تفسير سورة المؤمنون [51-62]


الحلقة مفرغة

ثم قال تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون:51].

يقول الله لنبيه وخاتم أنبيائه أنه قد سبق أن قال للأنبياء السابقين: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ أي: كلوا الحلال الطيب ولا تقربوا الحرام بحال، فلا تتخذوه مشرباً، ولا تتخذوه مطعماً، ولا تتخذوه متجراً، ولا تتخذوه ملبساً، وفي الحديث النبوي: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172]، يقول الراوي وهو أبو هريرة: ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر) أي: أشعث في شعره، أغبر في ثيابه؛ لطول السفر ولطول العبادة ولطول السياحة، ولطول الدعوة، (ثم هو يقول: يا رب يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له!)، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)، فالمال الحرام مهما بذله باذله ومهما صرفه صدقة أو عطاء أو هدية أو حجاً أو نفقة فلا يعود عليه إلا بالوبال، فالفاسد لا ينتج إلا فاسداً، والصالح هو الذي ينتج الصالح، فالله لا يقبل إلا طيباً، ولا يقبل من الأعمال إلا الصالح وإلا المال الصالح، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (نعم المال الصالح للرجل الصالح)، وما دون ذلك فهو ثقل يحمله الإنسان، فيتخفف منه من زال عنه، ويعذب به من ابتلي به.

يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا [المؤمنون:51] أي: وكما أمرنا من سبقك من الأنبياء نأمرك كذلك يا محمد، وقد ألهم الله عبده محمداً صلى الله عليه وسلم قبل النبوءة برعي الغنم، وقد ذكر صلى الله عليه وسلم ذلك عن نفسه فقال كما في الصحيح: (ما نبي إلا ورعى الغنم، فقيل له: يا رسول الله وأنت؟ قال: نعم، وأنا رعيت لقومي على قراريط) أي: على هللات.

فهو منذ الطفولة عاش بالحلال وبكد العمل وبعرق الجبين، ثم عندما شب شارك السيدة خديجة في مالها مضاربة، وذهب يتاجر لها في أرض الشام، وبعد ذلك جعل الله رزق محمد صلى الله عليه وسلم في سيفه في غنائم الكفار وفي غنائم المشركين مالاً وأرضاً وفي كل ما يملكون.

مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ [الحشر:7] أي: من أهل القرى المشركة، فملك نبيه صلى الله عليه وسلم قراهم ونساءهم ورجالهم وأطفالهم، فامتن على من شاء منهم، واستعبد من استعبد، وقتل من قتل، وغنم ما غنم، كما عليه الصلاة والسلام: (وجعل رزقي تحت ظل رمحي) أي: في الحرب والجهاد والدعوة إلى الله.

يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا وهذا ما يؤمر به أتباعهم: أن يكون طعامهم حلالاً طيباً، وملبسهم كذلك، ومشربهم كذلك، وغذاؤهم كذلك، ومسكنهم ومأواهم كذلك، وأن يعملوا الصالحات، وما الصالحات إلا الطاعة للإله جل جلاله، والطاعة للنبي صلى الله عليه وسلم، (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فانتهوا)، فافعل من الأوامر ما استطعت، واترك جميع ما نهيت عنه.

يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ .

هذه الفقرة من الآية الكريمة فيها وعيد وتهديد، وإن كان للأنبياء فمن باب أولى لغيرهم ممن ليس بمعصوم، أي: يقول جل جلاله لأنبيائه ويقول تبعاً لأتباعهم: كلوا الحلال، وكلوا الطيب واعملوا الصالح، فإني بما تعملون عليم.

يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ أي: رقيب عليكم وعلى أعمالكم، فآمر الملائكة المرافقين للإنسان أن يكتبوا الخير والشر، ولكن الرسل أكرمهم الله فعصمهم عن السوء، وعصمهم عن الذنوب، ولكن مع ذلك قال لهم الله بأني عليم بأعمالكم، فاصنعوا ما أمرتكم به ولا تخرجوا عنه، واعلموا أن عيني عليكم رقيبة، وملائكتي الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون يكتبون كل شيء عليكم.

إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ .

قال تعالى: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون:52].

