العقيدة الصحيحة وما يضادها من العقائد الفاسدة


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا؛ من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:

فما انتدبت إلى الحديث في أي موضوع من الموضوعات إلا وأحسست أن من حق الذين ينتدبونني ويستمعون إلي أن أعطي الموضوع حقه، فأنا أعلم كم من الوقت والجهد يبذله الذين يحضرون لمثل هذه المؤتمرات والمحاضرات، وأعلم أن وقت الذين يحضرون هذه المحاضرات ثمين، فالوقت هو الحياة، وقد ازداد إحساسي بثقل المسئولية في هذا الموضوع الذي سأحاضر فيه، لأنه من أخطر الموضوعات، فالعقيدة هي الأساس التي تقوم عليها الأديان والمذاهب والمبادئ، وقد قيل قديماً: إن الإنسان أسير أفكاره ومعتقداته، ولا زالت عقائد البشر هي التي تسيرهم، ومن خلالها ينظرون إلى الوجود والحياة والمجتمعات الإنسانية، وعلى أساسها يصيغون الأنظمة والقوانين ويضعون القواعد والقيم والموازين، ولم يزل المستبدون والطغاة يتلاعبون بعقائد الناس ليتيسر لهم السيطرة عليهم.

وقد كتبت في موضوع العقيدة عدة مؤلفات، إلا أن خطورة الموضوع الذي أتناوله فرضتْ علي أن أعود إلى التفصيل فيه مرة أخرى، ونعود للنظر في التراث العقائدي من مصادره، ولقد نظرت في هذا التراث بنظرتين: نظرة في التراث الإنساني، ونظرة في التراث الإسلامي، وقد عشت مع المؤلفات التي تعرضت للعقيدة في هذين التراثين وقتاً ليس بالقصير، ولقد رأيت وأنا أجول بنظري وفكري في كتب التراث وكأني رجل يقف فوق قمة جبل على شاطئ بحر لجي مخيف، فكنت أتساءل وأنا أنظر في عقائد أهل الملل والنحل في القديم والحديث: كيف نشأت وتفرعت! ثم كيف تلاشت وفنيت! وأتخيل أنني ذلك الرجل الذي يشاهد أمواج البحر فإذا هي لا تحصى كثرة، فتنشأ ثم تتلاشى، وتتعارض وتتصادم، وهي في ذلك كله لا تتوقف لحظة، ثم يحدث أن البحر قد يهدأ في بعض الأحيان فتكون الأمواج هادئة، وقد يثور فإذا بالأمواج كالجبال.

إنني لا أبالغ في الوصف، ومن طالع ما كتبه الكاتبون في تاريخ العقائد، وما كتبوه في تاريخ الفكر الإنساني، وما كتبوه في الملل والنحل يعلم صدق ما أقوله.

لكثرة المذاهب والعقائد والنحل والفرق فإن الفكر الإنساني لا يدري أين يسير؟ وماذا يأخذ؟ وماذا يدع؟ فالعقيدة لا تقوم كما نعلم على الحيرة والتردد، بل إن العقيدة تحتاج إلى اليقين الصادق الذي يقوم على الأدلة والبراهين التي لا تجد النفس لها مدفعاً، والتي تأثر في النفوس وتخضع لها العقول، والفكر الإنساني لا يستطيع أن ينقل لنا من خلال هذا الركام الهائل من التصورات والأفكار والعقائد التي يموج بها تاريخ الإنسان وواقعه أصولاً توقفه على اليقين المنافي للشك، وأنى يصل الإنسان إلى اليقين والقضايا التي يريد أن يصل فيها إلى اليقين لا يدخل كثير منها في المجال الذي يجوز للعقل الإنساني النظر فيه؟!

