شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الغسل وحكم الجنب - حديث 131-135


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

حكم التنشيف بعد الغسل والوضوء

المسألة الخامسة والأخيرة وهي مسألة التنشيف بعد الغسل والوضوء، والتنشيف أيضاً فيه أربعة أقوال بل أكثر من ذلك، لكن نقتصر على أربعة منها:

القول الأول: أن التنشيف مكروه، واستدل القائلون بالكراهة بحديث الباب، وهو قول ميمونة رضي الله عنها: ( ثم أتيته بالمنديل فرده )، وفي لفظ: ( فأتيته بخرقة فلم يردها )، يعني: لم يقبلها ولم يأخذها، فقالوا: رده صلى الله عليه وسلم للمنديل دليل على عدم مشروعية التنشيف بل على كراهته.

واستدلالهم بهذا فيه بعض النظر؛ لأنه قد يكون رده صلى الله عليه وسلم للمنديل -كما يقولون- هذه واقعة محتملة، يحتمل أن يكون رده للمنديل لغرض، ليس لكراهته بل لسبب آخر، وهذا قد يحصل للإنسان.

والدليل الثاني عندهم: ما رواه ابن شاهين في الناسخ والمنسوخ عن أنس قال: ( لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يتنشف بعد الغسل، ولا أبو بكر، ولا عمر، ولا علي، ولا ابن مسعود )، والحديث قال الحافظ في التلخيص: إسناده ضعيف، فلا يحتج به، ما دام الأمر هكذا.

القول الثاني: أن التنشيف مباح، ليس بسنة ولا مكروه؛ وذلك لعدم وجود أدلة قوية صريحة في الاستحباب أو الكراهة، فيبقى على أصل الإباحة كغيره من الأشياء.

القول الثالث: أنه مكروه في الصيف، مباح في الشتاء، ولعلهم ينظرون إلى أن الإنسان يحتاج إليه في الشتاء للبرد، فيكون محتاجاً إلى إزالة الماء عن بدنه وأعضائه.

أما القول الرابع: فهو أن التنشيف مستحب، وهؤلاء الذين قالوا بالاستحباب لهم أدلة عديدة:

منها: حديث الباب، قال بعضهم: إن كونها أتته بالمنديل دليل على أن عادته صلى الله عليه وسلم أنه كان يستعمله، هذا وجه للاستدلال.

كذلك ذكر ابن دقيق العيد وجهاً آخر في الاستدلال بالحديث، وهو: ( وجعل ينفض يديه )، فإن نفض اليدين المقصود منه

إزالة قطرات الماء الموجودة على اليدين، فمعنى ذلك: أنه قد يفهم منه أنه بأي شيء أزال هذا البلل، سواء بالمنشفة، أو بنفض اليدين، أو بما يوجد الآن من بعضهم يضعون آلة عند دورات المياه، يضغطون الزر فتشتغل هذه الآلة وتخرج هواءً حاراً، فيضع يديه أمامها أو بدنه حتى ينشف، فأخذ ابن دقيق العيد وغيره من قوله: ( جعل ينفض يديه ) دليلاً على أنه قد يقال بمشروعية التنشيف وسنيته من ذلك.

الدليل الثاني: هو ما رواه قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما قال: ( أتانا النبي صلى الله عليه وسلم في منزلنا، فأمر أبي له بغسل، فاغتسل صلى الله عليه وسلم، ثم ناوله ملحفة مصبوغة بورس أو زعفران فالتحف النبي صلى الله عليه وسلم بها )، والحديث رواه أبو داود وابن ماجه، والنسائي في عمل اليوم والليلة، وإسناد أبي داود صحيح، فهو دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم هاهنا التحف بهذه الملحفة، ومن الطبيعي أنه إذا التحف بها تنشفت بها أعضاؤه.

الدليل الثالث: ما ورد عن عائشة رضي الله عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له خرقة ينشف بها بعد الوضوء )، والحديث رواه الترمذي وقال: إسناده ليس بذاك القائم، فيه أبو معاذ، وأبو معاذ هذا اختلف في اسمه، قيل: اسمه سليمان بن أرقم كما سماه الترمذي والبيهقي، سليمان بن أرقم وهو ضعيف، يقول الترمذي: ولا يصح فيه شيء، يعني: لا يصح في ثبوت التمندل أو عدمه حديث.

