شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب المسح على الخفين - حديث 66-68


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

عندنا اليوم ثلاثة أحاديث, وهي: حديث صفوان رضي الله عنه, وحديث علي، وحديث ثوبان .

الحديث الأول: وهو حديث صفوان بن عسال رضي الله عنه قال: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفراً ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن، إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم ).

الحديث يقول المصنف: أخرجه النسائي والترمذي واللفظ له، وابن خزيمة وصححاه. والحديث أيضاً أخرجه ابن ماجه .

كلام أهل العلم في الحديث

فالحديث في هذه المصادر مطول، وفيه ذكر أشياء غير المسح على الخفين، لأنهم جميعاً رووه من طريق عاصم بن بهدلة، وهو عاصم بن أبي النجود المقري الإمام المعروف عن زر : ( أنه أتاه فقال: ما جاء بك؟ قال: جئت أطلب العلم؟ فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاءً بما يطلب. قال: ثم سألته, وقلت له: إنه قد حاك في صدري المسح على الخفين -كأنه حصل عنده شك أو تردد فيه- فهل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يذكر فيه شيئاً؟ قال: نعم. كان صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفراً أو مسافرين- هكذا الرواية- ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم. قال: وسألته: هل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يذكر في الهوى شيئاً؟ قال: نعم. أتاه أعرابي، وكان في سفر, فقال: يا محمد! يا محمد! فقلنا له: اغضض من صوتك فإنك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هاؤم بنحو من صوته. فقال: أرأيت الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم -يعني: لم يعمل مثل عملهم- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: المرء مع من أحب. قال: وجعل يحدثنا عن باب للتوبة قبل المغرب مسيرة سبعين عاماً لا يغلق حتى تطلع الشمس من قبله، وذلك قول الله عز وجل: (( يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ))[الأنعام:158] ).

والحديث -كما ذكرت- مداره على عاصم بن أبي النجود، وعاصم وإن كان من القراء المشهورين إلا أن في حفظه شيء وروايته للحديث، ولكن قال ابن معين : لا بأس به. وقال أبو حاتم : محله الصدق، فحديثه حسن. وقد ذكر ...

وله متابعة عند الطبراني من طريق عبد الكريم بن أبي المخارق ولكنه ضعيف, فمتابعته لا ترفع الحديث، ولكن العلماء صححوا الحديث, صححه بعضهم, وحسنه آخرون، فإن الترمذي قال عقب روايته: حديث حسن صحيح. كما أشار إلى ذلك المصنف, وكذلك ابن خزيمة صححه، والخطابي قال: صحيح الإسناد. أما البخاري فقد نقل الترمذي عنه أنه حسنه. والنووي قال في المجموع : بأسانيد صحيحة, فهذا الحديث لا ينزل عن رتبة الحسن, وفي الحديث مسائل عديدة.

وبالنسبة للذين رووه عن عاصم رواه عنه جمع غفير, حتى ذكر ابن منده أنه رواه عن عاصم أكثر من أربعين نفساً.

التوقيت في المسح على الخفين وأقوال أهل العلم فيه

بالنسبة للمسائل المتعلقة بالحديث: فيه مسائل كثيرة نقتصر على أهمها, منها:

أولاً: أبرز مسألة في الحديث: هي مسألة التوقيت في المسح على الخفين, هل للمسح على الخفين وقت محدود لا يجوز تعديه, أم أن المسح على الخفين جائز بلا توقيت؟

هذه المسألة المشهور عند أهل العلم فيها رأيان:

القول الأول: ليس في المسح على الخفين توقيت، وأدلته

الأول منهما: وهو منقول عن عمر، وابن عمر، وعقبة بن عامر رضي الله عنهم, والحسن البصري، وهو مذهب الإمام مالك والليث بن سعد أنه ليس في المسح على الخفين توقيت.

