الأتقياء


الحلقة مفرغة

شرع الله لعباده النكاح، وجعل له شروطاً كالصداق ومعرفة رضى الثيب، وقد يشترط الناس في النكاح شروطاً هي محل خلاف بين العلماء؛ كاشتراط المرأة عدم التعدد، وهذا لا ينبغي لأنه مخالف لشرع الله تعالى الذي أباحه، ويعد طعناً في رسول الله وصحابته الذين عددوا الزوجات، وهو ما يسعى إليه أعداء الإسلام لإفساد الأسرة المسلمة، وللتعدد في الزوجات فوائد كثيرة يجهلها كثير من النساء.

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1] .. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

أحبتي في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

هذه ليلة الثلاثاء الموافق للثاني والعشرين من شهر ذي القعدة للعام (1414) من هجرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وفي هذا الجامع المبارك، جامع العجلان في مدينة (الخضراء) والذي يؤم المسلمين فيه فضيلة الشيخ/ عبد الله السلامة حفظه الله ورعاه، وحيا الله هذه الوجوه الطيبة النيرة، التي أسأل جل وعلا أن ينفعنا وإياهم بما علمنا وأن يعلمنا ما ينفعنا.

موضوع هذا اللقاء أيها الأحبة! هو بعنوان: (الأتقياء).

فقد كنت أتأمل حديثاً أخرجه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الزهد من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه وأرضاه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي) فأخذت أتأمل في هؤلاء الذين نالوا هذا الشرف العظيم: محبة الله سبحانه وتعالى، أولئك الأتقياء الأغنياء الأخفياء، فقلت: وما الذي يمنع أن نتتبع صفات هؤلاء ونتحدث عنهم لأنفسنا؟

ويعلم الله أنني أستغفر الله من جرأتي على الكلام عن هؤلاء، فحينما أتحدث عن الأخفياء أو الأتقياء أو الأنقياء، ليس معنى ذلك أننا نتصف بصفاتهم، لا والله! فنحن أعلم بأنفسنا، ولا نقول هذا تواضعاً، فكل إنسان أعلم بنفسه، ولذلك كان الحديث عن هؤلاء من باب:

أحب الصالحين ولست منهـم     وأرجو أن أنال بهم شفاعة

ولعلنا بالحديث عنهم نلزم أنفسنا بتعلقها بشيء من صفاتهم رحمهم الله تعالى.

ثم -أيضاً- ونحن نسمع مواقف هؤلاء الأتقياء نعرف عندها حقيقة أنفسنا وبعدنا عن المنهج الذي أراده الله جل وعلا لنا، وكما قال ابن رجب رحمه الله تعالى: وما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال؛ مخافة الوقوع في الحرام.

ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى يأمرنا أن نلحق بركاب المتقين في أكثر من آية في كتابه، وقد وردت مادة (وقى) بتصاريفها في كتاب الله عز وجل ثمان وخمسين ومائتي مرة في القرآن الكريم.

وقد أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بها في قوله: -وكما سمعتم في خطبة الحاجة التي كان صلى الله عليه وآله وسلم يبدأ بها في أحاديثه-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران:102].

وقد روى البخاري عن مرة عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (حق تقاته: أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر). وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : [ألا يعصى طرفة عين].

وذكر المفسرون أنه لما نزلت هذه الآية قالوا: (يارسول الله! ومن منا يقوى على هذا؟) فكأنها شقت عليهم رضوان الله تعالى عليهم، فأنزل الله الرحيم الرحمن بعباده قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] فنسخت تلك الآية كما ذكر ذلك المفسرون.

لست هنا لأتكلم عن ثمرات التقوى، وإنما لأتكلم عن السر العجيب في حياة هؤلاء.

وثمرات التقوى كثيرة، ذكرها الله جل وعلا في كتابه كثيراً، وترددت في أكثر من سورة، ولذلك يقول سبحانه وتعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطلاق:4] ويقول سبحانه وتعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ [البقرة:282] ويقول سبحانه وتعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً [الطلاق:5].

وكما ذكرت ما السر العجيب في حياة هؤلاء الأتقياء؟ ما الذي جعلهم بصورة تجعلنا ونحن نقرأ مواقفهم وننظر في أحوالهم نتعجب أشد العجب؟! فإذا نظرنا إلى أنفسنا قلنا: لعل هذه أساطير الأولين، لولا أنها رويت لنا بالأسانيد الصحيحة، وفي أمهات الكتب التي كتبها أولئك الأتقياء رضوان الله تعالى عليهم.

فما هو السر العجيب في حياة أولئك حتى وصلوا إلى مثل هذه الثمرة، فأصبحوا من أحباء الله الذين نالوا شرف هذه المحبة؟

اسمع للسر العجيب قبل أن أفصح عنه وهو يتحدث إلى القلب:

عذراً أيها القلب.. أعرفتني؟ لا تقل إنك لا تعرفني؛ فقد وقفت على مشارف أسوارك، وقرعت أبوابك كثيراً، وكنت أحوم لأجد منفذاً أنفذ إليك منه.

إيهٍ أيها القلب.. لقد أصبحت أقسى من الحجر، لماذا تحاول الهروب مني؟! ولماذا هذا الصدود عني؟! فكلما هممت بأمر سوء حاولت الوقوف أمامك لتراني.. لتذكرني.. لترجع عن همك، لكنك تتجاهلني وكأنك لا تراني!!

ويحك أيها القلب.. إنني السر العجيب في حياة القلوب.. إنني السر العجيب في ترك الفتور والهوان.. إنني أريدك أن تحيا حياة السعداء.. أريدك أن تكون علماً من الأعلام وصالحاً من الصالحين.. أريدك أن تكون مباركاً في أعمالك وأقوالك.

تعال أيها القلب! تعال واسمع لحياة النبلاء، وسير الرجال، يوم أن كنتُ أتربع على العرش في قلوبهم، وأصول وأجول في صدورهم:

كانوا جبالاً في الجبال وربمـا     ساروا على موج البحار بحارا

بمعابد الإفرنج كان أذانهم قبل الكتائب يفتح الأمصارا

كـانوا يروا الأصنام من ذهب     فتهدم ويهدم فوقها الكفارا

لـم تنس أفريقيا ولا صحراؤها     سجداتهم والأرض تقذف نارا

اسمع أيها القلب! يوم أن فتح لي أولئك الرجال قلوبهم، فأصبحوا سادة في كل شيء.. نعم. في كل شيء.

ذكر الذهبي في السير أن الحسن بن علي مولى ابن المبارك قال: اجتمع جماعة فقالوا: تعالوا نعد خصال ابن المبارك من أبواب الخير، فقالوا: العلم، والفقه، والأدب، والنحو، واللغة، والزهد، والفصاحة، والشعر، وقيام الليل، والعبادة، والحج، والغزو، والفروسية، والقوة، وترك الكلام فيما لا يعنيه، والإنصاف، وقلة الخلاف على أصحابه:

إذا سـار عبد الله من مرو ليلة     فقد سار منها نورها وجمالها

إذا ذكـر الأخيار في كل بلدة     فهم أنجم فيها وأنت هلالها

أسمعت أيها القلب؟! بفضل الله ثم بفضلي كان كل ذلك، فهل عرفتني؟

بل تعال واسمع، وقبل أن أفصح عن نفسي وعن هويتي، تعال واسمع لعلم ثان من هؤلاء الأعلام.

إنه أبو جعفر محمد بن جرير الطبري ، مؤرخ.. مفسر.. محدث.. مقرئ.. فقيه.. أصولي.. من أكابر الأئمة المجتهدين، قال الخطيب البغدادي في تاريخه : كان أحد أئمة العلماء يحكم بقوله، ويرجع إلى رأيه؛ لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان حافظاً لكتاب الله، عارفاً بالقراءات، بصيراً بالمعاني، فقيهاً في أحكام القرآن، عالماً بالسنن وطرقها وصحيحها وسقيمها وناسخها ومنسوخها، عارفاً بأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المخالفين في الأحكام ومسائل الحلال والحرام، عارفاً بأيام الناس وأخبارهم، وله الكتاب المشهور في تاريخ الأمم والملوك ، وكتاب في التفسير لم يصنف في التاريخ أحد مثله.

أسمعت أيها القلب؟ ألا تسأل إذاً ما هو السر في حياة النبلاء؟!

إنه أنا السر، السر العجيب!

فأين أنت من أولئك؟! هل تذكر لي -يا أخي!- منقبة واحدة لك من تلك المناقب التي عددناها لأولئك الأعلام؟!

مسكين أنت أيها القلب! غرقت في الشهوات والملذات.. أصابك الخمول والكسل.. أصابك الفتور والهوان.. أصبحت عبداً للدنيا دون أن تشعر، كل ذلك يوم هجرتني!!

أيها القلب! إن الأمثلة في حياة النبلاء كثيرة وطويلة، ولكن خذ مثلاً ثالثاً وأخيراً لتقتنع:

أسمعت بـابن تيمية ؟! لا شك نعم.

