خطب ومحاضرات
قاعدة الجزاء والحساب
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد:
فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال فيما يريه عن ربه تبارك وتعالى: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئاً إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها؛ فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) .
هذا حديث عظيم يخاطب فيه رب العزة تبارك وتعالى عباده ويعلمهم ويفقههم، ويخبرهم أنه حرم الظلم على نفسه، فلا يظلم رب العزة أحداً؛ ومن أجل ذلك أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ومن أجل ذلك تقوم القيامة حتى يأخذ الظالمون جزاءهم، ويأخذ العادلون المؤمنون الأتقياء جزاءهم.
لقد جعل الله عليك ملائكة تسجل صالح أعمالك وطالحها، ويجعل ذلك في كتاب، ثم يوم القيامة تنصب الموازين القسط فتوزن الأعمال، ويوزن البشر، فمن رجحت موازينه فهو من أهل الخير، من خفت موازينه فأمه هواية إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [النساء:40]، يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لقمان:16] .
لقد حرم الله تبارك وتعالى الظلم على نفسه وجعله بين العباد محرماً؛ فحرم أن يظلم الإنسان أخاه، وذلك كأن يقع في عرضه، أو يتكلم في أمره بغير حق، أو يجلد ظهره، أو يأخذ ماله، أو يعتدي على حرماته أو يغتابه.. كل ذلك حرام، والظلم كما في الحديث الصحيح: (ظلمات يوم القيامة) وفي الحديث أيضاً: (ومن كان لأخيه عنده مظلمة فليتحلله منها قبل أن يأتي يوم لا دينار ولا درهم إنما هي الحسنات والسيئات)، فالذي ظلمته يأخذ من حسناتك حتى إذا فنيت الحسنات جيء بسيئاتهم فوضع فوق ظهرك. (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً)، لا يفرح الظالمون، ولا يظنوا أنهم قد فازوا عندما داسوا على رقاب الناس وأخذوا أموالهم فبجرة قلم منهم تسفك الدماء وتنتهك الحرمات، وتخرب البيوت، ويظنون أنهم سادة الدنيا، فماذا فعل فرعون؟ ماذا فعل هامان ؟ ماذا فعل نمرود؟ ذهبوا، وبقيت ذكراهم الخبيثة، وبقيت أعمالهم النتنة تحيط بهم، وعند الله تجتمع الخصوم، يجتمع الناس فيحشر المتكبرون المتجبرون أذلاء فقراء، يتمنون أنهم لم يظلموا، بل لم يخلقوا. (إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)، أي: لا يظلم بعضكم بعضاً، وفي الحديث: (واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)، ويقول الله لها: (لأنصرنك ولو بعد حين).
قال الله تعالى: (يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم).
الهداية بيد الله، والرزق بيد الله، هو الذي يرزق العباد ويطعمهم ويسقيهم ويكسوهم، خلق الماء، والأرض، والبذر، والشجر، والحيوان، فإذا منع ذلك كله، فمن أين تأكل؟ ومن أين تشرب؟ ومن أين تُكسى؟ قال الله تبارك وتعالى: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء:78-82] .
فهذا هو ربكم تبارك وتعالى فاسألوه وحده، فبيده الهداية والرزق، وبيده الموت والحياة، والعباد عبيد مربوبون مقهورون، وأمرهم بيد الله تبارك وتعالى، وأمر الله فيهم ماض، فالخلق والأمر لله تبارك وتعالى، والرزق منه تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15] (أنتم الفقراء إلى الله) تأتون ضعفاء، وتذهبون ضعفاء، وتعيشون ضعفاء، وإن كانت خزائنكم ملأى بالمال لكنكم ضعفاء.
فالغني الذي لا يفتقر أبداً هو الحي القيوم الذي لا تنتهي حياته، ولا ينتهي وجوده، (أنتم الفقراء إلى الله) تحتاجون إلى هدايته ورزقه وعونه وتأييده وتوفيقه، فعليه فتوكلوا، وإليه فاجأروا، ووحده فاسألوا.
(يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً)، إن الله تبارك وتعالى لا تضره معصية العاصي، ولا تنفعه طاعة الطائع، فهو لم يخلقنا لحاجة لنا، فهو غني عنا وعن أعمالنا. (إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني)، إنما تنفع نفسك فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ [يونس:108]، وإنما تضر نفسك وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا [يونس:108]، وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ [العنكبوت:6].
عندما تقدم الأضحية: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج:37]، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58] أي: لا يريد منك رزقاً، فالله هو الذي يرزقك وهو الذي يطعمك، فهو غني عنك.
إن البشر جميعاً لو كانوا في التقى والصلاح كمحمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه لم يزد هذا في ملك الله شيئاً، ولو كانوا كلهم كإبليس في الشر والفجور ما ضر ذلك الله شيئاً ولا انتقص من ملك الله شيئاً.
وعندما يسأل العباد ربهم لا ينقص من ملكه شيء مهما أعطى ومنح وبذل؛ لأن غناه غناء أبدى، فلا ينقص من ملكه شيئاً.