بمعنى أن الإنسان إذا لبس الخفين على طهارة فإنه يمسح عليهما ما شاء حتى يخلعهما, إلا من جنابة كما هو معروف, ويحتج أصحاب هذا القول بعدة أدلة:

منها: حديث أبي بن عمارة عند أبي داود أنه قال: ( يا رسول الله! أمسح على الخفين؟ قال: نعم, قال: يوماً؟ قال: نعم، قال: ويومين؟ قال: نعم، قال: وثلاثة؟ قال: نعم وما شئت )، وفي بعض ألفاظ الحديث أنه أوصلها إلى سبعة، والمهم قوله: (ويومين وثلاثة وما شئت).

فقالوا: هذا دليل على أن المسح على الخفين جائز بلا توقيت, لأنه لم يذكر له وقتاً معلوماً, هذا الدليل الأول.

ويجاب عن هذا الدليل بجوابين:

الأول: أن الحديث ضعيف، وسوف يأتي تفصيل هذه الجملة في الدرس القادم, لأن حديث أبي بن عمارة من الأحاديث التي ساقها المصنف في باب المسح على الخفين، فنتكلم عن أقوال أهل العلم في تضعيفه في الجلسة القادمة بإذن الله تعالى.

الجواب الثاني: أن يقال: على فرض صحته، فإن الحديث لم يذكر عدم التوقيت، إنما ذكر جواز المسح، ولا يمنع أن يكون معنى الحديث, نعم يجوز المسح يوماً ويومين وثلاثة، وما شئت بشرط التزام التوقيت المذكور في أحاديث أخرى, فيكون مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( الصعيد الطيب طهور المؤمن وإن لم يجد الماء عشر سنين )، فهل يعني هذا أن الإنسان يتيمم مرة واحدة وتكفي؛ لأنه قال: عشر سنين؟ الجواب: لا, وإنما المعنى أنه لو جلس عشر سنين بلا ماء، فإنه يتيمم خلال هذه السنوات كلما احتاج إلى تيمم, فيقال مثل ذلك في حديث أبي هذا.

الدليل الثاني للقائلين بعدم التوقيت: هو حديث خزيمة بن ثابت: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن المسح على الخفين, فقال: يوماً وليلة للمقيم, وثلاثة أيام للمسافر، قال: ولو استزدناه لزادنا ).

والحديث رواه أبو داود والترمذي، وبهذا اللفظ لم يذكر الترمذي هذه الزيادة قوله: (ولو استزدناه لزادنا) لكن ذكرها أبو داود , وابن ماجه وابن حبان .

وأيضاً الجواب على هذا الحديث من وجهين:

الأول: ضعف الحديث، حتى ذكر بعض أهل العلم الاتفاق على ضعفه, لكن في هذا النقل نظر؛ لأن ابن معين نقل عنه تصحيحه, وكذلك ابن حبان، ولذلك فالأقوى في الجواب على هذا الحديث أن يقال: إن غاية ما في حديث خزيمة أنه ظن من صحابي، لأن خزيمة ظن أنهم لو استزادوا النبي -صلى الله عليه وسلم- في مدة المسح لزادهم على يوم وليلة وعلى ثلاثة أيام, فكيف يمكن العدول عن النص النبوي الذي قال: يوماً وليلة للمقيم -بنفس الحديث- وثلاثة أيام للمسافر، فحدد، كيف يعدل عن النص النبوي إلى الظن الذي سبق إلى ذهن الصحابي؟! ولم يقل أحد من أهل العلم بأن ظن الصحابي حجة، وإنما تنازعوا في قول الصحابي، هل هو حجة أو لا؟

أما ظنه فلم يقل أحد من أهل العلم بأنه حجة، فلا دلالة في هذا الحديث.

الدليل الثالث للقائلين بعدم التوقيت: هو أثر عقبة بن عامر رضي الله عنه: [ أنه ركب يوم الجمعة من الشام إلى المدينة , فمسح على الخفين حتى وصل في يوم الجمعة - يعني: بعد أسبوع- إلى عمر رضي الله عنه وأرضاه , فقال له عمر : منذ كم وأنت تمسح على خفيك؟ قال: منذ أسبوع.. منذ يوم الجمعة, فقال له عمر رضي الله عنه: أصبت ] وفي بعض الألفاظ: [ أصبت السنة ]، وهذا الأثر رواه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، ورواه الدارقطني وقال: صحيح الإسناد, وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : هو أثر صحيح.

