حياة البرزخ


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

إن الإيمان باليوم الآخر مفرق طريق يبن المسلم والكافر، بين المؤمنين والكفار، وعلامة المسلم: أنه ينظر في كل أعماله وأقواله وتصرفاته إلى ذلك اليوم، فهو يريد بعمله أن يتقرب إلى الله عز وجل، أن ينال رحمة الله سبحانه وتعالى، أن ينال جنة الله عز وجل، فهو يمتنع عن كل محرم وكل منهي عنه؛ خوفاً من الله عز وجل وخوفاً من ناره وعذابه، لذلك وصف الله المؤمنين بأنهم يريدون رحمته ويخافون عذابه.

لشدة تأثير الإيمان باليوم الآخر في نفس المسلم وصف الله سبحانه وتعالى هذا اليوم وصفاً دقيقاً، وفصله رسوله الكريم صلوات الله وسلامه عليه تفصيلاً بيناً، حتى كأنما المؤمن ينظر من خلال كتاب الله ومن خلال كلام الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ذلك اليوم، بل كأنه يعيش فيه، ولذلك فإن هذا اليوم حي في نفس المؤمن، دائماً يتراءى له عند منامه وقيامه، وهو يعيش بين الناس منفرداً وحده، بل جعل الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يبكي منفرداً خائفاً من الله سبحانه وتعالى ومن غضب الله عز وجل أحد الأصناف الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، حيث قال: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) وقال: (عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين حرست في سبيل الله).

والكفار والفجار والمجرمون لا يريدون أن يستقيموا على منهج؛ لأنهم يرون في هذا المنهج تقييداً لفكرهم وأعمالهم، ويرون في ذلك ضياعاً للمتع والشهوات التي يظنون أن فيها خيراً وسعادة، ولذلك فهم يكفرون بهذا اليوم، ومن قبل كان الذين بعث إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم يستبعدون هذا اليوم لقضية أشكلت عليهم، وهذه القضية لا تزال تراود كثيراً من الناس، وهي: كيف يعود الإنسان حياً سميعاً بصيراً متحركاً بعد أن وضع في التراب وتقطعت أجزاؤه وأصبح لحمه رماداً؟ كيف يبعث مرة أخرى بعد أن تبلى عظامه؟!

هذه قضية أشكلت على عقول الناس، وقد ناقشها القرآن كثيراً، وكثير من الناس يؤمن بوجود الله ويصدق بوجوده، وأنه خالق الكون والإنسان، ولكنه لا يصدق بأن هناك بعثاً بعد الموت، فما السر في ذلك؟!

يقولون: أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [السجدة:10]، تقول العرب: ضل الملح في الطعام إذا غاب فيه، يعني: فني فيه، فإذا غبنا في الأرض، وأصبحنا جزءاً من هذه الأرض، فبليت عظامنا ولحومنا، وأصبحنا من هذه الأرض، وتحولنا إلى تراب، أبعد ذلك يكون هناك خلق جديد؟!

قال تعالى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس:78] (جاء كافر من أهل مكة بعظم بال متفتت، وسحقه في يده، ثم نفثه في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد! أتزعم أن الله يحيي العظام بعد أن أصبحت رميماً؟ قال: نعم، يميتك الله، ثم يحييك، ثم يدخلك النار)، وأنزل الله قوله جل وعلا: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ [يس:78-80].

هذه الشبهة احتاجت إلى بيان وإيضاح ونحن بحاجة إلى أن نتبينها كي نرد على الذين ارتابت قلوبهم وتشككوا في هذا اليوم نتيجة لهذا الشبهة.

الملحدون ليس لنا كلام معهم، الملحدون الذين لا يصدقون بوجود الله قضيتنا معهم قضية إثبات وجود الله سبحانه وتعالى، إنما الكلام مع غالب البشرية الذين يصدقون بوجود الله ولكنهم يشركون بالله أو يستبعدون قدرة الله على أن يعيد الأجساد مرة أخرى، فهؤلاء ناقشهم الله سبحانه وتعالى بعدة أنواع من الأدلة.

فمن ذلك هذه الآية التي يذكرهم الله سبحانه وتعالى بدليلهم أنفسهم قال تعالى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ الذي يقول بهذه المقالة ويريد الدليل على أن من قدرة الله أن يجمع الناس ويحييهم مرة أخرى، فذات هذا السائل دليل على البعث، فالذي أنشأه من عدم قادر على أن يعيده، وكلنا عندما يحسب عمره ثم يقدم على أول عمره سنة أو سنتان، يعلم أنه كان عدماً، كما قال الله جل وعلا: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [الإنسان:1] أي: قد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً، سواء آدم قبل أن يخلق كان عدماً، أو كل واحد منا قبل أن يخلق في بطن أمه كان عدماً.

