تفسير سورة الكهف [103-110]


الحلقة مفرغة

قال الله تعالى لنبيه: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103-104].

أي: قل يا محمد لهؤلاء: هل نخبركم بمن فسد عمله وضل عقله وضاع كل ما صنعه من أعمال يظنها حسنات وعبادات؟ إن خسارتهم أشد من غيرهم، وفسادهم أطم من غيرهم، فإنهم خسروا أعمالهم في الآخرة، وخسروا حياتهم في الوقت الذي يظنون أنهم يحسنون صنعاً، أي: حال كونهم يعملون ويتعبدون وقد يتصدقون ويفعلون الطاعات والنوافل ولكن عملهم قد ضل وتاه وصار في ضلال ولم يكن في رشاد وفي هداية فخسروا أنفسهم وأعمالهم ولم يكن لهم إلا الخزي والدمار واللعنة والغضب.

والآية تعني النصارى واليهود وأمثالهم من المبتدعة في الإسلام ومن مختلف الملل والنحل، فترى الذي يقول: إنه تبتل وترهب وقصر حياته على العبادة ولم يتزوج ليتفرغ للعبادة ولم يعمل عملاً لكيلا يشتغل عن العبادة، وقد يتتبع الجبال والكهوف والمغارات وفي هذه الحالة يضل يومه صائماً وليله قائماً وهو يتلو الكفريات المخزية، تارة يبكي على عيسى ويناديه بالألوهية، وتارة يقول: يا أبانا الذي في السماء، وهو لا يزداد بذلك إلا كفراً وشركاً!

وكذلك الذي يعيش حياته وهو يظن أنه يعبد وأنه يطيع مثل المجوس الذين يدخلون إلى دور النار وأشكالها وأنواعها ويخرجون منها حفاة عراة مكشوفي الرءوس وهم يزعمون أنهم في عبادة وأنهم في زهد وأنهم في انقطاع، وقد يمدون أيديهم ويذلون أنفسهم ويزعمون أن ذلك لربهم، وأن ذلك ذل وخنوع لله لكيلا يكون لهم أي نوع من التكبر على الخلق وعلى ربهم، هؤلاء الذين يظنون أنهم يعملون عملاً صالحاً، وقس عليهم فئات زعمت في الأصل أنها مسلمة كالقاديانية التي زعمت عن الغلام القادياني الجاسوس البريطاني أنه نبي مرسل فأضلهم وأفسدهم واخترع لهم كتاباً زعم أنه أنزل عليه.

وقل مثل ذلك عن البهائية التي هي فرع من اليهودية، وقل مثل ذلك عن الوجودية الذين يعيشون للوجود بشهواتهم ونزواتهم يعبدونها ويقولون: هكذا خلقهم الله وعلى ذلك يجب أن يعيشوا، وقل مثل ذلك عن الماثونية وعن الشيوعية وعن الاشتراكية وعن كل شيء خلا من قال الله وقال رسول الله.

سئل الإمام البخاري رضي الله عنه: من المسلم؟ قال: المسلم الذي لم يكن له لقب آخر مع كلمة مسلم، لا يقول: مسلم قادياني، أو مسلم وجودي، أو مسلم ماثوني، أو مسلم شيوعي، فعندما يضم لكلمة مسلم كلمة من هذا النوع يكون مشركاً كافراً ضالاً مضلاً ادعى الإسلام وهو منه بريء.

وقل مثل ذلك عمن تلاعب بالقرآن والسنة، فمن الضلال من أنكر السنة البتة، أو ألغى النصوص من القرآن والسنة وزعم أن ذلك للمصلحة العامة، وذاك رجل كان في القرن الثامن اسمه الطوفي ترجم له الحافظ في الدرر الكامنة وزعم أنه شيعي وما هو بمسلم، وكتابه طبع ونشر ووزع منه عشرات الآلاف، وكلما ينتشر منه يزداد الناس ضلالاً، يزعم ويقول: من المصلحة العامة للإنسان أن يلغي نصاً من القرآن والسنة، وهكذا أخذ ذلك من أئمة الكفر والضلال ممن زعموا الإسلام إلى أن تركوا حكم القرآن والسنة، ورجعوا لحكم اليهود والنصارى، وأبعدوا الإسلام من برامج ومناهج التعليم ومن تربية الأولاد، وهكذا نشروا الفساد في الأرض فكانوا سادة وكبراء مع فرعون وهامان وقارون، وهم مع ذلك لا يزالون يزعمون أنهم مسلمون وممن قال الله عنهم: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا [الكهف:103]، أي: بالذين هم أكثر خسارة في أعمالهم حين يزعمون أنها عبادة.

الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:104] أي: الذين ضل عملهم وخدمتهم، وما كتبوه وأذاعوه ودرسوه ونشروه وبذلوا عليه من وقت ومال وجاه في حياتهم الدنيا، فهؤلاء الذين ضل سعيهم وأعمالهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً وما أحسنوا إلا الفساد، وما أتقنوا إلا عبادة الشيطان وعبادة أئمة الكفر.

وقد جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صفة الفئة الناجية في كلمة ما أبلغها وأفصحها! عندما قال عليه الصلاة والسلام: (افترقت اليهود على واحد وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي -أي: المسلمون ممن يدّعون ذلك عموماً- على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: يا رسول الله من هي؟! قال: ما أنا عليه وأصحابي).

ومن هنا كانت السيرة النبوية التي يقول الله فيها: لَقَدْ كَان لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21] ، حيث يجب على كل مسلم كبير أو صغير طالب أو معلم رجل أو أنثى أن يتعلمها ويتدارسها ويعيش مع واقعها قصصاً وفقهاً وفهماً واستنباطاً؛ ليكون الرسول الأعظم إمامنا وهادينا ونبينا حقاً، فنأتسي به صلاة وصياماً وزكاة وحجاً وجهاداً وهدياً وسلوكاً، وما زاد على ذلك ففي النار، وهو من الفئة الضالة.

والصحابة السابقون الأولون هم كما وصفهم الله من المهاجرين والأنصار والذين جاءوا من بعدهم، وأما الفئة الضالة فهي تلك التي ارتدت عندما مات نبي الله عليه الصلاة والسلام، والتي امتنعت عن أداء الزكاة، وأما الصحابي فهو من رأى رسول الله عليه الصلاة والسلام مسلماً وعاش ومات على ذلك، وأما أولئك الذين بدلوا وغيروا وارتدوا وكانوا يزعمون أنهم صحابة فهم الذين ورد فيهم عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنهم يطردون ويدفعون عن حوضه في يوم القيامة، فيقول النبي عليه الصلاة والسلام: (أصحابي أصحابي! فيقال له عليه الصلاة والسلام: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فيقول عليه الصلاة والسلام: سحقاً سحقاً)، والسحق: هو اللعنة والطرد من الجنة.

قال تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف:105] .

يصف الله المبتدعة الضالين من كل فئة ومن كل نوع سواء زعموا أنهم مسلمون، أو بقوا على النصرانية والوثنية واليهودية والمجوسية، الذين يظنون أنهم يحسنون صنعاً وهم الأخسرون أعمالاً، والذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا فكفروا بالقرآن وبمعجزات النبي عليه الصلاة والسلام وبما جاء عن الله مما لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكفروا بلقائه وبيوم البعث والنشور، أما اليهود والنصارى فزعموا أنها تبعث الأرواح لا الأجساد، فكانوا أيضاً كافرين، وزعمت ذلك فئة تدعي الإسلام، ومن عجيب أمرها أنها تدعي كذلك العلم، ثم تزعم أن البعث يكون بالروح فقط، فهذا القول يدل على الشك والارتياب في البعث والشك في البعث والنشور كفر وشرك وخروج عن الإسلام.

فقوله تعالى: فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ [الكهف:105].

أي: ذهبت هباء وكأنها لم تكن، وكأنها أصبحت أشباحاً لا ذوات، فلم يحسب لها حساب، ومعنى ذلك: أن الله تعالى لا ينظر إليها ولا يقبلها.

فلابد في العبادة أن تكون لله وحده، فمن صرف شيئاً منها لغير الله يكون مشركاً، إما الشرك الظاهر وإما الشرك الخفي، وكل ذلك بلاء ومصيبة.

قال تعالى: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف:105].