ودلالة هذا الحديث ظاهرة، فإن عقبة مسح على خفيه سبعة أيام متتالية ولم ينزعهما, فدل على أن هذا مذهبه، وكذلك وافقه عمر وقال له: أصبت, فدل على أنه مذهب عمر رضي الله عنهم أجمعين.

والجواب على هذا الدليل من وجهين: الأول: أنه رأي صحابي وفعله، وهو معارض بنصوص مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما سوف يأتي.

الجواب الثاني: يأتي بعد قليل بعد نهاية ذكر القول الثاني.

القول الثاني: توقيت المسح بيوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليها للمسافر، وأدلته

القول الثاني في مسألة التوقيت: هو أن المسح على الخفين مؤقت بيوم وليلة للمقيم، وبثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، وهذا مذهب أيضاً ثبت عن عمر وجمع من الصحابة والتابعين، كـحذيفة، والمغيرة، وصفوان بن عسال، وغيرهم, وهو قول عامة أهل العلم كما ذكر الترمذي وابن عبد البر , وابن المنذر , فهو مذهب الثوري، وإسحاق، والإمام أحمد، والشافعي , وأبي حنيفة، وعامة أصحابهم، والأوزاعي، ومحمد بن جرير الطبري، وغيرهم، هؤلاء الذين قالوا بالتوقيت، واستدل هؤلاء بأدلة كثيرة، منها: حديث صفوان بن عسال الذي معنا، فإنه قال: ( ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن ) يعني: هذا في حال إذا كانوا سفراً أو مسافرين.

ومن أدلتهم أيضاً: حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ( أن شريح بن هانئ سأله عن المسح على الخفين فذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر, ويوماً وليلة للمقيم )، يعني: في المسح على الخفين, والحديث رواه مسلم , وسبق ضمن الأدلة في الحلقة الماضية, وسيأتي أيضاً الإشارة إليه, وهو صريح في التوقيت.

ومن أدلة التوقيت: حديث أبي بكرة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في المسح على الخفين للمقيم يوماً وليلة, وللمسافر ثلاثة أيام بلياليهن ), والحديث أخرجه ابن خزيمة والدارقطني، وصححه الشافعي والخطابي وغيرهم.

ومن أدلتهم: حديث خزيمة السابق في أدلة أصحاب القول الأول لو صح، فإن فيه التصريح ( بأنه سئل عن المسح على الخفين, فقال: يوماً وليلة للمقيم, وثلاثة أيام بلياليهن للمسافر ).

وأحاديث التوقيت - والله أعلم- تزيد على خمسة أحاديث صريحة في التوقيت، كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية , فهذه الأدلة تدل على التوقيت, وأنه لا يجوز تعدي هذه المدة تدل على ذلك بالمفهوم, كما هو معروف, لأنه لما وقت للمقيم يوماً وليلة، علم أن مفهوم ذلك عدم جواز الزيادة في المسح على يوم وليلة، وهذا ظاهر.

القول الثالث: جواز عدم التوقيت في المسح على الخفين للضرورة

هذان القولان هما المشهوران في التوقيت وعدمه, لكن هناك قول ثالث يظهر أنه قول لبعض أصحاب الإمام أحمد وغيرهم, وهو مؤلف من مجموع القولين السابقين, وهو: أنه يجوز عدم التوقيت للضرورة والحاجة الظاهرة, كما إذا كان الإنسان في برد شديد، وكما هي الحال في بلاد الثلوج التي لو خلع الإنسان فيها خفه لتضرر بذلك.