قرئ (إن وأن)، (وأن) عطف على الآية قبل: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا أي: ويا أيها الرسل! إن أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون، معناه: أن الدين واحد، وأن ما أرسلتم به من عبادة الله لم تختلف الرسالات في ذلك، فمنذ أرسل آدم إلى أولاده، وإلى أحفاده وأسباطه، أمرهم الله أن يدعوهم إلى الله الواحد، وإلى عبادته، وإلى عدم الشرك به، وهكذا كل من جاء بعده، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (نحن معاشر الأنبياء ديننا واحد وأمهاتنا شتى) أي: الشرائع مختلفة، فلكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً، فتختلف الأوامر وتختلف الأحكام وتختلف النواهي، ولكن الدعوة العامة والدعوة الرئيسية الأساسية من كون الله الخالق، وأن الله واحد في ذاته وواحد في صفاته وواحد في أفعاله؛ هي دعوة الرسل جميعاً.

وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون:52] إن الدين واحد، فلم يرسل نبي، ولم يرسل رسول، ولم ينزل كتاب من الله على بشر إلا ويدعو إلى عبادة الله الواحد، وعدم الشرك به.

أُمَّةً وَاحِدَةً حال، أي: أرسل جميع رسله وأنبيائه، وأنزل الكتب المنزلة من الله: صحائف إبراهيم وزبور داود وتوراة موسى وإنجيل عيسى وقرآن محمد عليهم الصلاة والسلام، كل هذه الكتب الإلهية السماوية ما جاءت إلا للتوحيد ولعبادة الله، وإن وجد فيها غير ذلك فبتحريف الكاذبين وبكذب المشركين وبتغييرهم لما أنزل الله على رسلهم وأنبيائهم.

وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً أنزلت حال كونها أمة وديناً واحداً، ورسالة واحدة، وكلها تدعو إلى الله وعبادته.

وَأَنَا رَبُّكُمْ رب الأنبياء، ورب الأديان، ورب الخلق، ورب الملائكة والناس والجن وكل ما خلق الله، فهو ربهم وقاهرهم وخالقهم ورازقهم ومميتهم، ثم محييهم وموجدهم من العدم.

فَاتَّقُونِ أي: اجعلوا وقاية بينكم وبيني من عذابي ومن نقمتي ومن النار والسعير، وما الوقاية إلا طاعة الله، وطاعة رسوله، وتصديق الأنبياء، وتصديق كتب الله، والعمل بما جاء فيها، ومن خرج عن ذلك خرج عن الإيمان إلى الكفر، ومن دخل في الكفر حلت عليه اللعنة في الدنيا، ودخل النار يوم القيامة خالداً مخلداً أبداً.

فكانت النتيجة: فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [المؤمنون:53].

تقطعوا، أي: هذه الشعوب التي أرسلت إليها الرسل والأنبياء قطعوا الدين الواحد والملة الواحدة والدعوة إلى الله قطعوها قطعاً.

وزبر: جمع زَبْر أو زبور، وهي القطعة من قطع الحديد والفرقة من الفرق، فجعلوا أنفسهم فرقاً، فهذا يعبد مريم، وهذا يعبد عيسى، وهذا يعبد عزيراً، وهذا يعبد العجل، وهذا يعبد الحيوان، وهذا يعبد الملك، وهذا يعبد الجماد.

فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ قطعوا الأمر، وقطعوا الرسالة، وقطعوا الوحدة، وقطعوا الدين الواحد، والدعوة الإلهية الواحدة وجعلوها فرقاً وأحزاباً.

كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ أي: كل طائفة من هؤلاء أشربوا الكفر، وانشرحت له صدروهم، ففرحوا بما لديهم، وزعموا أنهم وحدهم هم الذين على الحق، هكذا زعم اليهود، وهكذا زعم النصارى، وهكذا زعم المجوس، وهكذا زعم الضالون المبتدعون من المسلمين عندما فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)، فميزان الدين الحق والفرقة الناجية التي هي على الحق: هو الأسوة النبوية، وهو السيرة الراشدة النبوية، وهو ما قال الله عنه: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، فموضع الأسوة والهداية والاقتداء ما فعله صلى الله عليه وسلم أو قاله أو أقره، فهو الحق المبين الذي لا يختلف فيه مسلمان، ولا يعارض فيه إلا كافر مشرك، فمن ائتسى به كان على الحق، وكان مع محمد على الحوض في الحنة صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وما سوى ذلك فباطل وهراء وكذب وزيغ.

وإذا قلنا: الأمة المحمدية فالمراد الأمة التي أرسل لها النبي صلى الله عليه وسلم، والأمة التي أرسل إليها هي كل شعوب الأرض.