أي: يوم القيامة لا يكون لهم شأن، ولا توزن أعمالهم؛ لأنهم لا أعمال لهم، وإنما توزن أعمال من يأتي بخير كالمسلمين المقصرين أو العابدين الأتقياء، وقد يثقل في الميزان، وتكون كافية لتكفير الذنوب ولدخول الجنان كما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صاحب البطاقة التي لا يمتلك سواها من الأعمال الصالحة، فعندما يأمر الله ملائكته بأخذه للنار لأن كفة السيئات غلبت كفة الحسنات يأمرهم الله بالعود به، قال: لا ظُلْمَ الْيَوْمَ [غافر:17] ويقول: لا تزال لك حسنة واحدة، فأتي ببطاقة أي: بورقة أو بقصاصة ورق فوضعت في كفة الحسنات فترجح الميزان وتطيش كفة السيئات، فيؤمر به إلى الجنة، وقد كان يعجب في أول أمره ويقول: ماذا عسى أن يكون في هذه البطاقة؟! والذي كان في البطاقة هو كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله.

وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أنه عند فساد الزمان وعند رفع القرآن من الصدور يعيش أقوام في أزمان متطاولة لا يعلمون إلا كلمة: لا إله إلا الله، ويقولون: ورثناها عن آبائنا وأجدادنا ونحن نقولها، فلا يعملون صلاة ولا صياماً ولا زكاة ولا حجاً، ولا يعلمون لا حلالاً ولا حراماً، فسئل الراوي معاذ بن جبل : أيدخلون الجنة؟ فقال: من معه لا إله إلا الله دخل الجنة.

وقد قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] فمن قال: لا إله إلا الله ووحد الله، فاعترف لله بالوحدانية، وبما يليق بجلاله ومقامه وعظمته جل جلاله فهو على أي اعتبار مؤمن، وبعد ذلك إن شاء الله عذبه وإن شاء غفر له حتى ولو دخل النار.

وقوله: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف:105] من هنا يتأكد قول من يقول: لا توزن أعمال الكافرين؛ لأنهم لا أعمال لهم، وهذا معقول مع النص.

قال تعالى: ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا [الكهف:106].

أي: هؤلاء الذين أحبط الله أعمالهم بما أصابهم من اللعنة والطرد جزاؤهم جهنم؛ لأنهم كفروا بالله وأشركوا به واتخذوا القرآن الكريم والمعجزات والآيات الواضحات التي أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم هزواً وسخرية، فكان الجزاء جهنم جزاء وفاقاً، فهذا حال الكافرين ومآلهم.

قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا [الكهف:107-108].

يقرن الله تعالى في كتابه بين أهل النعيم وأهل الجحيم، وبين من رضي عنهم ومن غضب عليهم؛ لتكون المقارنة باستمرار بين الصالح والطالح، وبضدها تتميز الأشياء، كما تقول الحكمة العقلية.

فقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الكهف:107].

يقتضي أنه لابد مع الإيمان من عمل الصالحات: من صلاة وصيام وحج وزكاة وأنواع العبادات، وأهم ذلك الأركان الخمسة.

وقوله: كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا [الكهف:107].

قد أخبرنا صلى الله عليه وسلم أن الفردوس أعلى منازل الجنة، وهي منازل الأنبياء والمرسلين، وقد يكون المؤمن مع الأنبياء والمرسلين في منازلهم لحبه ولتعلقه بهم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (أنت مع من أحببت)، وقال: (يحشر المرء مع من أحب)، فحب الله وحب رسوله والصالحين يرفع الإنسان إلى مقامهم.

والجنان درجات كثيرة وما بين كل درجة ودرجة كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها وليس فوقها إلا عرش الرحمن، ومنه تتفجر أنهار الجنة.

وكما كانت جهنم منزلاً ومكاناً للكافرين ينزلون فيه، فإن جنات الفردوس للمؤمنين منازل ومأوى دائماً أبداً سرمداً.

وقوله تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا [الكهف:108].