إن الروح التي تسري في نفس الإنسان هي أقرب الأشياء إليه؛ لأنها نفسه، ومع ذلك فإن الإنسان يشتد جهله بها كلما زاد بحثه فيها، فالروح ليست من جنس الأشياء المشهودة التي يمكن للعقل الإنساني البحث فيها، والروح ليس لها وزن ولا لون ولا حجم، ولا تدخل تحت المقاييس الإنسانية، فأنى للعقل أن يعرف كنهها وحقيقتها؟! قال الله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85]، فهذا شأن الإنسان في الروح التي تسري في كيانه، وهي سر حياته، فما بالكم بالبحث العقلي المجرد عن خالق الوجود؟! والعوالم التي لا نراها ولا نشاهدها، والتي سيصير إليها الإنسان بعد الموت، كالبرزخ واليوم الآخر، فالإنسان لا يمكن أن يصل في أمرها إلى قرار، ولا يمكن أن يصل إلى حقيقة أمرها، ولا يمكن أن يقف الإنسان فيها على أرض صلبة، وسيبقى طيلة عمره يعيش حائراً متردداً.

ولذا نجد الفلسفي يجتهد في معرفة الحقائق التي يمكن أن يقيم حياته عليها، والتي يمكن أن تفسر له وجوده، وترسم له مساره في الحياة، وغايته التي يسعى إليها، وتوضح له علاقته بالقوة التي أوجدته، وأوجدت الكون؛ فلا يصل إلى معرفة ذلك بعقله المجرد، فيعيش في شقاء، ويظن في بعض الأحيان أنه بلغ الغاية، وشارف على المقصد، وأوشك أن يصل، ولكنه يستدرك ما توصل إليه، ويعلم أنه وهم من الأوهام، ويفاجأ بالأجل وقد أدركه، فينظر فلا يجد أنه قد حقق في رحلته ما كان يصبو إليه.

إنني لا أريد أن أحدثكم عن المرارة والأسى التي كانت تخيم على الذين لم يعرفوا هدي السماء من الفلاسفة والمفكرين، ولكني أحدثكم عن الذين ينتسبون إلى الإسلام، ولكنهم انحرفوا في مسارهم شيئاً ما، فلما شارفت شمس العمر على المغيب ناحوا على أنفسهم، وأعلنوا للناس من حولهم أنهم لم يصلوا إلى اليقين الذي جروا وراءه طويلاً.

فهذا الإمام الرازي أحد هؤلاء الذين يعلن في نهاية المطاف أنه لم يصل إلى شيء، لابتعاده عن المنهج القرآني النبوي، ولجريانه وراء نتائج العقول الإنسانية، فكانت النتيجة أنه لم تقده هذه الأفكار والنظريات والمقالات إلى اليقين الذي يجده الناهل من وحي السماء، ولقد أدرك في نهاية المسار أن روحه لم ترتو من المنهل الذي ورده، وأن الغاية التي سعى إليها لم يحققها، وأن ما اعتمد عليه وجمعه إنما هي أقوال تتصارع وتتضارب.

إنني كلما قرأت أبياته التي أوردها في كتابه: (أقسام اللذات) أشم منها رائحة النواح الحزين الصاعد من قلب محزون مكلوم؛ إنه النواح على النفس:

نهاية إقدام العقول عقال

وأكثر سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشة من أجسادنا

وغاية دنيانا أذىً ووبال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا

سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

ثم يقول: لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أن أقرب الطرق هو طريق القرآن، فأقرأ في الإثبات: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر:10]، وأقرأ في النفي: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:110]، ثم يختم حديثه قائلاً: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.

ويصور لنا عبد الكريم الشهرستاني -وهو العلم الذي لا يشق له غبار في علمه بالملل والنحل- تخبط أصحاب الكلام في علوم العقائد في مقدمة كتابه: (نهاية الإقدام في علم الكلام) فقال:

لعمري! لقد طفت المعاهد كلها

وسيرت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلا واضعاً كف حائر

على ذقن أو قارعاً سن نادم

وهذا الجويني الذي كان يدعى بـإمام الحرمين ، وهو من هو في علم الكلام والجدال والبحث والنظر، لما حضره الموت نظر في مساره في الحياة، ونظر في حصيلته التي حصلها، فإذا به يبكي بكاء الثكلى، لإضاعته الكثير من عمره في مسار لم يوصله إلى الشاطئ، فلقد كان يخوض في بحر خضم من الأفكار والعقائد والموازين، لا يقر قلب من خاضها على قرار، واسمع إليه وهو يوصي أصحابه وهو يعالج سكرات الموت فيقول: لقد خضت البحر الخضم، وتركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في العلم الذي نهينا عنه، والآن إن لم يتداركني الله برحمته فالويل لي، وهأنذا أموت على عقيدة أمي.