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]، فمنذ قالها وأرسل بها في هذه البقاع المقدسة وهذه الأرض الطاهرة لزمت كل من بلغته، فهو خاتم الأنبياء، وهو محمد المكي المدني صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأن الدين الحق هو الإسلام: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85]، فكل من هو على الأرض فهو من الأمة المحمدية، ومن استجاب وكان مسلماً فهو من أمة الاستجابة، ومن أبى وتمرد فهو من أمة الدعوة، والحجة قد قامت عليه بكتاب الله المقروء بالألسنة، والمحفوظ في الصدور، والمكتوب في السطور، والمذاع في أجهزة الإعلام سماعاً وتدبراً، وهكذا في جميع بقاع الأرض: في أرض الكافر وأرض المؤمن وأرض المنافق كل ذلك سواء، فقد قامت الحجة وبلغت الجميع، لكن اليهود والنصارى حرفوا التوراة والإنجيل وغيروهما بأكاذيبهم وضلالهم وانحرافهم، وهكذا غيروا التوراة فهي غير التي أنزلت من قبل، فهذه فيها هجو الأنبياء وقذفهم، والتطاول على المقام الإلهي، وفيها الشرك، وفيها الكذب، وفيها الفسق، وفيها الفساد، وقل مثل ذلك على الإنجيل كما رأيناه، وكما كان وقت نزول القرآن، فقد ألهوا عيسى، وألهوا مريم ، وجعلوا الرب ثلاثة، وهكذا غيروا وبدلوا، وجعلوا الزبور كذلك.

وجاء بعدهم آخرون فوضعوا كتباً نسبوها لمن سموهم فلاسفة وسموهم هداة، وسموهم قادة، فغيروا كتاب الله، وغيروا دين الله، فكذبوا وفجروا وأشركوا كل حسب عقله وحسب شركه، وكانت كلها فرقاً باطلة كاذبة، كما قال ربنا جل جلاله: كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [المؤمنون:53] أي: يفرحون بالباطل، ويفرحون بالضلال، وفرحوا بتكذيب أصل الدعوة وأصل الكتاب: بأن الدعوة واحدة وهي عبادة الله وحده لا شريك له من ملك أو جن أو إنس أو جماد أو أي شيء، فالمعبود الواحد هو الله جل جلاله، وبذلك أتت الأنبياء من أولهم آدم إلى خاتمهم نبينا صلوات الله وسلامه.

قال تعالى: فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ [المؤمنون:54].

أي: ذرهم يا محمد! وما على الرسول إلا البلاغ، فأنت بلغ وادعهم إلى ربك، واتل عليهم الكتاب المنزل عليك، وبين لهم الرسالة التي أرسلت بها، ومن هنا كان عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع حريصاً على أن يشهد هؤلاء الخلق الذين دعاهم، وأرسل رسله إلى جميع أقاليم جزيرة العرب، وكانت وحدها إذ ذاك التي أسلمت ولم يخرج الإسلام بعد عن حدود الجزيرة، فأعلموهم أن النبي محمداً سيحج هذا العام، فحضر مائة وعشرون ألف حاج بين رجل وامرأة، وبين شيخ وطفل، فخطب فيهم خطبة حجة الوداع عند جبل الرحمة في آخر يوم عرفة، وهو يشهد الله ويشهدهم، فقال لهم: (هل بلغت؟ قالوا: نعم، اللهم قد بلغت وأبررت وأحسنت)، فكان عليه الصلاة والسلام يرفع أصبعه السبابة إلى السماء ويقول: (اللهم فاشهد، اللهم فاشهد) أي: اشهد على هؤلاء أني قد بلغتهم ما أرسلتني به: من رسالة، ومن كتاب، ومن هداية، ومن دين، وأما الهداية فليست في يد أحد من الخلق، قال تعالى لخاتم الأنبياء: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:272].

وهكذا عرض الله جل جلاله على خاتم أنبيائه قصص الكافرين ومواقفهم من الشرك والإصرار على الشرك، والتكذيب لأنبيائهم، وهددهم وتوعدهم، ثم قال له بعد أن أمر بتبليغ الرسالة: فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ أي: دعهم واتركهم وتخل عنهم، فِي غَمْرَتِهِمْ في ضلالهم، وفي ضياعهم، وفي هرائهم، وفي ظلمتهم التي يعيشون فيها، حَتَّى حِينٍ أي: إلى وقت لا محالة في مجيئه، وهو يوم موتهم وهلاكهم، وهو يوم عرضهم على الله ليحاسب كل بما قدمت يداه: إن خيراً فخير وإن شراً فشر.