فأنت -أيها السائل- دليل على قدرة الله سبحانه وتعالى على البعث والنشور، والذي أنشأ هذا الإنسان من عدم بعد أن لم يكن موجوداً هو الذي سيعيده، قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم:27] قد استقر في فطرة الناس أن الإعادة أسهل من البداءة، فالذي صنع شيئاً يسهل عليه أن يعيده أو يعيد مثله، فهنا يقول: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس:78-79]، فإذا كان الله سبحانه وتعالى أنشأ الناس من العدم، فهذا الخلق السوي بهذه الحواس المتكاملة، وبهذا القلب النابض، وبهذا الفكر الواعي، وبهذه الأحاسيس والمشاعر؛ كيف وجدت؟ أوجدها السميع العليم البصير الخبير القوي القاهر القادر.

فالله عندما يقول: أنا سأحييكم مرة أخرى بعد بعثكم، ليس في ذلك غرابة، فمن صنع أول مرة فهو قادر على أن يعيد الإنسان مرة أخرى.

من الأدلة على البعث قوله: (يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ...)

قال جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ [الحج:5]، فهذا هو الخلق الأول خلق آدم عليه السلام، خلقه من تراب، والتراب جماد لا حياة فيه، ثم صار التراب طيناً، ثم صار الطين صلصالاً كما في آية أخرى: مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر:26]، وقال: مِنْ طِينٍ لازِبٍ [الصافات:11].

شكله الله سبحانه وتعالى بيديه إذ قال لإبليس: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]، ثم نفخ فيه من روحه، فدبت فيه الحياة، فأصبح حياً سميعاً بصيراً متكلماً، وقبل ذلك كان عدماً، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ [الحج:5] فالذي حول التراب إلى حياة قادر على أن يعيد ذرات الإنسان بعد أن تضل في الأرض، فالأمر أمره، والقول قوله، والحكم حكمه، ونحن لا نقيس قدرات الله على قدراتنا، لأن الخطأ من هنا جاء، الإنسان لا يستطيع أن يفعل ذلك، لكن هذه قدرتي وقدرتك وقدرة البشر، أما قدرة الله فغير ذلك، أمر الله إذا شاء شيئاً فإنما يقول له: كن، فيكون.

قال الله: فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ هذا هو الخلق الأول، ثم بعد ذلك تسلسل البشر.

أيضاً حواء خلقت من آدم من ضلعه، وهذه معجزة أخرى، جزء من حي خلق منه امرأة، وبقية الناس تسلسلوا من ذكر وأنثى إلا عيسى فإنه خلق من أنثى بلا ذكر.

قال الله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً [الحج:5].

وهذا دليل آخر: فالأرض اليابسة الجامدة لا حياة فيها، ولا نبات فيها، نمر بها وهي قاحلة جرداء، تمر عليها الرياح فتثير غبارها، وتعصف برمالها وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [الحج:5] عندما تمطر عليها السماء إذا بها تتشقق وتخرج نباتاً صغيراً يكبر وينمو، ويزهر ويعطي، ويكون بهجة للناظرين، أين كانت هذه الحياة؟ كانت الأرض ميتة وما فيها ميت، فعندما جاء المطر أحياها فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج:5].

تعقيب الله على هاتين الآيتين: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى [الحج:6] أي: الذي ابتدأ خلق الإنسان وكونه من عدم بعد أن لم يكن موجوداً، وأحيا الأرض بعد موتها قادر على أن يحيي الموتى وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الحج:6]، فقدرة الله لا يعجزها شيء، قدرته في البداية ثم في الإعادة وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ [الحج:7].

(وأن الساعة آتية) قادمة لا شك، (وأن الله يبعث من في القبور) الذي أحيا الأرض بعد موتها، والذي خلق الإنسان من عدم سيحييه مرة أخرى، ذلك قوله، وذلك وعده سبحانه وتعالى.

وقدرة الله نشاهدها في الحياة، ونشاهدها أمامنا في كل ثانية في هذا الوجود، يأتي إلى الدنيا بحياة جديدة، بل أحياء، بل عشرات وألوف وملايين الأحياء إذا عددنا الطيور والحيوانات عدا الإنسان، كل حياة تخفق من جديد إنما هي معجزة لا يستطيع أحد أن يدعي أنه الذي أوجدها وصنعها، فالله سبحانه وتعالى الصانع وهو الموجد، وهذا الصانع الموجد سبحانه وتعالى سيعيد الناس ويحييهم مرة أخرى.