وهذا عالم آخر من علماء الكلام يفتش عن حصيلة العمر، وهو على فراش الموت، فلا يجد عنده من الحق شيئاً، فيقول لمن حوله: اشهدوا علي أني أموت وما عرفت إلا أن الممكن مفتقر إلى واجب، ثم قال: والافتقار أمر عدم، فلم أعرف شيئاً!

إن الله العليم القدير الحكيم الذي خلقنا، هو أعلم بنا من أنفسنا، ويعلم أننا بحاجة إلى معرفته؛ لأنه خالقنا ويعلم أن نفوسنا لا يمكن أن يقر لها قرار ما لم تعرف من خلقها وفطرها، وتعرف الطريق الموصل إليه، والعقل الإنساني الذي وهبه الله لنا لا يمكن أن يصل بنفسه إلى خالقه وإلهه، ولا يعلم كيف يعبده لذا فقد تكفل الله لأبينا آدم عليه السلام عندما أهبطه إلى الأرض أن يمد ذريته من بعده بالنور والهدى الذي يعرفهم بربهم وبالحقائق الكبرى التي لا بد لهم منها، وتكفل لمن اتبع نوره وهداه بالخلاص من الضلال الذي يعيش فيه البشر، والنجاة من الشقاء الذي تتردى فيه القلوب والنفوس، وتوعد الرافضين لوحيه وهداه بالحياة الضنكة الدنسة الشقية في الدنيا، ثم في الآخرة بالعذاب الأكبر، فقال سبحانه: قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه:123-127].

لقد بقيت البشرية على التوحيد بعد أن هبط آدم إلى الأرض وتكاثرت ذريته، وكان الناس أمة واحدة، ولكن البشر ضلوا في إلههم ومعبودهم فعبدوا من دونه أولياء، فاتخذوا وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً، وكانوا يدعونهم ويستغيثون بهم، فأرسل الله لهم أول رسله وهو نوح، فأنذرهم ودعاهم إلى عبادة الله وحده، وترك ما يعبد من دونه، فآمن له قليل، واستكبر منهم الكثير فأهلكهم الله تعالى.

وكثير من الأمم عبر تاريخ البشرية عبدوا الأصنام، ولهم في ذلك فلسفات وضلالات، فبعضهم كان يزعم أن هذه الآلهة تتلبس بها الأرواح، وبعضهم ليس له حجة إلا أن الآباء كانوا يمجدونها ويقدسونها.

والصابئة الذين كانوا يسكنون في أول أمرهم في وسط العراق، ثم سكنوا شماله يدعون أن الله خلق الأفلاك والكواكب، ووكل إليها تدبير أمر العالم من الخير والشر والصحة والمرض؛ ولذا فإنه يجب على البشر تعظيمها وعبادتها، ومنهم من كان يزعم أن الكواكب التي في الفلك هي ملائكة، وبنوا لهذه الكواكب بيوتاً لعبادتها، وجعلوا فيها الهياكل، وقد جادلهم إبراهيم عليه السلام فيما يعبدونه من أصنام، كما ناقشهم في عبادة الشمس والقمر والنجوم، قال الله: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ * قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [الأنبياء:51-56].

وفي موضع آخر يقول تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء:69-82].

وفي بلاد الهند عبد الناس الأشجار والأحجار والثعابين والفئران، وقال فلاسفتهم بوحدة الوجود، وعندهم الديانة البرهمية التي تزعم أن طبقة البراهمة خلقوا من رأس الإله برهمان ، وطبقة الجن خلقوا من منكبيه وذراعيه، والزراع والتجار والعمال من فخذيه، والأرقاء من قدميه، ومنعوا ارتفاع الإنسان إلى طبقة فوق طبقته، وقال فلاسفتهم أيضاً بالتناسخ، أي: أن فروح الإنسان بعد الموت قد تحل في ابنه أو أخته أو أخيه أو إنسان آخر أو في خنزير أو كلب، ولهم في ذلك فلسفات يضيق الوقت عن ذكرها.

وأله الناس البشر وعبدوهم من دون الله، وزعموا أن الآلهة تحل في بعض البشر، أو أن بعض الملوك من نفس الآلهة، فملوك المصريين القدامى كانوا ينصبون أنفسهم آلهة، وتقدم لهم الهدايا والقرابين ويعبدون في المعابد، وقد قال فرعون لأهل مصر: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، وقال لهم: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38].