إذاً: فاسمع كلام ابن سيد الناس فيه، يقول عنه رحمه الله تعالى: كاد يستوعب السنن والآثار حفظاً، إذا تكلم في التفسير فهو حامل رايته، أو أفتى في الفقه فهو مدرك غايته، أو ذاكر في الحديث فهو صاحب علمه وروايته، أو حاضر بالملل والنحل لم تر أوسع من نحلته في ذلك ولا أرفع من درايته، برز في كل فن على أبناء جنسه، ولم تر عين مَن رآه مثله.. إلى آخر ما قال رحمه الله تعالى.

وابن تيمية هو العالم المجاهد العابد الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، فعجيبٌ أمر أولئك كيف جمعوا تلك الخصال كلها!! بينما تنظر إلى حالك أيها القلب! فلربما لم تجد خصلة واحدة فيك.

لكنه السر العجيب! الذي حولهم إلى أعلام وأبطال.

فافتح لي أبوابك أيها القلب! وتذكرني جيداً واجعلني ملازماً لك؛ تنل الخير كله في الدنيا والآخرة.

فهل عرفتني أيها القلب؟ أو أنك ما زلـت تتجاهلني؟ لا شك أنك عرفتني.. فالآن أتركك وسأرجع إليك بعد حين، حتى تعد لي منزلاً، في سويداء قلبك!!

لا شك أن الجميع بحاجة إلى هذا السر العجيب كباراً وصغاراً، رجالاً ونساء، علماء ومتعلمين، مع شدة غفلتهم عنه، لكنه مهم جداً، ومؤثر فعال في حياة شباب الصحوة والدعاة إلى الله، وما أكثرهم والحمد لله.

ولكنَّ كثيراً منهم تعجبك أجسامهم وأشكالهم وأحوالهم، لكنك تبحث عنهم في الميادين فتجد الخمول والكسل والهوان، فتسأل عن السبب؛ فإذا هو غياب هذا السر العجيب.

نقرأ الآيات فلا قلب يتأثر إلا من رحم الله منا!

نسمع الأحاديث فلا عين تدمع!

ننظر للقصص والعبر فلا جسد يقشعر ويخشع!

نحمل الموتى وندخل المقابر ونخرج والقلب هو القلب!

نسمع أنين الثكالى، وصرخات اليتامى، والأحداث في كل مكان والقلب هو القلب!!

لا إله إلا الله! ماذا أصابك أيها القلب؟!

نسأل عن السبب ونبحث عن العلاج؛ فإذا هو مرة أخرى هو ذلك السر.

أصبحنا -إلا من رحم الله منا- نكذب ونغتاب ونأكل الشبهات، لا. بل ونقع في المحرمات!!

فنسأل -أيضاً- عن السبب، فإذا هو غياب هذا السر في كثير من قلوب الناس.

هذا السر أقضَّ مضاجع الصالحين، وأزعج قلوبهم، وأسال دموعهم، فعرفوا حقيقة هذه الحياة.

هذا السر يحفظ الأمن والأمان، وبه تكثر الخيرات، وتتنزل البركات، وبغيبته ينتشر الفساد، ويعق الأولاد.

فهل عرفتني أيها الأخ الحبيب؟!

لابد أن تعرفني؛ لأنني أنا الحارس الأمين لقلبك المسكين، إنني المراقب، ولكني لست المراقب الإداري ولا المراقب الصحي، فأنا المراقب الشرعي.

إنني مراقبة الله، أو إن شئت فقل: الخشية والخوف من الله سبحانه وتعالى، فلا بأس؛ فكلنا من عائلة واحدة، والمهم أن تعرف أنك بحاجتي حاجةً ماسةً في كل لحظة، فاتق الله حيثما كنت، وانتبه لقوله تعالى: وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [هود:123].. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ [البقرة:235].

وردد في كل لحظـة: وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً [الأحزاب:52] وتذكر أنه: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19].

فيا أخي الحبيب! أين المفر وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4]؟

وويل لذلك العاصي أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى [العلق:14]!!

وداوِ ضمير القلب بالبر والتقى     فلا يستوي قلبان قاسٍ وخاشعُ

وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ [النور:52].

إذاً: عرفت السر العجيب -يا أخي الحبيب! ويا أختي المسلمة!- في حياة أولئك النبلاء رحمهم الله تعالى، فما باب من أبواب الخير إلا وقد ولجوه، ولا صفة من صفات الفلاح والصلاح إلا وقد عُرفوا بها رضوان الله تعالى عليهم.

ثم ننظر إلى أنفسنا فنبحث عن صفة واحدة، ومن كان صادقاً مع نفسه ربما لا يجد، ولذلك تعال لأسوق إليك آثار هذا السر العجيب في حياة أولئك النبلاء رحمهم الله تعالى.

أسوق إليك خمسة من الآثار، ولا شك أن الآثار كثيرة.

كيف كانت خشية الله تفعل الأفاعيل في قلوب أولئك الرجال؟!

لا أقول الرجال فقط، بل حتى النساء، ولا أقول الكبار فقط، لا. بل حتى الصغار أيضاً.

الخشية

أول هذه الآثار عندما عرفوا هذا السر -وهو خشية الله ومراقبة الله في كل حال- هو: استشعار عظم الذنب مهما كان صغيراً أو كبيراً.

فمن كان مراقباً لله جل وعلا، ومن كان في قلبه خشية وخوف من الله؛ استشعر ذنبه أياً كان، سواء كان هذا الذنب صغيراً أو كبيراً!

إذا وقع العبد الصالح المراقب لله جل وعلا في معصية، فما زالت هذه المعصية وما زال هذا الذنب يحرق قلبه.

المهم: المبدأ، فصاحب المبدأ وصاحب الرسالة الذي يعيش لخدمة عقيدته ومبدئه ورسالته لاشك أنه متصف بهذه الصفة وهي استشعار الذنب، لا يهمه إن كان الذنب كبيراً أو صغيراً ما دام يعيش على مبدأ ( لا إله إلا الله )، فيحرص أن تكون حياته في رضا الله.

فهذا هو التوحيد وهذه حقيقته، فإن وقع في الذنب مرة أو مرتين استشعر هذا الخطأ، فأقلع واستغفر وندم وتاب.

عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه -كما أخرج البخاري في صحيحه في كتاب الدعوات باب التوبة- أنه قال: (إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه -انظر إلى استشعار الذنب عند المؤمن- وإن الكافر أو الفاجر ليرى ذنوبه كذباب مر على أنفه، فقال به هكذا فطار) كما قال راوي الحديث أبو شهاب.

فهو لا يستشعر الذنب؛ لأنه لا يعرف عظمة من وقع في معصيته، ولو كان هذا القلب مراقباً لله؛ لأصبحت الدمعة سيالة على الخد، ولأصبح القلب رقيقا ليناً خائفاً خاشعاً لله جل وعلا.

- خشية النبي صلى الله عليه وسلم:

تعال واسمع لهذا المنهج الشرعي في حياة أولئك الأتقياء رحمهم الله تعالى، حيث كانت مراقبة الله معهم في كل لحظة، وفي كل أمر، سواء كان كبيراً أو صغيراً.

ولنبدأ بحبيبنا وقدوتنا -بأبي هو وأمي- رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد ذكر لنا البخاري في صحيحه في كتاب اللقطة: باب إذا وجد تمرة ساقطة، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي فأرفعها لآكلها ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها).

سبحان الله! (ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها).

هكذا يكون الخوف من الله، القضية عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شبهة؛ فهذه التمرة ليس من المؤكد أنها من تمر الصدقة، فلربما كانت من تمر الصدقة، ولربما كانت من تمر بيته!!

ثم يخرج لنا الإمام أحمد في مسنده من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تضور ذات ليلة -ومعنى تضور: أي: جزع وسهر صلى الله عليه وآله وسلم- فقيل له: ما الذي أسهرك يا رسول الله؟ -وتصور يا أخي الحبيب ما هو الشيء الذي أسهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما هو هذا الأمر الذي أقضَّ مضجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طوال ليله- فقال صلى الله عليه وسلم: إني وجدت تمرة ساقطة فأكلتها، ثم ذكرت تمراً كان عندنا من تمر الصدقة، فما أدري أمن ذلك كانت التمرة أو من تمر أهلي؛ ذلك الذي أسهرني).

سبحان الله! تمرة تُسْهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه أكلها وهي شبهة.

ولكنه المبدأ الذي يعيش عليه صاحب العقيدة، الذي يعيش عليه صاحب: (لا إله إلا الله) رضا الله فوق كل شيء، وخوف ومراقبة الله سبحانه وتعالى.

- خشية الصحابة رضوان الله عليهم:

ثم -أيضاً- تعال وانظر إلى التربية لأولئك الأصحاب الذين ساروا على هذا المنهج النبوي العظيم، فيخرج لنا البخاري في صحيحه -أيضاً- في كتاب مناقب الأنصار: باب أيام الجاهلية، من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: [كان لـأبي بكر غلام يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يوماً بشيء فأكل منه أبو بكر ، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ فقال الغلام: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية، وما أُحسن الكهانة، إلا أني خدعته فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه -فماذا فعل أبو بكر الصديق ؟!- تقول عائشة : فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه].