الدليل الرابع: هو ما رواه الترمذي أيضاً عن معاذ رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح بطرف ثوبه )، كأنه تنشف صلى الله عليه وسلم بطرف ثوبه.

والحديث أيضاً كما ذكرت رواه الترمذي وضعفه، وذلك لأن في إسناده رجلين ضعيفين، أما أولهما فـرشدين بن سعد، وأما الثاني فـعبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، وهما يضعفان في الحديث.

والخلاصة: أن هذه أدلة القائلين بالاستحباب، ونخرج من ذلك بعد سرد هذه الأقوال إلى أن الظاهر -والله تعالى أعلم- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يلتزم بالتنشف، وإن حصل منه هذا في مرات، فلا يدل هذا الفعل على استحباب التنشيف مطلقاً، بل لعل القول بأن الأمر في ذلك واسع ومباح أولى، فإن تنشف الإنسان فلا حرج، وإن ترك فلا حرج.

المسألة الخامسة والأخيرة وهي مسألة التنشيف بعد الغسل والوضوء، والتنشيف أيضاً فيه أربعة أقوال بل أكثر من ذلك، لكن نقتصر على أربعة منها:

القول الأول: أن التنشيف مكروه، واستدل القائلون بالكراهة بحديث الباب، وهو قول ميمونة رضي الله عنها: ( ثم أتيته بالمنديل فرده )، وفي لفظ: ( فأتيته بخرقة فلم يردها )، يعني: لم يقبلها ولم يأخذها، فقالوا: رده صلى الله عليه وسلم للمنديل دليل على عدم مشروعية التنشيف بل على كراهته.

واستدلالهم بهذا فيه بعض النظر؛ لأنه قد يكون رده صلى الله عليه وسلم للمنديل -كما يقولون- هذه واقعة محتملة، يحتمل أن يكون رده للمنديل لغرض، ليس لكراهته بل لسبب آخر، وهذا قد يحصل للإنسان.

والدليل الثاني عندهم: ما رواه ابن شاهين في الناسخ والمنسوخ عن أنس قال: ( لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يتنشف بعد الغسل، ولا أبو بكر، ولا عمر، ولا علي، ولا ابن مسعود )، والحديث قال الحافظ في التلخيص: إسناده ضعيف، فلا يحتج به، ما دام الأمر هكذا.

القول الثاني: أن التنشيف مباح، ليس بسنة ولا مكروه؛ وذلك لعدم وجود أدلة قوية صريحة في الاستحباب أو الكراهة، فيبقى على أصل الإباحة كغيره من الأشياء.

القول الثالث: أنه مكروه في الصيف، مباح في الشتاء، ولعلهم ينظرون إلى أن الإنسان يحتاج إليه في الشتاء للبرد، فيكون محتاجاً إلى إزالة الماء عن بدنه وأعضائه.

أما القول الرابع: فهو أن التنشيف مستحب، وهؤلاء الذين قالوا بالاستحباب لهم أدلة عديدة:

منها: حديث الباب، قال بعضهم: إن كونها أتته بالمنديل دليل على أن عادته صلى الله عليه وسلم أنه كان يستعمله، هذا وجه للاستدلال.

كذلك ذكر ابن دقيق العيد وجهاً آخر في الاستدلال بالحديث، وهو: ( وجعل ينفض يديه )، فإن نفض اليدين المقصود منه

إزالة قطرات الماء الموجودة على اليدين، فمعنى ذلك: أنه قد يفهم منه أنه بأي شيء أزال هذا البلل، سواء بالمنشفة، أو بنفض اليدين، أو بما يوجد الآن من بعضهم يضعون آلة عند دورات المياه، يضغطون الزر فتشتغل هذه الآلة وتخرج هواءً حاراً، فيضع يديه أمامها أو بدنه حتى ينشف، فأخذ ابن دقيق العيد وغيره من قوله: ( جعل ينفض يديه ) دليلاً على أنه قد يقال بمشروعية التنشيف وسنيته من ذلك.