وهناك ديانات كثيرة، ومن أقدمها عبادة زرادشت في القرن السابع قبل الميلاد، وقد ادعوا أنه إله، وعقدوا حوله الأساطير.

ثم جاء مان بعد ميلاده بأكثر من مائتي عام، وقال بقدم النور والظلمة فهما إلهان، وادعى مان أن الجسد سجن للروح، ولا بد من تخليص الروح من سجنها بإبادة الجنس البشري، وهذه فلسفته! فما كان من الملك وقد سمع بدعواه إلا أن أمر الجلاد بقطع رأسه ليخلص روحه من سجنها.

وجاء مزدك في فارس بالشيوعية، فلا ملكية ولا زواج، بل تباح النساء والأموال من غير ضابط، ونادى بإلغاء القوانين بحجة أنها تحول بين الإنسان وما يشتهي، وقال بألوهية النور والظلام، وكانت النيران لا تخبو من معابد الفرس، وكانوا يسجدون لها.

برز على مر العصور فلاسفة كثيرون بهروا الناس بسعة علمهم، وبقدراتهم العقلية الرائعة، ولكنهم لم يستطيعوا أن يتخلصوا من البيئات الوثنية التي كانوا يعيشون فيها، ولم يستطيعوا أن يضيئوا الطريق للبشرية، ومن أبرز الفلاسفة: أفلاطون الذي قال بوجود أرباب من دون الله، وقد أراد بنظريته الشركية هذه أن يعلل ما هو موجود في العالم من شر ونقص وألم، فالخير عنده كله من العقل المطلق، والعدل كله من الهيولي -مادة الخلق- والوجود عنده طبقتان متقابلتان، فالعقل المطلق هو الخالق للخير، وبين العقل المطلق والهيولي -مخلوقات هذه المواد- كائنات على درجات تعلو بمقدار ما تأخذ من العقل المطلق، وتسفل بمقدار ما تأخذ من الهيولي، وهذه الكائنات المتوسطة بعضها أرباب، وبعضها أنصاف أرباب، وبعضها نفوس بشرية، وقال أيضاً بتناسخ الأرواح. وادعى كثير من الفلاسفة أن العالم قديم أزلي، فلم يحصل البشر على الهدى والنور من الفلاسفة.

إن الضلال في تاريخ البشرية كثير ومتشابك تشابك الطرق في صحراء ليس لها حدود، وهو ضلال متداخل ملتوٍ معوج، وقد استمر الوحي السماوي يواكب البشرية والحياة الإنسانية وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر:24]، والرسل الذين أرسلهم الله أوصلوا صوت الحق إلى جميع الأمم، ولكن البشر في كل العصور يرفضون الاستجابة للرسل، فنجدهم يقفون منهم موقف المعاند المكابر، ويكذبونهم ويتمردون على وحي السماء، وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103]، ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا [المؤمنون:44] أي: متتابعة كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ [المؤمنون:44].

فلقد كان موسى من أعظم الرسل الذين أرسلهم الله إلى بني إسرائيل، وأنزل عليه شريعة التوراة، ولم يستطع كثير من بني إسرائيل أن يرتفعوا إلى مصاف المؤمنين، ولم يطيقوا إظهار الحقيقة بعيداً عن الخرافات والضلال والأوهام، فأنجاهم الله من فرعون، فما كادت تخرج أقدامهم من البحر الذي شقه الله لهم حتى جاءوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، فقالوا لنبيهم: اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138] أي: اجعل لنا صنماً نعبده.

ونسبوا إلى الأنبياء الكبائر والفواحش، وأضاعوا العقيدة الصافية التي هي سمة العقيدة الإلهية التي تصل الناس بربهم، وكتب علماؤهم التلمود، وقد سبقوا بتلمودهم أهل الشرك والوثنية، فلقد صوروا الله تبارك وتعالى في تلمودهم إنساناً يلطم ويبكي ويستغفر ويذنب ويكفر عن ذنبه.

وقد حدثنا الله عن تلاعب بني إسرائيل بالتوراة، فقال: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ [البقرة:79]، وقال: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:78].