لا إله إلا الله! القضية عند أبي بكر -أيضاً- شبهة، فهو أكل الطعام وهو لا يعلم مصدره، ثم إن الغلام تكهن لهذا الرجل في الجاهلية والإسلام يجبُّ ما قبله.

وفي رواية: [أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه كان بحضرته بعض أصحابه فقالوا: يا أبا بكر ! ارحم نفسك! فقال: والله! ما أزال أخرج الطعام حتى لو ظننت أن روحي تخرج معه لفعلت].

الخشية والخوف من الله جل وعلا، فأين أولئك الذين يتعاملون بالربا، ويأكلون الحرام وهم يعلمون أنه حرام؟! أين هم من تلك المواقف؟!

ولكنه السر العجيب، فخوف الله ومراقبة الله متى ما كانت في القلب نجا صاحبه.

الورع

أما الأثر الثاني من آثار هذا السر في حياة النبلاء رحمهم الله تعالى، فهو: بيوت تتربى على الورع ومراقبة الله.

لما امتلأت قلوبهم خشية لله وأصبحت هذه القلوب مراقبةً لله جل وعلا في كل صغيرٍ وكبير، تربت بيوتهم على هذا المبدأ.. البيت كله أصبح يعيش على خوف الله وخشية الله: الزوجة.. الأولاد.. الصغار.. الكبار.. أصبح ذلك البيت كله يتربى على الورع وعلى خشية الله وخوف الله.

واسمع أمثلة على هذا الأمر:

- من بيتكم يخرج الورع.

ذكر القسطلاني في كتابه إرشاد الساري ، أن امرأة جاءت إلى الإمام أحمد فسألته سؤالاً، هذا السؤال جعل الإمام أحمد يبكي.

تقول المرأة للإمام أحمد : إننا نغزل على سطوحنا فيمر بنا مشاعل الظاهرية -أي: الحرس- فيقع الشعاع علينا، أفيجوز لنا -يا إمام!- الغزل في شعاعها؟!

سبحان الله! تسأل تلك المرأة الإمام أحمد : أيجوز لها أن تستغل هذا النور الذي يقع عليها للحظة من نور الحرس في غزلها؟!

وفي لفظ آخر لهذه القصة، ذكره عبد الله بن المبارك في كتابه الزهد والرقائق: أن المرأة قالت للإمام أحمد : يا إمام! إنني أغزل على ضوء السراج، وربما انطفأ السراج، فأغزل على ضوء القمر، أيجب عليَّ -يا إمام!- عند بيع غزلي أن أفرق للبائع ما غزلته تحت ضوء السراج مما غزلته تحت ضوء القمر؟!

سبحان الله! إلى هذا الحد يصل الورع والخشية والخوف في قلوب المؤمنين متى ما تحقق هذا المبدأ، وهو خوف الله ومراقبة الله.

فاسمعي أيتها الأمة! واسمعي أيتها الصالحة! يوم أن كانت بيوت المسلمين تتربى على الورع.

فقال لها الإمام أحمد متعجباً لورع هذه المرأة: من أنت يا أمة الله؟! من أنت عافاك الله؟! فذكرت أنها أخت لـبشر الحافي، فبكى الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه وأرضاه وقال: من بيتكم يخرج الورع الصادق.

متى؟ يوم أن كانت بيوت المسلمين تتربى على الورع، وعلى خشية الله.. يوم أن كان الرجل يخرج من بيته مخلِّفاً وراءه امرأة صالحة.. ساجدة خاشعة.. باكية دامعة لله جل وعلا.

هكذا يا أخي الحبيب! وهكذا أيتها المسلمة! كانت بيوت المسلمين تتربى على الورع وعلى خشية الله وخوف الله.

وأسألك بكل تجرد عن الهوى: على أي شيء تتربى بيوت المسلمين اليوم؟ وكن صادقاً مع نفسك، فنحن نريد الحق ولا شيء غير الحق.

على أي شيء تتربى بيوت المسلمين اليوم؟ كم من رجل أدخل جهاز التلفاز إلى بيته، فأصبحت تلك الفتاة المراهقة تجلس ساعات طوال من الليل أمام هذه الشاشة، فما الذي تسمعه؟! وما الذي تراه؟! وكيف سيكون حالها؟! وكيف هي مشاعرها؟! وكيف قلبها؟!

تقوى لله، وخوف من الله، وخشية لله؟! من أي طريق ستصل هذه المبادئ لذلك القلب؟!

أنت خرجتَ ربما لسهراتك أو لمشاغلك ومواعيدك، أو أنك نمت في ليلك فتركت أولادك وبناتك أمام هذا الجهاز، وكلنا يريد الصلاح لذريته، وكلنا تقرّ عينه عندما يرى ولده صالحاً سباقاً إلى بيت من بيوت الله حافظاً لكتاب الله، أو يرى فتاته صالحة ملتزمة، كلنا يحب ذلك، لكن أين ذلك الرجل الذي فعل الأسباب وهيأ ذلك الجو المناسب داخل البيت حتى يصل خوف الله وخشية الله إلى تلك القلوب الرقيقة؟!

- راقبت ربها وحفظت زوجها:

وتعال واسمع -أيضاً- لتلك المرأة عندما كان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه يعسّ في شوارع المدينة كعادته في الليل، فاتكأ على جدار من جدران بيوتات المدينة، فإذا به يسمع تلك الهمهمة من تلك المرأة.. امرأة لوحدها في بيتها وفي ظلمة الليل مع ضعف نفسها وقوة شيطانها، زوجها قد سافر مع جيش المسلمين طويلاً، وهي لا تعلم أن أحداً يسمعها فتتمثل بهذه الأبيات وتقول:

تطاول هذا الليل واسودّ جانبه     وأرقني ألا خليل ألاعبه

فوالله لولا الله لا شيء غـيره     لحرّك من هذا السرير جوانبه

ولكن تقوى الله عن ذا تصدني     وحفظاً لبعلي أن تنال مراكبه

الله أكبر! يوم أن تخرج -يا أخي الحبيب!- من بيتك وقد خلفت امرأة صالحة تراقب الله وتخشى الله، فتحفظك في نفسها، وفي بيتها ومالها، وفي ولدك وبناتك.

ما أحلى أن تتصف المرأة المسلمة بهذه الصفة!! بخشية الله وخوف الله.

لكن رب أمير المؤمنين يرانا!!

بل تعال واسمع لبنات المسلمين يوم أن تربوا على خشية الله كيف أثّر هذا السر في حياتهم، قصة بائعة اللبن قصة مشهورة معروفة، وكلنا يعرفها:

لما كان عمر يعس -أيضاً- في شوارع المدينة يسمع هذا الحوار بين الأم وابنتها، تقول الأم: يا بنية! أمزجت اللبن بالماء؟ -حتى يكثر ربح هذا البيع- فتقول البنية: يا أماه! أوَ ما علمت أن أمير المؤمنين نهى أن يمزج اللبن بالماء؟ فتقول الأم بقلب المرأة التي غفلت عن ذكر الله وغفلت عن رقابة الله: يا بنية!وما يدري أمير المؤمنين بنا الآن؟!

نعم. فالذي يراقب الناس ويخشى الناس ويخاف الناس هو داخل في بيته متقوقع لا يعلم عنه أحد، هو داخل أسوار بيته، فما الذي يُدري أمير المؤمنين بنا الآن؟!!

ولكن تأتي الإجابة من قلب تلك الفتاة الصغيرة البريئة التي تربت على خشية الله، وانظر يا أخي الكريم! كيفية ثمرة التقوى وخشية الله إذا ربيت صغارك عليها، تأتي الإجابة من قلب تلك الفتاة الصغيرة لتقول: يا أماه! إن كان أمير المؤمنين لا يرانا فإن رب أمير المؤمنين يرانا.

هكذا هو القلب المتعلق بالله، الذي يراقب الله جل وعلا.

فأقول: من منا وقف مع هذا الموقف؟ وكما أسلفت كلنا يعرفه؛ فهو موقف مشهور، ولكن من منا وقف معه وحدّث به أهل بيته بل وحدث به صغاره؟ فكم من المرات جاءت بنياتك الصغيرات يقلن: يا أبتِ! أو يا أمي! قصّي لنا قصة أو احكي لنا حكاية.

أين أنتم من هذه المواقف؟! أين من أراد أن يربي الصغار على خشية الله وخوف الله؟!

كم من والد وكم من أم سالت الدمعة على الخد من عقوق أبنائها وبناتها، وكم من والد شكا أولاده لكثير من الصالحين.

وأقول: يداك أوكتا وفوك نفخ، فأنت الذي أهملت، ولو غرست هذه النبتة الصالحة -خوف الله وخشية الله- منذ الصغر في قلوب هؤلاء؛ لوجدتهم على خير ما تريد وعلى صلاح وفلاح.

- هل يبقى في الجدار تبن؟!!

اسمع للإمام حماد بن زيد رضي الله تعالى عنه وأرضاه يقول: كنت صغيراً مع أبي، فمررنا على جدار فيه تبن، فأخذت من الجدار عود تبن، فوقف أبي ونظر إليَّ كأنه ينهرني، فقال لي: لـمَ أخذت؟!

هكذا بشدة: لـمَ أخذت؟!!

يقول حماد : فقلت ببراءة الصغير: يا أبتاه! إنه عود تبن!!