وكما إذا كان يترتب على خلعه للخف وغسل قدمه فوات الرفقة الذين هو معهم، بحيث إنه لا يستطيع أن يلحق بهم, ولا يعرف الطريق أيضاً, أو توقف الرفقة من أجله على وجه يتضررون به ضرراً ظاهراً، أو كان يترتب على التوقيت وخلع الخف وغسل القدم ثم لبس الخف بعد ذلك فوات واجب أو ما أشبه ذلك من الأمور.

فحينئذ يترك الإنسان التوقيت, ويمسح بقدر ما يحتاج إليه، وهذا لا شك يعرض للمسافر، خاصة إذا كان في سفر غزو وجهاد، أو مع رفقة قد لا يلائمون الإنسان ويوائمونه ويوافقونه وما أشبه ذلك.

أما إذا لم يكن الإنسان بحاجة فإنه يجب عليه حينئذ التزام التوقيت، وقال أصحاب هذا القول: إن الإنسان إذا اضطر إلى عدم التوقيت فإنه بين أمرين: إما أن يتيمم, وإما أن يمسح على الخفين، والمسح على الخفين أولى وأظهر وأرجح, وهذا القول هو الذي رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الجزء الحادي والعشرين من الفتاوى، وذكر عن نفسه قال: لما ركبت البريد غلب على ظني عدم وجوب مراعاة التوقيت في مثل هذه الحالة، وحملت عليه حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه في ذهابه من دمشق إلى المدينة، فإنه ذهب يبشر أهل المدينة بفتح دمشق، وركب على البريد كما ركبت, ومكث على ذلك أسبوعاً يمسح على خفيه دون أن يخلعهما, ولما وصل إلى عمر قال له: أصبت، وقلت ذلك توفيقاً بين الآثار, هكذا يقول شيخ الإسلام , يقول: قلت ذلك -يعني: نزل حديث عقبة على ذلك- توفيقاً بين الآثار, ثم وجدته مصرحاً به في مغازي ابن عائد , فإنه ذكر أن عقبة ركب على البريد.

وهذا القول يجمع بين القولين السابقين، وهو الوجه الثاني في الجواب على استدلال الأولين بحديث عقبة، أن يقال: إن هذا الحديث يمكن أن يحمل على حال الضرورة وما أشبهها، وهذا القول سمعت الشيخ محمد ناصر الدين الألباني يفتي به لما سئل عن حال المجاهدين الأفغان، وما يتعرضون له من البرد الشديد؛ لأنهم في بعض المواسم يتحركون فوق الجليد، وفي حالة جهاد وقد يشق عليهم نزع الخف، فأفتاهم بنحو من ذلك أنه يعفى عنهم التوقيت في مثل هذه الحال, وبذلك يتبين أن الأقوال في التوقيت وعدمه ثلاثة:

1- القول بعدم التوقيت مطلقاً وهو الأول.

2- والقول بالتوقيت مطلقاً وهو الثاني.

3- والقول بالتفصيل, وأنه يوقت إلا إذا احتاج إلى عدم التوقيت, وهو القول الثالث.

فيكون في القول الثالث جمع بين الأدلة وتوسط ومراعاة لحال الضرورة التي قد تحل بالإنسان, لكن إنما يكون جائزاً للإنسان في حال الضرورة أو الحاجة الظاهرة, بحيث يقال: إن ترك التوقيت حينئذ والمسح أولى من التيمم في هذه الحال, والله تعالى أعلم, هذه مسألة.

المفاضلة بين المسح على الخف وغسل القدم

المسألة الثانية في حديث صفوان : هي مسألة أيهما أفضل: المسح على الخف أم غسل القدم؟ وذلك أن في حديث صفوان قوله: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا ), ولذلك اختلف أهل العلم أيضاً أيهما أفضل المسح على الخف أم غسل القدم؟ فذهب الجمهور: إلى أن غسل القدم أولى, وهذا منقول عن عمر وابن عمر وأبي أيوب الأنصاري , وهو مذهب الثلاثة مالك وأبي حنيفة والشافعي، أن غسل القدم أولى من المسح، وذلك لأن غسل القدم هو الأصل، ولأن أكثر ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم هو الغسل.