ثم جاء عيسى بن مريم بالإنجيل فيه هدى ونور يدعو إلى عبادة الله وحده، والكفر بما يعبد من دونه، ولكن النصارى اختلفوا من بعده، ولم يمض وقت طويل حتى اختلفوا في كتابهم، فعدت الأناجيل فإذا هي تزيد على السبعين في ذلك الوقت!

واختلفوا في طبيعة المسيح، فمنهم من قال: هو عبد الله ورسوله، ومنهم من قال: هو الله أو ابن الله، ثم اختلفوا فمن قائل يقول: له طبيعتان: طبيعة إلهية وطبيعة بشرية، وبينهما وحدة، ومن قائل يقول: إن له طبيعة واحدة وهي الإلوهية، وتجسده في الصورة البشرية لا ينافي ألوهيته.

وقد عقد قسطنطين الذي تنصر مجمعاً في عام 325 للميلاد قرر فيه ألوهية عيسى، وعلى الرغم أن الذين قالوا بألوهية المسيح كانوا قلة إلا أنهم هم الذين غلبوا؛ لأن الحاكم يريد هذا، وكفروا من لا يقول بذلك. وفي عام 381م اجتمع المجمع القسطنطيني الأول وقرر ألوهية روح القدس، ولعن الذين لا يقولون بألوهيته، وصارت الألوهية عند النصارى في ثلاثة أقانيم متداخلة: الأب والابن وروح القدس، وما مقالتهم هذه إلا مباهاة لقول الذين كفروا من قبل، فألهوا البشر والمخلوقات وعبدوها من دون الله.

قبيل البعثة النبوية المحمدية لم يبق في فجاج الأرض من نور الوحي إلا شموع قاتمة وباهتة لا يكاد الناس يعرفون في ضوئها معالم الطريق، ولا تصلح لهدايتهم إلى الحق الخالص من الشوائب، وكان العالم كله كذلك، ولا سيما الجزيرة العربية التي انتشرت فيها عبادة الأصنام والأوثان، وكانت العرب تعبدها لتقربهم إلى الله زلفى، فجاء رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم بالنور المبين، والصراط المستقيم، والحق الأبلج، وفتح الله به العيون العمياء، والآذان الصماء، وأنار به القلوب، وأظهر الله به الحق، وعرف الناس بربهم، وأقام العباد على الحنيفية ملة إبراهيم، وبين للناس ما اختلفوا فيه، وبين الضلال الذي وقع فيه اليهود، وقال كلمة الحق في عيسى.

ثم توفي الرسول صلى الله عليه وسلم فحفظ الله كتابه الذي أنزله، وهيأ صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم فجمعوا الكتاب في المصاحف، ونشروه في الآفاق وجمعوا عليه الأمة، وحفظوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وورثوها لمن جاء بعدهم، وبلغوا دعوة الله للعالمين، ونشروا هذا الدين، ولم يجد عدوهم إليهم سبيلاً.

حدثت الفتنة في عهد الصحابة، وانقسمت الأمة إلى قسمين، وعلى الرغم من الشمل، واجتمع أمر الأمة على رجل منها، إلا أن الخلاف لم ينته، وعلى الرغم أن الخلاف ابتدأ سياسياً إلا أن الأطراف المتنازعة أوصلت الخلاف إلى هذا الدين، فوجدت العقائد الكفرية والفلسفات الضالة -التي كانت سائدة قبل الإسلام- باباً تدخل منه إلى المسلمين حال تفرقهم واختلافهم.

فلقد غلا بعض الناس الذين يريدون إضلال العباد في علي بن أبي طالب ، وجعلوه أحق بالنبوة من الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنهم من زعم فيه الألوهية، واتخذوا هذا باباً لهدم الإسلام وسب الصحابة ومعاداتهم، وانقسم هؤلاء إلى فرق كثيرة، بعضها قريبة من الحق وبعضها بعيدة، وبعضها بين ذلك، وأصبح لكل فرقة أصولها وعقائدها ومناهجها.

