المفتاح


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق، دين الرحمة والعدالة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

أيها الإخوة والأخوات! إن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.

نعم إخوة الإيمان! إن خير الحديث كتاب الله؛ لأنه يهدي للتي هي أقوم، وخير الهدي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه الطريق المستقيم الموصل إلى الله، وإلى سعادة الدنيا والآخرة، ونحن نردد كل يوم (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله) وهما المفتاح، مفتاح دعوة المرسلين، ومفتاح كل الأعمال لرب العالمين، ومفتاح الدخول في الإسلام لكل الراغبين.

فشهادة أن لا إله إلا الله توحيد لله، وتجريد للقلب من التأله والتعبد لأحد سوى الله، وهذا هو الإخلاص وهو من أعظم الأصول، وبعده متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فالاتباع والتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم والشهادة بأن محمداً رسول الله هو حقيقة إيمان العبد، فلا يتحقق إسلام عبد ولا يُقْبَلُ منه قول ولا عمل ولا اعتقاد إلا إذا حقق هذين الأصلين: الإخلاص والاتباع، وعمل بمقتضاهما؛ يقول الله تعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف:110].

يقول ابن تيمية رحمه الله: وبالجملة فعندنا أصلان عظيمان، أحدهما: ألا نعبد إلا الله، والثاني: ألا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بعبادة مبتدعة، وهذان الأصلان هما تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. انتهى كلامه رحمه الله.

وسيكون مدار الحديث عليهما:

فالأول: الإخلاص: وهو مسك القلوب وعماد الدين، مدار الفلاح كله عليه، أصل من أعظم الأصول، علمه خير علم، وفقهه هو الفقه كله، فيه رضا الرحمن وراحة القلوب ونجاة النفوس وعلو المنزلة في الدنيا والآخرة، وهو ركن العمل وأساسه.

والبيت لا يبتنـى إلا بأعمـدة     ولا عماد إذا لم تبن أركان

إنه الإخلاص، صدق النية (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى).

اسمعها أخي! رددها، تأملها، أعدها، كررها: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى).

سبحان الله! لا قيمة للعمل بدون نية، وليس لك إلا ما نويت، فلنتعلم إذاً النية فإنها أبلغ من العمل، لنتعلم النية فإنها تحول العادة إلى عبادة، ولما غابت النية أصبحت العبادة عادةً، جسداً بلا روح، فمن منا إذا أدى العبادة حمل هم قبولها من عدمه؟

قال مالك بن دينار : الخوف على العمل أن لا يقبل أشد من العمل.

فراجع حالك، واسأل نفسك أخي! كم هي الأعمال التي مضت؟ كم منها خلصت وصفت من أعمالنا، وأقوالنا، ووظائفنا؟ هل هي لله؟ أم للناس؟ أم للدنيا؟ كم هي الساعات التي نقضيها كل يوم في وظائفنا؟! كم هي الأعمال التي ننجزها كل يوم؟ كم هي الكلمات التي نتلفظ بها كل يوم؟ ليس لك منها إلا ما نويت شئت أم أبيت.

إنك تستطيع يا عبد الله! أن تجعل حياتك كلها لله، نعم. تستطيع أن تجعل ساعات العمل والوظيفة عبادةً تؤجر عليها، تستطيع أن تجعل ابتسامتك وبيعك وشراءك وإطعامك لزوجك وأولادك صدقة تكتب لك، ونهر حسنات يصب في سجلاتك.

الله أكبر! ما أحلاها وما أعظمها من نعمة، قال زبيد بن الحارث : أحب أن يكون لي في كل شيء نية، حتى في طعامي وشرابي.

إنها السعادة الحقة، جنة الدنيا، فلله ما أروع الإخلاص لله في كل شيء، وفي كل صغيرة وكبيرة، ودقيقة وجليلة قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:162-163].

الإخلاص والمتابعة أساسا قبول الأعمال

أيها الإخوة! لقد أخلص الأوائل من -سلف هذه الأمة- فكان نومهم وطعامهم وشرابهم عبادة، نرى ذلك بركةً في أعمالهم، ونوراً في أقوالهم، وقبولاً لمصنفاتهم وكلامهم.

سبحان الله! أحياء بأعمالهم وأقوالهم، أموات بأجسادهم، إنه الإخلاص الذي من أجله خلقت أنت أيها الإنسان! تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك:1-2].

قال الفضيل بن عياض : هو أخلصه وأصوبه، فإن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً والخالص: أن يكون لله، والصواب: أن يكون على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إذاً: لنراجع أنفسنا أيها الإخوة! لنقف هذه اللحظات وقفات مع أنفسنا، ولنسأل أنفسنا، هل كل عمل نعمله لله وكما جاء عن رسول الله؟ فإننا نقرأ في كتاب الله : فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف:110].

فيا عجباً! يا عجباً من أهل الرياء على عمل يبهرجوه وربك يعلم ما تكن صدورهم!

يا عجباً لمن يعمل لمخلوقين مثله ضعفاء! هب أن الناس مدحوك وأثنوا عليك ورفعوك وقالوا فيك وقدموك، فإن لم تكن عند الله كذلك فأنت والله صعلوك، أنت أعلم الناس بنفسك فلا يغروك.

أيها العقلاء! إنه الرياء، هباء في هباء وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23] فقولوا لمن لم يكن صادقاً لا يتعنى، يوم يقول الغني عنا: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه غيري فهو للذي أشرك به وأنا منه بريء) كما في صحيح مسلم .

وقد قال بعض المفسرين في قوله تعالى: وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47] قال: كانوا قد عملوا أعمالاً كانوا يرونها في الدنيا حسنات، بدت لهم يوم القيامة سيئات.

وقال الثوري على هذه الآية: ويل لأهل الرياء، ويل لأهل الرياء، ويل لأهل الرياء، هذه آيتهم وقصتهم وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47].

