قيمة الجهاد


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى ذم بني إسرائيل في محكم كتابه أنهم كانوا يؤثرون هذه الحياة الدنيا ويحرصون عليها أشد الحرص فقال تعالى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا [البقرة:96]، فكان أحدهم يود أن يعمر العمر الطويل، وألّا يفارق هذه الدنيا، وألا يأتيه الموت، وقد أصاب هذه الأمة ما أصاب بني إسرائيل من قبل فخسرت كثيراً.

ومن أراد أن يعلم نهاية الحياة فليذهب إلى القبور، وليعلم أن مصيره هناك، فليذهب يوماً ما وليقف على قبور الذين أفضوا إلى ربهم، وليعلم أن مصيره سيكون مثلهم، وأن الموت سيأتيه، وأنه سيلاقي ربه شاء أم أبى، فالأمر ليس إليه.

لقد جئنا إلى الحياة وليس لنا إرادة، وسنفارق هذه الحياة وليس لنا اختيار، فنحن نجيء بقدر الله سبحانه وتعالى، ونمضي بقدر الله عز وجل، وليس لنا إرادة في المجيء، وليس لنا إرادة في الذهاب فكل ذلك بأمر الله سبحانه وتعالى.

فمحمد صلوات الله وسلامه عليه المصطفى المختار جاءه الموت، ونزعت روحه من بين جنبيه، ودفنه أصحابه في التراب وأفضى إلى ربه، فمن أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فالكل ماض على الدرب.

إنها حقيقة نتناساها ونتجاهلها، لكنها عندما تستقر في نفس المؤمن الحية عند ذلك يصنع كما صنع المسلمون، فعندما أيقنوا بهذه الحقيقة قلبوا معادلات كثيرة في هذه الحياة وفي الصراع بين الحق والباطل.

فعندما واجه زعماء الكفر والشرك جيوش الإسلام بأعدادها القليلة، والتي قد تصل إلى بضع ألوف مقابل عشرات الألوف ومئات الألوف في المعارك الكبرى التي جرت بين المسلمين وبين أعدائهم؛ كان المسلمون دائماً قلة، وكان أعداؤهم يواجهونهم بالحشود الضخمة والجموع الهائلة ويقولون لهم: ماذا تستطيعون أن تفعلوا بهذه الأعداد القليلة؟ ولكنهم بهذه الحقيقة غيروا معادلات ضخمة.

فكان يقول قائلهم في المفاوضات التي تجري: جئناكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة، قوم لا يخشون الموت بل إن أمنيتهم الموت، وأمنيتهم أن يموت المسلم شهيداً في سبيل الله لينال حياة دائمة عند ربه؛ لأنه يستشعر قول الله جل وعلا: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [آل عمران:169-170]، ويذكرون قول نبيهم المصطفى المختار صلوات الله وسلامه عليه: (أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في رياض الجنة تأكل من ثمارها، وتشرب من أنهارها، وتأوي إلى قناديل معلقة في عرش الرحمن) ويذكرون قول الله سبحانه وتعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [البقرة:261].

كانت هذه الحقيقة دائماً أمام أعينهم، فكانوا يبذلون من أموالهم، وأوقاتهم، وأنفسهم؛ طلباً لرضوان الله سبحانه وتعالى، فلماذا يفرون من الموت؟ ولماذا يهربون من الموت والموت حق؟

كانوا يعلمون أن الشهيد عندما يسقط في حومة الوغى فإنه لا يفتن في قبره، وذلك أنه فتن في الدنيا في ميدان الحرب والقتال فصبر على البأس والأذى، ولقد رأى الموت بعينيه فلم يتراجع؛ ابتغاءً لما عند الله سبحانه وتعالى، فحسبه بذلك فتنة كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم.

فعندما استقرت هذه المعاني في نفوس المسلمين لم يقف في وجوههم أحد، وعندما استقرت هذه المعاني في نفوس المسلمين استطاعوا أن يحاربوا الباطل في مجتمعاتهم وأن يجتثوا جذوره، وأن يكون فيهم رجال يستطيع الواحد منهم بموقف أن يغير اتجاه أمة، وأن يقف في وجه تيار جارف يريد استئصال الإسلام.