وسخط آخرون على علي بن أبي طالب ، ومعاوية ومن معهما فكفروهم، ونسبوا فعلهم هذا إلى الدين، فقالوا: كل من ارتكب كبيرة فهو كافر، واستباحوا دماء مخالفيهم وأموالهم ونساءهم، فقاتلهم الصحابة، وهؤلاء هم الذين عرفوا في التاريخ باسم الخوارج، ولهم عقائد ومناهج، ولا تزال أفكارهم تثور بين الفينة والفينة، وفي نهاية عهد الصحابة خرج قوم يزعمون ألا قدر، وأن الأمر أنف، فقام لهم من بقي من الصحابة، ودحضوا مقالتهم، وأبطلوا شبهتهم.

ثم بدأت المقالات الضالة المتلقاة من تلامذة اليهود والمشركين وضلال الصابئة تنتشر في أوساط المسلمين، ومن أوائل من عرف عنه ذلك الجهم بن صفوان ، فقد أخذ مقالته عن الجعد بن درهم ، وهذا أخذ مقالته -كما يقول ابن تيمية - عن أبان بن سمعان ، وأخذها هذا عن طالوت ابن أخت لبيد الأعصم اليهودي ، وهذا أخذها عن لبيد بن الأعصم .

وكان الجعد بن درهم من أرض حران، وحران موطن الصابئة، وفيها بعض فلاسفتهم، وقد ذكر الإمام أحمد أن الجهم أخذ مقالته أيضاً من بعض فلاسفة الهند.

والجهم كان صاحب ضلالة تنسب إليه، وأتباعه يسمون بالجهمية، وهم ينفون صفات الرب وأسمائه، وشيخه الجعد بن درهم الذي زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، وأعمل في النصوص التي لا توافق رأيه مقاييس التأويل الذي يصل إلى درجة التحريف.

ثم لما دخلت الفلسفات الرومية واليونانية في أوائل المائة الثانية زاد البلاء، وكثرت التيارات العقائدية والفكرية، وغزت عقول طوائف من المسلمين، مثل واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد ، ونشأت فرق مختلفة، ومن أشهرها المعتزلة الذي ابتدأ أمرها واصل بن عطاء، ويزعم المعتزلة أنهم يريدون أن يدافعوا عن الدين ضد الملحدين والنصارى والفلاسفة، ولكنهم لم ينجحوا في ذلك، بل تبنوا نظريات وآراء أحدثت فرقة بين المسلمين، وتبنى بعض الخلفاء العباسيين وجهة نظرهم، فابتلي المسلمون في عصور هؤلاء الخلفاء الذين تبنوا الاعتزال، وقام علماء المعتزلة -الذين يسميهم المستشرقون اليوم برجال الفكر والأحرار- بالحجر على فكر المخالفين، وتكفير من لم يتبنَ أصولهم، وقد زعموا أن التوحيد يقتضي نفي الصفات، خشية الوقوع في التشبيه، وقالوا: لا يكون التوحيد إلا إذا نفينا صفات الخالق، وزعموا بناء على ذلك أن القرآن ليس بكلام الله.

وهذه الفتنة حدثت في عهد المأمون والخلفاء الذين من بعده، وقد وقف في وجههم الإمام أحمد كما هو معروف.

كما زعموا أن العدل يقتضي أن العبد هو خالق فعله، وأن الله ليس الخالق لأفعال العباد، وقالوا: إن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر في الدنيا، بل هو في منزلة بين المنزلتين، وفي الآخرة هو كافر مخلد في النار، وقد وقف في وجههم العلماء الأجلاء، ولكن المعتزلة تركوا لنا تراثاً ضخماً ليشرحوا أصولهم ونظرياتهم، ومن أوسعها كتاب: (المغني) للقاضي عبد الجبار المعتزلي ، وكتاب: (شرح الأصول الخمسة) للقاضي عبد الجبار أيضاً، وهما مطبوعان.

ولقد انخفضت المعتزلة في عهد الخليفة العباسي المتوكل ، ولكنهم صبغوا الفكر الإسلامي بكثير من نظرياتهم ومعتقداتهم، ومن الذين هدموا مذهب المعتزلة بعض الذين نشئوا على الفكر المعتزلي، أمثال: أبي الحسن الأشعري المتوفى في سنة 324هـ، وقد بقي معتزلياً أربعين عاماً، ثم رجع إلى مذهب السلف، وعلى الرغم من أن أبا الحسن الأشعري اقترب إلى مذهب السلف إلى حد كبير إلا أنه لم يتخلص من أساليب المعتزلة وقواعدهم العقلية ومصطلحاتهم، وهذه الطريقة تؤدي بصاحبها إلى نتائج مخالفة لعقائد الأوائل مهما ادعى أصحابها أنهم يسيرون على نهج السلف.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد فقبل المعتزلة والأشاعرة وبعدهم نشأت فرق كثيرة كالمرجئة والماتريدية والكلابية وغيرها.

