تفسير سورة الحج [17-22]


الحلقة مفرغة

قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [الحج:17].

يخبر الله عن المؤمنين وعن هذه الطوائف من الكفر، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج:17] أي: المسلمين الذين آمنوا بالله رباً وبمحمد نبياً صلوات الله وسلامه عليه.

قوله: وَالَّذِينَ هَادُوا [الحج:17] أي: اليهود أتباع موسى وهارون في زعمهم، المنزل عليهم التوراة الذي حرفوه وبدلوه، والذي ملئوه قذفاً للأنبياء، وتهجماً على الله جل جلاله وعلى مقامه، وعبدوا عزيراً من دون الله.

قوله: وَالصَّابِئِينَ [الحج:17] فئة بين النصارى واليهود، ولكنهم يعبدون نجوم السماء.

قوله: وَالنَّصَارَى [الحج:17] الذين زعموا أنهم أتباع عيسى، ولكنهم عوضاً عن أن يؤمنوا به عبداً نبياً آمنوا به إلهاً، وجعلوه ابن الله، وثالث ثلاثة، وقالوا: هو الله، قال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة:17]، ثم عبدوا مع الله عيسى ومريم.

قوله: وَالْمَجُوسَ [الحج:17] الذين عبدوا النيران وما يدخل في معناهم ممن عبدوا الجمادات من قردة وفروج وفئران وأحجار.

فكل هؤلاء -سوى المسلم- مشركون، فهؤلاء أشركوا مع الله عزيراً، وأولئك أشركوا مع الله النجوم، والآخرون أشركوا مع الله مريم وعيسى، وآخرون أشركوا مع الله النيران، ولا يزال هذا يتجدد.

كما أشرك في هذا اليوم مع الله ماركس ولينين وأتباعهما من الاشتراكيين والشيوعيين والقاديانيين والبهائيين والماسونيين والوجوديين.

وهذه الأشكال الضالة المضلة كلها فروع لليهودية، وفروع لإضلال الناس وإخراجهم عن دين الله الحق، وهؤلاء جميعاً يذكر الله عنهم: ممن لم يرد الإسلام، ولا الإيمان، فلم يؤمن بمحمد نبياً رسولاً، ولا بالقرآن كتاباً منزلاً، ولا بالإسلام الدين الحق ناسخاً للأديان الماضية، والذي لا دين بعده، وهو دين الخلائق كلها، دين العالم، ولا دين عالمي إلا الإسلام، فهؤلاء يفصل الله بينهم يوم القيامة.

فالأديان السابقة أديان قومية أرسلت لبني إسرائيل وأمثالهم، ولقد قال عيسى كما في الإنجيل: إني أرسلت إلى خراف بني إسرائيل.

وأكد هذا القرآن عندما قال الله تعالى عن عيسى: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ [الصف:6]، وتقديم المعمول على العامل يفيد الحصر، أي: لم أرسل لسواكم، فمن آمن بعيسى من غير بني إسرائيل فقد آمن بدين لم يطلب منه، ولم يرسل إليه، عرباً زعموا أو غير ذلك من بقية الفئات.

ويؤكد هذا المعنى رسول الله عليه الصلاة والسلام في الأحاديث المتواترة، قال: (خصصت بخمس: كان الأنبياء قبلي يرسلون إلى أقوامهم خاصة وأرسلت إلى الناس عامة) .

فمن زعم أن اليهودية عالمية فهذا من أباطيل اليهودية، ومن زعم أن النصرانية عالمية فهذا من أباطيل النصرانية، ولا دين عالمي إلا الإسلام والرسالة المحمدية.

قوله: إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الحج:17] أي: إن الله يفصل بين هؤلاء الرافضين للإسلام، المصرين على الشرك والكفر، هؤلاء الذين يأبون إلا التكذيب سيردون وسيفصل الله بينهم، وسيعلمون إذ ذاك: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85].

ومن لم يأت بالإسلام فلا سبيل إلى دخوله الجنة، ولا طمع له في رحمة الله، وهو في النار خالداً مخلداً أبداً.

قوله: إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [الحج:17] أي: شهيد بعلمه وبأمره، وشهيد بإرادته جل جلاله وعلا مقامه.

قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [الحج:18].

يقول الله لعبده ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ويقول لجميع المسلمين من أتباعه كما هي نداءات ودعوات القرآن: ألم تر يا محمد بقلبك وبعلمك، وبإطلاع الله لك على ما هناك؛ أن هؤلاء الذين جحدوا من الناس وكفروا وأشركوا هل يجدون نظيراً لهم في خلق الله من الحيوانات والجمادات وكون الله الأعظم؟!