فقال الأب -واسمع لأولئك الآباء- : يا بني! لو أن كل أحد مرّ على الجدار أخذ عود تبن هل كان يبقى في الجدار تبن؟!

تربية على أصغر الأشياء وأحقرها وإن كان عوداً من التبن، حتى إذا كبر الصغير وعقل وفهم لا تمتد يده على أي شيء حتى لو كان كبيراً أو صغيراً.

هكذا هي التربية، وهكذا هو الخوف من الله سبحانه وتعالى.

كثرة الخلوة بالنفس والدمعة المباركة

الأثر الثالث من آثار هذا السر في حياة النبلاء: كثرة الخلوة بالنفس والدمعة المباركة، فما زالت خشية الله، وما زالت مراقبة الله في قلوب الصالحين حتى اختلوا بالله سبحانه وتعالى، مناجاة له جل وعلا في ظلمة ليل أو خلاء أو مكان لا يراه فيه أحد، وربما سالت الدموع على الخدود تذكراً لعظم ذنب أو لتقصير في حق الرب جل وعلا.

وهذا الأثر يوضحه لنا صلى الله عليه وآله وسلم في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وذكر منهم: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه).

واسمع! (ورجل ذكر الله خالياً) لوحده في ظلمة ليل أو في مكان لا يراه فيه أحد، وتذكر عظم ذنبه وتقصيره في حق ربه، وتذكر منّة الله جل وعلا عليه وإنعام المولى سبحانه وتعالى، فسالت الدمعة على الخد خوفاً وخشية لله جل وعلا، فكان من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.

أسألكَ بالله وأسألكِ بالله! كم من المرات حدث لنا مثل هذا الموقف؟ كم من المرات اختليت بالله جل وعلا فتذكرت ذنبك وتقصيرك في حق ربك؛ فسالت الدمعة على الخد؟!

إن جرّبت ذلك فزدْ، وإن لم تجرّب فجرّب، قف هذه الليلة في ظلمة الليل.

اختفِ عن أعين الناس وسترى أثر الإيمان وحلاوته وخشية الله ومراقبته في قلبك كيف يكون.

- خلوة الفاروق ومراقبته لنفسه:

عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ما قرأت يوماً في سيرته إلا وتعجبت من مواقفه رضي الله عنه ورحمه، ولا أظن -والله!- يوماً أن دمع العين أخطأ مجراه عند قراءة سيرة هذا الرجل، ولا تقل -يا أخي الحبيب!- إن عمر مشهور، فوالله! مهما عرفت من قصصه ومواقفه فإنك تجهل الكثير الكثير في حياته.

هذا الرجل حياته عجب أيما عجب! ومواقفه كثيرة، وانظر مواقفه في خشية الله ومراقبة الله يوم أن كان صاحب قلب قاس متحجر، وقصته -وإن كانت تروى بأسانيد ضعيفة- في إسلامه، يوم أن حمل السيف، لماذا؟! ليقتل رسول الله، ولا أظن قلباً يحمل السيف لقتل رسول الله إلا وقد امتلأ هذا القلب بغضاً وحقداً وتكبراً وتجبراً، فسبحان الله! ولا إله إلا الله! يوم أن فعلت الأفاعيل في قلب هذا الرجل، فحولته من هذا القلب المتجبر القاسي إلى قلب رقيق لين خاشع باك خائف من الله جل وعلا.

يذكر الذهبي في سيرة عمر ، وأبو نُعيم في حلية الأولياء ، أن من صفة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه كان في خديه خطان أسودان؛ من أثر كثرة البكاء من خشيته لله وخوفه من الله.

ويحكى أنه كان يوماً من الأيام يقرأ: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التكوير:1] حتى انتهى إلى قوله تعالى: وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ [التكوير:10] فخر مغشياً عليه رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

وكان يمر بالآية في ورده فتخنقه العبرة، فيبقى في البيت أياماً يُعاد يحسبونه مريضاً، كما ذكر ذلك الإمام أحمد في كتابه الزهد .

واسمع لموقفه العجيب مع امرأته! يوم اشتهت يوماً من الأيام حلوى، فأرادت أن يشتري عمر لها حلوى، ويا ليتها تريد من عمر أن يشتري حلوى من بيت مال المسلمين، لا. وإنما من مال خاص بها، فاسمع لهذا الحوار بينها وبينه في هذه الأبيات:

فمن يباري أبا حفص وسيرته     أو من يحاول للفاروق تشبيها

يوم اشتهت زوجه الحلوى فقال لها     من أين لي ثمن الحلوى فأشريها

لا تمتطي صهوات النفس جامحة      فكسرة الخبز عن حلواك تجزيها

وهل يفي بيت مال المسلمين بما     توحي إليك إذا طاوعت موحيها

قالت: لك الله إني لست أرزؤه     مالا لحاجة نفس كنت أبغيها

يعني: المال خذه. فقال لها:

ما زاد عن قوتنا فالمسلمون به     أولى فقومي لبيت المال رديها

قد فر شيطانها لمـا رأى عمراً     إن الشياطين تخشى بأس مخزيها

هذي مناقبه في عهد دولته     للشاهدين وللأعقاب أحكيها

في كل واحدة منهن نابلة     من الطبائع تغدو نفس راعيها

لعل في أمة الإسلام نابتة     تجلو لحاضرها مرآة ماضيها

حتى ترى بعض ما شادت أوائلها     من الصروح وما عاناه بانيها

وحسبها أن ترى ما كان من عمر     حتى ينبه منها عين غافيها

هكذا كانت حياة الفاروق رضي الله تعالى عنه وأرضاه.. كثرة خلوة بالنفس وبكاء وخشية لله.

ويوم أن كان على فراش الموت قال لولده عبد الله وقد رفع رأسه: [ضع رأسي على التراب، يا ليت أم عمر لم تلد عمر ، يا ليت عمر كان شجرة تعضد].

لا إله إلا الله! إنها خشية الله عندما تكون في قلوب الصالحين.

- إمام أهل السنة يخفي الدمعة:

أحمد بن حنبل ناصر السنة.. إمام أهل السنة والجماعة .. قامع البدعة رضي الله تعالى عنه وأرضاه.. صاحب الزهد والورع، له كتاب مؤلف اسمه: كتاب الزهد ، مطبوع وموجود في المكاتب، يروى في سيرته أنه كان يوماً من الأيام جالساً مع تلاميذه يحدثهم، فشعر في نفسه برقة ولين قلبٍ -وهكذا كانوا رحمهم الله يخفون دمعاتهم- فقام من المجلس، تأخر على التلاميذ، فذهب أحد التلاميذ ليبحث عن الإمام وينظر لماذا تأخر، فلما أقبل على باب الغرفة فإذا به يسمع الإمام أحمد يتمثل هذين البيتين ويبكي رضي الله تعالى عنه وأرضاه:

إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقلْ     خلوتُ ولكن قلْ عليَّ رقيب

ولا تحسبنّ الله يغفل ساعة     ولا أن ما تخفي عليه يغيب

يردد هذين البيتين ويجهش بالبكاء رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

هكذا كانت الخلوة وخوف الله في قلوب أولئك النبلاء رحمهم الله تعالى.

وفي الحديث الصحيح المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يلج النار أحد بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع) فهذا فضل لأولئك البكائين.

فيا أيها الإخوة! ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا، فها هي نيران المعاصي والغفلة تأتي على قلوبنا فتحيل بينها وبين الخشوع والخشية لله، فهل نطفئها بالدموع الغالية ونبدأ المسير إلى الله جل وعلا؟!

يا شيخ... إنه الله!

واسمع لموقف تربوي يحكيه لنا بعض أهل التربية في كتبهم، وفيه عبرة ونظرة للمربين وللمدرسين والمدرسات:

يقال أن أحد المربين قال لصغاره: يا أبنائي! إذا كان من الغد فلا يأتي أحدٌ منكم إلا وبيده دجاجة قد ذبحها في مكان لا يراه فيه أحد، فلما كان من الغد، جاء الغلمان الصغار كلهم وقد علّق كل فرد منهم بيده دجاجة قد ذبحها في مكان لا يراه أحد، كما هي وصية شيخه، إلا تلميذاً واحداً، فقال له المربي: لماذالم تفعل كما فعل زملاؤك؟ وأين دجاجتك؟ قال الصغير: يا شيخ! إنك قلت لي أن أذبح الدجاجة في مكان لا يراني فيه أحد، وإنني صعدت السطح فوجدت أن أحداً يراني، ودخلت الغرفة فوجدت أن أحداً يراني، وما تركت مكانا في البيت إلا وكان هذا الأحد معي يراني.

فقال الشيخ: من هذا الأحد يا غلام؟! فقال الصغير -الذي تربى على خشية الله ومراقبة الله-: يا شيخ.. إنه الله! إن الله معي في كل مكان يراني! فضمه الشيخ وقال: أحسنت أحسنت، أنت ابني إذاً.

هكذا تكون التربية لأبناء المسلمين، وأقول هنا للمدرسين والمدرسات: أين أنتم من هذا المبدأ وغرسه في نفوس الصغار؟ أين أنتم من حمل الأمانة التي ضيعها كثير من أولئك؟!