وكل فرقة من هذه الفرق لها بعض المعتقدات التي تخالف بها غيرها، ووراء كل معتقد من هذه المعتقدات فلسفات وتأويلات، وكل الفرق المخالفة لمنهج السلف غالت في تقدير العقل، وقدمت حكمه على حكم الشرع، واستعملت الموازين والمقاييس العقلية في محاكمة القضايا الغيبية، وابتعدت هذه الفرق عن الكتاب والسنة بنسب متفاوتة، ولجأت كثير من هذه الفرق إلى تأويل النصوص التي لا توافق آراءها ومعتقداتها، وقد غاب عن كثير من هذه الفرق كثير من حقائق الإسلام.

وقد اختلف علماء الكلام في الصفات الإلهية، وفي الصلة بينها وبين ذات الله، وفي إمكان رؤية الله تبارك وتعالى في الدنيا والآخرة، وفي مسألة العدل والجور، والقضاء والقدر، ولم يغادروا مسألة كبيرة أو صغيرة إلا واختلفوا فيها اختلافاً كثيراً أو قليلاً، وقد جعل المتكلمون صفات الله كما لو كانت صفات الإنسان!

ونحن اليوم ورثنا عن المدارس الفكرية والعقائدية شيئاً كثيراً من الأفكار والمعتقدات، ووجدتْ في أيامنا هذه معتقدات جديدة في الشرق والغرب، وقد غزت ديارنا وعقولنا ومناهجنا فماذا نفعل؟ وكيف نتصرف؟

لقد كان من فضل الله علينا أن حفظ لنا قرآننا وسنة نبينا، فلم يحدث لنا كما حدث للأمم من قبلنا الذين ضلوا بعد أن ضاعت أو حرفت كتبهم، وكان من فضل الله علينا أيضاً أن أبقى معالم الحق واضحة في هذا الدين في معتقداته وشرائعه، وهدى في كل زمن طائفة التزمت بالحق وأظهرته، وقد قال المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)، وقد تمثلت هذه الطائفة في سلف هذه الأمة، من الصحابة والتابعين ومن اتبعهم من العلماء الذين ساروا على دربهم واهتدوا بهديهم، أمثال الأئمة الأربعة وغيرهم، كـأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل ، والليث بن سعد وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة والبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم كثير.

وحال سلفنا الصالح وأقوالهم وعقيدتهم كل ذلك مدون، وطريقهم ليس فيه خفاء، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة)، وعندما سئل عن الفرقة الناجية المنصورة قال: (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي).

ومنهج هذه الفرقة الناجية المنصورة هو المنهج الإيماني القرآني النبوي، ويقابل هذا المنهج السلفي المنهج الكلامي، والمنهج الفلسفي الصوفي، فالمنهج الإيماني القرآني يقابله منهجان: منهج الفلاسفة المتكلمين، ومنهج الصوفية. ويختلف المنهج القرآني النبوي عن المنهج الفلسفي في مصادره ومنابعه، وفي طريقه وسبيله، وفي قوة تأثيره وسيطرته، وفي الأسلوب وطريقة الاستدلال، وفي الغاية التي يرمي إليها.

وقد حارب أئمة السلف الاتجاه الفلسفي الكلامي والصوفي الذي يريد أن يأخذ الأمة بعيداً عن المنهج الإيماني القرآني النبوي، فحارب هذا الاتجاه الإمام الشافعي، والإمام أحمد، والإمام ابن خزيمة ، والإمام البخاري وغيرهم من أئمة الهدى.

وفي كل عصر يظهر الله من العلماء والأئمة من يظهر هذا النهج القويم الذي يحيي النفوس ويهدي للتي هي أقوم، ومن أعظم الذين قيضهم الله لنصرة هذا المنهج شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقد كان ذا عقل ثاقب وفكر راجح، وقد أحاط بأحوال العلماء، ووفق للصواب، ونفع الله به البلاد والعباد، وتتلمذ على يديه علماء أعلام، كـابن القيم وابن كثير .