قوله: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ [الحج:18] ففي السماوات الملائكة يسجدون أبداً، وكما قال نبينا صلوات الله وسلامه عليه: (أطت السماء وحق لها أن تئط) أي: لثقل ما تحمل كما يصوت السقف المصنوع من خشب عندما يثقل بمن عليه، فيأخذ في التصويت، فيقول نبينا عليه الصلاة والسلام: (أطت السماء) أي: صوتت، (وحق لها أن تئط) أي: ما أجدرها بذلك (ما من موضع قدم إلا وعليه ملك ساجد أو قائم)، وفي رواية: (يقول: لا إله إلا الله) .

والعبادة للملائكة كالنفَس للإنسان، فكما أن الإنسان لا يعيش بلا نفَس صاعد أو هابط، فكذلك الملك بالفطرة لا يستطيع أن يعيش بلا عبادة، فالعبادة للملك كالنفَس للإنسان.

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ [الحج:18] أي: يعبده، والسجود: هو أقوى العبادة ومخها، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فادعوا ربكم في سجودكم؛ فقمن أن يستجاب لكم) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

وقد قال: (أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فادعوا فيه) .

قوله: يَسْجُدُ [الحج:18] السجود هنا كناية وعبارة عن العبادة بكل أنواعها، وأعظمها السجود الذي لا يجوز ولا يحل لمخلوق حتى للنبي صلى الله عليه وسلم، حتى للملك من باب أولى، يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ [الحج:18] فالشمس تسجد لربها، والقمر يسجد لربه، والنجوم تسجد لربها، والجبال تسجد لربها، والشجر تسجد لربها، والدواب على كل أنواعها تسجد لربها.

قوله: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ [الحج:18] والكثير من الخلق ممن آمنوا بالأنبياء قبلنا، وممن آمن بخاتم الأنبياء معنا أو قبلنا أو من سيأتي بعدنا إلى يوم البعث والنشور كلهم

سجدوا، وكذلك عبدوا، ولكن من الناس من لم يفعل، فقال الله عنهم: وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ [الحج:18] .

أي: وكثير ممن لم يسجد من الناس سيعذب؛ نتيجة تمرده في العبادة، وعدم سجوده لله؛ لأن الله ما خلق الإنسان والجن إلا للعبادة، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].

قوله: وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ [الحج:18] أي: كثير من الناس ممن أشرك وكفر، وممن لم يعبد الله ولم يؤمن به وبأنبيائه.

قوله: وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ [الحج:18] أي: من أهانه الله بالذل والخزي في الدنيا، وبالعذاب يوم القيامة فلن يعزه ملك، ولن تعزه دولة، ولن يعزه أولاد، ولن تعزه جيوش، بل لا يزيده كل ذلك إلا ذلاً وهواناً وعذاباً وخزياً.

قوله: إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [الحج:18] أي: يفعل الله جل جلاله ما تشاء إرادته، وما يشاء أمره، وما يريد في خلقه، فهو يملك الكل، والمالك يتصرف في ملكه كيف شاء وبما شاء، فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

وكيف سجود الدواب والشجر والقمر؟ قال قوم: فيئها وظلالها هو سجودها، وهذا كلام لا معنى له، سجودها وعبادتها كما قال الله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44] .

والشيء يطلق على كل شيء مما سمى الله تعالى في كتابه من الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب، على كل أصنافها وأنواعها، فالكل يعبد الله ويذكره ولكننا لا نفقه تسبيحهم.

وقد فقه تسبيحهم بعض خلقه من الأنبياء، كما قص علينا فيما أعطاه لسليمان، فكان سليمان يفقه تسبيح الطير والنمل، وكان يكلمهم ويكلمونه.

والنبي عليه الصلاة والسلام كان كذلك، ففي المعجزات الواردة المتواترة المقطوع بصحتها، المستفيضة استفاضاً، الواردة عن الجماهير من الصحابة: أنه كلمه الجمل.

وجاءت شجرتان -وهو يريد قضاء حاجة في البرية- فاجتمعتا حتى ظللتاه، ثم ذهبتا إلى مكانهما، بل وأكثر من هذا حن الجذع المقطوع من الشجر، وهو الميت مرتين، والشجر لا نعلم أنه ينطق.

فكان عليه الصلاة والسلام يخطب على المنبر المصنوع من هذه الأخشاب، وعندما غيّر منبره وترك الجذع الذي كان يقف عليه، حن هذا الجذع -جذع النخلة- حتى سمع حنينه وصوته كل من في المسجد، فنزل عليه الصلاة والسلام وضمه إليه فسكت.