من الأدلة على البعث خلق السماوات والأرض

ولقد لفت القرآن نظرنا إلى أن في هذا الكون مخلوقات هي أعظم من خلق الإنسان، قال تعالى: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر:57].

اليوم يحدثنا العلم عن شيء مما علمه عن هذا الكون، أرضه وسمائه، وأبعاد نجومه، وتعداد نجومه، عندما يقف الإنسان على شيء من ذلك يأخذه العجب كل مأخذ لعظم خلق السماوات والأرض، وما فيها من إعجاز وقدرات، قال الله: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [غافر:57] إلا أن الناس لا يعلمون، غالبية الناس لا يعلمون، غافلون ساهون لاهون، فالذي خلق العظيم قادر على أن يخلق ما هو أهون منه، وما هو أصغر منه.

من الأدلة على البعث إحياء الموتى في الدنيا

لقد أرى الله سبحانه وتعالى في بعض العصور بعض الناس معجزة إحياء الموتى في الدنيا قبل الآخرة، أرى ذلك الرجل الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها فقال: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:259].

استبعد هذا الرجل أن يحيي الله تلك القرية بعد موتها فأماته وأحياه، ويقول المفسرون -الله أعلم بصدق ذلك-: إن الله أول ما أحيا رأسه وعينيه؛ لينظر إلى جسده وهو يتكون، وبعد أن أحياه أحيا حماره أمام ناظريه، أراه كيف ينشز العظام ويكونها، وتتجمع ذراتها البالية، ثم كساها باللحم والجلد والشعر، ثم بعث في ذلك الحمار الحياة، فقام يجري ويمشي قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .

مات مائة سنة فبليت عظامه وعظام حماره، ولتمام الإعجاز بقي طعامه وشرابه لم يفسد (وانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه) الطعام والشراب الذي يفسد في ساعتين.. في يومين.. في ثلاثة أيام بقي مائة سنة لم يفسد، والإنسان والحمار الذي يتأخر فساده نوعاً ما بلي وتلاشى.

وهذا إبراهيم عليه السلام قال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ [البقرة:260] خذ أربعة من الطيور وقطعهن، وانثر أشلاء هذه الطيور على جبال مختلفة، واجعل رءوس الطيور في يدك.

ثُمَّ ادْعُهُنَّ ناد بهن، إن الله يأمركن أن تجتمعن، فهذه الأشلاء المتناثرة التي لا حياة فيها إذا بها تأتي من تلك الأماكن المختلفة، وكل جزء من أجزائها يأتي في مكانه الذي جعله الله فيه، فلا تأتي الرجل مكان الجناح، ولا الجناح مكان الرجل، كل شيء يأتي في مكانه وتلتئم بقدرة الله سبحانه وتعالى.

قال تعالى: ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:260] فالله سبحانه وتعالى أوحى لهذه الأجزاء أن تطيع إبراهيم فأطاعته، وجاءت والتأمت، وتركها فانطلقت محلقة في أجواء الفضاء.

وأرى بني إسرائيل قدرته عندما قتلوا نفساً واختلفوا فيها، قال تعالى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة:72] فصل الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة كيف جاءوا لموسى وطلبوا منه أن يبين لهم القاتل، فقال لهم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] واستفصلوا وتعنتوا في الأسئلة إلى أن ذبحوها، قال تعالى: فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة:71] فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا [البقرة:73] أي: خذوا جزءاً من هذه البقرة فاضربوا به الميت كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [البقرة:73].

وشاهد بنو إسرائيل هذه الآية، ميت لا حياة فيه قد مات منذ أيام، يضرب بجزء من البقرة فيحييه الله سبحانه وتعالى، وكما أحياه الله عز وجل يحيي الموتى، لذلك قال: كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى أي: مثل هذا الإحياء يحيي الله الموتى.

وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ : فهذه آية دالة على البعث والنشور، ولكن مع ذلك قست قلوبهم بعد ذلك ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة:74].

وقال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ [البقرة:243].

وعيسى كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى، يمر على صاحب القبر فيقول له: قم بإذن الله، فيحدثونه ويسألونه ويشافهونه.

وأصحاب الكهف مكثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعاً، ثم قاموا بإذن الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [الكهف:19] وهم قد لبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين بالشمسية، وازدادوا تسع سنين بالقمرية.

فهذه الدلائل المنظورة التي تشاهدها بعض الأجيال دون بعض تكشف الشبهة وتميطها عمن يستبعد أن يعيد الله سبحانه وتعالى الناس بعد أن ماتوا.. بعد أن فنوا.. بعد أن اختلطت عظامهم ولحومهم بالتراب.