الدليل الثاني: هو ما رواه قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما قال: ( أتانا النبي صلى الله عليه وسلم في منزلنا، فأمر أبي له بغسل، فاغتسل صلى الله عليه وسلم، ثم ناوله ملحفة مصبوغة بورس أو زعفران فالتحف النبي صلى الله عليه وسلم بها )، والحديث رواه أبو داود وابن ماجه، والنسائي في عمل اليوم والليلة، وإسناد أبي داود صحيح، فهو دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم هاهنا التحف بهذه الملحفة، ومن الطبيعي أنه إذا التحف بها تنشفت بها أعضاؤه.

الدليل الثالث: ما ورد عن عائشة رضي الله عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له خرقة ينشف بها بعد الوضوء )، والحديث رواه الترمذي وقال: إسناده ليس بذاك القائم، فيه أبو معاذ، وأبو معاذ هذا اختلف في اسمه، قيل: اسمه سليمان بن أرقم كما سماه الترمذي والبيهقي، سليمان بن أرقم وهو ضعيف، يقول الترمذي: ولا يصح فيه شيء، يعني: لا يصح في ثبوت التمندل أو عدمه حديث.

الدليل الرابع: هو ما رواه الترمذي أيضاً عن معاذ رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح بطرف ثوبه )، كأنه تنشف صلى الله عليه وسلم بطرف ثوبه.

والحديث أيضاً كما ذكرت رواه الترمذي وضعفه، وذلك لأن في إسناده رجلين ضعيفين، أما أولهما فـرشدين بن سعد، وأما الثاني فـعبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، وهما يضعفان في الحديث.

والخلاصة: أن هذه أدلة القائلين بالاستحباب، ونخرج من ذلك بعد سرد هذه الأقوال إلى أن الظاهر -والله تعالى أعلم- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يلتزم بالتنشف، وإن حصل منه هذا في مرات، فلا يدل هذا الفعل على استحباب التنشيف مطلقاً، بل لعل القول بأن الأمر في ذلك واسع ومباح أولى، فإن تنشف الإنسان فلا حرج، وإن ترك فلا حرج.

حديث أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: ( يا رسول الله! إني امرأة أشد شعر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة -وفي رواية: والحيضة- قال: لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ).

والحديث رواه مسلم وأصحاب السنن وغيرهم وأبو عوانة.

معاني ألفاظ الحديث

قولها: ( أشد ضفر ) المصنف قال: (شعر رأسي)، والذي في الرواية: (ضفر رأسي)، بفتح الضاد وسكون الفاء، وهو فتل الشعر وجدله، فكانت تشده شداً محكماً، والضفائر هي الغدائر والذوائب والضبائر والعقائص كلها متقاربة المعنى، وهي قرون شعر المرأة؛ إذا جدلت شعرها فجعلته قروناً أو ضفائر أو ضبائر أو غدائر أو ذوائب أو عقائص، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ).

الحثيات: جمع حثية كما سبق وهي الحفنة، ويقال: حثى يحثي حثياً، وحثا يحثو حثواً، لغتان مشهورتان.

حكم نقض المرأة جدائلها عند الغسل الواجب

والحديث فيه مسألة: حكم نقض رأس المرأة في الغسل من الحيض أو الجنابة، إذا أرادت المرأة أن تغتسل هل يجب عليها أن تنقض شعر رأسها -إذا كانت قد جدلته وجعلته قروناً وضفائر- أم لا تحتاج إلى ذلك؟

في المسألة ثلاثة أقوال:

قيل: إنه يجب عليها أن تنقضه في الغسل من الجنابة وفي الغسل من الحيض، وهذا مروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص والنخعي، وهو قول لأصحاب الإمام أحمد، وكأنهم استدلوا بأن الغسل يجب أن يعمم فيه البدن بالماء، وهذه القرون المضفورة لا يصل إليها الماء إلا بحلها.

أما القول الثاني في المسألة فهو نقيض القول الأول، وهو أنه لا يجب على المرأة أن تنقض ضفائر رأسها، لا لغسل الحيض ولا لغسل الجنابة، وهذا مذهب الجمهور من أهل العلم، هو مذهب عائشة رضي الله عنها، وأم سلمة، وعبد الله بن عمر فيما يظهر، كما يدل عليه ما رواه ابن أبي شيبة وابن المنذر وغيرهما عن نافع : ( أن نساء ابن عمر وأمهات أولاده كن يغتسلن فلا يحللن ضفائرهن )، وكذلك هو مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة رحمهم الله جميعاً.