ثم قال تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ [المؤمنون:55-56].

قال تعالى عن هؤلاء: أيظنون أن ما رزقناهم من أموال، ومن غنىً، ومن ترف، ومن خيل، ومن إبل، ومن قصور، ومن شباب، ومن قوة، أيظنون أننا بذلك نسارع لهم في الخيرات؟!

قال تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ أيظن هؤلاء المشركون الكافرون أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ نعطيهم إياه لبقاء حياتهم، أيظنون أنا نسارع لهم في الخيرات، ونبتليهم بالخيرات في الدنيا قبل الآخرة، وأنا يوم القيامة سنزيدهم من ذلك؟!

قال تعالى عنهم: بل هؤلاء في غوايتهم وفي تيههم وفي ضلالهم، فلا يشعرون بأن هذا الذي أعطيناهم ليس إلا ابتلاء واختبار واستدراج، وسيحاسبون على ذلك بالنقير والقطمير يوم عرضهم على الله يوم البعث والنشور، وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يعطي الدنيا لمن يحب ولمن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن يحب، فمن أعطاه الدين فقد أحبه، وإن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم)، ولذلك فالمجنون الضال هو الذي إذا رزق ووسع عليه وقوي في شبابه وقوي في أولاده، وقوي في سلطانه، ظن ذلك لما له من يد عند الله، فالله تعالى أعطاه ذلك في الدنيا، وأنه سيعطيه غيرها يوم القيامة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة لما سقى منها كافراً شربة ماء).

ونحن نرى اليهود أكثر غنىً، والنصارى أكثر سلطاناً ومالاً، ومع ذلك هم الأمم الخاسرة، والأمم الملعونة، والأمم الوثنية التي تعبد مع الله بشراً، وتجعل له آلهة مزيفة لم تكن يوماً كذلك، ولم يأتوا بالسلطان عليها، وما ذلك إلا ابتلاء واختبار، والمؤمن الصالح هو الذي لا يغتر، بل إذا كثرت عليه النعم يجب أن يستكثر من الصدقة، ومن العطاء ومن العبادة؛ حتى يقبل، وكيلا يكون ذلك ابتلاء واختباراً، وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء:35]، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (هلك المكثرون إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا) هلك: ضل.

فهؤلاء الذين أكثروا من جمع النشب والمال ضالون إلا الذين أكثروا من العطاء يميناً وشمالاً، وأنفقوا على أهليهم وعيالهم وذوي رحمهم، وأخرجوا الزكاة لمن ذكر الله في كتابه: للفقراء والمساكين وبقية الأقسام الثمانية، فيعطون السائل ولو جاء على فرس، وكما وصف الله المؤمنين: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:24-25]، للمحروم الفقير والمسكين وللسائل حتى ولو لم يكن محتاجاً، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (للسائل حق ولو جاء على فرس)، فهذا الذي بذل لك ماء وجهه حتى ولو كان عنده فهو يحرم عليه أن يسألك، ولكنك أنت إذا سألك لا يليق بك أن ترده وقد بذل لك ماء وجهه، وذل لك وقال: أعطني فأعطه، فإن كان فقيراً فقد كان المال في مكانه، وإن كان مستغنياً فقد أجبت السائل كما قال الله: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:24-25] وابتدأ بالسائل، وقد الله لنبيه: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ [الضحى:10].

فأنت إما أن تعطيه إن استطعت، وإما أن تقول له كلمة طيبة، مثلاً: غداً يأتيني مال وأعطيك، أو أعطاك الله ورزقك، ولا تنهره ولا تصح في وجهه، وما يدريك أن تنقلب الآية فتصبح يوماً أنت السائل وهو المسئول.

أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ [المؤمنون:55-56].

أي: أيظن هؤلاء النوكى والحمقى أن ما نعطيهم ونبتليهم ونختبرهم به من مال أن ذلك سرعة منا لخيرهم في الدنيا قبل الآخرة؟!