لا إله إلا الله! كم نتزين للناس بأشكالنا؟ كم نظهر لهم أعمالنا؟ كم تعجبنا أنفسنا وأقوالنا؟ والله وحده أعلم بسرائرنا وبواطننا، إن الله لا ينظر إلى أجسامنا ولا إلى صورنا ولا إلى أموالنا، ولكن ينظر إلى أعمالنا وقلوبنا، فآه لقلوبنا! وآه لأعمالنا! فإذا كان أول ثلاثة تسعر بهم النار: قارئ القرآن، والمجاهد، والمتصدق بماله، الذين فعلوا ذلك ليقال: فلان قارئ، فلان شجاع، فلان متصدق، ولم تكن أعمالهم خالصةً لله، فكيف بمن دونهم؟ كيف بنا ونحن ننتظر ثناء الناس لنا؟ كيف بنا ونحن نطلب الثمن ربما لأعمالنا؟ كيف بنا ونحن نغضب لذكر عيوبنا؟ كيف بنا ونحن نقدم أهواءنا وحظوظنا؟ كيف بنا ونحن نتزين للناس بما ليس عندنا؟ قال الفضيل : كانوا يراءون بما يعملون، وصاروا اليوم يراءون بما لا يعملون.

فإنا لله وإنا إليه راجعون! إنه الشرك الخفي الذي هو أخطر ما يكون على الأمة، فما أعظم خطره وما أخوفه خاصةً على الصالحين والصالحات، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال ؟ قالوا:بلى، قال: الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل إليه) رواه أحمد وابن ماجة وحسنه الألباني .

إخوة الإيمان! رياء المرائين صير مسجد الضرار مزبلة وخربة لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً [التوبة:108]، وإخلاص المخلصين رفع قدر التفث والشعث (رب أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره).

أخي! قلب من ترائيه بيد من أعرضت عنه، ليصرفه عنك إلى غيرك، فلا على ثواب المخلصين حصلت، ولا إلى ما قصدته بالرياء وصلت، وفات الأجر والمدح.

فقولوا للواقفين بغير باب الله: يا طول هوانكم، وقولوا للمؤملين لغير فضل الله: يا خيبة آمالكم، قولوا للعاملين لغير وجه الله: يا ضيعة أعمالكم.

لا إله إلا الله! كم بذل نفسه مراء ليمدحه الخلق، فذهبت نفسه فانقلب المدح ذماً، ولو بذلها لله بقيت ما بقي الدهر.

اعلم أخي! أن رضا الناس غير مقدور، وتحصيله غير مطلوب، ومن ذا الذي يقدر على إرضاء الناس: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116]، فاركن إلى الواحد الجبار واحرص على رضا العزيز الغفار.

وإياك إياك! أن تلتفت لأهل الأطمار، أيسرك أخي يوم القيامة أن يقال لك: اذهب فخذ أجرك ممن عملت له، لا أجر لك عندنا.

نعم. فـالعمل صورة، والإخلاص روح، انتبه أخي! إن لم تخلص فلا تتعب، فشجرة الإخلاص أصلها ثابت، وأما شجرة الرياء فإنها تجتث عند نسمة من كان يعبد شيئاً فليتبعه.

حال سلفنا الصالح مع الإخلاص

أيها الإخوة والأخوات! اسمعوا شيئاً من حال -سلفنا الصالح- لعل أن يكون في ذلك يقظة لقلوبنا من غفلتها ودعوةً إلى الصدق والإخلاص.

قال الربيع بن خثيم: [كل ما لا يراد به وجه الله يضمحل].

ووصى الإمام أحمد ابنه قائلاً: يا بني، انوِ الخير فإنك لا تزال بخير ما نويت الخير.

نعم. يا أخي! انوِ الخير فإنك بخير ما نويت الخير.

وقال أيوب السختياني : والله ما صدق عبد إلا سره ألا يشعر بمكانه.

سأل رجل شقيق بن إبراهيم : إن الناس يسمونني صالحاً، فكيف أعلم أني صالح أو غير صالح؟! فقال شقيق : أظهر سرك عند الصالحين، فإن رضوا به فاعلم أنك صالح وإلا فلا. أي: أحسن ما بينك وبين الله من أسرار، وإلا فالمؤمن مطالب بالستر على نفسه.

وكان محمد بن يوسف الأصبهاني لا يشتري زاده من خباز واحد، ويقول: لعلهم يعرفونني فيحابونني، فأكون ممن يعيش بدينه.

وقالت سرية الربيع بن خيثم: كان عمل الربيع كله سراً ، إن كان ليجيء الرجل، وقد نشر المصحف، فيغطيه بثوبه.

وكان إبراهيم النخعي إذا قرأ في المصحف فدخل داخلٌ غطاه.

وقال الشافعي : وددت أن الخلق تعلموا هذا على ألا ينسب إليَّ حرف منه.

وكان ابن المبارك رحمه الله يضع اللثام على وجهه عند الغزو، قال عبدة بن سليمان : فأخذت بطرفه فمددته، فقال: وأنت يا أبا عمرو ممن يشنع علينا-أي يفضحنا-.

ودخل ابن محيريز حانوتاً بـدانق وهو يريد أن يشتري ثوباً، فقال رجل لصاحب الحانوت: هذا ابن محيريز فأحسن بيعه، فغضب ابن محيريز وخرج، وقال: إنما نشتري بأموالنا لسنا نشتري بديننا.

وقال خلف بن تميم : رأيت سفيان الثوري بـمكة ، وقد أكثر عليه أصحاب الحديث، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! أخاف أن يكون الله ضيع هذه الأمة حيث احتيج إلى مثلي.

و قال الإمام أحمد : كان سفيان الثوري إذا قيل له: رؤي في المنام، يقول: خل عنك أنا أعرف بنفسي من أصحاب المنامات.