إن صغار المسلمين وأبناء المسلمين أمانة في أعناق كل مسلم ومسلمة، فمتى فكرت يوماً من الأيام أن تربي أو أن تخوّف هؤلاء الصغار بالله جل وعلا، وأن تغرس مثل هذا المبدأ في نفوسهم؟

ومتى وقفت أيتها الأم! أو أيها الأب! لتربي ابنك أو صغيرتك على هذا المبدأ؟!

كثير من الأمهات إذا أرادت أن تخوف صغارها تخوفهم بأبيهم، ولذلك ينشأ الصغير على خوفه من أبيه، فإذا غاب الأب أصبح الصغير يفعل كل أمر تمليه عليه نفسه، وبسبب هذا الخطأ التربوي وجدنا أن كثيراً من الصغار -مثلاً- لا يحرص على صلاة الجماعة إلا إذا كان والده موجوداً.

ولو أننا حرصنا على تربية الصغار أو تخويفهم بالله جل وعلا وإذا فعلوا شيئاً قلنا: إن الله يراك.. إن الله يغضب عليك، وخوفناهم بالنار، ورغبناهم في الجنة، فلا علينا إذا أطلقنا بعد ذلك العنان لهذا الصغير يذهب أينما شاء؛ لأنه كلما حدثته نفسه بمعصية تذكر رقابة الله وخوف الله، وبدأ قلبه الذي تربى على هذا المبدأ يفعل فعله، فيصبح سداً منيعاً أمام الشباب، وأمام الصغار بينهم وبين المعصية، وبينهم وبين وساوس الشيطان.

حمل همِّ الآخرة وتعلق القلوب بها

من آثار السر العجيب -مراقبة الله-: حمل همَّ الآخرة، وتعلّق القلب دائما بالآخرة وهمومها.

وتعال واسمع للحسن البصري رحمه الله تعالى -وله كتاب أيضاً في الزهد مطبوع- عندما يروي لنا تلميذ من تلامذته وهو صالح بن حسان هذه القصة، قال: أمسى الحسن صائماً فجئناه بطعام عند إفطاره، قال: فلما قرّب إليه، عرضت له هذه الآية: إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيماً * وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً [المزمل:12-13] قال: فقلصت يده عنــه، فقال: ارفعوه، فرفعناه، قال: فأصبح صائماً فلما أراد أن يفطر -أي: في اليوم التالي- ذكر تلك الآية ففعل ذلك أيضاً، فلما كان اليوم الثالث انطلق ابنه إلى ثابت البناني ويحيى البكاء وأناس من أصحاب الحسن، فقال لهم: أدركوا أبي؛ فإنه لم يذق طعاماً منذ ثلاثة أيام، كلما قربنا إليه ذكر قوله تعالى: إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيماً * وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً [المزمل:12-13] قال: فأتوه فلم يزالوا به حتى أسقوه شربة من سويق.

و الحسن رحمه الله تعالى هنا لا يترك الطعام تزهداً، وإنما غلبه همّ الآخرة وتذكّر أهوالها؛ فجعله هذا الهم لا يشتهي طعاماً.

هكذا كان هم الآخرة مع الصالحين.

وقد أخرج ابن ماجة بسند صحيح قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من كانت همه الآخرة جمع الله له شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا راغمة. ومن كانت همه الدنيا فرّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله له).

نسمع مثل هذا الحديث، ثم نرى تلك الهموم الدنيوية التي هي حديث مجالسنا، فتارة عن مشاريع تجارية، وتارة معمارية، وتارة وظيفية، وأخرى عن المركب أو عن الملبس أو المشرب، وهكذا حتى الصالح منا لم يسلم من هذه الهموم، فتجد أن هموم كثير حتى من الصالحين كثيراً ما تتعلق بدنياه.

لكن أين هم الآخرة؟! ذلك الهم الذي غلب على قلوب أولئك الرجال.

هكذا كان همّ الآخرة وتعلق القلوب بها في حياة أولئك الرجال.

- بهذه الخشية فُضِّل ابن المبارك:

وانظر إلى ابن المبارك رحمه الله تعالى، يقول القاسم بن محمد : كنا نسافر مع ابن المبارك فكثيراً ما كان يخطر ببالي، فأقول في نفسي: بأي شيء فُضِل هذا الرجل علينا حتى اشتهر في الناس هذه الشهرة؟! إن كان ليصلي إنا لنصلي، ولئن كان يصوم إنا لنصوم، وإن كان يغزو إنا لنغزو، وإن كان يحج إنا لنحج.

قال: فكنا في بعض مسيرنا في طريق الشام ليلة نتعشى في بيت إذ انطفأ علينا السراج، فقام بعضنا لإصلاح السراج، فكانت هُنيهة -أي: لحظة من اللحظات- ثم جاء السراج، فنظرت إلى وجهه رحمه الله تعالى وقد ابتلت لحيته من كثرة الدموع، فقلت في نفسي: بهذه الخشية فُضِّل هذا الرجل علينا، ولعله عندما فقد السراج وصار إلى الظلمة ذكر القيامة فتأثر.

هكذا القلب عندما يتعلق بالله جل وعلا، فهذه لحظة من اللحظات غاب منها السراج، ظلمة من الظلمات، فتذكر ظلمة القبر، وتذكر أهوال يوم القيامة، وهكذا القلب المتعلق بالله، إذا رأى ظلمة تذكر ظلمة القبر، وإذا رأى ناراً تذكر نار جهنم وسعيرها، وإذا رأى خضرة ونعيماً تذكر نعيم الجنة، فهو متعلق بالله دائماً.

ولذلك ذكر الإمام أحمد في كتابه الزهد ، أن ابن مسعود مرَّ على هؤلاء الذين ينفخون الكير، فوقع مغشياً عليه.

وذكر ابن الجوزي في صفة الصفوة أن مطر الوراق وصاحبه هرم بن حيان كانا يصطحبان أحياناً بالنهار، فيأتيان سوق الرياحين فيسألان الله الجنة ويدعوان، ثم يأتيان الحدادين فيعوذان من النار، ثم يتفرقان إلى منازلهما.

هكذا كانت القلوب تتعلق بالله خشية وخوفاً، وهكذا كان همّ الآخرة يفعل بقلوب أولئك الرجال.

ب- يا سفيان! اذكر وقوفك بين يدي الله:

بل تعال واسمع لهذا الموقف العجيب، وهو من أعجب المواقف التي قرأتها ووقفت عليها في سيرة الإمام سفيان الثوري رحمه الله تعالى، يقول أحد تلامذته: كنت أتعجب من حياة الإمام! وكنت من عجبي به أتبعه في خلواته وجلواته، ثم رأيت منه عجباً، رأيت أنه يقف في اليوم مرات يخرج من جيبه رقعة فينظر إليها ثم يعيدها، يفعل ذلك في اليوم مرات، يقول: فازددت إصراراً في معرفة السر على الورقة، فما زلت خلف الإمام أتبعه، وألحظه في خلواته وجلواته حتى وقعت الورقة في يدي، فنظرت فيها فإذا مكتوب فيها...

ماذا تتوقع -يا أخي الحبيب!- أن يكون مكتوباً في هذه الورقة؟! ولماذا سفيان ينظر إلى هذه الورقة كل لحظة أو يفعل ذلك في اليوم مرات؟!

يقول التلميذ: فإذا مكتوب في هذه الورقة: يا سفيان ! اذكر وقوفك بين يدي الله عز وجل.

سبحان الله! أمير المؤمنين في الحديث، سفيان الثوري رضي الله تعالى عنه وأرضاه، صاحب الخشية والورع، علم أن هذه النفس تغفل، فأراد أن يؤدبها وأن يربيها، فكتب هذه العبارة في هذه الورقة، فكلما همت نفسه بمعصية أو غفلت، أخرجها فنظر إليها وقرأها فتذكر الآخرة، وتذكر وقوفه بين يدي الله عز وجل، فأين نحن من هذا الفعل؟

نحن قد نتثاقل كثيراً إذا سمعنا واعظاً يعظ، أو مذكراً يذكّر، أما أولئك فهكذا كانوا يفعلون رحمهم الله تعالى.

هضم النفس مهما بلغت من الصلاح

الأثر الخامس والأخير من آثار هذا السر العجيب في حياة أولئك الرجال: هضم النفس والإزراء عليها مهما بلغت من الصلاح.

وانتبه! لأن هذه آفة كادت تعصف بكثير حتى من الصالحين والأخيار: العُجب والغرور بالعمل.

أما أولئك الرجال فكانوا يتصفون بهذه الصفة: الإزراء على النفس وازدرائها مع ما كان فيها من صلاح.

سبحان الله! إذا كانوا يهضمون أنفسهم ويزدرونها وهم أولئك الذين سمعنا أفعالهم وصفاتهم في أول الحديث، فماذا نقول نحن إذاً عن أنفسنا؟!

إن كثيراً من أهل الخير والصلاح ومن عامة الناس غفل قلبه حتى ظن أنه يذكر ولا يذكر، ويحدث ولا يحدث، وأنه ليس بحاجة إلى موعظة وتذكير فلا يسمع، وإن سمع فللانتقاد والملاحظات، ولا يقرأ وإن قرأ فللتدريس والتعليم.