وذهب الإمام أحمد في أصح الروايات عنه إلى أن المسح على الخفين أولى من غسل القدمين, ورجحه بعض السلف لمخالفة أهل البدع الذين ينكرون المسح على الخفين، ولذلك حتى الأولين الذين قالوا: إن الغسل أولى، قالوا: شريطة ألا يكون الغسل رغبة عن الرخصة الثابتة.

فالإمام أحمد ذهب إلى أن المسح أولى، وأقوى الأقوال في ذلك ما ذكره الإمام ابن القيم في زاد المعاد في الجزء الأول في صفحة مائة وتسعة وتسعين، من أن الأولى ألا يتكلف الإنسان ضد حاله، فإن كان لابساً للخف أو الجورب أو نحوها مما يمسح عليه، مسح عليه ولم يتكلف خلعه ليغسل القدم، وإن كان مكشوف الرجل لم يشرع له حينئذ أن يلبس الخف من أجل أن يمسح عليه, بل لا يتكلف ضد حاله التي هو عليها, وهذا هو الظاهر من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، أنه إن كانت الخف عليه مسح عليها, وإن لم يكن عليه خف غسل قدميه, وهذا ظاهر من الأحاديث كما في حديث المغيرة وحذيفة وغيرهما.

قال ابن القيم- رحمه الله- قاله شيخنا, يعني: عزاه لـابن تيمية رحمه الله, ورجحه الشنقيطي في أضواء البيان أيضاً, ومما يؤيد هذا القول حديث ثوبان الذي قرأتموه قبل قليل وسيأتي, فإن فيه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية فأصابهم البرد, فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يمسحوا على العصائب ), وهذا دليل على أن الإنسان إذا كان في حالة برد, لأنه في الغالب أنه إذا أصابه البرد يلبس التساخين أو الخفاف أو غيرها, وهو دليل على أن المراعى في المسح على الخفين هو التيسير على الإنسان, وعدم المشقة عليه, والأليق بالتيسير أن يقال له: إن كنت لابساً للخف فامسح عليه بشروطه, وإن لم تكن لابساً فاغسل القدم، فلا يكلف ضد حاله التي هو عليها.

أما الأحاديث في الأمر بالمسح كحديث صفوان هذا ( كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يأمرنا ) فعلى مذهب من قالوا بأن المسح أفضل, وهو مذهب الإمام أحمد لا إشكال, لأن الأمر حينئذ للاستحباب، وعلى القول الثالث بأن الأفضل ألا يتكلف الإنسان ضد حاله, يقال: إن الأمر حينئذ للإباحة؛ لأنه لو لم ترد النصوص في المسح على الخفين لكان الأصل غسل القدمين, فكان الأمر مشيراً إلى جواز المسح على الخفين, أو يقال: إنه للاستحباب في حالة كون الإنسان لابساً للخف, يعني: إذا كان لابساً للخف يؤمر أن يمسح عليه استحباباً, ولم يقل أحد من أهل العلم بوجوب ذلك, بل يسعه أن يخلع الخف ويغسل القدم، وهذا كله ظاهر بحمد الله.

هذه هي المسألة الثانية من المسائل المتعلقة بحديث صفوان .

فوائد حديث صفوان بن عسال في التوقيت للمسح على الخفين

في حديث صفوان رضي الله عنه فوائد كثيرة جداً نقتصر على بعضها، وأشير إلى الفوائد في الحديث كله كما قرأته عليكم في أول الجلسة.

فمن فوائد الحديث: مشروعية التعب في طلب العلم بل والرحلة في ذلك, وقد صنف الإمام الخطيب البغدادي كتاباً سماه: الرحلة في طلب الحديث، وفيه نصوص وآثار وقصص مفيدة ومقوية لعزيمة طالب العلم، فلا عليه أن يقتني هذا الكتاب, ويقرأه ويستفيد منه, وذلك لقول زر بن حبيش لـصفوان لما سأله: ( ما جاء بك؟ قال: جئت أطلب العلم ).

