك، فهؤلاء يبقون كذلك حتى إذا حضر أحدهم الموت واحتضروا وحضرتهم ملائكة الموت: عزرائيل وأعوانه، وجاءوا ليأخذوا منهم الروح لينتزعوها من أعضائهم في هذه الحالة يرون مقامهم في الآخرة إن خيراً وإن شراً، فيرى ملائكة الرحمة إن كان مؤمناً وقد جاءوا إليه بكل لطف وبكل لين، فيقولون للروح: اذهبي عند ربك، وارتفعي للملأ الأعلى، بكل لطف وبكل لين وبكل عطف.

وأما الروح الكافرة فينتزعونها انتزاعاً، ويذهبون بها إلى الجحيم، ويذهبون بها إلى أمثالها من الكفرة والعصاة والمتمردين، ولذلك عندما يصبح الإيمان شهوداً ولا يبقى غيباً لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً، وهذا كان إيمان فرعون فعندما حضره الموت قال: آمنت بإله موسى وهارون، ولم يكن ذلك ينفعه، فقرعه الله وأذله فقال: (الآن) فلم تذكر الإيمان ولم تذكر الطاعة إلا وقد رأيت مقامك ورأيت عذابك ورأيت ملائكة النار وملائكة الجحيم، فالله حافظ على جسده؛ ليبقى آية لمن خلفه ممن كان يعتقد ألوهيته كي يرأوا جسده، وقد كانوا يظنون أنه لم يمت ولا يليق به أن يموت، وهو لا يزال إلى اليوم في الموميات محفوظ فيما تبقى من الفراعنة، وإن كانت الجثة بعينها ضائعة بين أمثالها فلا يدرى أيهم فرعون موسى؟

حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99-100].

عندما يرى تلك الحالة تجده يستغيث حيث لا يغاث، وتجده يجأر حيث لا يجيبه ولا يهتم به، وينادي ربه، ولم يذكر ربه إلا بعد أن انتهت الأيام وانتهت الأعمار وصنع ما صنع من كفر وخلاف وتمرد على نبي الله، فيأخذ بالاستغاثة ويأخذ بالجئير والصيحة: أن يرجع ولا يموت؛ وهو يظن أنه إذا أعيد سيعمل صالحاً فيما ترك، وسيؤمن بالله، وسيقول: لا إله إلا الله، وسيتدارك ما ترك وهو حي وهو قوي وهو مقتدر، فأراد عند سكرات الموت أن يوقف عنه الموت وأن تعود إليه الحياة؛ ليطيع ويفعل ما كان قد تركه من توحيد ومن شهادة ومن طاعة ومن عبادة، فيجاب إما أن الملائكة تقول له ذلك أو أن الله نفسه جل جلاله: كلا وهيهات، فالوقت سيف إن لم تقطعه قطعك.

فقد أضعت شبابك، وأضعت حياتك، وأضعت الفرصة التي عشت فيها وقد كانت دهراً يشتمل على السنين وعلى الليالي والأيام، وكتاب الله يدعوك صباحاً ومساء، ونبيك يدعوك عليه الصلاة والسلام صباحاً ومساء، وأنت تأبى إلا الكفر والشرك والمخالفة، وتظن أنك ما خلقت إلا عبثاً وما خلقت إلا سدىً، وهيهات هيهات طالما أنذرك ربك وأنذرك نبيك بهذه الحالة وأنت صاد عن السمع وعن الطاعة وعن فعل الصالحات.

كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا [المؤمنون:100]، والكلمة التي يقولها المحتضر الذي جاءه الموت هي: رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99-100].

كلمة يقولها لا اهتمام بها، ولا يجاب لتحقيقها؛ لأن الوقت فات، وتبقى حجة الله البالغة، وهو قد عصى وهو قد تمرد وهو قد خالف وهو قد أبى إلا الشرك وإلا العصيان وإلا الكفران، فلا ينفعه وقد أصبح ما كان يجب أن يكون إيماناً بالغيب أصبح إيماناً بحضور، وقد رأى ملائكة الموت ورأى حاله من سعادة وشقاوة، كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا [المؤمنون:100]، لا جواب عليها ولا اهتمام بها ولا يلتفت لها.

وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100] يكون هذا عند الموت وعند الاحتضار، فوراءه بعد ذلك وأمامه وبين يديه زمان طويل وهو البرزخ، وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ [المؤمنون:100] والبرزخ هو الحاجز ما بين الموت وبين البعث والنفخ في الصور، فنرجو الله أن يكون مآلنا إلى الجنة فضلاً منه وكرماً جل جلاله وعلا مقامه.

كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100]، ومن أمامهم ومن خلفهم ومن بين أيديهم، وقد أنذروا قديماً بالموت، وأنذروا بالحساب، وأنذروا بالبعث والنشور، وأنذروا بالبرزخ والحاجز الذي سيكون بين الموت والقبر وبين القيام إلى رب العالمين، يوم النفخة الثانية يوم البعث والنشور.

سيبقى هذا الحاجز وهذا البرزخ إلى يوم البعث، وهم مع ذلك تعذب أرواحهم، وينتقم منها ويعيشون في ألم نفساني، حيث يرى عن يمينه مكانه من الجنة فيما لو مات على خير، ويرى مكانه من النار عن يساره وقد حل فيه، فيزيده رؤية مكانه من الجنة حسرة على حسرة، وألم على ألم، وندم على ندم، ويرى مكانه من النار وهو حال بعذابها، وهذا هو البرزخ إلى يوم القيامة، فيجمع مع الأرواح الأشباح، ويكون العذاب جسدياً وروحانياً ونفسياً.

قال تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101].

يبقى هذا الحاجز وهو في قبره وهو لا يزال في الدنيا ميتاً إلى يوم النفخ في الصور النفخة الثانية كما قال ابن عباس ، وكما قال مجاهد ، وكما قال مفسرون هذه الفقرة الكريمة من هذه الآية؛ لأن النفخة الأولى تكون للموت، فلا يبقى على الأرض نفس ولا روح متحركة، ويبقى الله جل جلاله كما كان، وهو يقول: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر:16]؟ فلا مجيب، فيجيب نفسه: لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16]، وهذا يوم يفنى فيه كل ما عليها، ويوم تصبح السماء عهناً منفوشاً، ويوم تهدّ الجبال، وتغور المياه، وتتساقط السموات، ويوم لا يبقى إلا الله جل جلاله.

والصور هو بوق الله أعلم بكبره وعظمته، والملك المكلف به حانٍ رأسه ينظر الأمر والإشارة لينفخ النفخة الأولى عند الموت، ثم يبقى كذلك بعد أن يفنى معها، ثم يبعث فينفخ النفخة الثانية، وهي المقصودة في هذه الآية، فيبقى الحاجز بين الموت وبين البعثة الثانية زمناً الله أعلم بقدره وأعلم بمدته، فإذا نفخ في الصور قاموا في هذه الحالة وكل يقول: نفسي .. نفسي، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37]، وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا [المعارج:10]، فلا يبحث أب عن ولد، ولا ولد عن أب ولا زوج عن زوجة ولا زوجة عن زوج، وإنما كل يقول: نفسي .. نفسي، ويقول ذلك حتى الأنبياء عندما تذهب الخلائق إليهم مستشفعين من آدم إلى خاتم أنبياء بني إسرائيل وكل يقول: نفسي .. نفسي، ثم يأتون إلى نبينا صلى الله عليه وسلم فيقوم ويسجد تحت ساق العرش ويقول: رب أمتي .. أمتي، فيكون له نصيب عظيم، والشفاعة العظمى ينفرد بها بين كل الخلائق.

وهو -كما سماه الله تعالى-: موقف عظيم، يوم يقال للرجل: قم خذ حقك من ولدك، وخذ حقك من أخيك، وخذ حقك من حميمك وصديقك، فتجده يبادر ولا يتنازل ولا يتسامح، وكل ما يهمه أن ينجو هو من عذاب الله ومن ناره، وبعد أن يدخل المؤمنون الجنة وتطمئن نفوسهم عند ذلك يتساءلون: من أنت؟ من أنت؟ فيتعارف الآباء والأولاد والأقارب في الآخرة كما كانوا متعارفين في الدنيا، وقد يمرون على من كان يضلهم وهو في جهنم فيقولون له: كنا نظنك ونظنك، مما قص الله علينا في أكثر السور وأكثر الآيات.