فالقدرة هي قدرة الله سبحانه وتعالى التي أوجدته في البداية، وهي قادرة على أن توجدهم مرة أخرى، كما أخبر الله سبحانه وتعالى أن ما من أحد أنشأه وخلقه إلا وسيأتيه يوم القيامة عبداً، سيأتيه وحيداً كما أنشأه وكما بدأه قال تعالى: لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم:94-95].

قال جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ [الحج:5]، فهذا هو الخلق الأول خلق آدم عليه السلام، خلقه من تراب، والتراب جماد لا حياة فيه، ثم صار التراب طيناً، ثم صار الطين صلصالاً كما في آية أخرى: مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر:26]، وقال: مِنْ طِينٍ لازِبٍ [الصافات:11].

شكله الله سبحانه وتعالى بيديه إذ قال لإبليس: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]، ثم نفخ فيه من روحه، فدبت فيه الحياة، فأصبح حياً سميعاً بصيراً متكلماً، وقبل ذلك كان عدماً، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ [الحج:5] فالذي حول التراب إلى حياة قادر على أن يعيد ذرات الإنسان بعد أن تضل في الأرض، فالأمر أمره، والقول قوله، والحكم حكمه، ونحن لا نقيس قدرات الله على قدراتنا، لأن الخطأ من هنا جاء، الإنسان لا يستطيع أن يفعل ذلك، لكن هذه قدرتي وقدرتك وقدرة البشر، أما قدرة الله فغير ذلك، أمر الله إذا شاء شيئاً فإنما يقول له: كن، فيكون.

قال الله: فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ هذا هو الخلق الأول، ثم بعد ذلك تسلسل البشر.

أيضاً حواء خلقت من آدم من ضلعه، وهذه معجزة أخرى، جزء من حي خلق منه امرأة، وبقية الناس تسلسلوا من ذكر وأنثى إلا عيسى فإنه خلق من أنثى بلا ذكر.

قال الله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً [الحج:5].

وهذا دليل آخر: فالأرض اليابسة الجامدة لا حياة فيها، ولا نبات فيها، نمر بها وهي قاحلة جرداء، تمر عليها الرياح فتثير غبارها، وتعصف برمالها وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [الحج:5] عندما تمطر عليها السماء إذا بها تتشقق وتخرج نباتاً صغيراً يكبر وينمو، ويزهر ويعطي، ويكون بهجة للناظرين، أين كانت هذه الحياة؟ كانت الأرض ميتة وما فيها ميت، فعندما جاء المطر أحياها فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج:5].

تعقيب الله على هاتين الآيتين: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى [الحج:6] أي: الذي ابتدأ خلق الإنسان وكونه من عدم بعد أن لم يكن موجوداً، وأحيا الأرض بعد موتها قادر على أن يحيي الموتى وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الحج:6]، فقدرة الله لا يعجزها شيء، قدرته في البداية ثم في الإعادة وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ [الحج:7].

(وأن الساعة آتية) قادمة لا شك، (وأن الله يبعث من في القبور) الذي أحيا الأرض بعد موتها، والذي خلق الإنسان من عدم سيحييه مرة أخرى، ذلك قوله، وذلك وعده سبحانه وتعالى.

وقدرة الله نشاهدها في الحياة، ونشاهدها أمامنا في كل ثانية في هذا الوجود، يأتي إلى الدنيا بحياة جديدة، بل أحياء، بل عشرات وألوف وملايين الأحياء إذا عددنا الطيور والحيوانات عدا الإنسان، كل حياة تخفق من جديد إنما هي معجزة لا يستطيع أحد أن يدعي أنه الذي أوجدها وصنعها، فالله سبحانه وتعالى الصانع وهو الموجد، وهذا الصانع الموجد سبحانه وتعالى سيعيد الناس ويحييهم مرة أخرى.




استمع المزيد من الدكتور عمر الأشقر - عنوان الحلقة اسٌتمع
النجاة من الفتن 2405 استماع
كيف تستعيد الأمة مكانتها 2295 استماع
فتاوى عن الجماعات الإسلامية والجهاد 2267 استماع
أضواء العمل الإسلامي 2189 استماع
اليوم الآخر 2184 استماع
الانحراف عن المسيرة الإسلامية 2156 استماع
إخلاص النية 2152 استماع
مع آيات في كتاب الله 2137 استماع
أسباب الجريمة وعلاجها 2121 استماع
قيمة الاهتمام في زيادة الإيمان 2100 استماع