بَل لا يَشْعُرُونَ أنه ابتلاء وأنه اختبار وأنه زيادة في النقمة وزيادة في المحاسبة؛ لأنهم عندما ابتلوا بذلك لم يعطوا فقيراً، ولم ينفقوا على من يحتاج نفقة، ولم يعطوا سائلاً، ولم يخرجوا حقوق الله في مالهم، وأول معركة وأول حرب أهلية في الإسلام كانت منذ الوفاة النبوة على من امتنعوا عن أن يؤدوا الزكاة، فحاربهم أبو بكر الصديق بعد مخالفة من بعض الصحابة، فقد احتج عليه عمر وقال: كيف نقاتل هؤلاء وهم يقولون: لا إله إلا الله؟ فقد أمرنا أن نقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، وإذا بـأبي بكر يعنفه ويصيح في وجهه ويقول له: يا ابن الخطاب أبطاش في الجاهلية خوار في الإسلام؟! أتمم حديث رسول الله: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها)، فأخذ يقول له: أليس من حق لا إله إلا الله أداء الزكاة؟ أليس من حق لا إله إلا الله القيام بالصلاة؟ فقال عمر : والله ما هو إلا أن شرح الله صدر أبي بكر بما شرحه له حتى شرح صدري، فكان إجماعاً من الصحابة على أنه إذا تواطأت فئة أو أهل مدينة على منع الزكاة فإنهم يحاربون ويقاتلون، فمن قتل منهم فإلى جهنم ودمه هدر، ومن بقي فإنه يجبر على إعطاء وأداء الزكاة رضي أو لم يرض، وكما في الحديث النبوي قال النبي عليه الصلاة والسلام عن الزكاة: (إنا آخذوها أمراً من أمر ربنا، فإن أعطوها عن طيب خاطر وعن رضاً كان لهم أجرها، وإلا أخذناها عن يد وهم مقهورون) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

وهذا مذهب الشافعي أن من امتنع من أداء الزكاة فإنها تؤخذ منه قهراً ولا أجر له ولا ثواب، بمعنى أنه تباح أملاكه وما عنده من نشب في أداء ذلك، وترى الضرائب التي تعطى في دول إسلامية غير دولتنا عندما لا يؤدون الضرائب للحكومة فإنهم يبيعون عليهم أملاكهم ونشبهم ودورهم، ويكون التمام إلى السجن والعذاب والمهانة، فحق الله هو في إعطاء الفقراء والمساكين ما ملكهم الله إياه: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ [التوبة:60]، وقد أجمع مفسروا الآية على أن هذه اللام في الآية هي للتمليك، أي: ملك الله الفقراء والمساكين ومن ذكر الله قدراً من المال في مال الأغنياء.

قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ [المؤمنون:57-59].

بعد أن قص الله علينا قصص الكافرين الجاحدين الذين يظنون أنهم بما ملكهم الله من أموال ونشب وعرض وقوة أولاد وكثرة خدم وحشم؛ أن ذلك يسارع لهم في الخيرات، فذكر الله: أن الذين يسارع لهم الله في الخيرات وهم يحرصون عليه هم من وصفهم الله فقال: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ أي: الذين هم مع عبادتهم ودينهم يخشون الله ويخافون ألا يقبل الله عبادتهم وطاعتهم، وأن يرمى بها في وجوههم، ويقول لهم: قد أشركتم معي غيري مراءاة وتسميعاً، ولا تريدون بذلك الإخلاص ولا وجه الله، فهم يخافون من ذلك وإن كانوا ليسوا كذلك.

وهم الذين لا يكفرون ولا يجحدون بقدرة الله، ولا بمعجزات أنبيائه، ولا بما أظهر الله على أيديهم، فيؤمنون بها ويصدقونها ويضعونها على الرأس، ويجعلونها من العقائد التي لا تقبل الشك ولا الميل.

وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ فلا يشركون بالله ولا يتخذون معه إلهاً ثانياً لا في ذات ولا في صفة ولا في أفعال.

قال تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60].

(والذين يؤتون ما أتوا) أي: الذين يعطون ويتصدقون ويعبدون ويطيعون وهم مع ذلك وجلون خائفون أنهم إلى ربهم راجعون، فعندما يرجعون إلى الله يوم القيامة يخافون أن يقال لهم: إن عبادتكم كانت مشوبة، وإن صدقتكم لم تكن من طيب ولا حلال، فتجدهم يبالغون في العبادات والطاعات وفي الصدقات والزكاة، ومع ذلك يخافون ألا تقبل منهم.

وقد سألت السيدة عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله! وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أهؤلاء الذين يزنون ويسرقون ويشربون الخمر؟ قال: لا يا بنت الصديق ! وإنما هؤلاء الذين يصلون ويصومون ويتصدقون ويخافون ألا يقبل أعمالهم ولا عبادتهم).