وقال له رجل: رأيت كأنك في الجنة، فقال له: ويحك! أما وجد الشيطان أحداً يسخر به غيري وغيرك؟.

و إبراهيم النخعي كان يقول: [تكلمت، ولو وجدت بداً ما تكلمت، فإن زماناً أكون فيه فقيه الكوفة لزمان سوء].

وقال الحسن البصري : [إن الرجل ليجلس المجلس فتجيئه عبرته فيردها، فإذا خشي أن تسبقه قام].

وقال محمد بن واسع : [لو كان يوجد للذنوب ريحٌ ما قدرتم أن تدنوا مني من نتن ريحي].

ويقول أيضاً: [لقد أدركت رجالاً كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة؛ قد بل ما تحت خده من دموعه لا تشعر به امرأته، ولقد أدركت رجالاً يقوم أحدهم في الصف، فتسيل دموعه على خده ولا يشعر به الذي إلى جنبه].

أما حسان بن أبي سنان، فتقول عنه زوجته: كان يجيء فيدخل في فراشي ثم يخادعني كما تخادع المرأة صبيها، فإذا علم أني نمت سل نفسه فخرج، ثم يقوم يصلي.

وهذا زين العابدين علي بن الحسين رحمه الله، كان يحمل جرابَ الخبز على ظهره في آخر الليل فيتصدق به ويقول: [إن صدقة السر تطفىء غضب الرب عز وجل] .

وكان أهل المدينة يقولون: [ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين ].

وعمرو بن قيس الملائي أقام عشرين سنةً صائماً ما يعلم به أهله، يأخذ غداءه ويغدو إلى الحانوت فيتصدق بغدائه، ويصوم وأهله لا يدرون، وكان إذا حضرته الرقة -أي: البكاء- يحول وجهه إلى الحائط، ويقول لجلسائه: ما أشد الزكام.

سبحان الله!

بدم المحب يباع وصلهم     فمن الذي يبتاع بالثمن؟

والقصد أيها الإخوة! القصد بيان صور من حرصهم رحمهم الله على خلوص الأعمال مهما كانت، وليس معنى هذا -تنبهوا!- ليس معنى هذا أن الإخلاص صعبُ المنال، بل هو الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ولذا فأمره سهل ميسور على من يسره الله عليه، وجدّ في طلبه، وجاهد نفسه من أجله، فعلى العبد فقط أن يكون مراده بجميع أقواله وأعماله الظاهرة والباطنة ابتغاء وجه الله تعالى، كما قال تعالى: وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى [الليل:19-20] وقال: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً [الإنسان:9] وقال الحق عز وجل: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة:5] ويقول عز وجل: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:11-15] -نعوذ بالله من الخسران-.

الإخلاص هو المعيار والمقياس لتمييز الأعمال

الإخلاص لله هو معيار باطن الأعمال الدقيق، ومقياسها الصادق الذي يميز طيبها من خبيثها، وصحيحها من سقيمها، ومقبولها من مردودها، ونافعها من ضارها: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65].

ولما غاب الإخلاص في حياة الكثير من الناس اليوم، ظهر الشرك والرياء والمراءاة والشهرة، بل الغش والخداع والاحتيال والكذب، والتزلف والتلون، والعجب والكبر، والغرور والمداهنة والنفاق -نعوذ بالله من سيئ الأخلاق-.

أيها الإخوة! أين النفوس التي تشتكي قسوة القلوب؟ أين القلوب التي تعلقت بالمخلوقين؟ أين القلوب المريضة التي امتلأت حسداً وانتقاماً؟ عليكم بالإخلاص فإنه شفاء لأدواء القلوب كلها، أي والله! فقلب ذاق الإخلاص لا يعرف الغل، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم، وذكر منها: إخلاص العمل لله).

يا طلاب العلم! أيها الدعاة! أيها المعلمون والمعلمات! يا كل العاملين والعاملات! أخلصوا لله وسيروا على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واصدقوا وابذلوا النصح وتناصحوا وتسامحوا وليعذر بعضكم بعضاً، ثم لا يضركم بعد ذلك من خالفكم، أو تعرض لكم من الجراحين الذين لا يضعون إلا على الجروح، بل لا يغركم إن لم يستجب لكم.

نعم. اتهموا أنفسكم، وراجعوا إخلاصكم، فأن من الأنبياء من يأتي يوم القيامة وليس معه أحد؛ المهم أحسنوا البلاغ واصبروا، وحسبكم أن الله يراكم ويعلم ما في نفوسكم، ورددوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173].

يقول ابن القيم في إغاثة اللهفان : (فإن في القلب فاقةً لا يسدها شيء سوى الله، وفيه شعث لا يلمه غير الإقبال عليه، وفيه مرض لا يشفيه غير الإخلاص له وعبادته وحده) .. إلى أن قال: فحينئذ يباشر روح الحياة ويذوق طعمها وتصير له حياة أخرى غير حياة الغافلين المعرضين .. إلى آخر كلامه - نسأل الله الكريم من فضله-.

إخوة الإيمان! رجلان بجوار بعضهما، يصليان صلاة واحدة، وخلف إمام واحد، وبينهما كما بين الأرض والسماء.

فلا إله إلا الله! كم من عمل صغير تكبره النية، وكم تبلغ مجرد النية بأصحابها ولو لم يعملوا (إن بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم، حبسهم العذر) وفي رواية: (إلا شركوكم في الأجر) كما في الصحيحين .

وهذا والله هو الفضل أن تثق بنيتك، أن تنوي الخير وتسبق بنيتك، فلا تحرم نفسك هذا الفضل العظيم.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الخيل لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر، فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله فأطال بها في مرج أو روضة فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الروضة كانت له حسنات، ولو أنه انقطع طيلها فاستنت شرفاً أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقي كان ذلك حسنات له فهي لذلك أجر، ورجل ربطها تغنياً وتعففاً ثم لم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها فهي لذلك ستر، ورجل ربطها فخراً ورياء ونواءً لأهل الإسلام فهي على ذلك وزر) كما في الصحيحين.