وشكا إليه الضب، والذئب، وشكت إليه حيوانات وفهم عنها وأجابها عليه الصلاة والسلام، وما من معجزة كانت للأنبياء قبل إلا وكانت لنبينا عليه الصلاة والسلام وزيادة.

فإن كان إبراهيم خليل الرحمن فمحمد خليله وحبيبه، وإن كان موسى كليم الله فمحمد كلمه ورفعه إليه، فذهب في ليلة الإسراء إلى سدرة المنتهى .. إلى أن كان قاب قوسين أو أدنى، وأمره بالصلاة عليه الصلاة والسلام.

فإذاً: هذا الإنسان العنيد، هذا الإنسان المشرك الذي انفرد من بين كون الله الأعظم، الذي تمرد تمرداً لم يتمرده شجر ولا حجر ولا دابة ولا شمس ولا قمر ولا نجوم، فكلها عبدت ووحدت الله وقدست الله وسجدت له إلا هذا الإنسان المشرك، إلا هذا الإنسان الكافر الذي تمرد على ربه ولم يسجد ولم يؤمن.

ولذلك قال الله تعالى عن هذه الفئة التي حق عليها العذاب، وأصبح العذاب في حقها واجباً لا منحى عنه ولا مبعد له، وإن مات عليه خلد في النار إلى أبد الآباد في ذل وهوان، لم يرفعه عز عزيز، ولا ملك ملك، ولا قوة جيوش، فمن أذل الله فلا معز له، ومن أعز الله فلا مذل له، والله يفعل ما يشاء.

قال تعالى: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج:19-22] .

اللهم أعذنا من النار، اللهم أبعدنا منها، اللهم رحمتك، اللهم مغفرتك، اللهم رضاك، اللهم اكتب لنا الجنة وأبعدنا عن النار.

هذا الوصف يذهل كل مرضعة، هذا الوصف يذهل كل حامل، هذا الوصف يذهل العقلاء! نقرأ هذا صباح مساء، يقرؤه المؤمن والكافر وإذا به ساهٍ غافل عن ذلك، إلى أن يصبح يوماً من الأيام وجهاً لوجه مع جند الله الذين لا يحصي عددهم إلا هو، يصبح في قبره وقد انضم عليه وذهب أهله: فلا امرأة ولا ولد ولا أتباع ولا جند ولا مال.

فيأتيه به ملكان ويسألانه: من ربك؟ فإن أجاب فقد فاز ونجا، وإن لم يجب رسب الرسوب الأبدي والخذلان الأبدي، نعوذ بالله من عذابه!

قوله: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [الحج:19] أي: فئتان تخاصمتا في ربهما، فقالت فئة: الرب له شركاء، تعالى الله عن ذلك، وذهبت تترك الواحد الأحد الفرد الصمد وتعبد الأحجار، وتعبد الخلق معه وبدونه.

اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [الحج:19] أي: في الله، فالموحد المؤمن يقول: الله ربي خالق كل شيء، الأول بلا بداية، والآخر بلا نهاية، والملك الحق، خلق الإنسان من عدم، وأذهبه للعدم، وسيعيده مرة ثانية بعد الموت، فجاء الكافر وخاصم الموحد المؤمن وجادله بغير حق، وبغير علم وهدىً، وبغير كتاب مبين.

وكان الأولون يقولون: الله وشركاؤه، وجاء الكفرة المجددون للكفر والفساد، المتقدمون في الكفر، المفسدون للخلق وللبشر فقالوا: لا إله. ومعاذ الله وتعالى الله! مع أنه في كل شيء له آية تدل على أنه واحد، ولكن عميت بصيرتهم قبل أن يعمى بصرهم.

فهذه السماوات العلى بنظامها، وبنجومها، وبمجراتها، وبليلها، ونهارها، وهذه الأرض بمن عليها ومن فيها من جبال ووهاد وتلال وشعوب وحيوانات وطير كل ذلك قال عقل هذا الأفاك الفاسد: وجد من غير موجد.

ثم نازعه المشرك الآخر، فقال هذا، وعبد معه غيره، عبد زعماءه وأشركهم مع الله، وقال بالطبيعة، وهو يوصف الله بالطبيعة، فكل ما هو من صنع الله قال: هو من صنع الطبيعة، فسمى الله بغير اسمه زيادة في الضلال.

وهكذا تخاصم مؤمن وكافر، وهي خصومة أبدية إلى يوم البعث والنشور، إلى اليوم الذي يعرض فيه هؤلاء على الله، فيدخل المؤمن الجنة والكافر النار.