فهم لشدة حرصهم ورغبتهم في أن تقبل طاعتهم يخافون أن تكون هناك شائبة في هذه الطاعة فلا تقبل، أي: يعبدون الله بين خوف ورجاء كما أمر المؤمنين.

قال تعالى: أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:61].

يذكر الله تعالى أن هؤلاء السابقين في الخيرات هم الذين يسبقون إليها لا أولئك الذين رزقوا مالاً ولم يصنعوا به شيئاً، ورزقوا ولداً فلم يصنعوا به شيئاً، فالله هو الذي رزقهم وأعطاهم ومتعهم بالعافية وبالأولاد وبالخدم والحشم، لا لكونهم سادة الناس، ولكن ابتلاء واختباراً، فإن هم عملوا بذلك وأطاعوا بذلك وأدوا الحقوق فذاك، وإلا كان ذلك ابتلاء ومزيداً في العذاب، ولا يظن هؤلاء أننا نسارع لهم في الخيرات، بل الذين نسارع لهم في الخيرات هم يسارعون في الخيرات، والإكثار من العبادات والطاعات، وهم مع ذلك يخافون ألا تقبل منهم، هم هؤلاء الذين يشفقون ويخافون من ربهم مع عبادتهم، والذين يؤمنون بكل آياته وقدرته ومعجزات أنبيائه، والذين لا يشركون مع الله أحداً، والذين يبالغون في العبادة والطاعة والصدقات ومع ذلك يخافون ألا تقبل منهم.

أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ فهؤلاء الذين وصف الله هم الذين يسارعون ويتسابقون: من الذي يسبق الآخر فيكون أكثر عبادة وأكثر صدقة وأكثر تهجداً.

وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ أي: هم بفعلهم ذلك واعتقادهم ذلك سابقون للناس في العبادة والطاعة والصدقة والخشية من ربهم، فهؤلاء هم الذين نسارع لهم في الخيرات لا أولئك.

قال تعالى: وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [المؤمنون:62].

يقول الله: مع كل هذا فنحن لا نكلف أحداً بما ليس في طاقته ولا في وسعه، وقد أمر الناس بعبادته والإيمان به وحده، والإيمان عمل عقدي يضمره الإنسان ويجمع جوانحه عليه، فيؤمن بأن الله واحد، وكل ما عبد الناس سواه من جن أو إنس أو ملك أو جماد كل ذلك باطل، بل على العبد أن يمتثل لربه فيما أمر به وما نهى عنه، ولنبيه فيما أمر به وما نهى عنه، وما يؤمرون به كما قال صلى الله عليه وسلم: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم)، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فلم يكلف الله عبداً إلا بما هو في وسعه وطاقته، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ[الحج:78]، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا[البقرة:286]، فقد أمرنا بالصلاة قياماً، فإن لم يكن ذلك في وسعنا فنصلي جلوساً، وأمرنا بالصيام فإن لم يكن ذلك في وسعنا أفطرنا، وأمرنا بالحج فإن لم يكن ذلك في وسعنا لا زاداً ولا راحلة ولا قدرة لم نحج، وأمرنا بالزكاة فإن لم يكن عندنا مال نزكي ولم يكن ذلك في وسعنا أسقط الله عنا ذلك.

إذاً: فالله لا يكلف مؤمناً شططاً، ولم يأمره بما يعجز عنه.

لم يمتحنا بما تعيا العقول به حرصاً علينا فلم نرتب ولم نهم

فلم يأمرنا إلا بما في قدرتنا عقيدة، وفي قدرتنا جناناً، وفي قدرتنا أعمالاً، وفي قدرتنا بما نملكه ونستطيعه، وما دون ذلك لم يأمرنا الله بشيء، بل من اعتاد عبادة وهو صحيح البدن كثير المال بحج أو عمرة أو صدقة أو زكاة بقوة من طواف وسعي وحج وأنواعها ثم مرض، فإن الله تعالى يتابع أجره وثوابه كما لو بقي على ذلك إلى لقاء الله إلى الموت؛ لأن الله هو الذي أعجزه وأشاخه، ولأن الله هو الذي أفقره فهو لم يستطع؛ لأن ما كان عنده قد أخذه الله، فهو بذلك معذور، بل وكما قال نبينا عليه الصلاة والسلام فإنه يجازى على ذلك ويكثر أجره وثوابه كما لو كان لا يزال صحيح البدن، مليء الجلد، كثير الحركة والنشاط، فيؤجر على ذلك ثواباً وأجراً مستمرين.