الحكم بغير ما أنزل الله


الحلقة مفرغة

العلوم المضافة إلى القرآن الكريم على أقسام، منها ما هو كالأداة لفهمه واستخراج فوائده كعلوم العربية، وقد يدعى فيما ليس بوسيلة أنه وسيلة، وفهم السلف هو الفيصل. ومنها ما هو مأخوذ من جملته من حيث هو كلام، كالجانب البلاغي والتعجيز عن الإتيان بمثله.

نبدأ باستعرض تاريخ الحكم بغير ما أنزل الله، ونشأته في الجماعة الإنسانية منذ أن خلقها الله تبارك وتعالى إلى اليوم.

عشرة قرون يتحاكمون إلى شرع الله

فنقول: إن آدم وذريته من بعده كانوا على التوحيد عشرة قرون، كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه، فكانوا يتحاكمون إلى شرع الله، وهذه أول قضية نخالف فيها من يكتبون في تاريخ التشريع في العالم، لأنهم يزعمون أن الإنسانية تطورت وبدأت أولاً بالأعراف وأحكام شيخ القبيلة، ثم القوانين غير المكتوبة، ثم لما اكتمل التطور الذي ظهر في العصر الحديث وما قبله في العصر الروماني، ظهرت القوانين المكتوبة المدونة الآن بما يسمى الدساتير، ثم القوانين بفروعها المدني والتجاري والإداري إلى آخره، ثم اللوائح التنفيذية لها، وهذا هو الفرق بين قولنا نحن المسلمين وبين قولهم.

بداية الشرك والخلاف

والقصد أنه لما وقع الاختلاف ووقعت الأمة في الشرك، بعث الله النبيين، وأرسل الرسل،وأنزل الكتاب، والكتاب هنا اسم جنس، والمقصود به جنس الكتب، وأنزل الله تعالى الكتب لتحكم بين الناس فيما يختلفون فيه، فلم يترك الله تبارك وتعالى الإنسانية هملاً، ولم يترك الجماعة البشرية بلا كتاب ولا شريعة تنظم حياتهم، فلا يزعم زاعم أن الكتب السماوية إنما نزلت لتنظيم ما يسمونه بالجانب الروحي فقط، وتركت للناس الاحتكام إلى الطواغيت أو الأهواء أو الشرائع الوضعية عامة.

انقسام تاريخ الإنسانية إلى خطين

انقسم تاريخ الإنسانية إلى خطين:

الأول: أصحاب اليمين: وهؤلاء موجودون على مدار التاريخ وهم يحتكمون إلى شرع الله.

الثاني: المنحرفون المشركون التاركون لدين الله ولشرعه، الذين يحتكمون إلى الطواغيت على اختلاف أنواعها كما سنذكر.

أما أصحاب اليمين فهؤلاء كانوا كما في القرآن والسنة على نوعين:

النوع الأول: الأنبياء والرسل، وهذا واضح جداً ولا تخفى الأمثلة على ذلك، مثل: داود وسليمان: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً [الأنبياء:78-79] وهكذا بقية الرسل، ولهذا قال الله تعالى عن التوراة: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا [المائدة:44].

فكان النبيون يحكمون -عموماً- في جميع مراحل التاريخ، حيثما وجد النبي فإنه يحكم بين المؤمنين وبين أتباعه فيما يشجر بينهم، ثم منهم من تقام له دولة كبيرة كما كان لسليمان عليه السلام، ومنهم من يكون أقل، فالمقصود أن أتباع الرسل صلوات الله وسلامه عليهم يحتكمون إلى الرسل، وكما صح أيضاً عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {إن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي}.