واستدل من يقولون: لا يلزم المرأة أن تنقض شعر رأسها لا لحيض ولا جنابة بأدلة، من أقواها: حديث الباب.. حديث أم سلمة في مسلم أنها قالت: ( إني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة والحيضة؟ قال: لا )، فبين أنه لا يلزمها أن تنقضه لغسل الحيض ولا لغسل الجنابة.

ومن أدلتهم أيضاً: أن هذا الشعر الذي ضفرته المرأة، ورد عن عدد من النساء أنهن سألن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغسل مع كثرة استعمال النساء للضفر، فلم يأمر أحداً منهن بأن تحل قرون رأسها، بل أمرها أن تحثي على رأسها ثلاث حثيات فإذا هي قد طهرت.

والقول الثالث: أنه يجب على المرأة أن تحل قرون رأسها لغسل الحيض لا لغسل الجنابة، فيتسامح في غسل الجنابة ولا يتسامح في غسل الحيض، أما غسل الجنابة فلكثرة الحاجة إليه بخلاف غسل الحيض، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، وحجة أصحاب هذا القول ما سبق في رواية: ( أفأنقضه لغسل الحيض )، فقالوا: أما الجنابة فإنه يجب عليها أن تنقضه لها.

وكذلك احتجوا بما رواه أبو داود وغيره عن ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أما المرأة فلا عليها أن لا تنقض شعر رأسها )، فقالوا: إنه لا يلزمها أن تنقض شعر رأسها في غسل الجنابة، أما في غسل الحيض فيجب، واستدلوا كذلك بما رواه ابن ماجه بإسناد صحيح على شرط مسلم عن عائشة رضي الله عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها وكانت حائضاً: انقضي رأسك واغتسلي ).

وهذا الحديث لعله عمدتهم في الاستدلال، ولذلك يكثر الحنابلة من ذكره؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لـعائشة : ( انقضي رأسك واغتسلي )، فقالوا: أمرها بنقض رأسها لغسل الحيض؛ فدل على وجوبه، ولكن هذا الاستدلال لا يسلم لوجوه:

فأولاً هناك من العلماء من اعتبر هذه الرواية شاذة، وإن كان إسنادها صحيحاً، وهذا رأي الألباني كما في إرواء الغليل، لكن لا يسلم بالشذوذ.

وثانياً: فإن أمر النبي صلى الله عليه وسلم لـعائشة بأن تنقض شعر رأسها لم يكن للحيض، وإنما كان للإحرام؛ لأن هذا كان في الحج، فلما حاضت أمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تنقض شعر رأسها وتغتسل للإحرام، لا للحيض، قال: بسبب الطهر.

وثالثاً: فإن في الصحيحين من حديث عائشة نفسه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (وامتشطي)، ولم يقل أحد بوجوب الامتشاط على المرأة عند طهرها من الحيض، فدل على أن ما قارنه يأخذ حكمه في عدم الوجوب.

ولذلك فإن الحنابلة أنفسهم -وهم القائلون بالتفريق بين غسل الحيض وغسل الجنابة- اختلفوا هل يجب عليها نقضه في غسل الحيض أم يستحب لها، على قولين:

فبعض الحنابلة قالوا: يستحب لها أن تنقضه ولا يجب، قال ابن قدامة في المغني : وهو الصحيح إن شاء الله؛ أنه يستحب لها -يعني حتى عند الحنابلة- ولا يجب عليها، وذكر حديث أم سلمة وهو حديث الباب.

هذه ثلاثة أقوال في المسألة أقواها وأرجحها أنه لا يجب على المرأة أن تنقض شعرها لا لغسل الحيض ولا لغسل الجنابة، بل يكفي أن تفيض الماء على رأسها ثلاث مرات، وتغمس شعرها عند كل مرة وتدلكه دلكاً شديداً حتى يبلغ الماء شئون رأسها.