ومن فوائد الحديث: التواضع للعالم والمعلم وطالب العلم, وذلك لقول زر -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم- في الحديث: ( إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاء بما يطلب )، فإذا كان هذا هو شأن الملائكة، فأولى بالناس أن يتواضعوا للعالم والمعلم وطالب العلم الشرعي.

ومن فوائد الحديث: السؤال عما أشكل على الإنسان وحاك في صدره, لقول زر بن حبيش : ( حاك في نفسي المسح على الخفين فجئت أسألك: هل سمعت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيئاً؟ ).

ومن فوائد الحديث: التوقيت في المسح على الخفين: يوم وليلة للمقيم, وثلاثة أيام بلياليهن للمسافر.

ومن فوائد الحديث: خلع الخف للغسل من الجنابة إذا استطاع وهذا إجماع، إذا كان يستطيع أن يخلع الخف ليغتسل من الجنابة وجب عليه خلعه إجماعاً، أما إذا لم يستطع وعجز لضرورة فحينئذ يكون حكم الخف حكم الجبيرة، ومن المعلوم أن الجبيرة لا تزال في الغسل.

ومن فوائد الحديث: أن المسح على الخفين يجزئ من جميع الأحداث في الحدث الأصغر كالغائط والبول والنوم وغيرها.

ومن فوائد الحديث: أن الغائط والبول ينقض الوضوء, وهذا إجماع من أهل العلم.

ومن فوائده أيضاً: أن النوم ناقض للوضوء, لقوله: (ولكن من غائط وبول ونوم) يعني: ولكن نمسح على الخفين من الغائط والبول والنوم, وهذا محمول على النوم الكثير الذي يستغرق الإنسان فيه بحيث لا يبقى معه إدراك, ولا يشعر الإنسان بما حوله.

وفي المسألة نحو من ثمانية أقوال، وسيأتي ذكر مسألة النوم, وهل ينقض الوضوء في الباب الذي بعده.

ومن فوائد الحديث: فضيلة الحب في الله, وأن الإنسان مع من أحب يوم القيامة, فإن أحب الصالحين حشر معهم, وإن أحب الطالحين كان معهم، من أحب الصالحين كان معهم ولو قصر به عمله.

ومن فوائد الحديث: سعة رحمة الله تعالى, وأن للتوبة باباً قبل المغرب لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها.

ومن فوائده: ذكر شرط من شروط التوبة، وأنها تكون قبل طلوع الشمس من مغربها، وقد صح في أحاديث أخر أنها يجب أن تكون قبل أن يغرغر, لقوله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ), فهذه تضاف إلى الشروط المشهورة بحيث تكون شروط التوبة خمسة:

الأول: الإقلاع عن الذنب.

الثاني: الندم على ما فات.

الثالث: العزم على ألا يعود.

الرابع: أن تكون قبل الغرغرة.

الخامس: أن تكون قبل طلوع الشمس من مغربها.

ويمكن أن يضاف أيضاً شرط الإخلاص, فيكون سادساً.

والشرط السابع: هو رد الحقوق إلى أهلها.

ومن فوائده: بيان معنى قوله تعالى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ [الأنعام:158], وأن المقصود بهذه الآيات طلوع الشمس من مغربها, وهذا من علامات الساعة الكبرى, هذه أهم الفوائد الموجودة في حديث صفوان .

إن كان هناك شيء مهم حول الحديث, وإلا انتقلنا للذي بعده حفظاً للوقت.