ولاشك أن هذا آفة كما ذكرنا، فمن آثار استشعار مراقبة الله جل وعلا عند أولئك الأخيار وأولئك السلف أنهم عرفوا حقيقة أنفسهم، مع ما بلغت من فعل الخيرات والصلاح.

ولذلك اسمع للإمام الذهبي عندما يقول عن الإمام سفيان الثوري رحمه الله تعالى: هو شيخ الإسلام، إمام الحفاظ، سيد العلماء العاملين في زمانه، كان سفيان رضي الله عنه من شدة تعلقه بالآخرة واستيلاء همها عليه، فكأنه جاء منها فهو يحدثك عنها رأي العين.

ويقول أبو نُعيم : كان سفيان إذا ذكر الموت لم يُنتفع به أياماً.

ويقول ابن مهدي : كنا نكون عنده فكأنما وقف للحساب.

- إني إخاف الله:

واسمع -أيضاً- لذلك الموقف الآخر الذي ذكره لنا صلى الله عليه وآله وسلم في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله! قال في إحدى الصور: (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال) اسمع! (ورجل) بما جعل الله فيه من حب للنساء، (دعته امرأة) المرأة تدعوه،لم يذهب هو ليبحث عنها.. لم يسافر من أجلها.. لم تداعب أنامله أرقام الهاتف حتى يصيد فريسته، إنما المرأة تدعوه.

(ذات منصب) حتى إذا افتضحت الجريمة فهي كفيلة بأن تلملمها، وأن تستر على هذا الرجل بمنصبها.

(وجمال) والمرأة ذات جمال، وقلوب الرجال تهفو إلى الجمال.

إذاً فظروف الجريمة مهيأة من جميع الجوانب، فما الذي يردك أيها الرجل؟!

ما الذي يرد هذا الرجل اسمع: (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال -فتأتي الإجابة- فقال: إني أخاف الله).

مهما كانت الظروف، ومهما تيسرت السبل، فإني أخاف الله.

ولذلك كان من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله:

كنا قلادة جيد الدهر وانفرطت     وفي يمين العلا كنا رياحينا

كانت منازلنا في العز شامخة     لا تشرق الشمس إلا في مغانينا

فلم نزل وصروف الدهر ترمقنا     شزراً وتخدعنا الدنيا وتلهينا

حتى غدونا ولا جاه ولا نسب     ولا صديق ولا خِلّ يواسينا

واسمع لكلمات ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه تحقيق الإخلاص ، في صفحة [48] عندما قال: يا قوم! قلوبكم على أصل الطهارة، وإنما أصابها رشاش من نجاسة الذنوب، فرشوا عليها قليلاً من دموع العيون وقد طهرت، اعزموا على فطام النفوس عن رضاع الهوى، ذكروها مدحه: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَام

أول هذه الآثار عندما عرفوا هذا السر -وهو خشية الله ومراقبة الله في كل حال- هو: استشعار عظم الذنب مهما كان صغيراً أو كبيراً.

فمن كان مراقباً لله جل وعلا، ومن كان في قلبه خشية وخوف من الله؛ استشعر ذنبه أياً كان، سواء كان هذا الذنب صغيراً أو كبيراً!

إذا وقع العبد الصالح المراقب لله جل وعلا في معصية، فما زالت هذه المعصية وما زال هذا الذنب يحرق قلبه.

المهم: المبدأ، فصاحب المبدأ وصاحب الرسالة الذي يعيش لخدمة عقيدته ومبدئه ورسالته لاشك أنه متصف بهذه الصفة وهي استشعار الذنب، لا يهمه إن كان الذنب كبيراً أو صغيراً ما دام يعيش على مبدأ ( لا إله إلا الله )، فيحرص أن تكون حياته في رضا الله.

فهذا هو التوحيد وهذه حقيقته، فإن وقع في الذنب مرة أو مرتين استشعر هذا الخطأ، فأقلع واستغفر وندم وتاب.

عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه -كما أخرج البخاري في صحيحه في كتاب الدعوات باب التوبة- أنه قال: (إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه -انظر إلى استشعار الذنب عند المؤمن- وإن الكافر أو الفاجر ليرى ذنوبه كذباب مر على أنفه، فقال به هكذا فطار) كما قال راوي الحديث أبو شهاب.

فهو لا يستشعر الذنب؛ لأنه لا يعرف عظمة من وقع في معصيته، ولو كان هذا القلب مراقباً لله؛ لأصبحت الدمعة سيالة على الخد، ولأصبح القلب رقيقا ليناً خائفاً خاشعاً لله جل وعلا.

- خشية النبي صلى الله عليه وسلم:

تعال واسمع لهذا المنهج الشرعي في حياة أولئك الأتقياء رحمهم الله تعالى، حيث كانت مراقبة الله معهم في كل لحظة، وفي كل أمر، سواء كان كبيراً أو صغيراً.

ولنبدأ بحبيبنا وقدوتنا -بأبي هو وأمي- رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد ذكر لنا البخاري في صحيحه في كتاب اللقطة: باب إذا وجد تمرة ساقطة، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي فأرفعها لآكلها ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها).

سبحان الله! (ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها).

هكذا يكون الخوف من الله، القضية عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شبهة؛ فهذه التمرة ليس من المؤكد أنها من تمر الصدقة، فلربما كانت من تمر الصدقة، ولربما كانت من تمر بيته!!

ثم يخرج لنا الإمام أحمد في مسنده من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تضور ذات ليلة -ومعنى تضور: أي: جزع وسهر صلى الله عليه وآله وسلم- فقيل له: ما الذي أسهرك يا رسول الله؟ -وتصور يا أخي الحبيب ما هو الشيء الذي أسهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما هو هذا الأمر الذي أقضَّ مضجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طوال ليله- فقال صلى الله عليه وسلم: إني وجدت تمرة ساقطة فأكلتها، ثم ذكرت تمراً كان عندنا من تمر الصدقة، فما أدري أمن ذلك كانت التمرة أو من تمر أهلي؛ ذلك الذي أسهرني).

سبحان الله! تمرة تُسْهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه أكلها وهي شبهة.

ولكنه المبدأ الذي يعيش عليه صاحب العقيدة، الذي يعيش عليه صاحب: (لا إله إلا الله) رضا الله فوق كل شيء، وخوف ومراقبة الله سبحانه وتعالى.

- خشية الصحابة رضوان الله عليهم:

ثم -أيضاً- تعال وانظر إلى التربية لأولئك الأصحاب الذين ساروا على هذا المنهج النبوي العظيم، فيخرج لنا البخاري في صحيحه -أيضاً- في كتاب مناقب الأنصار: باب أيام الجاهلية، من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: [كان لـأبي بكر غلام يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يوماً بشيء فأكل منه أبو بكر ، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ فقال الغلام: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية، وما أُحسن الكهانة، إلا أني خدعته فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه -فماذا فعل أبو بكر الصديق ؟!- تقول عائشة : فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه].

لا إله إلا الله! القضية عند أبي بكر -أيضاً- شبهة، فهو أكل الطعام وهو لا يعلم مصدره، ثم إن الغلام تكهن لهذا الرجل في الجاهلية والإسلام يجبُّ ما قبله.

وفي رواية: [أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه كان بحضرته بعض أصحابه فقالوا: يا أبا بكر ! ارحم نفسك! فقال: والله! ما أزال أخرج الطعام حتى لو ظننت أن روحي تخرج معه لفعلت].

الخشية والخوف من الله جل وعلا، فأين أولئك الذين يتعاملون بالربا، ويأكلون الحرام وهم يعلمون أنه حرام؟! أين هم من تلك المواقف؟!

ولكنه السر العجيب، فخوف الله ومراقبة الله متى ما كانت في القلب نجا صاحبه.

أما الأثر الثاني من آثار هذا السر في حياة النبلاء رحمهم الله تعالى، فهو: بيوت تتربى على الورع ومراقبة الله.

لما امتلأت قلوبهم خشية لله وأصبحت هذه القلوب مراقبةً لله جل وعلا في كل صغيرٍ وكبير، تربت بيوتهم على هذا المبدأ.. البيت كله أصبح يعيش على خوف الله وخشية الله: الزوجة.. الأولاد.. الصغار.. الكبار.. أصبح ذلك البيت كله يتربى على الورع وعلى خشية الله وخوف الله.

واسمع أمثلة على هذا الأمر:

- من بيتكم يخرج الورع.

ذكر القسطلاني في كتابه إرشاد الساري ، أن امرأة جاءت إلى الإمام أحمد فسألته سؤالاً، هذا السؤال جعل الإمام أحمد يبكي.

تقول المرأة للإمام أحمد : إننا نغزل على سطوحنا فيمر بنا مشاعل الظاهرية -أي: الحرس- فيقع الشعاع علينا، أفيجوز لنا -يا إمام!- الغزل في شعاعها؟!

سبحان الله! تسأل تلك المرأة الإمام أحمد : أيجوز لها أن تستغل هذا النور الذي يقع عليها للحظة من نور الحرس في غزلها؟!