ولذلك كان هذا المذهب هو مذهب أمهات المؤمنين كـأم سلمة وعائشة، ومن المعروف أن أم سلمة وعائشة وغيرهن من أمهات المؤمنين أولى بالفقه في هذه المسألة من غيرهن، بل في صحيح مسلم عن عبيد بن عمير: (أن عائشة رضي الله عنها بلغها أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يأمر النساء أن ينقضن شعورهن للغسل، فقالت: يا عجباً لـعبد الله بن عمرو يأمر النساء أن ينقضن شعورهن، أفلا يأمرهن أن يحلقن شعورهن؟!) تقول هذا مستنكرة، فكأنها تؤمي رضي الله عنها إلى أن مسألة نقض الشعر لغسل الجنابة أمر شاق، والمرأة خلقت ذات شعر، فيصعب تكليفها بهذا، وقالت: ( لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، فلا أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات ).

وهذا دليل قوي جداً يضاف إلى حديث أم سلمة في أنه لا يجب على المرأة أن تنقض شعر رأسها، لا لغسل المحيض ولا لغسل الجنابة، هذه هي المسألة الظاهرة أو البارزة في حديث أم سلمة رضي الله عنها.

قولها: ( أشد ضفر ) المصنف قال: (شعر رأسي)، والذي في الرواية: (ضفر رأسي)، بفتح الضاد وسكون الفاء، وهو فتل الشعر وجدله، فكانت تشده شداً محكماً، والضفائر هي الغدائر والذوائب والضبائر والعقائص كلها متقاربة المعنى، وهي قرون شعر المرأة؛ إذا جدلت شعرها فجعلته قروناً أو ضفائر أو ضبائر أو غدائر أو ذوائب أو عقائص، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ).

الحثيات: جمع حثية كما سبق وهي الحفنة، ويقال: حثى يحثي حثياً، وحثا يحثو حثواً، لغتان مشهورتان.

والحديث فيه مسألة: حكم نقض رأس المرأة في الغسل من الحيض أو الجنابة، إذا أرادت المرأة أن تغتسل هل يجب عليها أن تنقض شعر رأسها -إذا كانت قد جدلته وجعلته قروناً وضفائر- أم لا تحتاج إلى ذلك؟

في المسألة ثلاثة أقوال:

قيل: إنه يجب عليها أن تنقضه في الغسل من الجنابة وفي الغسل من الحيض، وهذا مروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص والنخعي، وهو قول لأصحاب الإمام أحمد، وكأنهم استدلوا بأن الغسل يجب أن يعمم فيه البدن بالماء، وهذه القرون المضفورة لا يصل إليها الماء إلا بحلها.

أما القول الثاني في المسألة فهو نقيض القول الأول، وهو أنه لا يجب على المرأة أن تنقض ضفائر رأسها، لا لغسل الحيض ولا لغسل الجنابة، وهذا مذهب الجمهور من أهل العلم، هو مذهب عائشة رضي الله عنها، وأم سلمة، وعبد الله بن عمر فيما يظهر، كما يدل عليه ما رواه ابن أبي شيبة وابن المنذر وغيرهما عن نافع : ( أن نساء ابن عمر وأمهات أولاده كن يغتسلن فلا يحللن ضفائرهن )، وكذلك هو مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة رحمهم الله جميعاً.

واستدل من يقولون: لا يلزم المرأة أن تنقض شعر رأسها لا لحيض ولا جنابة بأدلة، من أقواها: حديث الباب.. حديث أم سلمة في مسلم أنها قالت: ( إني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة والحيضة؟ قال: لا )، فبين أنه لا يلزمها أن تنقضه لغسل الحيض ولا لغسل الجنابة.

ومن أدلتهم أيضاً: أن هذا الشعر الذي ضفرته المرأة، ورد عن عدد من النساء أنهن سألن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغسل مع كثرة استعمال النساء للضفر، فلم يأمر أحداً منهن بأن تحل قرون رأسها، بل أمرها أن تحثي على رأسها ثلاث حثيات فإذا هي قد طهرت.