فالحديث في هذه المصادر مطول، وفيه ذكر أشياء غير المسح على الخفين، لأنهم جميعاً رووه من طريق عاصم بن بهدلة، وهو عاصم بن أبي النجود المقري الإمام المعروف عن زر : ( أنه أتاه فقال: ما جاء بك؟ قال: جئت أطلب العلم؟ فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاءً بما يطلب. قال: ثم سألته, وقلت له: إنه قد حاك في صدري المسح على الخفين -كأنه حصل عنده شك أو تردد فيه- فهل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يذكر فيه شيئاً؟ قال: نعم. كان صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفراً أو مسافرين- هكذا الرواية- ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم. قال: وسألته: هل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يذكر في الهوى شيئاً؟ قال: نعم. أتاه أعرابي، وكان في سفر, فقال: يا محمد! يا محمد! فقلنا له: اغضض من صوتك فإنك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هاؤم بنحو من صوته. فقال: أرأيت الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم -يعني: لم يعمل مثل عملهم- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: المرء مع من أحب. قال: وجعل يحدثنا عن باب للتوبة قبل المغرب مسيرة سبعين عاماً لا يغلق حتى تطلع الشمس من قبله، وذلك قول الله عز وجل: (( يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ))[الأنعام:158] ).

والحديث -كما ذكرت- مداره على عاصم بن أبي النجود، وعاصم وإن كان من القراء المشهورين إلا أن في حفظه شيء وروايته للحديث، ولكن قال ابن معين : لا بأس به. وقال أبو حاتم : محله الصدق، فحديثه حسن. وقد ذكر ...

وله متابعة عند الطبراني من طريق عبد الكريم بن أبي المخارق ولكنه ضعيف, فمتابعته لا ترفع الحديث، ولكن العلماء صححوا الحديث, صححه بعضهم, وحسنه آخرون، فإن الترمذي قال عقب روايته: حديث حسن صحيح. كما أشار إلى ذلك المصنف, وكذلك ابن خزيمة صححه، والخطابي قال: صحيح الإسناد. أما البخاري فقد نقل الترمذي عنه أنه حسنه. والنووي قال في المجموع : بأسانيد صحيحة, فهذا الحديث لا ينزل عن رتبة الحسن, وفي الحديث مسائل عديدة.

وبالنسبة للذين رووه عن عاصم رواه عنه جمع غفير, حتى ذكر ابن منده أنه رواه عن عاصم أكثر من أربعين نفساً.

بالنسبة للمسائل المتعلقة بالحديث: فيه مسائل كثيرة نقتصر على أهمها, منها:

أولاً: أبرز مسألة في الحديث: هي مسألة التوقيت في المسح على الخفين, هل للمسح على الخفين وقت محدود لا يجوز تعديه, أم أن المسح على الخفين جائز بلا توقيت؟

هذه المسألة المشهور عند أهل العلم فيها رأيان:

الأول منهما: وهو منقول عن عمر، وابن عمر، وعقبة بن عامر رضي الله عنهم, والحسن البصري، وهو مذهب الإمام مالك والليث بن سعد أنه ليس في المسح على الخفين توقيت.

بمعنى أن الإنسان إذا لبس الخفين على طهارة فإنه يمسح عليهما ما شاء حتى يخلعهما, إلا من جنابة كما هو معروف, ويحتج أصحاب هذا القول بعدة أدلة:

منها: حديث أبي بن عمارة عند أبي داود أنه قال: ( يا رسول الله! أمسح على الخفين؟ قال: نعم, قال: يوماً؟ قال: نعم، قال: ويومين؟ قال: نعم، قال: وثلاثة؟ قال: نعم وما شئت )، وفي بعض ألفاظ الحديث أنه أوصلها إلى سبعة، والمهم قوله: (ويومين وثلاثة وما شئت).

فقالوا: هذا دليل على أن المسح على الخفين جائز بلا توقيت, لأنه لم يذكر له وقتاً معلوماً, هذا الدليل الأول.

ويجاب عن هذا الدليل بجوابين:

الأول: أن الحديث ضعيف، وسوف يأتي تفصيل هذه الجملة في الدرس القادم, لأن حديث أبي بن عمارة من الأحاديث التي ساقها المصنف في باب المسح على الخفين، فنتكلم عن أقوال أهل العلم في تضعيفه في الجلسة القادمة بإذن الله تعالى.