فالله ينذرنا ويحذرنا غضبه ويحذرنا عقوبته ما دمنا أحياء نملك أمر أنفسنا للتوبة والعودة.

فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101] فلا ينفع نسب ولا سبب، ولا يسأل أحد عن أحد، فالكل يقول: نفسي .. نفسي، وهنا يقول ابن كثير في تفسيره وفي كتبه: إلا من مات على التوحيد وهو من السلالة النبوية، فقد ورد في الصحيح وورد في مسند أحمد عن جماعة من الأصحاب: عن المسور بن مخرمة ، وعن أبي سعيد الخدري ، وعن عمر بن الخطاب ، وعن أبي هريرة رضي الله عنهم جميعاً يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل نسب وحسب ينقطعان يوم القيامة إلا نسبي وسببي)، وعمر خطب من علي ابنته أم كلثوم، فهنأه من هنأه بما تعاهدوا وتعارفوا عليه، وإذا به بعد أن تزف إليه يقول: ما هنأتموني، فيقولون: قد قلنا لك: بارك الله لها فيك وبارك لك فيها، فقال: والله ما بي إلا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل نسب وسبب ينقطعان يوم القيامة إلا نسبي وسببي)، فأرادت أن يرتبط نسبي وسببي بالنبي الله صلى الله عليه وسلم، والحديث أصله في البخاري ، ورواه بأطول من ذلك أحمد في المسند، والبزار في المسند وأصحاب السنن.

وقد فسر البعض السبب والنسب هنا أنه سبب الإسلام ونسب الإسلام، والنبي صلى الله عليه وسلم زوجاته أمهات المؤمنين، وفي قراءة: (وهو أبوهم)، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا لكم والا)، وقال لـأنس وناداه: (يا ولدي) وقد كانت أحب إلى أنس من حمر النعم.

قال تعالى: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المؤمنون:102].

ففي يوم القيامة ويوم البعث والوقوف أما الله للعرض والحساب، فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ [المؤمنون:102] جمع ميزان، فللحسنات ميزان، وللسيئات ميزان، فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ [المؤمنون:102] أي: ثقلت بالحسنات وخفت كفة السيئات، فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المؤمنون:102] أي: الذين فازوا وأفلحوا وسعدوا برضا ورحمة الله ودخول الجنان.

وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [المؤمنون:103]، وأما أولئك الذين طاشت كفة الحسنات وثقلت كفة السيئات فأولئك هم الذين خسروا دنياهم وخسروا أخراهم، فكان خلودهم في جهنم، فهؤلاء الذين خسروا دنياهم حيث لم يستفيدوا منها، ولم يؤمنوا بربهم، ولم يؤمنوا بنبيهم، ولم يفعلوا الحسنات ويعبدوا الله.

وهم في النار تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ [المؤمنون:104].

(تلفح) أي: تصيب وتضرب وتحرق وتشوه، تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ [المؤمنون:104] أي: عابسون مشوهو الخلقة، وقد وصفوا كما في آثار للصحابة وآثار نبوية وردت: أن الواحد منهم وهو وفي النار تتقلص شفته العليا إلى أن تكاد تغطي وجهه إلى رأسه، وشفته السفلى تتدلى إلى أن تصل إلى سرته، وتبرز أسنانه وأنيابه ويصبح في صورة مشوهه؛ بسبب غضب الله، وما صنعوه في دنياهم من شرك وكفر، فهم الآن يجازون عليه.

تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ [المؤمنون:104] أي: مقلصو الشفتين ومشوهو الخلقة، نعوذ بالله من حالهم، ونرجو الله تعالى رحمته ورضاه، وأن يعيذنا من ذلك كله، وأن يحيينا على الإسلام، وأن يميتنا على الإسلام رحمة منه وفضلاً وكرماً.

وهم على هذه الحالة في جهنم كالحون، يقول الله جل جلاله لهم: أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [المؤمنون:105]، فلا تلوموا إلا أنفسكم، فقد أحييتكم دهراً، وأعطيتكم وعياً، وأعطيتكم بصراً، وأعطيتكم سمعاً، وأعطيتكم قلباً لتفقهوا به ومع ذلك لم تستفيدوا من كل ذلك، فما زدتم إلا إصراراً على الشرك والكفر، والآن وجدتم نتيجة عملكم وكفركم، فلا تلوموا إلا أنفسكم.

أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي [المؤمنون:105] وهذا استفهام تقريعي توبيخي، أي: يا هؤلاء! وهم يوبخون: أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي [المؤمنون:105] كتابي وقدرتي، ومعجزات أنبيائي ترونها بالأبصار، وتسمعونها بالآذان، وتعون الحكمة منها، وتدركونها بقلوبكم، أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ [المؤمنون:105] تسمعونها بوعي وبفهم، ولكنكم عن كل ذلك معرضون، أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [المؤمنون:105]، فكذبتم بربكم وكتابه، وأشركتم به، وكذبتم بنبيكم ولم تؤمنوا به، وأنكرتم معجزاته، وأنكرتم ما جاءكم به عن الله.

قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ [المؤمنون:106].

فأخذوا يعترفون ولكن هيهات، فهذا الاعتراف لم يفدهم وهم في سكرات الموت وهم يحتضرون، وما كان ليفيدهم وما كان لينجيهم وهم الآن في قعر جهنم، فعندما قيل لهم ذلك وكوشفوا به طمعوا: قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ [المؤمنون:106]، فقد غلب عليهم شقاؤهم وبؤسهم وجحودهم، وشدة كفرهم وتكذيبهم، أي: كانوا أشقياء غير سعداء، قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ [المؤمنون:106] أي: ضلوا الطريق وابتعدوا عن الهدى، وابتعدوا عن سبيل المؤمنين، وابتعدوا عن الطريق الحق: كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وسبيل المسلمين، ومن يتولى غير سبيل المؤمنين نوله ما تولاه ونصله جهنم.

وهكذا كان حالهم عندما أصبحوا في جهنم، ثم عادوا فقالوا -وقد طمعوا وقد سكت عنهم في الجواب-: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [المؤمنون:107] أي: أخذوا يدعون ربهم وأخذوا يضيفونه لأنفسهم؛ طمعاً بأن يعودوا للحياة.

أخذوا يطلبون وأخذوا يطمعون بأن يخرجوا من النار ويعودوا للدنيا وللحياة، وأنهم إن أعيدوا للحياة وأخرجوا من النار فإنهم سيعملون صالحاً، ولا يظلمون بشرك ولا غيره!

وحيث قد اعترفتم بأنكم ضالون وبأنكم ظالمون فما عسى أن يفيدكم ذلك من بعد؟ وإذا بالله الكريم يأمر ملائكته أن يجيبوهم أو يجيبهم بنفسه جل جلاله والآية تدل على كلا المعنيين، قال تعالى: قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108] أي: ابتعدوا، واخسأ كلمة زجر وردع في لغة العرب، فتردع وتزجر بها الكلاب، فقيل لهم: ابتعدوا واخسئوا واسكتوا فلا مجال للقول الآن منكم، فلا طمع ولا حياة أخرى بعد الحياة الفانية: الحياة الدنيا.

فقد جاءكم الأنبياء، ونزلت عليكم كتب الله، وأعطيتم الحياة للتفكير وللعمل وللعبادة فلم تفعلوا، فحري بكم إن عدتم إلى الدنيا ألا تفعلوها أيضاً، وهم قالوا ذلك متشككين، فقالوا مع كل ذلك: لعل، وقالوا كلمات تشتمل التنفيذ وعدم التنفيذ، والله قد كذبهم وأبعدهم، قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108]، قال مفسرو الآية: كان بين قولهم وبين قوله: اخسئوا أربعون عاماً، هذا وردت فيه آثار عن بعض الصحابة والتابعين، وهي تحتمل الصدق، ولم يرد فيها حديث.