الله أكبر! الخيل دابة لهؤلاء الثلاثة، ولكن النية هي التي جعلت أحدهم يربطها فيؤجر، والآخر يربطها فيأثم، والآخر يربطها فلا يؤجر ولا يأثم.

قال معاذ رضي الله عنه: (يا رسول الله! أوصني، قال صلى الله عليه وسلم: أخلص دينك يكفك القليل من العمل).

نعم. فلم يسبق من سبق بكثرة صلاة ولا صيام، وإنما بشيء وقر في قلوبهم، فلنفتش عنه في قلوبنا لنذوق طعم السعادة، جنة الدنيا، فإن في الدنيا جنةً من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة -نسأل الله الكريم من فضله-.

نعم معاشر الإخوة! كم نغفل عن أعمال القلوب!! وهي الأصل، وأعمال الجوارح تبع ومكملة، وإن النية بمنزلة الروح، والعمل بمنزلة الجسد من الأعضاء، الذي إذا فارق الروح فموات، فمعرفة أحكام القلوب أهم من معرفة أحكام الجوارح، بل هي آكد وأرجح، وهل يميز المؤمن من المنافق إلا بما في قلب كل منهما؟!! إنه الإخلاص رفع الله به قوماً، ووضع بتركه آخرين، فوصيتي لنفسي ولك أخي: أخلص الأعمال لله، واصدق في الأقوال من أجل الله.

أيها الإخوة! لقد أخلص الأوائل من -سلف هذه الأمة- فكان نومهم وطعامهم وشرابهم عبادة، نرى ذلك بركةً في أعمالهم، ونوراً في أقوالهم، وقبولاً لمصنفاتهم وكلامهم.

سبحان الله! أحياء بأعمالهم وأقوالهم، أموات بأجسادهم، إنه الإخلاص الذي من أجله خلقت أنت أيها الإنسان! تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك:1-2].

قال الفضيل بن عياض : هو أخلصه وأصوبه، فإن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً والخالص: أن يكون لله، والصواب: أن يكون على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إذاً: لنراجع أنفسنا أيها الإخوة! لنقف هذه اللحظات وقفات مع أنفسنا، ولنسأل أنفسنا، هل كل عمل نعمله لله وكما جاء عن رسول الله؟ فإننا نقرأ في كتاب الله : فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف:110].

فيا عجباً! يا عجباً من أهل الرياء على عمل يبهرجوه وربك يعلم ما تكن صدورهم!

يا عجباً لمن يعمل لمخلوقين مثله ضعفاء! هب أن الناس مدحوك وأثنوا عليك ورفعوك وقالوا فيك وقدموك، فإن لم تكن عند الله كذلك فأنت والله صعلوك، أنت أعلم الناس بنفسك فلا يغروك.

أيها العقلاء! إنه الرياء، هباء في هباء وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23] فقولوا لمن لم يكن صادقاً لا يتعنى، يوم يقول الغني عنا: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه غيري فهو للذي أشرك به وأنا منه بريء) كما في صحيح مسلم .

وقد قال بعض المفسرين في قوله تعالى: وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47] قال: كانوا قد عملوا أعمالاً كانوا يرونها في الدنيا حسنات، بدت لهم يوم القيامة سيئات.

وقال الثوري على هذه الآية: ويل لأهل الرياء، ويل لأهل الرياء، ويل لأهل الرياء، هذه آيتهم وقصتهم وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47].

لا إله إلا الله! كم نتزين للناس بأشكالنا؟ كم نظهر لهم أعمالنا؟ كم تعجبنا أنفسنا وأقوالنا؟ والله وحده أعلم بسرائرنا وبواطننا، إن الله لا ينظر إلى أجسامنا ولا إلى صورنا ولا إلى أموالنا، ولكن ينظر إلى أعمالنا وقلوبنا، فآه لقلوبنا! وآه لأعمالنا! فإذا كان أول ثلاثة تسعر بهم النار: قارئ القرآن، والمجاهد، والمتصدق بماله، الذين فعلوا ذلك ليقال: فلان قارئ، فلان شجاع، فلان متصدق، ولم تكن أعمالهم خالصةً لله، فكيف بمن دونهم؟ كيف بنا ونحن ننتظر ثناء الناس لنا؟ كيف بنا ونحن نطلب الثمن ربما لأعمالنا؟ كيف بنا ونحن نغضب لذكر عيوبنا؟ كيف بنا ونحن نقدم أهواءنا وحظوظنا؟ كيف بنا ونحن نتزين للناس بما ليس عندنا؟ قال الفضيل : كانوا يراءون بما يعملون، وصاروا اليوم يراءون بما لا يعملون.

فإنا لله وإنا إليه راجعون! إنه الشرك الخفي الذي هو أخطر ما يكون على الأمة، فما أعظم خطره وما أخوفه خاصةً على الصالحين والصالحات، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال ؟ قالوا:بلى، قال: الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل إليه) رواه أحمد وابن ماجة وحسنه الألباني .

إخوة الإيمان! رياء المرائين صير مسجد الضرار مزبلة وخربة لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً [التوبة:108]، وإخلاص المخلصين رفع قدر التفث والشعث (رب أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره).

أخي! قلب من ترائيه بيد من أعرضت عنه، ليصرفه عنك إلى غيرك، فلا على ثواب المخلصين حصلت، ولا إلى ما قصدته بالرياء وصلت، وفات الأجر والمدح.

فقولوا للواقفين بغير باب الله: يا طول هوانكم، وقولوا للمؤملين لغير فضل الله: يا خيبة آمالكم، قولوا للعاملين لغير وجه الله: يا ضيعة أعمالكم.