كثيراً ما يتساءل الناس: ألا يمل الإنسان في الجنة، فيتخيلون الجنة كالنعيم في الأرض، فهم يأكلون اللحم باستمرار فيملونه، ويعيشون على البحار وشواطئها فيملونها، أما نعيم الجنة فلا يملون منه، فلهم فيها كل جديد في كل وقت وحين، وقد يتنقلون بين الدرجات في الجنان فيتزاورون مع المؤمنين وخاصة مع أرحامهم وإخوانهم الذين أكرموا معهم بالجنان، وقد يكون بعضهم أعلى درجة والآخر أنزل درجة فيزور هؤلاء هؤلاء، ومن هم في أعلى درجة يرفعون إليهم من هم في أدنى درجة، ولذلك فإنهم لا يتحولون عنها كما نتحول في الدنيا من دار إلى دار ثم نملها، ونسكن البلدة فيمضي عليها سنوات ثم نملها، وتتغير فصول السنة ثم نملها، فمن عاش في الصحاري ملها ويريد أن يعيش في شواطئ البحار أو في أعالي الجبال أو في محل الخضرة، فنعيم الدنيا زائل وهي فانية، ولم يكن كذلك في الجنان، فالمؤمن في الجنة في كل ساعة له شيء جديد، فلا يريد التحول عنها ولا يريد الخروج منها، فالمتعة فيها دائمة متنوعة لا تمنع ولا تنقطع مع التشكل ومع التجدد في كل ذلك، فأهل الجنة لا يريدون التحول منها بحال.

قال تعالى: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [الكهف:109] .

أي: لو كانت بحار الأرض حبراً وأشجار الأرض كلها أقلاماً، وكان كل الناس يكتبون علوم الله ومعارفه، فإن هذه البحار تجف والأقلام تنتهي، والأيدي تكل، وكلمات الله لا تنقضي، وحتى لو انتهت البحار وأمدت ببحار أخرى فإن كلمات الله لا تحد ولا تنتهي، وقد قال تعالى في آية أخرى: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ [لقمان:27].

فكلمات الله لا تنتهي لأنها الخالدة الدائمة، وأما غير الدائم من شجر وبحر وإنسان فإنها ستنتهي، وكما قال الخضر لموسى عندما أخذ طائر الخطاف قطرة من البحر فقال: يا موسى! ما علمي وعلمك أمام علم الله إلا كهذا الطائر يأخذ بمنقاره هذه القطرة من البحر.

قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110] .

يخبرنا تعالى أن رسوله عليه الصلاة والسلام مستمر على مقامه وإمامته وجلالته، وكونه سيد ولد آدم، وصاحب الشفاعة العظمى، والأنبياء كلهم خلفه، مؤتمون بإمامته ليلة الإسراء، ومع ذلك فلا يقع كثير من الناس فيما وقع فيه من سبقهم كقوم عيسى عندما رأوا منه بعض المعجزات كإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص فاتخذوه إلهاً وقالوا عنه: ابن الله، تعالى الله عن ذلك.

فالقرآن يؤكد باستمرار ويعلم النبي عليه الصلاة والسلام أن يقول عن نفسه إنه من البشر، ومن هنا تجدنا باستمرار نقول: عبد الله ورسوله وهكذا علمنا رسول الله عليه الصلاة والسلام.

فالله تعالى يخاطب نبيه ويقول له: (قل) يا محمد! (إنما أنا بشر مثلكم) أي: لست ملكاً، ولا خلقاً من غير البشر ومن باب أولى لست إلهاً، فأنا بشر مثلكم لي أب اسمه عبد الله، وأم اسمها آمنة وتزاوجا كما يتزاوج الناس، واجتمعا كما يجتمع الذكر والأنثى فكنت وليدهم أجوع يوماً فأصبر، وأشبع يوماً فأشكر، أحارب وأقاوم، أنتصر يوماً وأمحص يوماً، أحزن وأسر.

وقد جاءه عليه الصلاة والسلام رجل فعندما رآه أخذ يرتعد ويضطرب، فقال له عليه الصلاة والسلام: (هون عليك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد) أراد أن يقول عن نفسه: لست من الأباطرة ولا الأكاسرة ولا القياصرة، أنا ابن امرأة عادية فلم يحصل لك هذا معي؟ ولذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام مهما أحببناه ومهما عظمناه ومهما أكرمناه ومهما ذكرنا من صفاته السامية وسيرته العطرة فإنه يبقى في الدرجة الأولى أنه عبد لله من أبناء آدم وحواء، فهو مثلنا في البشرية من سلالة آدم وحواء، وما الميزة التي امتاز بها علينا إلا النبوة والرسالة وكذلك الأنبياء ممن أوحي إليهم، وإن كان كبيرهم وإمامهم محمداً عليه الصلاة والسلام.

فالرسول عليه الصلاة والسلام ولد في مكة، وكفار قريش يعرفون حسبه ونسبه، وقد عاش معهم أربعين عاماً ثم فجأة قال لهم: إنه مرسل من عند الله، وقد كانوا يلقبونه بالصادق الأمين، فمن لم يكذب في طول هذه السنوات الأربعين أيتصور أن يكذب يوماً على ربه ويقول: أرسلني، وهو لم يرسله؟ حاشا لله!