فلما قيل لهم: قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108] سكتوا البتة وما عادوا يطلبون، ويئسوا وخابوا، وأصبح كلامهم نباحاً لا يخرج منهم إلا كما يخرج النباح من الكلاب، حيث خاطبهم الله جل جلاله بما يردع به الكلاب ويزجر به الكلاب، جَزَاءً وِفَاقًا [النبأ:26]، فقد جاءتهم فرصة الحياة، وأرسلت إليهم الرسل، وأنزلت إليهم الكتب، وبين لهم، وأعطوا من النطق ومن السمع ومن البصر ومن القلب ما يمكن أن يفهموا وأن يعوا به، فأعرضوا عن كل ذلك، واستهزءوا بالصالحين، وكفروا برب العالمين، وكذبوا نبي الله ورسول رب العالمين صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

قال الجمهور من مفسري الآية: يا أيها الذين آمنوا! يا أيها الناس! وأنتم لا تزالون في الحياة افعلوا ما تمناه الكفار وهم في النار، فما دمتم أحياء فاعبدوا ربكم، وأطيعوا نبيكم، وافعلوا الخير لعلكم ترحمون، ولا تكونوا حتى إذا خرجتم من الدنيا وأنتم مقصرون في العبادة والطاعة فتطلبون وتدعون ما دعا به الكفار ورجوه، ولات حين مندم، ولا سبيل إلى الحياة بعد ذلك في دار الدنيا، والوقت شيء قد قطعهم وكان يمكنهم أن يقطعوه، فلم يفعلوا وهم يملكون حياتهم، ولا يزالون في دنياهم وهم يقدرون على ذلك ولم يفعلوا.

ثم أخذ الله تعالى يقرعهم ويوبخهم؛ لتزداد حسرتهم، وليزداد تذكرهم لذنوبهم وجرائمهم، وليوقنوا أن لله الحجة البالغة، قال تعالى: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ [المؤمنون:109-110].

قال تعالى: يا هؤلاء! أنتم ترجون العودة إلى الدنيا وقد كنتم فيها وما صنعتم شيئاً، وقد كنتم ترون فريقاً من عبادي المؤمنين في الدنيا وهم معترفون بأن الله ربهم، وبأن الله خالقهم، وبأنه الواحد الذي لا ثاني له لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا [المؤمنون:109] آمنا بك إلهاً واحداً، وآمنا بمحمد عبداً ونبياً ورسولاً لك، أرسلته لهداية البشر، وأرسلته لإخراجهم من الظلمات إلى النور.

فهم يقولون: عافنا واغفر لنا ذنوبنا ما كان قبل الإسلام وما تخلل الإسلام من مخالفات ومن سوء، استغفرناك وطلبنا رحمتك وطلبنا مغفرتك، أي: أنهم كانوا أذلة لله خاضعين لجلاله وسلطانه، ويعلمون أنه إذا لم يغفر لهم هو فلن يغفر لهم أحد، وإذا لم يوفقهم هو فلن يوفقهم أحد، فهو الرازق وهو المحيي وهو المميت.

إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي [المؤمنون:109] أي: طائفة من عبادي وجماعة مؤمنة، يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا [المؤمنون:109] أي: ارحمنا بمغفرة الذنوب، وارحمنا بالإنقاذ من النار، وارحمنا بدخول الجنان، وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ [المؤمنون:109] أي: أنت خير من يرحم، وأنت خير من يكرم، وأنت خير من ينقذ، وأنت خير من يجيب الداعي إذا دعاه.

فهؤلاء -وهذا مقامهم- كنتم في الحياة الدنيا تتخذونهم سخرياً وتهزئون بهم، وتضحكون عليهم، فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا [المؤمنون:110]، قرئ سُخرياً وسِخرياً بضم السين وكسرها والمعنى واحد، أي: اتخذتموهم مساخر، وأخذتم تتضاحكون وتهزءون بهم وهم عباد الله الصالحون، وسيضحكون منكم يوماً وتندمون حين لا ندم.

فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي [المؤمنون:110] أي: اشتغلتم بهم ليلاً ونهاراً، فتارة تقولون عنهم: رجعيون، وتارة تقول عنهم: متأخريون، وتارة تقول عنهم: خرافيون، فإذا مروا أمامكم تغامزتم عليهم وتضاحكتم بهم، وظننتم أنفسكم شيئاً وأنتم لستم بشيء، ومع كل هذا كانوا يدعونكم لربكم ويعظونكم ويرشدونكم وتأبون إلا الإصرار على الشرك والكفر والعصيان.

فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي [المؤمنون:110] أي: اشتغلتم بذلك ليلكم ونهاركم حتى نسيتم ذكري وتوحيدي وعبادتي، وحتى نسيتم أن تذكروا أن هناك رباً خالقاً هو جل جلاله أحكم الحاكمين يوم لا حاكم إلا هو، فينتقم منكم لهم، ويحكم لهم عليكم، وتجازون الجزاء الأوفى خالدين في النار أبد الآبدين ودهر الداهرين.

وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ [المؤمنون:110]، فأخذتم تتضاحكون وتتغامزون منهم، وانظروا الآن العاقبة ومن هو الأجدر بأن يضحك عليه، ومن هو الأجدر بأن يسخر منه!!

قال تعالى: إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ [المؤمنون:111].

فهؤلاء هم الذين صمدوا على دين ربهم، والذين رسخوا في عبادة إلههم، والذين ثبتوا على الإيمان بنبيهم، فصلوا وصاموا، وزكوا وحجوا، وسامحوا وغفروا، وصبروا عن حقوقهم، وحرصوا على إيمانهم.

فهؤلاء الذين صبروا في الحياة الدنيا على استهزائكم بهم وتضاحككم عليهم أنا اليوم أجازيهم وأكافئهم وأحسن إليهم، فأغفر ذنوبهم، وأرحم ضعفهم، وأنقذهم مما أنتم فيه، وأدخلهم الجنان خالدين مخلدين.

إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا [المؤمنون:111] أي: بسبب صبرهم على أذاكم وعلى كفركم بأنهم هم الفائزون، فقد فازوا برحمة الله، وفازوا برضا الله، وفازوا بالجنان، وفازوا بأن قبل الله منهم في الدنيا عبادتهم وطاعتهم وصبرهم لأجله، فلم يهتموا بكم، ولم يلتفوا إليكم، فكانوا الفائزين وكانوا الناجحين، وكنتم أنتم الخاسرين، وكانوا المرحومين، وكنتم الملعونين.

قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ [المؤمنون:112].

أي: قالت لهم ملائكة الله بأمر الله: أنتم الذين ظننتم يوماً أنكم في الدنيا خالدون، وأنكم بالملك فائزون، وأنكم بالتسلط على الأرض انفردتم بذلك، فلا مسكيناً ولا مؤمناً ولا صالح يستحق منكم كلمة إعجاب أو ثناء، فطالما تجبرتم وطغيتم فيها وطالما ظلمتم وآذيتم المؤمنين، كم تظنون هذه الدنيا التي مضت في طغيانكم وتجبركم كم تظنون عددها؟ كم عشتم؟ قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ [المؤمنون:112]؟ أي: كم لبثتم وكم أقمتم في الدنيا عدد سنين؟ وإذا بهم يتركون السنة ويتركون العام بل ويتركون حتى الشهر، قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ [المؤمنون:113]، فمنهم من عاش التسعين والثمانين والأقل والأكثر فانقضت وذهبت مع أمس الذاهب وكأنها لم تكن.

فما قدروها إلا بيوم أو بعض يوم، ثم عادوا فتشككوا وقالوا للملائكة: فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ [المؤمنون:113]، ويعد ذلك من الملائكة المكلفين: ملك عن اليمين وملك عن الشمال، وهما اللذين يكتبان أعمال الخير وأعمال الشر، فيسألان كم مدة عشنا؟ وكم عام بقينا؟ وكم سنة ارتحنا فيها؟ ومعنى ذلك: أن تلك السنين لا تكاد تذكر بالنسبة لدوام الآخرة وخلودها، لكنكم مع ذلك عشتم أعواماً وعشرات السنين وفي كل تلك السنين لم تقولوا يوماً ولم تفكروا يوماً أن تقولوا: ربنا اغفر لنا يوم الدين، فعشتم كافرين ومتم كافرين.

فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ [المؤمنون:113] أي: فاسأل الحاسبين واسأل المكلفين بنا فهم أدرى بنا وأعلم، فهم كانوا يعدون ونحن لم نكن نفعل ذلك، فيتكلمون عن ذهول ويتكلمون عن ضياع، فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ [المؤمنون:113].