لا إله إلا الله! كم بذل نفسه مراء ليمدحه الخلق، فذهبت نفسه فانقلب المدح ذماً، ولو بذلها لله بقيت ما بقي الدهر.

اعلم أخي! أن رضا الناس غير مقدور، وتحصيله غير مطلوب، ومن ذا الذي يقدر على إرضاء الناس: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116]، فاركن إلى الواحد الجبار واحرص على رضا العزيز الغفار.

وإياك إياك! أن تلتفت لأهل الأطمار، أيسرك أخي يوم القيامة أن يقال لك: اذهب فخذ أجرك ممن عملت له، لا أجر لك عندنا.

نعم. فـالعمل صورة، والإخلاص روح، انتبه أخي! إن لم تخلص فلا تتعب، فشجرة الإخلاص أصلها ثابت، وأما شجرة الرياء فإنها تجتث عند نسمة من كان يعبد شيئاً فليتبعه.

أيها الإخوة والأخوات! اسمعوا شيئاً من حال -سلفنا الصالح- لعل أن يكون في ذلك يقظة لقلوبنا من غفلتها ودعوةً إلى الصدق والإخلاص.

قال الربيع بن خثيم: [كل ما لا يراد به وجه الله يضمحل].

ووصى الإمام أحمد ابنه قائلاً: يا بني، انوِ الخير فإنك لا تزال بخير ما نويت الخير.

نعم. يا أخي! انوِ الخير فإنك بخير ما نويت الخير.

وقال أيوب السختياني : والله ما صدق عبد إلا سره ألا يشعر بمكانه.

سأل رجل شقيق بن إبراهيم : إن الناس يسمونني صالحاً، فكيف أعلم أني صالح أو غير صالح؟! فقال شقيق : أظهر سرك عند الصالحين، فإن رضوا به فاعلم أنك صالح وإلا فلا. أي: أحسن ما بينك وبين الله من أسرار، وإلا فالمؤمن مطالب بالستر على نفسه.

وكان محمد بن يوسف الأصبهاني لا يشتري زاده من خباز واحد، ويقول: لعلهم يعرفونني فيحابونني، فأكون ممن يعيش بدينه.

وقالت سرية الربيع بن خيثم: كان عمل الربيع كله سراً ، إن كان ليجيء الرجل، وقد نشر المصحف، فيغطيه بثوبه.

وكان إبراهيم النخعي إذا قرأ في المصحف فدخل داخلٌ غطاه.

وقال الشافعي : وددت أن الخلق تعلموا هذا على ألا ينسب إليَّ حرف منه.

وكان ابن المبارك رحمه الله يضع اللثام على وجهه عند الغزو، قال عبدة بن سليمان : فأخذت بطرفه فمددته، فقال: وأنت يا أبا عمرو ممن يشنع علينا-أي يفضحنا-.

ودخل ابن محيريز حانوتاً بـدانق وهو يريد أن يشتري ثوباً، فقال رجل لصاحب الحانوت: هذا ابن محيريز فأحسن بيعه، فغضب ابن محيريز وخرج، وقال: إنما نشتري بأموالنا لسنا نشتري بديننا.

وقال خلف بن تميم : رأيت سفيان الثوري بـمكة ، وقد أكثر عليه أصحاب الحديث، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! أخاف أن يكون الله ضيع هذه الأمة حيث احتيج إلى مثلي.

و قال الإمام أحمد : كان سفيان الثوري إذا قيل له: رؤي في المنام، يقول: خل عنك أنا أعرف بنفسي من أصحاب المنامات.

وقال له رجل: رأيت كأنك في الجنة، فقال له: ويحك! أما وجد الشيطان أحداً يسخر به غيري وغيرك؟.

و إبراهيم النخعي كان يقول: [تكلمت، ولو وجدت بداً ما تكلمت، فإن زماناً أكون فيه فقيه الكوفة لزمان سوء].

وقال الحسن البصري : [إن الرجل ليجلس المجلس فتجيئه عبرته فيردها، فإذا خشي أن تسبقه قام].

وقال محمد بن واسع : [لو كان يوجد للذنوب ريحٌ ما قدرتم أن تدنوا مني من نتن ريحي].

ويقول أيضاً: [لقد أدركت رجالاً كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة؛ قد بل ما تحت خده من دموعه لا تشعر به امرأته، ولقد أدركت رجالاً يقوم أحدهم في الصف، فتسيل دموعه على خده ولا يشعر به الذي إلى جنبه].

أما حسان بن أبي سنان، فتقول عنه زوجته: كان يجيء فيدخل في فراشي ثم يخادعني كما تخادع المرأة صبيها، فإذا علم أني نمت سل نفسه فخرج، ثم يقوم يصلي.

وهذا زين العابدين علي بن الحسين رحمه الله، كان يحمل جرابَ الخبز على ظهره في آخر الليل فيتصدق به ويقول: [إن صدقة السر تطفىء غضب الرب عز وجل] .

وكان أهل المدينة يقولون: [ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين ].

وعمرو بن قيس الملائي أقام عشرين سنةً صائماً ما يعلم به أهله، يأخذ غداءه ويغدو إلى الحانوت فيتصدق بغدائه، ويصوم وأهله لا يدرون، وكان إذا حضرته الرقة -أي: البكاء- يحول وجهه إلى الحائط، ويقول لجلسائه: ما أشد الزكام.

سبحان الله!