ومن العلماء الذين هدوا للمنهج الإيماني القرآني النبوي في العصور الأخيرة: الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي ظهر في القرن الثاني عشر الهجري في وسط نجد، فحارب الشرك والباطل ونصر الحق، وقام بنشر كتب العلم الأصيلة، ومنهم محمد بن إسماعيل الصنعاني المعروف بالأمير الكحلاني صاحب سبل السلام، ومنهم العلامة الشوكاني صاحب نيل الأوطار، وهما من علماء اليمن الأخيار.

وقد ورثنا عن أصحاب المنهج الإيماني القرآني النبوي كثيراً من الكتب التي توضح معتقد أهل السنة والجماعة، وتحارب المنهج الفلسفي الكلامي، وتبين معايبه، ومن خير هذه الكتب: العقيدة الطحاوية، ومؤلفها هو: أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي المصري الحنفي، المتوفى في سنة 321هـ، وقد شرحها شرحاً قيماً رائعاً صدر الدين علي بن محمد بن أبي العز الحنفي .

واليوم والأمة الإسلامية تحاول أن تنهض من كبوتها، وتقوم من عثارها، تتلفت إلى الماضي لتبني نهضتها على أساس من عقيدتها وتراثها.

يجب أن يعلم أولو الرأي والمفكرون أن تراثنا فيه الغث والسمين، وفيه الخير والشر، وفيه الهدى والضلال، وأن تراثنا يمثل تراث المدارس المختلفة، وكثير من هذه المدارس لم تكن على المنهج الواضح، ولذلك فإن السبيل لنهضة صادقة هو: أن نعود إلى المنهج القرآني النبوي الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، وهو واضح المعالم، وكتبه ظاهرة بينة ليس بها خفاء، وإنني ألفت نظر رجال الفكر إلى خطورة ما يقوم به المستشرقون، وبعض الذين غرر بهم من أبناء المسلمين من إحياء الفكر المعتزلي الكلامي هنا وهناك، وتهديد الناشئة من أبناء المسلمين به، وهناك فريق آخر يحاول أن يحيي الفكر الفلسفي الذي ينادي بوحدة الوجود، والمتمثل في كتب ابن عربي، والحلاج، وابن الفارض، وابن سبعين وغيرهم.

إن المنهج الفلسفي الكلامي والمنهج الفلسفي الصوفي لم يستطع كلاهما أن يقيم الأمة من عثارها، بل كان من نتيجة منهجهم البلاء الذي أصاب الفكر الإسلامي، وحدوث شرخ هائل في هذا الفكر، وقد أحدث علماء الكلام في الماضي من الخلاف والفرقة والانقسام ما يكفي بعضه لهجر هذا المنهج، وقد أقعد المنهج الصوفي المسلمين عن الجهاد ومحاربة الشرك، وكان من أسباب الضياع الذي أصاب المسلمين، ولم يفلح المنهجان في إصلاح حال الأمة، ولم يستطيع أحدهما أن يصد هجمات الخصوم الفكرية والعقائدية، فحري بهما ألا يستطيعا إصلاح حال الأمة في الحاضر، وألا يستطيعا مواجهة العقائد التي يموج بها القرن العشرين في شرق العالم وغربه.

إن الذي يحارب المنهج الإيماني القرآني النبوي الذي يتمثل في المنهج السلفي هو أحد رجلين: إما جاهل بهذا المنهج لا يعلم حقيقته، وإما عدو حاقد لا يريد بالأمة خيراً، وبعض هذين الصنفين لجأ إلى تحريف المنهج الخير إذ بدأ يكتب في المنهج ليحرفه ويفسده، وظهرت كتب ظاهرها أنها كتب سلفية، والحقيقة أن فيها انحرافاً وعودة إلى المنهج الاعتزالي، ولكن باطل هؤلاء لا يروج على من عرف المنهج والسبيل.

وفي الختام أقول كما قال إمام دار الهجرة أنس بن مالك : لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وأقول كما قال الله تبارك وتعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108].

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.