فلقد وقف أحمد بن حنبل في وجه تيار مستغرب جاء ليجتث جذور الإسلام، وليدخل في عقائد الإسلام ما ليس منها، إنه رجل واحد وقف في وجه الحكام الذين كانوا يملكون الدولة ويملكون السيادة، ولكنه وقف بإيمانه، فضُرب، وأوذي، ولكنه لم يلن، ومضى الذين كانوا يحملون هذا الفكر الفاسد، وبقي فكر الخير يسري في هذه الأمة، ويصل ما قبل الإمام أحمد بما بعده؛ ليستمر النهر الفياض إلى أن تقوم الساعة.

فعندما يوقن المسلمون بهذه الحقيقة فسيتمكنون من تغيير كثير من الأمور والأحوال، وعندما ينسونها فلن تتغير الحقيقة؛ فسيمضي الناس، وسنمضي إلى الله سبحانه وتعالى، فالموت آتٍ لا محالة.

وينبغي لهذه الحقيقة أن تنتج نتيجة وهي: أن تصبح هذه الأمة كما كانت أمة مقاتلة ومجاهدة، فالجهاد يحيي هذه الأمة ويفجر طاقاتها، ويغسل أدرانها وأوساخها وأقذارها.

إن هذا الترهل الذي نعيشه في أيامنا: من الشهوات، والملذات، والنعيم الذي يتردى فيه الناس، يخدر أعصابهم ويقتل طاقاتهم.

ونحن نحتاج إلى أن نعود مرة أخرى إلى معاني الجهاد والبطولة والفداء الذي يحول هذه الأمة إلى أمة مجاهدة تغسل أدرانها وتفجر طاقاتها، فعند ذلك تتحول مسيرة هذه الأمة.

لقد خسر المسلمون كثيراً عندما تركوا الجهاد، فخسروا خسراناً مبيناً، وتحقق فيهم قول الله سبحانه وتعالى: وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195].

فعندما خرج من صفوف المسلمين -في معركة وقعت في تركيا- رجل من صفوف المسلمين في عهد الصحابة وانطلق حتى دخل في صفوف المشركين وحيداً، قال المسلمون: سبحان الله! لقد ألقى بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب الأنصاري وهو صحابي من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم تحملون هذه الآية على غير وجهها، فلقد نزلت هذه الآية عندما انتصر الإسلام في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فقال الأنصار: لقد ضاعت أموالنا وبساتيننا ونحن نجاهد، والآن انتصر الإسلام، فلنجلس لنرعى أموالنا وبساتيننا وأعمالنا؛ فأنزل الله سبحانه وتعالى: وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]، فكانت التهلكة في ترك الجهاد.

فالهلاك إنما هو في ترك الجهاد وليس في البذل والعطاء، وليست التهلكة في أن يلقي المسلم نفسه في وسط الأعداء ويقاتلهم، إنما هي في توقفه عن القتال وعن العمل، وعن البذل والدعوة، فيقول المتكاسل: لقد شبت، وكبرت، وجاهدت، وعملت، فإن هذا التوقف موت وهلاك ودمار، فعندما يتوقف المسلم فإنه يدمر نفسه، وعندما تتوقف الأمة فإنها تفقد إيجابيتها وخيريتها فكانت التهلكة -كما يقول أبو أيوب الأنصاري- في ترك الجهاد.

لقد تركت الأمة الجهاد في أيامنا فتسلط عليها أعداؤها، فكانت التهلكة بسبب تركنا للجهاد، وتفرقت الأمة وتركت الجهاد، فأصبح أعداؤها أقوياء وتغلبوا عليها فهلكنا؛ وكل ذلك بسبب تركنا للجهاد.

فلو كانت هذه الأمة أمة مقاتلة لما كان لليهود وجود في ديارنا، ولما استطاع الأعداء أن يقسموا بلادنا، ولما استطاعوا أن يدحروا الدولة الإسلامية العثمانية، وقد كان ذلك بسبب تركها للجهاد، وضعفها في آخر أيامها، ولو كنا أمة مقاتلة مجاهدة لما استطاعت الدول في الحرب العالمية الثانية أن تجزئ بلادنا وتأخذ ديارنا.