قوله: هَذَانِ خَصْمَانِ [الحج:19] الإشارة لمن ذكر الله من الذين أكرمهم بالجنات، خالدين فيها تجري من تحتها الأنهار، وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ومن وصف من فئات الكفار والمنافقين، هذان اللذان أشار إليهما بأنهما خصمان اختصموا في ربهم، ثم أعاد الضمير للجمع؛ لأن كل فئة جماعة، والخصم جماعة وليس واحداً، هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [الحج:19].

قوله: فَالَّذِينَ كَفَرُوا [الحج:19] الفئة الثانية التي خاصمت الذين آمنوا هم الذين جادلوا بغير حق وبغير علم وهداية، وبغير كتاب بين واضح.

قوله: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ [الحج:19] نعوذ بالله! فهؤلاء عندما يدخلون النار فالله جل جلاله يجعل ألبستهم وأرديتهم وقمصانهم قطعاً من النار، وقطعاً من الصفر وهو أشد، فإذا النار علقت به يكون حرها أشد ما يكون.

هذا الصفر وهذا النحاس عندما يلبسه الكافر ويجبر على لبسه، ولا يد له في المخالفة ولا يستطيع ذلك، يلبسه في جسده كله: من رأسه إلى قدميه، فيحرق ويمزق ويقطع جسمه كله، ولا سبيل إلى أن يفلت من ذلك: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56]، فتحترق الجلود والأمعاء والجسد، ثم يعيد الله ذلك ثانية بعد ثانية؛ ليزداد عذاباً وذلاً وهواناً.

قال تعالى: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ [الحج:19] فيأتي ملائكة النار فيصبون على رءوسهم الحميم.

قوله: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ [الحج:19] والحميم: هو الماء الحار إلى أغلى درجة الحرارة. قالوا: وهو نحاس مذاب، فيصب هذا النحاس وهو كالماء الحار في أشد غليان الحرارة يصب من رأسه إلى بدنه.

قال تعالى: يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ [الحج:20] يصهر: يذاب ويسحق.

مَا فِي بُطُونِهِمْ [الحج:20] أي: من أمعاء وكرش، وكل ما في الجوف يصهر ويسحق ويصبح رميماً وفحماً ورماداً.

قوله: يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ [الحج:20] أي: تصهر جلودهم وتذاب مع ما في بطونهم من أمعاء وكرش، حتى يصبح فحماً ورماداً.

قال تعالى: وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ [الحج:21].

المقامع: جمع مقمع، وهي المرزبة تحملها الملائكة، قالوا: كل ضربة من هذه المقامع لو ضرب بها جبل لتفتت، فيضربون بها الرءوس والظهور والبطون والعظام جميع أعضاء الجسد.

قوله: وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ [الحج:21] أي: لملائكة النار مقامع يضربون بها هؤلاء الكفار!

قال تعالى: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا [الحج:22].

أي: هؤلاء في مثل هذه الحالة يحاولون أن يفروا من النار، ولكن كما قال الفضيل بن عياض : أين يفرون؟ فأيديهم مسلسلة، وأرجلهم مكبلة، وهم بين يدي ملائكة النار الغلاظ الشداد، الذي لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

كُلَّمَا أَرَادُوا [الحج:22] أي: في كل لحظة خطر ببالهم أو حاولوا ذلك، ولا يستطيعون فعل ذلك وهيهات! فهم أعجز وأذل من ذلك.

كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا [الحج:22] أي: من النار؛ من غمها وكربها وآلامها، ومن حميمها وسعيرها ومقامعها، ومن العذاب الذي فيها بكل أشكاله وألوانه.

قوله: أُعِيدُوا فِيهَا [الحج:22] فبمجرد ما يريدون أو يخطر لهم هذا ببال فإنهم يؤخذون بعنف ويدفعون بعنف، ويضربون بالمقامع، ويصب الحميم على رءوسهم، وتشد الألبسة التي هي من نحاس على أجسادهم.

قوله: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج:22] أي: يقال لهم: ذوقوا وتمتعوا، واخلدوا في هذا العذاب المحرق، في جهنم المحرقة نعوذ بالله من الخذلان!


استمع المزيد من الشيخ محمد المنتصر بالله الكتاني - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة الحج [1-4] 2558 استماع
تفسير سورة الحج [8-16] 2152 استماع
تفسير سورة الحج [23-25] 1990 استماع
تفسير سورة الحج [58-60] 1889 استماع
تفسير سورة الحج [27-28] 1865 استماع
تفسير سورة الحج [61-63] 1849 استماع
تفسير سورة الحج [32-35] 1646 استماع
تفسير سورة الحج [26-28] 1626 استماع
تفسير سورة الحج [66-72] 1566 استماع
تفسير سورة الحج [73-78] 1523 استماع