وفي لفظ آخر لهذه القصة، ذكره عبد الله بن المبارك في كتابه الزهد والرقائق: أن المرأة قالت للإمام أحمد : يا إمام! إنني أغزل على ضوء السراج، وربما انطفأ السراج، فأغزل على ضوء القمر، أيجب عليَّ -يا إمام!- عند بيع غزلي أن أفرق للبائع ما غزلته تحت ضوء السراج مما غزلته تحت ضوء القمر؟!

سبحان الله! إلى هذا الحد يصل الورع والخشية والخوف في قلوب المؤمنين متى ما تحقق هذا المبدأ، وهو خوف الله ومراقبة الله.

فاسمعي أيتها الأمة! واسمعي أيتها الصالحة! يوم أن كانت بيوت المسلمين تتربى على الورع.

فقال لها الإمام أحمد متعجباً لورع هذه المرأة: من أنت يا أمة الله؟! من أنت عافاك الله؟! فذكرت أنها أخت لـبشر الحافي، فبكى الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه وأرضاه وقال: من بيتكم يخرج الورع الصادق.

متى؟ يوم أن كانت بيوت المسلمين تتربى على الورع، وعلى خشية الله.. يوم أن كان الرجل يخرج من بيته مخلِّفاً وراءه امرأة صالحة.. ساجدة خاشعة.. باكية دامعة لله جل وعلا.

هكذا يا أخي الحبيب! وهكذا أيتها المسلمة! كانت بيوت المسلمين تتربى على الورع وعلى خشية الله وخوف الله.

وأسألك بكل تجرد عن الهوى: على أي شيء تتربى بيوت المسلمين اليوم؟ وكن صادقاً مع نفسك، فنحن نريد الحق ولا شيء غير الحق.

على أي شيء تتربى بيوت المسلمين اليوم؟ كم من رجل أدخل جهاز التلفاز إلى بيته، فأصبحت تلك الفتاة المراهقة تجلس ساعات طوال من الليل أمام هذه الشاشة، فما الذي تسمعه؟! وما الذي تراه؟! وكيف سيكون حالها؟! وكيف هي مشاعرها؟! وكيف قلبها؟!

تقوى لله، وخوف من الله، وخشية لله؟! من أي طريق ستصل هذه المبادئ لذلك القلب؟!

أنت خرجتَ ربما لسهراتك أو لمشاغلك ومواعيدك، أو أنك نمت في ليلك فتركت أولادك وبناتك أمام هذا الجهاز، وكلنا يريد الصلاح لذريته، وكلنا تقرّ عينه عندما يرى ولده صالحاً سباقاً إلى بيت من بيوت الله حافظاً لكتاب الله، أو يرى فتاته صالحة ملتزمة، كلنا يحب ذلك، لكن أين ذلك الرجل الذي فعل الأسباب وهيأ ذلك الجو المناسب داخل البيت حتى يصل خوف الله وخشية الله إلى تلك القلوب الرقيقة؟!

- راقبت ربها وحفظت زوجها:

وتعال واسمع -أيضاً- لتلك المرأة عندما كان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه يعسّ في شوارع المدينة كعادته في الليل، فاتكأ على جدار من جدران بيوتات المدينة، فإذا به يسمع تلك الهمهمة من تلك المرأة.. امرأة لوحدها في بيتها وفي ظلمة الليل مع ضعف نفسها وقوة شيطانها، زوجها قد سافر مع جيش المسلمين طويلاً، وهي لا تعلم أن أحداً يسمعها فتتمثل بهذه الأبيات وتقول:

تطاول هذا الليل واسودّ جانبه     وأرقني ألا خليل ألاعبه

فوالله لولا الله لا شيء غـيره     لحرّك من هذا السرير جوانبه

ولكن تقوى الله عن ذا تصدني     وحفظاً لبعلي أن تنال مراكبه

الله أكبر! يوم أن تخرج -يا أخي الحبيب!- من بيتك وقد خلفت امرأة صالحة تراقب الله وتخشى الله، فتحفظك في نفسها، وفي بيتها ومالها، وفي ولدك وبناتك.

ما أحلى أن تتصف المرأة المسلمة بهذه الصفة!! بخشية الله وخوف الله.

لكن رب أمير المؤمنين يرانا!!

بل تعال واسمع لبنات المسلمين يوم أن تربوا على خشية الله كيف أثّر هذا السر في حياتهم، قصة بائعة اللبن قصة مشهورة معروفة، وكلنا يعرفها:

لما كان عمر يعس -أيضاً- في شوارع المدينة يسمع هذا الحوار بين الأم وابنتها، تقول الأم: يا بنية! أمزجت اللبن بالماء؟ -حتى يكثر ربح هذا البيع- فتقول البنية: يا أماه! أوَ ما علمت أن أمير المؤمنين نهى أن يمزج اللبن بالماء؟ فتقول الأم بقلب المرأة التي غفلت عن ذكر الله وغفلت عن رقابة الله: يا بنية!وما يدري أمير المؤمنين بنا الآن؟!

نعم. فالذي يراقب الناس ويخشى الناس ويخاف الناس هو داخل في بيته متقوقع لا يعلم عنه أحد، هو داخل أسوار بيته، فما الذي يُدري أمير المؤمنين بنا الآن؟!!

ولكن تأتي الإجابة من قلب تلك الفتاة الصغيرة البريئة التي تربت على خشية الله، وانظر يا أخي الكريم! كيفية ثمرة التقوى وخشية الله إذا ربيت صغارك عليها، تأتي الإجابة من قلب تلك الفتاة الصغيرة لتقول: يا أماه! إن كان أمير المؤمنين لا يرانا فإن رب أمير المؤمنين يرانا.

هكذا هو القلب المتعلق بالله، الذي يراقب الله جل وعلا.

فأقول: من منا وقف مع هذا الموقف؟ وكما أسلفت كلنا يعرفه؛ فهو موقف مشهور، ولكن من منا وقف معه وحدّث به أهل بيته بل وحدث به صغاره؟ فكم من المرات جاءت بنياتك الصغيرات يقلن: يا أبتِ! أو يا أمي! قصّي لنا قصة أو احكي لنا حكاية.

أين أنتم من هذه المواقف؟! أين من أراد أن يربي الصغار على خشية الله وخوف الله؟!

كم من والد وكم من أم سالت الدمعة على الخد من عقوق أبنائها وبناتها، وكم من والد شكا أولاده لكثير من الصالحين.

وأقول: يداك أوكتا وفوك نفخ، فأنت الذي أهملت، ولو غرست هذه النبتة الصالحة -خوف الله وخشية الله- منذ الصغر في قلوب هؤلاء؛ لوجدتهم على خير ما تريد وعلى صلاح وفلاح.

- هل يبقى في الجدار تبن؟!!

اسمع للإمام حماد بن زيد رضي الله تعالى عنه وأرضاه يقول: كنت صغيراً مع أبي، فمررنا على جدار فيه تبن، فأخذت من الجدار عود تبن، فوقف أبي ونظر إليَّ كأنه ينهرني، فقال لي: لـمَ أخذت؟!

هكذا بشدة: لـمَ أخذت؟!!

يقول حماد : فقلت ببراءة الصغير: يا أبتاه! إنه عود تبن!!

فقال الأب -واسمع لأولئك الآباء- : يا بني! لو أن كل أحد مرّ على الجدار أخذ عود تبن هل كان يبقى في الجدار تبن؟!

تربية على أصغر الأشياء وأحقرها وإن كان عوداً من التبن، حتى إذا كبر الصغير وعقل وفهم لا تمتد يده على أي شيء حتى لو كان كبيراً أو صغيراً.

هكذا هي التربية، وهكذا هو الخوف من الله سبحانه وتعالى.

الأثر الثالث من آثار هذا السر في حياة النبلاء: كثرة الخلوة بالنفس والدمعة المباركة، فما زالت خشية الله، وما زالت مراقبة الله في قلوب الصالحين حتى اختلوا بالله سبحانه وتعالى، مناجاة له جل وعلا في ظلمة ليل أو خلاء أو مكان لا يراه فيه أحد، وربما سالت الدموع على الخدود تذكراً لعظم ذنب أو لتقصير في حق الرب جل وعلا.

وهذا الأثر يوضحه لنا صلى الله عليه وآله وسلم في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وذكر منهم: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه).

واسمع! (ورجل ذكر الله خالياً) لوحده في ظلمة ليل أو في مكان لا يراه فيه أحد، وتذكر عظم ذنبه وتقصيره في حق ربه، وتذكر منّة الله جل وعلا عليه وإنعام المولى سبحانه وتعالى، فسالت الدمعة على الخد خوفاً وخشية لله جل وعلا، فكان من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.

أسألكَ بالله وأسألكِ بالله! كم من المرات حدث لنا مثل هذا الموقف؟ كم من المرات اختليت بالله جل وعلا فتذكرت ذنبك وتقصيرك في حق ربك؛ فسالت الدمعة على الخد؟!

إن جرّبت ذلك فزدْ، وإن لم تجرّب فجرّب، قف هذه الليلة في ظلمة الليل.

اختفِ عن أعين الناس وسترى أثر الإيمان وحلاوته وخشية الله ومراقبته في قلبك كيف يكون.