الجواب الثاني: أن يقال: على فرض صحته، فإن الحديث لم يذكر عدم التوقيت، إنما ذكر جواز المسح، ولا يمنع أن يكون معنى الحديث, نعم يجوز المسح يوماً ويومين وثلاثة، وما شئت بشرط التزام التوقيت المذكور في أحاديث أخرى, فيكون مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( الصعيد الطيب طهور المؤمن وإن لم يجد الماء عشر سنين )، فهل يعني هذا أن الإنسان يتيمم مرة واحدة وتكفي؛ لأنه قال: عشر سنين؟ الجواب: لا, وإنما المعنى أنه لو جلس عشر سنين بلا ماء، فإنه يتيمم خلال هذه السنوات كلما احتاج إلى تيمم, فيقال مثل ذلك في حديث أبي هذا.

الدليل الثاني للقائلين بعدم التوقيت: هو حديث خزيمة بن ثابت: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن المسح على الخفين, فقال: يوماً وليلة للمقيم, وثلاثة أيام للمسافر، قال: ولو استزدناه لزادنا ).

والحديث رواه أبو داود والترمذي، وبهذا اللفظ لم يذكر الترمذي هذه الزيادة قوله: (ولو استزدناه لزادنا) لكن ذكرها أبو داود , وابن ماجه وابن حبان .

وأيضاً الجواب على هذا الحديث من وجهين:

الأول: ضعف الحديث، حتى ذكر بعض أهل العلم الاتفاق على ضعفه, لكن في هذا النقل نظر؛ لأن ابن معين نقل عنه تصحيحه, وكذلك ابن حبان، ولذلك فالأقوى في الجواب على هذا الحديث أن يقال: إن غاية ما في حديث خزيمة أنه ظن من صحابي، لأن خزيمة ظن أنهم لو استزادوا النبي -صلى الله عليه وسلم- في مدة المسح لزادهم على يوم وليلة وعلى ثلاثة أيام, فكيف يمكن العدول عن النص النبوي الذي قال: يوماً وليلة للمقيم -بنفس الحديث- وثلاثة أيام للمسافر، فحدد، كيف يعدل عن النص النبوي إلى الظن الذي سبق إلى ذهن الصحابي؟! ولم يقل أحد من أهل العلم بأن ظن الصحابي حجة، وإنما تنازعوا في قول الصحابي، هل هو حجة أو لا؟

أما ظنه فلم يقل أحد من أهل العلم بأنه حجة، فلا دلالة في هذا الحديث.

الدليل الثالث للقائلين بعدم التوقيت: هو أثر عقبة بن عامر رضي الله عنه: [ أنه ركب يوم الجمعة من الشام إلى المدينة , فمسح على الخفين حتى وصل في يوم الجمعة - يعني: بعد أسبوع- إلى عمر رضي الله عنه وأرضاه , فقال له عمر : منذ كم وأنت تمسح على خفيك؟ قال: منذ أسبوع.. منذ يوم الجمعة, فقال له عمر رضي الله عنه: أصبت ] وفي بعض الألفاظ: [ أصبت السنة ]، وهذا الأثر رواه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، ورواه الدارقطني وقال: صحيح الإسناد, وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : هو أثر صحيح.

ودلالة هذا الحديث ظاهرة، فإن عقبة مسح على خفيه سبعة أيام متتالية ولم ينزعهما, فدل على أن هذا مذهبه، وكذلك وافقه عمر وقال له: أصبت, فدل على أنه مذهب عمر رضي الله عنهم أجمعين.

والجواب على هذا الدليل من وجهين: الأول: أنه رأي صحابي وفعله، وهو معارض بنصوص مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما سوف يأتي.

الجواب الثاني: يأتي بعد قليل بعد نهاية ذكر القول الثاني.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 38-40 4761 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة - حديث 442 4393 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 57-62 4212 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 282-285 4094 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 727-728 4045 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع - حديث 405-408 4019 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 313-316 3972 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 36 3916 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب المياه - حديث 2-4 3898 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 734-739 3877 استماع