بدم المحب يباع وصلهم     فمن الذي يبتاع بالثمن؟

والقصد أيها الإخوة! القصد بيان صور من حرصهم رحمهم الله على خلوص الأعمال مهما كانت، وليس معنى هذا -تنبهوا!- ليس معنى هذا أن الإخلاص صعبُ المنال، بل هو الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ولذا فأمره سهل ميسور على من يسره الله عليه، وجدّ في طلبه، وجاهد نفسه من أجله، فعلى العبد فقط أن يكون مراده بجميع أقواله وأعماله الظاهرة والباطنة ابتغاء وجه الله تعالى، كما قال تعالى: وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى [الليل:19-20] وقال: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً [الإنسان:9] وقال الحق عز وجل: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة:5] ويقول عز وجل: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:11-15] -نعوذ بالله من الخسران-.

الإخلاص لله هو معيار باطن الأعمال الدقيق، ومقياسها الصادق الذي يميز طيبها من خبيثها، وصحيحها من سقيمها، ومقبولها من مردودها، ونافعها من ضارها: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65].

ولما غاب الإخلاص في حياة الكثير من الناس اليوم، ظهر الشرك والرياء والمراءاة والشهرة، بل الغش والخداع والاحتيال والكذب، والتزلف والتلون، والعجب والكبر، والغرور والمداهنة والنفاق -نعوذ بالله من سيئ الأخلاق-.

أيها الإخوة! أين النفوس التي تشتكي قسوة القلوب؟ أين القلوب التي تعلقت بالمخلوقين؟ أين القلوب المريضة التي امتلأت حسداً وانتقاماً؟ عليكم بالإخلاص فإنه شفاء لأدواء القلوب كلها، أي والله! فقلب ذاق الإخلاص لا يعرف الغل، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم، وذكر منها: إخلاص العمل لله).

يا طلاب العلم! أيها الدعاة! أيها المعلمون والمعلمات! يا كل العاملين والعاملات! أخلصوا لله وسيروا على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واصدقوا وابذلوا النصح وتناصحوا وتسامحوا وليعذر بعضكم بعضاً، ثم لا يضركم بعد ذلك من خالفكم، أو تعرض لكم من الجراحين الذين لا يضعون إلا على الجروح، بل لا يغركم إن لم يستجب لكم.

نعم. اتهموا أنفسكم، وراجعوا إخلاصكم، فأن من الأنبياء من يأتي يوم القيامة وليس معه أحد؛ المهم أحسنوا البلاغ واصبروا، وحسبكم أن الله يراكم ويعلم ما في نفوسكم، ورددوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173].

يقول ابن القيم في إغاثة اللهفان : (فإن في القلب فاقةً لا يسدها شيء سوى الله، وفيه شعث لا يلمه غير الإقبال عليه، وفيه مرض لا يشفيه غير الإخلاص له وعبادته وحده) .. إلى أن قال: فحينئذ يباشر روح الحياة ويذوق طعمها وتصير له حياة أخرى غير حياة الغافلين المعرضين .. إلى آخر كلامه - نسأل الله الكريم من فضله-.

إخوة الإيمان! رجلان بجوار بعضهما، يصليان صلاة واحدة، وخلف إمام واحد، وبينهما كما بين الأرض والسماء.

فلا إله إلا الله! كم من عمل صغير تكبره النية، وكم تبلغ مجرد النية بأصحابها ولو لم يعملوا (إن بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم، حبسهم العذر) وفي رواية: (إلا شركوكم في الأجر) كما في الصحيحين .

وهذا والله هو الفضل أن تثق بنيتك، أن تنوي الخير وتسبق بنيتك، فلا تحرم نفسك هذا الفضل العظيم.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الخيل لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر، فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله فأطال بها في مرج أو روضة فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الروضة كانت له حسنات، ولو أنه انقطع طيلها فاستنت شرفاً أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقي كان ذلك حسنات له فهي لذلك أجر، ورجل ربطها تغنياً وتعففاً ثم لم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها فهي لذلك ستر، ورجل ربطها فخراً ورياء ونواءً لأهل الإسلام فهي على ذلك وزر) كما في الصحيحين.

الله أكبر! الخيل دابة لهؤلاء الثلاثة، ولكن النية هي التي جعلت أحدهم يربطها فيؤجر، والآخر يربطها فيأثم، والآخر يربطها فلا يؤجر ولا يأثم.

قال معاذ رضي الله عنه: (يا رسول الله! أوصني، قال صلى الله عليه وسلم: أخلص دينك يكفك القليل من العمل).

نعم. فلم يسبق من سبق بكثرة صلاة ولا صيام، وإنما بشيء وقر في قلوبهم، فلنفتش عنه في قلوبنا لنذوق طعم السعادة، جنة الدنيا، فإن في الدنيا جنةً من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة -نسأل الله الكريم من فضله-.

نعم معاشر الإخوة! كم نغفل عن أعمال القلوب!! وهي الأصل، وأعمال الجوارح تبع ومكملة، وإن النية بمنزلة الروح، والعمل بمنزلة الجسد من الأعضاء، الذي إذا فارق الروح فموات، فمعرفة أحكام القلوب أهم من معرفة أحكام الجوارح، بل هي آكد وأرجح، وهل يميز المؤمن من المنافق إلا بما في قلب كل منهما؟!! إنه الإخلاص رفع الله به قوماً، ووضع بتركه آخرين، فوصيتي لنفسي ولك أخي: أخلص الأعمال لله، واصدق في الأقوال من أجل الله.

اعلم أن من أعظم الوسائل المعينة على تحقيق الإخلاص، أولاً: أن تعرف ما هو الإخلاص؟ وكيف تريد أن تصل لشيء لا تعرفه؟! فكم نتحدث عن الإخلاص ونسأل الله الإخلاص، ونحن قد لا نعرف ما هو الإخلاص؟

والإخلاص: أن يكون العمل لله لا ترى فيه نفسك ولا حظوظها، ولا ترى فيه الخلق؛ وقيل الإخلاص هو: الخلاص عن رؤية الأشخاص.

وعلامة الإخلاص: استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن -ليس إخفاء العمل- وأما الرياء: أن يكون ظاهره خيراً من باطنه، أما إن كان الباطن أعمر من الظاهر فهذا صدق الإخلاص -نسأل الله الكريم من فضله-.