لقد أصبح عندنا شح في النفوس، وأمراض في القلوب، وأصبح الإنسان يفكر في الدنيا، وفي المال، وفي البيوت، وفي السيارات، وفي الجاه، ولا يفكر في هذه الأمة، بل ولم يعلم أنه إذا تسلط عليه أعداؤه فقد يفقد البيت والأرض والمال!

فماذا ترك اليهود للمسلمين في حيفا؟ ماذا تركوا لهم في يافا؟ ماذا تركوا لهم في عكا؟ ماذا تركوا لهم في القدس؟

لقد حفروا الآن تحت المسجد الأقصى، وأخذوا كل شيء، فلقد أخذوا المال، وأخذوا الأراضي والخيرات، فكل بلد يستولون عليها يفعلون بها ذلك.

فالتهلكة إنما هي في ترك الجهاد، وعندما يحسن المسلمون -كما يقول أحد المعاصرين- صناعة الموت وصناعة الجهاد عند ذلك يتغير حالهم ويتبدلون.

فعندما يفهم المسلمون الغاية من الجهاد، والخير الذي يأتي به الجهاد في الدنيا، والخير الذي يأتي به في الآخرة؛ فستتغير نفسياتهم، وسيصلح منهم المعوج، ويستقيم منهم الزائع، وعند ذلك تتحول هذه الأمة إلى خير أمة أخرجت للناس.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، فاستغفروه.

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد عبد الله ورسوله.

ومما ينبغي أيها الإخوة! أن نكون على ذكر إلى أن يأذن الله سبحانه وتعالى بفتح باب الجهاد، فتعود الأمة الإسلامية إلى طبيعتها المجاهدة المقاتلة كي تصد أعداءها، وتنفي خبثها، وتحارب الباطل فيها، وتزيل المنكر من ديارها، وحتى يأذن الله بذلك الحين فينبغي على المسلمين أن يربوا أنفسهم على معاني الجهاد، وعلى معاني الإيمان، وأن يعدوا أنفسهم لهذا الطريق، فإعداد النفس ليس بالأمر السهل، ومن لم يعد نفسه لهذا فلن يستطيع إذا ما جاء الوقت وفتح الباب أن يسير في هذه المسيرة؛ لأنه لم يعد نفسه لهذا الطريق.

فعندما فتح الباب لبني إسرائيل في أن يجاهدوا بعث الله لهم ملكاً كما طلبوا، ولكن كثيراً من الذين كانوا يطالبون بالجهاد تخلوا عنه وتركوه، وكذلك بعض المسلمين في مكة كما قال الله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [النساء:77] فلما فتح باب الجهاد نكص بعضهم على عقبيه وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ [النساء:77]، فيحتاج المسلمون إلى أن يعدوا أنفسهم، وأن يربوا أنفسهم وأولادهم وبيوتهم على معاني الجهاد، ويأخذوا أنفسهم بذلك ويحذروا، فقد أخبر المصطفى صلوات الله وسلامه عليه أن الذي لا يجاهد ولا يحدث نفسه بالجهاد فإنه يموت على شعبة من شعب النفاق، فإذا كان الإنسان لا يجاهد ولا يحدث نفسه يوماً بالجهاد فهو إنسان غير مخلص في إسلامه وإيمانه.

اللهم! اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وكفر عنا سيئاتنا، وألهمنا رشدنا.

اللهم! أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

اللهم! اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك قريب مجيب سميع الدعوات.


استمع المزيد من الدكتور عمر الأشقر - عنوان الحلقة اسٌتمع
النجاة من الفتن 2408 استماع
كيف تستعيد الأمة مكانتها 2297 استماع
فتاوى عن الجماعات الإسلامية والجهاد 2286 استماع
أضواء العمل الإسلامي 2212 استماع
اليوم الآخر 2190 استماع
الانحراف عن المسيرة الإسلامية 2160 استماع
إخلاص النية 2160 استماع
مع آيات في كتاب الله 2140 استماع
أسباب الجريمة وعلاجها 2123 استماع
قيمة الاهتمام في زيادة الإيمان 2104 استماع