- خلوة الفاروق ومراقبته لنفسه:

عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ما قرأت يوماً في سيرته إلا وتعجبت من مواقفه رضي الله عنه ورحمه، ولا أظن -والله!- يوماً أن دمع العين أخطأ مجراه عند قراءة سيرة هذا الرجل، ولا تقل -يا أخي الحبيب!- إن عمر مشهور، فوالله! مهما عرفت من قصصه ومواقفه فإنك تجهل الكثير الكثير في حياته.

هذا الرجل حياته عجب أيما عجب! ومواقفه كثيرة، وانظر مواقفه في خشية الله ومراقبة الله يوم أن كان صاحب قلب قاس متحجر، وقصته -وإن كانت تروى بأسانيد ضعيفة- في إسلامه، يوم أن حمل السيف، لماذا؟! ليقتل رسول الله، ولا أظن قلباً يحمل السيف لقتل رسول الله إلا وقد امتلأ هذا القلب بغضاً وحقداً وتكبراً وتجبراً، فسبحان الله! ولا إله إلا الله! يوم أن فعلت الأفاعيل في قلب هذا الرجل، فحولته من هذا القلب المتجبر القاسي إلى قلب رقيق لين خاشع باك خائف من الله جل وعلا.

يذكر الذهبي في سيرة عمر ، وأبو نُعيم في حلية الأولياء ، أن من صفة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه كان في خديه خطان أسودان؛ من أثر كثرة البكاء من خشيته لله وخوفه من الله.

ويحكى أنه كان يوماً من الأيام يقرأ: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التكوير:1] حتى انتهى إلى قوله تعالى: وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ [التكوير:10] فخر مغشياً عليه رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

وكان يمر بالآية في ورده فتخنقه العبرة، فيبقى في البيت أياماً يُعاد يحسبونه مريضاً، كما ذكر ذلك الإمام أحمد في كتابه الزهد .

واسمع لموقفه العجيب مع امرأته! يوم اشتهت يوماً من الأيام حلوى، فأرادت أن يشتري عمر لها حلوى، ويا ليتها تريد من عمر أن يشتري حلوى من بيت مال المسلمين، لا. وإنما من مال خاص بها، فاسمع لهذا الحوار بينها وبينه في هذه الأبيات:

فمن يباري أبا حفص وسيرته     أو من يحاول للفاروق تشبيها

يوم اشتهت زوجه الحلوى فقال لها     من أين لي ثمن الحلوى فأشريها

لا تمتطي صهوات النفس جامحة      فكسرة الخبز عن حلواك تجزيها

وهل يفي بيت مال المسلمين بما     توحي إليك إذا طاوعت موحيها

قالت: لك الله إني لست أرزؤه     مالا لحاجة نفس كنت أبغيها

يعني: المال خذه. فقال لها:

ما زاد عن قوتنا فالمسلمون به     أولى فقومي لبيت المال رديها

قد فر شيطانها لمـا رأى عمراً     إن الشياطين تخشى بأس مخزيها

هذي مناقبه في عهد دولته     للشاهدين وللأعقاب أحكيها

في كل واحدة منهن نابلة     من الطبائع تغدو نفس راعيها

لعل في أمة الإسلام نابتة     تجلو لحاضرها مرآة ماضيها

حتى ترى بعض ما شادت أوائلها     من الصروح وما عاناه بانيها

وحسبها أن ترى ما كان من عمر     حتى ينبه منها عين غافيها

هكذا كانت حياة الفاروق رضي الله تعالى عنه وأرضاه.. كثرة خلوة بالنفس وبكاء وخشية لله.

ويوم أن كان على فراش الموت قال لولده عبد الله وقد رفع رأسه: [ضع رأسي على التراب، يا ليت أم عمر لم تلد عمر ، يا ليت عمر كان شجرة تعضد].

لا إله إلا الله! إنها خشية الله عندما تكون في قلوب الصالحين.

- إمام أهل السنة يخفي الدمعة:

أحمد بن حنبل ناصر السنة.. إمام أهل السنة والجماعة .. قامع البدعة رضي الله تعالى عنه وأرضاه.. صاحب الزهد والورع، له كتاب مؤلف اسمه: كتاب الزهد ، مطبوع وموجود في المكاتب، يروى في سيرته أنه كان يوماً من الأيام جالساً مع تلاميذه يحدثهم، فشعر في نفسه برقة ولين قلبٍ -وهكذا كانوا رحمهم الله يخفون دمعاتهم- فقام من المجلس، تأخر على التلاميذ، فذهب أحد التلاميذ ليبحث عن الإمام وينظر لماذا تأخر، فلما أقبل على باب الغرفة فإذا به يسمع الإمام أحمد يتمثل هذين البيتين ويبكي رضي الله تعالى عنه وأرضاه:

إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقلْ     خلوتُ ولكن قلْ عليَّ رقيب

ولا تحسبنّ الله يغفل ساعة     ولا أن ما تخفي عليه يغيب

يردد هذين البيتين ويجهش بالبكاء رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

هكذا كانت الخلوة وخوف الله في قلوب أولئك النبلاء رحمهم الله تعالى.

وفي الحديث الصحيح المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يلج النار أحد بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع) فهذا فضل لأولئك البكائين.

فيا أيها الإخوة! ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا، فها هي نيران المعاصي والغفلة تأتي على قلوبنا فتحيل بينها وبين الخشوع والخشية لله، فهل نطفئها بالدموع الغالية ونبدأ المسير إلى الله جل وعلا؟!

يا شيخ... إنه الله!

واسمع لموقف تربوي يحكيه لنا بعض أهل التربية في كتبهم، وفيه عبرة ونظرة للمربين وللمدرسين والمدرسات:

يقال أن أحد المربين قال لصغاره: يا أبنائي! إذا كان من الغد فلا يأتي أحدٌ منكم إلا وبيده دجاجة قد ذبحها في مكان لا يراه فيه أحد، فلما كان من الغد، جاء الغلمان الصغار كلهم وقد علّق كل فرد منهم بيده دجاجة قد ذبحها في مكان لا يراه أحد، كما هي وصية شيخه، إلا تلميذاً واحداً، فقال له المربي: لماذالم تفعل كما فعل زملاؤك؟ وأين دجاجتك؟ قال الصغير: يا شيخ! إنك قلت لي أن أذبح الدجاجة في مكان لا يراني فيه أحد، وإنني صعدت السطح فوجدت أن أحداً يراني، ودخلت الغرفة فوجدت أن أحداً يراني، وما تركت مكانا في البيت إلا وكان هذا الأحد معي يراني.

فقال الشيخ: من هذا الأحد يا غلام؟! فقال الصغير -الذي تربى على خشية الله ومراقبة الله-: يا شيخ.. إنه الله! إن الله معي في كل مكان يراني! فضمه الشيخ وقال: أحسنت أحسنت، أنت ابني إذاً.

هكذا تكون التربية لأبناء المسلمين، وأقول هنا للمدرسين والمدرسات: أين أنتم من هذا المبدأ وغرسه في نفوس الصغار؟ أين أنتم من حمل الأمانة التي ضيعها كثير من أولئك؟!

إن صغار المسلمين وأبناء المسلمين أمانة في أعناق كل مسلم ومسلمة، فمتى فكرت يوماً من الأيام أن تربي أو أن تخوّف هؤلاء الصغار بالله جل وعلا، وأن تغرس مثل هذا المبدأ في نفوسهم؟

ومتى وقفت أيتها الأم! أو أيها الأب! لتربي ابنك أو صغيرتك على هذا المبدأ؟!

كثير من الأمهات إذا أرادت أن تخوف صغارها تخوفهم بأبيهم، ولذلك ينشأ الصغير على خوفه من أبيه، فإذا غاب الأب أصبح الصغير يفعل كل أمر تمليه عليه نفسه، وبسبب هذا الخطأ التربوي وجدنا أن كثيراً من الصغار -مثلاً- لا يحرص على صلاة الجماعة إلا إذا كان والده موجوداً.

ولو أننا حرصنا على تربية الصغار أو تخويفهم بالله جل وعلا وإذا فعلوا شيئاً قلنا: إن الله يراك.. إن الله يغضب عليك، وخوفناهم بالنار، ورغبناهم في الجنة، فلا علينا إذا أطلقنا بعد ذلك العنان لهذا الصغير يذهب أينما شاء؛ لأنه كلما حدثته نفسه بمعصية تذكر رقابة الله وخوف الله، وبدأ قلبه الذي تربى على هذا المبدأ يفعل فعله، فيصبح سداً منيعاً أمام الشباب، وأمام الصغار بينهم وبين المعصية، وبينهم وبين وساوس الشيطان.


استمع المزيد من الشيخ إبراهيم الدويش - عنوان الحلقة اسٌتمع
المحرومون 2932 استماع
سهام للصيد 2612 استماع
توبة صايم 2610 استماع
اذهبوا بنا نصلح بينهم 2609 استماع
من كنوز الحج ... 2480 استماع
موعظة السبع البواقى 2467 استماع
بحر الحب 2409 استماع
بشائر ومبشرات 2352 استماع
السحر الحلال 2350 استماع
أهمية أداء الزكاة 2340 استماع