فاحفظ هذه العلامات فإنها ميزان تزن فيه نفسك، ولقد كان الكثير من -السلف- رضوان الله تعالى عليهم يخاف على نفسه من النفاق، قال ابن أبي مليكة : [أدركت ثلاثين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف على نفسه من النفاق] وليس معنى الحديث عن الإخلاص -تنبه يا أخي! وتنبهي يا أمة الله- أن تعذب نفسك بكثرة الوساوس والهواجس، وهل أنت مخلص أم مُرَاءٍ، فتنبه؛ فإن الإفراط في هذا الباب فيه مداخل للشيطان،كم زلت به الأقدام، واختلطت فيه الأفهام، وهلك فيه أقوام.

يقول النووي رحمه الله: ولو فتح الإنسان عليه باب ملاحظة الناس، والاحتراز من ظنونهم الباطلة، لانسد عليه أكثر أبواب الخير، وضيع على نفسه شيئاً عظيماً من مهمات الدين، وليس هذا طريق العارفين. انتهى كلامه رحمه الله.

وصدق، كم من الناس يحرمون أنفسهم من الأعمال بحجة: نخشى أن نقع في الرياء .. يتركون الكثير من الأعمال بحجة أن هذا العمل رياء، أو نخشى من الرياء، أو نخاف من الرياء، وهذا مدخل من مداخل الشيطان، إذ ليس علاج الرياء ترك العمل، وإنما تصحيح النية وزيادة العمل، فتنبه، إلا أن يكون الرياء في أصل العمل، أو في عمل يرتبط آخره بأوله ففي هذا تفصيل ذكره أهل العلم.

ثانياً: معرفة الله وعظمته وقدرته وفضله وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور:21] فهل ينظر للخلق من عرف الله بحق؟!

لا. وإنما تعرّف على الله حق المعرفة، لك أن تتصور عظمة الله؛ لأنه هو المستحق وحده للعبادة جل وعلا.

ثالثاً: معرفة النفس، وأنها جاهلة ظالمة طبعها الكسل وحب الشهوات، وحب التصدر والظهور، ورحم الله رجلاً لم يغره كثرة ما يرى من الناس، ابن آدم إنك تموت وحدك وتدخل القبر وحدك ، وتبعث وحدك ،وتحاسب وحدك، -فتنبه- فلا يغرك الناس فأنت أعلم الناس بنفسك، فجاهد النفس، اعرف عيوبها، وتقصيرها.

نعم. أنت أعرف الناس بنفسك، لا يغرك الناس بثنائهم عليك، ولا بمدحهم لك، فهم لا يرون منك إلا الظاهر، فاتق الله تعالى في الباطن، اتهم النفس على الدوام، فآفة العبد رضاه عن نفسه، وقد قيل: من شهد في إخلاصه الإخلاص، احتاج إخلاصه إلى إخلاص.

وقيل لـسهل : أي شيء أشد على النفس، فقال: الإخلاص لأنه ليس له فيه نصيب.

وقال يوسف بن الحسين : أعز شيء في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي فكأنه يمقت على لون آخر.

إذاً فالقضية تحتاج إلى مجاهدة، لا تتصور أنك تصل إلى الإخلاص وتثبت على هذا الأمر، إنما يحتاج القلب إلى معالجة، تحتاج النفس إلى مجاهدة مستمرة، فتنبه لنفسك وقلبك.

وقال الثوري رحمه الله: ما عالجت شيئاً أشد عليّ من نيتي، إنها تتقلب علي.

وعلى كلٍ أخلص في مجاهدة النفس تجد عجباً وانشراحاً، فإن الله تعالى يقول: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69] .

رابعاً: اعلم أنك عبد محض، والعبد لا يستحق على خدمته لسيده عوضاً ولا أجراً، إذ هو يخدمه بمقتضى عبوديته، فما يناله من سيده من الأجر والثواب، فهو تفضل منه وإحسان إليه، وإنعام منه لا معاوضة، فكل خير في العبد هو من فضل الله ومنته وإحسانه ونعمته، فهل للعبد أن يرى عمله بعد هذا؟ لا والله.

خامساً: أنت مخلوق ضعيف، خُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً [النساء:28] فأكثر من الاستعانة بالله، وألح عليه بالدعاء أن يرزقك الإخلاص قبل العمل، وأثناء العمل وبعد العمل، واستعذ بالله من شر نفسك ومن الرياء، فكما قال صلى الله عليه وسلم: (الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل، وسأدلك على شيء إذا فعلته أذهب عنك صغار الشرك وكباره، تقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم).

إخفاء الأعمال علامة على الإخلاص لكنه ليس شرطاً للإخلاص، المهم ألا تقصد نظر الناس إليك، ولا يهمك نظرهم وقولهم، فالإخلاص استواء الظاهر والباطن -كما تقدم-، بل ربما كان إظهار العمل خير من إخفائه، كمن سن سنةً حسنةً، والله تعالى يقول: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:271] .

وأيضاً: ليس من الرياء نشاط العبد للخير عند مجالسة الصالحين، فإن مجالستهم تبعث على النشاط وعلو الهمة، فليكن عملك لله وليس لهم وإن كانوا سبباً في تشجيعك للعمل.

لكن احذر الكسل على الدوام، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : [للمرائي علامات: يكسل إذا كان وحده، وينشط إذا كان في الناس، ويزيد في العمل إذا أثني عليه، وينقص إذا ذم به].

