أرشيف المقالات

معالم منهجية في التعامل مع الناس بواقعية

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
معالم منهجية في التعامل مع الناس بواقعية
 
المقدمة:
بسم الله والحمد لله، أما بعد:
فهذه معالم شرعية منهجية يستحضرها المرء في التعامل مع عموم الناس تعاملًا وسطًا بعيدًا عن المثالية، أو الإفراط أو التفريط، والله أسأل السداد والتوفيق.
 
المعلم الأول:
لا يوجد إنسان معصوم من الخطأ، ومن خلال هذا المعلم لا تتعامل مع الناس بمثالية، بل كما قال صلى الله عليه وسلم: « كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ »؛ رواه ابن ماجه.
 
وكما قيل:
(لا تتخذ لك أخًا بشرط ألا يخطئ، وإذا أخطأ أخوك مرة، فأنهيت ما بينك وبينه، فكأن شرطك في أخوته ألا يخطئ، فلن تجد لك أخًا إذًا، وأنت أيضًا لا تصلح للأخوة بهذا الشرط؛ ﻷنك لست معصومًا كما أن غيرك غير معصوم)؛ من كتاب "الأخلاق الفاضلة" للرحيلي (ص ٦٨).
 
المعلم الثاني:
بقاء الأخوة الإيمانية، ومقتضى هذا المعلم أن الأخوة الإيمانية من المحبة والنصرة لا تنتفي إلا بانتفاء الإيمان بالكلية، ولا تنتفي بالبدعة والمعصية.
 
ويقول في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: على المؤمن أن يعادي في الله ويوالي في الله، فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه وإن ظلمه، فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية؛ قال تعالى: ﴿ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ﴾ [الحجرات:٩].
 
فجعلهم إخوة مع وجود القتال والبغي، وأمر بالإصلاح بينهم، فليتدبر المؤمن أن المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك، فإن الله سبحانه بعث الرسل، وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله، فيكون الحب لأوليائه والبغض لأعدائه، والإكرام والثواب لأوليائه والإهانة والعقاب لأعدائه.
 
وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وفجور وطاعة، ومعصية وسنة وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة كاللص تقطع يده لسرقته، ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته، هذا هو الأصل الذي اتَّفق عليه أهل السنة والجماعة، وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم؛ "مجموع الفتاوى" (28/ 208 - 209).
 
♦ فالذي يجمع العبد المسلم بأخيه آصار كثيرة؛ منها الإيمان بالله وكلمة التوحيد، وشهادة أن محمدًا رسول الله، والإيمان باليوم الآخر وغيرها.
 
المعلم الثالث:
النظر إلى الناس نظرة تفاؤل لا نظرة يأس؛ لأن اليأس يقعدك عن العمل والنصح، فيزيد بذلك الشر والتفاؤل يبعثك على العمل فيزيد بذلك الخير؛ ففي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: « كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ الْفَأْلُ الْحَسَنُ »؛ رواه أحمد وابن ماجه.
 
المعلم الرابع:
أن تعلم أن النقص في جوانب من الخير في الناس لا يعني انعدام الخير في جوانب أخرى؛ ففي الحديث عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ اسْمُهُ عَبْدَاللَّهِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا، فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَلْعَنُوهُ، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ أَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)؛ رواه البخاري.
 
♦ مع أن شرب الخمر من كبائر الذنوب وهي أم الخبائث، وقد استحق الجلد على شربها، ولكن هذا لم ينفِ عن الرجل الخير، وأنه يحب الله ورسوله.
 
المعلم الخامس:
النظر إلى الخير في الناس وإلى الخير الراجح في كثير من الجوانب، من الأخوة الإيمانية والإيمان ومحبة الله ورسوله، وغير ذلك؛ قال الإمام عبدالله بن المبارك رحمه الله تعالى: إذا غلَبَتْ مَحاسن الرَّجُل على مساوئه، لم تُذكر المساوئ، وإذا غلبت المساوئ على المحاسن، لم تذكر المحاسن؛ "سير أعلام النبلاء" (6 / 499).
 
وكما قيل:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد *** جاءت محاسنه بألف شفيع
 
المعلم السادس:
التعامل مع أخطاء الناس بإيجابية؛ ففي الحديث عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، قَالَ: (جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي طَائِفَةِ الْمَسْجِدِ، فَزَجَرَهُ النَّاسُ، فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ فَأُهْرِيقَ عَلَيْهِ)؛ رواه البخاري.
 
♦ وقد فهِم العلماء من هذا الحديث أن جعل الأعرابي يكمل بوله هو أقل مفسدة، وذلك أن قطعه قد يضره وينجس ثيابه ونفسه، وينجس من المسجد أكثر.
 
المعلم السابع:
النظر إلى الناس بعين الشرع وعين القدر، وفي ذلك يقول العلامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
ينبغي لنا أيها الإخوة أن ننظر إلى أهل المعاصي بعينين:
♦ عين الشرع، وعين القدر، عين الشرع؛ أي: لا تأخذنا في الله لومة لائم؛ كما قال تعالى عن الزانية والزاني: ﴿ فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ﴾ [النور: 2].
 
♦ وننظر إليهم بعين القدر، فنرحمهم ونرق لهم ونعاملهم بما نراه أقرب إلى حصول المقصود، وزوال المكروه، وهذا من آثار طالب العلم بخلاف الجاهل الذي عنده غيرة، لكن ليس عنده علم، فطالب العلم الداعية إلى الله يجب أن يستعمل الحكمة؛ مجموع الفتاوى والرسائل (90،89/26).
 
الخاتمة:
هذه المعالم تجعل العبد والداعية إلى الله تعالى يتعامل مع الناس بواقعية وإيجابية، لا بمثالية تجعله ينحو نحو اعتزال الناس وتركهم أو مواجهتهم بغير الحكمة والموعظة الحسنة، فالحمد الله على فضله وإحسانه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