والقول الثالث: أنه يجب على المرأة أن تحل قرون رأسها لغسل الحيض لا لغسل الجنابة، فيتسامح في غسل الجنابة ولا يتسامح في غسل الحيض، أما غسل الجنابة فلكثرة الحاجة إليه بخلاف غسل الحيض، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، وحجة أصحاب هذا القول ما سبق في رواية: ( أفأنقضه لغسل الحيض )، فقالوا: أما الجنابة فإنه يجب عليها أن تنقضه لها.

وكذلك احتجوا بما رواه أبو داود وغيره عن ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أما المرأة فلا عليها أن لا تنقض شعر رأسها )، فقالوا: إنه لا يلزمها أن تنقض شعر رأسها في غسل الجنابة، أما في غسل الحيض فيجب، واستدلوا كذلك بما رواه ابن ماجه بإسناد صحيح على شرط مسلم عن عائشة رضي الله عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها وكانت حائضاً: انقضي رأسك واغتسلي ).

وهذا الحديث لعله عمدتهم في الاستدلال، ولذلك يكثر الحنابلة من ذكره؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لـعائشة : ( انقضي رأسك واغتسلي )، فقالوا: أمرها بنقض رأسها لغسل الحيض؛ فدل على وجوبه، ولكن هذا الاستدلال لا يسلم لوجوه:

فأولاً هناك من العلماء من اعتبر هذه الرواية شاذة، وإن كان إسنادها صحيحاً، وهذا رأي الألباني كما في إرواء الغليل، لكن لا يسلم بالشذوذ.

وثانياً: فإن أمر النبي صلى الله عليه وسلم لـعائشة بأن تنقض شعر رأسها لم يكن للحيض، وإنما كان للإحرام؛ لأن هذا كان في الحج، فلما حاضت أمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تنقض شعر رأسها وتغتسل للإحرام، لا للحيض، قال: بسبب الطهر.

وثالثاً: فإن في الصحيحين من حديث عائشة نفسه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (وامتشطي)، ولم يقل أحد بوجوب الامتشاط على المرأة عند طهرها من الحيض، فدل على أن ما قارنه يأخذ حكمه في عدم الوجوب.

ولذلك فإن الحنابلة أنفسهم -وهم القائلون بالتفريق بين غسل الحيض وغسل الجنابة- اختلفوا هل يجب عليها نقضه في غسل الحيض أم يستحب لها، على قولين:

فبعض الحنابلة قالوا: يستحب لها أن تنقضه ولا يجب، قال ابن قدامة في المغني : وهو الصحيح إن شاء الله؛ أنه يستحب لها -يعني حتى عند الحنابلة- ولا يجب عليها، وذكر حديث أم سلمة وهو حديث الباب.

هذه ثلاثة أقوال في المسألة أقواها وأرجحها أنه لا يجب على المرأة أن تنقض شعرها لا لغسل الحيض ولا لغسل الجنابة، بل يكفي أن تفيض الماء على رأسها ثلاث مرات، وتغمس شعرها عند كل مرة وتدلكه دلكاً شديداً حتى يبلغ الماء شئون رأسها.

ولذلك كان هذا المذهب هو مذهب أمهات المؤمنين كـأم سلمة وعائشة، ومن المعروف أن أم سلمة وعائشة وغيرهن من أمهات المؤمنين أولى بالفقه في هذه المسألة من غيرهن، بل في صحيح مسلم عن عبيد بن عمير: (أن عائشة رضي الله عنها بلغها أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يأمر النساء أن ينقضن شعورهن للغسل، فقالت: يا عجباً لـعبد الله بن عمرو يأمر النساء أن ينقضن شعورهن، أفلا يأمرهن أن يحلقن شعورهن؟!) تقول هذا مستنكرة، فكأنها تؤمي رضي الله عنها إلى أن مسألة نقض الشعر لغسل الجنابة أمر شاق، والمرأة خلقت ذات شعر، فيصعب تكليفها بهذا، وقالت: ( لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، فلا أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات ).

وهذا دليل قوي جداً يضاف إلى حديث أم سلمة في أنه لا يجب على المرأة أن تنقض شعر رأسها، لا لغسل المحيض ولا لغسل الجنابة، هذه هي المسألة الظاهرة أو البارزة في حديث أم سلمة رضي الله عنها.