ومنها -أيضاً- من الأمور التي يجب التنبه عليها:

ثناء الناس ومدحهم لا ينافي الإخلاص، بل قد يكون عاجل بشرى المؤمن، كما قال صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الرجل يعمل العمل من الخير يحمده الناس عليه، لكن إياك أن يكون العمل طلباً للثناء، أو حتى انتظار الثناء من المخلوقين، أو أن تغتر بالثناء، فالمخلص يفر من الشهرة، ولكن الله يضع له القبول في الأرض فيسر العبد بفضل الله، وأما المرائي فيركب الصعب والذلول ليحظى بالقبول، لكن هيهات هيهات!

قال ابن رجب : (وهنا نكتة دقيقة، وهي أن الإنسان قد يذم نفسه بين الناس، يريد بذلك أن يُري الناس أنه متواضع عند نفسه، فيرتفع بذلك عندهم ويمدحونه به، وهذا من دقائق أبواب الرياء، وقد نبّه عليه -السلف الصالح-.

قال مطرف بن عبد الله بن الشخير : [كفى بالنفس إطراءً أن تذمها على الملأ كأنك تريد بذمها زينتها، وذلك عند الله سفح] انتهى كلامه.

ومنها أيضاً: أنه ليس معنى الإخلاص أنك لا تذنب ولا تخطئ.

تنبهوا أيها الإخوة لهذه المسألة! ليس معنى الإخلاص أنك لا تذنب ولا تخطئ، فكل بني آدم خطاء.

من ذا الذي ما ساء قط     ومن له الحسنى فقط

ولكن أن يستوي الظاهر والباطن، وتجاهد نفسك لترضي الله، فيكون لك عمل صالح بالسر، كما كان لك ذنب بالسر، وأن تتوب وتستغفر سراً، كما عصيت وأذنبت سراً، أو تكتم حسناتك كما كتمت سيئاتك.

لكن المصيبة أن تظهر الخير وتبطن الشر، ومصيبة المصائب من يظهر الشر ويجاهر بالمعصية، ويمتنع عن الخير بحجة الهروب من النفاق، كمن يعمل السوء ويحلق لحيته حتى لا يظن الناس فيه خيراً، فيكون منافقاً زعم، وهذا من الفقه الذي فتح به إبليس على المفاليس، فإن كتمان الذنوب أمر مندوب (وكل أمتي معافى إلا المجاهرون) .

وكما قال الفضيل بن عياض : ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما نسأل الله أن يعافينا وإياكم منهما.

ومن علامات عدم الإخلاص: أن يميل حيث مال هواه.

فاحذر الهوى أخي الحبيب! وأن يتشبث بالمنصب والرئاسة، وأن يستعبده الدرهم والدينار.

قال ابن القيم رحمه الله: وقد جرت عادة الله التي لا تبدل وسنته التي لا تتحول، أن يلبس المخلص من المهابة والنور والمحبة في قلوب الخلق، وإقبال قلوبهم إليه بحسب إخلاصه ونيته ومعاملته لربه، ويلبس المرائي اللابس ثوب الزور من المقت والمهانة والبغضة ما هو اللائق به. انتهى كلامه.

والمؤمن من جمع بين الإحسان وسوء الظن بالنفس، والمغرور من جمع بين الإساءة وحسن الظن بالنفس، ولا يجتمع الإخلاص والغرور، فالغرور قتّال وكذا حب الشهرة والظهور فهو يقصم الظهور.

واسمع لهذا الكلام النفيس لـابن القيم وتأمله جيداً، يقول رحمه الله: لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس، إلا كما يجتمع الماء والنار والضب والحوت، فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص، فأقبل على الطمع أولاً فاذبحه بسكين اليأس، وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة، فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص؛ فإن قلت: وما الذي يسهل عليّ ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح؟ قلت: أما ذبح الطمع فيسهله عليك، علمك يقيناً أنه ليس من شيء يطمع فيه، إلا وبيد الله وحده خزائنه لا يملكها غيره، ولا يؤتي العبد منها شيئاً سواه، وأما الزهد في الثناء والمدح فيسهله عليك علمك أنه ليس هناك أحد ينفع مدحه ويزين، ويضر ذمه ويشين إلا الله وحده.. إلى آخر كلامه رحمه الله.

أيها الإخوة! اعلموا أن الإخلاص هو ميزان أعمال القلوب، التي لا يطلع عليها إلا علام الغيوب، ويقابله الشرك الأصغر أو الأكبر، والمتابعة هي ميزان أقوال اللسان وأعمال الجوارح الظاهرة، ويقابلها المعصية أو البدعة، والناس شهداء الله في أرضه، وإنما يشهدون للإنسان أو عليه، بما يرون من أعماله ويسمعون من أقواله، والغالب أنهم لا تتفق شهادتهم وثناؤهم للإنسان أو عليه، خاصةً بعد موته إلا وهو كذلك، وفي الحديث: (من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض) كما في المسند عند أحمد .

فلازموا الإخلاص لربكم، والمتابعة لنبيكم محمد صلى الله عليه وسلم في أقوالكم وأعمالكم ونياتكم، فكل عمل أو قول مما شرع الله لا يراد به وجه الله فهو باطل، لا ثواب له عليه في الآخرة وإن أدرك شيئاً من حطام الدنيا، كما يقول الحق عز وجل: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16] ، ويقول تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الإسراء:18-19] ويقول تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى:20].

وعن أنس رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده لا شريك له، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، فارقها والله عنه راض) اللهم ارض عنا، واغفر لنا وارحمنا، نسأل الله أن يتوفانا على الإخلاص.


استمع المزيد من الشيخ إبراهيم الدويش - عنوان الحلقة اسٌتمع
المحرومون 2932 استماع
سهام للصيد 2612 استماع
توبة صايم 2610 استماع
اذهبوا بنا نصلح بينهم 2609 استماع
من كنوز الحج ... 2480 استماع
موعظة السبع البواقى 2467 استماع
بحر الحب 2409 استماع
بشائر ومبشرات 2352 استماع
السحر الحلال 2350 استماع
أهمية أداء الزكاة 2340 استماع