أرشيف المقالات

خوف النبي صلى الله عليه وسلم وخشيته من الله تعالى

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
خوف النبي صلى الله عليه وسلم
وخشيته من الله تعالى
 
حقيقة الخوف وبواعثه:
الخوف عبارة عن تألم القلب بسبب توقع مكروه في المستقبل.
والخوف من الله تعالى:
♦ تارة يكون لمعرفة بالله تعالى وصفاته.
♦ وتارة يكون لكثرة جناية العبد ومعاصيه.
♦ وتارة يكون بها جميعًا.
 
وبحسب معرفة العبد بعيوب نفسه، ومعرفته بجلال الله تعالى، تكون قوة خوفه، فأخوف الناس لربه أعرفهم بنفسه وبربه.
ولذا كان العلماء من أكثر الناس خوفًا، قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾[1] [2].
 
النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الناس خوفًا لله:
وإذا كان الخوف منبعثًا من المعرفة بالله تعالى، فإنه صلى الله عليه وسلم أشد الناس خشية له سبحانه وتعالى.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه، فو الله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية»[3].
وهكذا ارتبطت شدة الخشية بكثرة العلم.
 
ولما كان علم الناس سيظل قاصرًا عن علم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم لو أمكن أن يرتقوا بعلمهم ويصلوا إلى علمه صلى الله عليه وسلم لتغيرت أساليب حياتهم ولأصبح السرور لا يجد إلى نفوسهم طريقه.
 
قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده لو تعلمون ما أعلم، لبكيتم كثيرًا ولضحكتم قليلًا»[4].
 
وقد نقل لنا صلى الله عليه وسلم بعض هذا الذي لا نعلمه خبرًا عما شاهده، وهو الصادق المصدوق فقال:
«إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء، وحق لها أن تئط[5]، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدًا لله.
لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات[6]، تجأرون إلى الله»
[7].
 
قال أبو ذر، راوي الحديث: لوددت أني كنت شجرة تعضد[8].
ذلك بعض ما في نفسه صلى الله عليه وسلم على الدوام من خشية الله سبحانه وتعالى.
 
وقد جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا بها، كأنهم تقالّوها[9]، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
 
فكأنهم رأوا أن النبي لا يحتاج إلى كثرة العبادة لمغفرة الله تعالى له، ورأوا أن عليهم أن يكونوا أكثر عبادة.
فلما أخبر صلى الله عليه وسلم بأمرهم قال:
«أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني»[10].
 
فما كانت مغفرة ذنوبه لتقلل من خوفه وخشيته التي مبعثها العلم بالله، بل كانت المغفرة باعثًا على الشكر وزيادة عبادته صلى الله عليه وسلم شكرًا.
 
وإذًا فلن يكون إنسان أعبد لله أو أكثر خشية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذروة العبادة والخشية هي في اتباعه صلى الله عليه وسلم.
 
مشاهد من خوفه صلى الله عليه وسلم:
إن خشية النبي صلى الله عليه وسلم وخوفه من الله تعالى، أمر قائم في قلبه ملازم له، لا يفارقه.
ومع ذلك.
فقد كانت الحوادث الكونية تؤثر في ذاته، فيظهر أثر ذلك على وجهه الشريف، ويهرع إلى العبادة والذكر.
 
عن أنس رضي الله عنه، قال: «كانت الريح الشديدة إذا هبت، عرف ذلك في وجه النبي صلى الله عليه وسلم»[11].
 
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى مخيلة[12] في السماء، أقبل وأدبر، ودخل وخرج، وتغير وجهه، فإذا أمطرت السماء سري عنه، قالت عائشة: فسألته فقال: «ما أدري لعله كما قال قوم: ﴿ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ ﴾[13] الآية»[14].
 
وعنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعًا ضاحكًا حتى أرى منه لهواته، إنما كان يتبسم، قالت: وكان إذا رأى غيمًا أو ريحًا، عرف ذلك في وجهه، فقالت: يا رسول الله، أرى الناس إذا رأوا الغيم فرحوا، رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته، عرفتُ في وجهك الكراهية، قالت: فقال: «يا عائشة، ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا»[15].
 
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: خسفت الشمس، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فزعًا يخشى أن تكون الساعة، فأتى المسجد، فصلى بأطول قيام وركوع وسجود رأيته قط يفعله، وقال: «هذه الآيات التي يرسل الله، لا تكون لموت أحد، ولا لحياته، ولكن يخوف الله بها عباده، فإذا رأيتم شيئًا من ذلك، فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره»[16].
 
وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالت: كسفت الشمس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ففزع، فأخطأ بدرع، حتى أدرك بردائه بعد ذلك[17].
 
وهكذا من شدة سرعته واهتمامه بذلك أخذ درع أهل بيته - ودرع المرأة قميصها - سهوًا، حتى أدركوه بردائه.
 
بكاؤه صلى الله عليه وسلم من خشية الله:
عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرأ عليَّ» قال: قلت: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: «إني أشتهي أن أسمعه من غيري» قال: فقرأت النساء، حتى إذا بلغت ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴾[18] قال لي: «كفَّ، أو أمسك» فرأيت عينيه تذرفان[19].
 
وعن عبدالله بن الشخير قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، ولجوفه أزيز كأزيز المرجل، يعني من البكاء[20].
وكيف لا، وهو القائل صلى الله عليه وسلم.
«عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله»[21].



[1] سورة فاطر، الآية (28).



[2] هذه الفقرة عن كتاب «المهذب من إحياء علوم الدين» (2/ 310).


[3] أخرجه البخاري (6101).


[4] أخرجه البخاري (6637).


[5] أطت السماء: الأطيط: صوت الإبل إذا حنت، وصوت القتب إذا ضغطه ثقل ما، والمعنى: أي أن السماء لكثرة ما عليها من الملائكة قد أطت فسمع صوت الثقل.



[6] الصعدات: هي الطرق.



[7] أخرجه الترمذي وابن ماجه (ت 2312، جه 4190).


[8] تعضد: تقطع من أصلها، والمراد: تمنيه أن يكون غير ذي روح فلا يبعث ولا يسأل.



[9] تقالوها: أي وجدوها قليلة.



[10] متفق عليه (خ 5063، م 1401).



[11] أخرجه البخاري (1034).


[12] مخيلة: هي سحابة فيها رعد وبرق، يخيل إليه أنها ماطرة.



[13] سورة الأحقاف، الآية (24).



[14] متفق عليه (خ 3206، م 899).



[15] متفق عليه (خ 6092، م 899) واللفظ لمسلم.



[16] متفق عليه (خ 1059، م 912).



[17] أخرجه مسلم (906).



[18] سورة النساء، الآية (41).


[19] متفق عليه (خ 5055، م 800).



[20] أخرجه أبو داود والنسائي (د 904، ن 1213) والأزيز: صوت الغليان إذا اشتد.



[21] أخرجه الترمذي (1639).

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١