وهو مع كونه بشراً فهو نبي نبئ من الله وأوحي إليه بالقرآن الكريم، وبأن يدعو الخلق جميعاً: من في المشارق ومن في المغارب، من عاصره ومن يأتي بعده إلى يوم القيامة؛ يدعوهم إلى عبادة الله الواحد، وأنه رسول الله إلى الأبيض والأحمر والأسود، ألا تعبدوا إلا الله الخالق الرازق، الأول بلا بداية والآخر بلا نهاية، فالكل خلقه، والأمر أمره، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].

وابتداء العبادة الاعتقاد بأن الله الخالق الواحد لا شريك له لا في ذات ولا في صفات ولا في أفعال، له الكمالات كلها وهو منزه عن النقائص كلها.

فليس عيسى إلهاً ولا مريم إلهاً ولا العزير ولا مناة ولا هبل، ولا شيء مما يعبد الناس سوى الله، فقولنا: لا إله إلا الله ننفي جميع ما يعتقده الناس من ألوهية زائفة في خلق الله، ونثبت الألوهية لله الإله الحق.

والدعوة للإيمان تبتدئ بأن الله واحد، ولذلك كانت الرسالة في مكة المكرمة لمدة اثني عشر عاماً على أن لا إله إلا الله ولم يؤمر فيها بالشرائع أو التكاليف، بل كانت في تزييف الأصنام والسخرية منها وممن يعبدها ويؤلهها من الأحياء والأموات، ومن هنا كان سفهاء قريش يقولون: إن محمداً شردنا، وشتت جمعنا، وسفه آباءنا وفرق بين أولادنا ونسائنا وعبيدنا، أي: دعاهم إلى الله، وهداهم باسم الله، وزيف لهم ما يعيشون عليه من ضلال وباطل، فجعلوا من انفرد دونهم بالإيمان بلا إله إلا الله قد خرج عنهم وسموه الصابئ.

والتاريخ يعيد نفسه، فهكذا اليوم نسمع أن في المجتمعات والمؤتمرات التي تقام في ديار الفسق والكفر وفي جامعات الفساد والإلحاد، يقومون بنشر الإلحاد ويعتزون به ويجعلون أنفسهم تقدميين ومتجددين وحركيين، ويقولون عنا وعن أمثالنا: إننا رجعيون لأننا دعوناهم إلى الله، ورجعنا بهم إلى الله وإلى رسول الله وإلى الإسلام، ونبهناهم أنهم هم الرجعيون الذين رجعوا إلى عبادة الأوثان التي انتهى وقتها وزمنها، ورجعوا إلى عبادة اليهود والنصارى وعبادة الماثوني والبهائي وغيرهم من المؤلهين زيفاً وباطلاً.

وسيبقى الحق دائماً في أخذ وعطاء، ومن ألهمه الله وشد أزره ووفقه ثبت على التوحيد إلى لقاء الله، ونرجو من الله أن يثبت أقدامنا، وينصرنا عليهم وعلى القوم الكافرين.

وقوله: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110].

الرجاء يكون بالخوف ويكون بالأمل، فمن كان يخاف لقاء ربه يوم القيامة أو يؤمله بأن يغفر ذنبه، ويكشف كربه، ويستر عيبه، فلتكن أعماله أعمال الصالحين المؤمنين، ولا يشرك بعبادة ربه خلقاً من خلقه، لا شركاً خفياً ولا شركاً ظاهراً ولا شركاً قولياً ولا عملياً.

ولله الحمد والشكر أننا قد ختمنا سورة الكهف.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، اللهم إنا نشكرك ونحمدك من خلايا أجسامنا جميعها على ما أكرمتنا به من عافية ومن صحة وإيمان ويقين ودعوة إليك، وعمل على نصر دينك، ومدارسة كتابك.

اللهم أحينا على ذلك، وأمتنا على ذلك، واحشرنا تحت لواء سيد المرسلين، اللهم عليك باليهود والنصارى، شتت اللهم شملهم، خرب ديارهم، أغرق أساطيلهم، اللهم اقتلهم بدداً ولا تبق منهم أحداً، اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وارضنا وارض عنا، وأعز بنا الإسلام والمسلمين، والحمد لله رب العالمين.