(يا عبادي! لو أن أولكم) منذ إبليس إلى آخر رجل: (وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسأل كل إنسان مسألته)، سأل الدنيا بمراتبها.. بآلاتها.. بما عليها، فأعطى الله كل إنسان ما يريد (ما نقص من ملكي إلا كما ينقص المخيط) أرأيت هذه الإبرة عندما تدخلها في البحر، ماذا تأخذ من البحر؟ لا شيء، وكذلك ملك الله لا ينقصه شيء، وخزائن الله ملأى، ولذلك أقل أهل الجنة يتمنى ويتمنى ويتمنى فيقول الله: (يكفيك قدر ملك الدنيا، يقول: ربي رضيت). هذا أقلهم ملكاً في الجنة.
أما أعلاهم فالله أعلم بملكه، ويبقى في الجنة فضل لا يسكنه أحد، فيخلق الله تبارك وتعالى له خلقاً.. إن ملك الله واسع، وخزائن الله ملأى، لا تنقص ولا تقل، فلو سأل العباد ربهم فأعطى كل إنسان سؤله لظل ملك الله كما هو لم ينقص منه شيئاً. (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها) إنما الحساب على الأعمال، فأعمالك ترفعك أو تخفضك، والقول من العمل، قال معاذ : (يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا
إن السيئة بمثلها، والحسنة بعشر أمثالها إلى سبعين ضعفاً إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وهذه هي قاعدة الجزاء والحساب التي يحاسب عليها العباد عندما يجمع الله الأولين والآخرين في يوم الدين، فليعد كل امرئ عدته لمثل ذلك اليوم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد عبد الله ورسوله.
أما بعد:
فهذه معان عظيمة جاء بها الحديث الكريم، فحري بالمسلم أن يتذكرها دائماً، وأن تكون على باله، فإن لها تأثيراً في صلاح قلبه وفكره وعمله، فتجعله دائماً يتفكر فيما بين يديه، فالناس يعيشون في غفلة، وقد تمضي الأيام والشهور والسنون، ثم يأتي الموت فيجد الإنسان نفسه قد قصر كثيرا، وأنه كان في دنياه غافلاً.
فعلى المسلم أن يتذكر هذا الحديث فلا يظلم الناس، ويلجأ إلى الله تبارك وتعالى في كل أموره، فيطلب منه الهداية والسداد والرشاد، وعليه أن يعلم أن رزقه عند علام الغيوب ليس عند البشر، ولا في خزائن البشر، فلو شاء الله لك لقمة لا يمنعها كبار الطواغيت من أن تصل إليك، فإن الله أعظم من كل عظيم، إذا ما شاء الله لك في أمر ولم يرده عبد كسر رقبته، وأنهى وجوده، فأمر الله ماض، وأمر الله مفعول، وقدره مقدور وكائن لا بد منه، فعلى الإنسان أن يعلق قلبه بربه: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ [الذاريات:22-23]
فعلى المسلم أن يعبد الله تبارك وتعالى حباً ورغبة ورهبة ورجاءً وتوكلاً واعتماداً، فالأمر كله بيد الله تبارك وتعالى، فنحن نعبد الله حباً في الله عز وجل، فالله لا تنفعه طاعتنا، ولا تضره معصيتنا، فهو تبارك وتعالى غني عنا وعن أعمالنا، وإذا شاء إذهابنا أذهبنا، وإن يشأ يأت بغيرنا فهو على كل شيء قدير.
أعمالكم هي زراعة اليوم وحصاد الغد، أنتم اليوم تزرعون وغداً تحصدون، فإذا زرعت حنظلاً فستجني حنظلاً مراً، وإذا زرعت شجراً ذا شوك، أتتوقع أن ينتج عنباً وتفاحاً وبرتقالاً؟ كلا، بل ما تزرعه تجنيه، فإذا زرع الإنسان ظلماً.. وفجوراً.. وفساداً فسيجني في ذلك اليوم ما زرع.
(إنما هي أعمالكم أحصيها لكم) غداً تقطف الثمرة، فإذا كانت الأعمال التي عملتها سيئة فلا تتوقع أن تجد خيراً، ولكن التوبة والاستغفار والإنابة إلى الله عز وجل هي التي تطهر العباد من ذنوبهم.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وكفر عنا سيئاتنا، وألهمنا رشدنا، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات؛ إنك قريب مجيب سميع الدعوات.
استمع المزيد من الدكتور عمر الأشقر - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
النجاة من الفتن | 2407 استماع |
كيف تستعيد الأمة مكانتها | 2297 استماع |
فتاوى عن الجماعات الإسلامية والجهاد | 2286 استماع |
أضواء العمل الإسلامي | 2212 استماع |
اليوم الآخر | 2189 استماع |
إخلاص النية | 2160 استماع |
الانحراف عن المسيرة الإسلامية | 2159 استماع |
مع آيات في كتاب الله | 2139 استماع |
أسباب الجريمة وعلاجها | 2122 استماع |
قيمة الاهتمام في زيادة الإيمان | 2103 استماع |