النوع الثاني: الملوك العادلون الذين يحكمون بين الناس بما أنزل الله ويتبعون شرعه، وإن لم يكونوا أنبياء، وهذا كثير في التاريخ أن ملوكاً آمنوا بدين الله، واتبعوا هديه، وورثوا شريعة من شرائعه، أو بعث فيهم نبي من أنبيائه فآمنوا به أمثال طالوت فقد كان ملكاً، وكان الأنبياء في عهده يخبرونه بحكم الله، وكذلك ذي القرنين من أعظم ملوك الدنيا الذي ذكره الله تبارك وتعالى في القرآن -وهو غير ذي القرنين الذين يسمونه المقدوني الوثني اليوناني، فذاك على الإيمان والتوحيد كما ذكر الله تبارك وتعالى، وهذا مشرك ملحد- ثم جاء من بعدهم الكثير.

فنقول: إن آدم وذريته من بعده كانوا على التوحيد عشرة قرون، كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه، فكانوا يتحاكمون إلى شرع الله، وهذه أول قضية نخالف فيها من يكتبون في تاريخ التشريع في العالم، لأنهم يزعمون أن الإنسانية تطورت وبدأت أولاً بالأعراف وأحكام شيخ القبيلة، ثم القوانين غير المكتوبة، ثم لما اكتمل التطور الذي ظهر في العصر الحديث وما قبله في العصر الروماني، ظهرت القوانين المكتوبة المدونة الآن بما يسمى الدساتير، ثم القوانين بفروعها المدني والتجاري والإداري إلى آخره، ثم اللوائح التنفيذية لها، وهذا هو الفرق بين قولنا نحن المسلمين وبين قولهم.

والقصد أنه لما وقع الاختلاف ووقعت الأمة في الشرك، بعث الله النبيين، وأرسل الرسل،وأنزل الكتاب، والكتاب هنا اسم جنس، والمقصود به جنس الكتب، وأنزل الله تعالى الكتب لتحكم بين الناس فيما يختلفون فيه، فلم يترك الله تبارك وتعالى الإنسانية هملاً، ولم يترك الجماعة البشرية بلا كتاب ولا شريعة تنظم حياتهم، فلا يزعم زاعم أن الكتب السماوية إنما نزلت لتنظيم ما يسمونه بالجانب الروحي فقط، وتركت للناس الاحتكام إلى الطواغيت أو الأهواء أو الشرائع الوضعية عامة.

انقسم تاريخ الإنسانية إلى خطين:

الأول: أصحاب اليمين: وهؤلاء موجودون على مدار التاريخ وهم يحتكمون إلى شرع الله.

الثاني: المنحرفون المشركون التاركون لدين الله ولشرعه، الذين يحتكمون إلى الطواغيت على اختلاف أنواعها كما سنذكر.

أما أصحاب اليمين فهؤلاء كانوا كما في القرآن والسنة على نوعين:

النوع الأول: الأنبياء والرسل، وهذا واضح جداً ولا تخفى الأمثلة على ذلك، مثل: داود وسليمان: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً [الأنبياء:78-79] وهكذا بقية الرسل، ولهذا قال الله تعالى عن التوراة: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا [المائدة:44].

فكان النبيون يحكمون -عموماً- في جميع مراحل التاريخ، حيثما وجد النبي فإنه يحكم بين المؤمنين وبين أتباعه فيما يشجر بينهم، ثم منهم من تقام له دولة كبيرة كما كان لسليمان عليه السلام، ومنهم من يكون أقل، فالمقصود أن أتباع الرسل صلوات الله وسلامه عليهم يحتكمون إلى الرسل، وكما صح أيضاً عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {إن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي}.

النوع الثاني: الملوك العادلون الذين يحكمون بين الناس بما أنزل الله ويتبعون شرعه، وإن لم يكونوا أنبياء، وهذا كثير في التاريخ أن ملوكاً آمنوا بدين الله، واتبعوا هديه، وورثوا شريعة من شرائعه، أو بعث فيهم نبي من أنبيائه فآمنوا به أمثال طالوت فقد كان ملكاً، وكان الأنبياء في عهده يخبرونه بحكم الله، وكذلك ذي القرنين من أعظم ملوك الدنيا الذي ذكره الله تبارك وتعالى في القرآن -وهو غير ذي القرنين الذين يسمونه المقدوني الوثني اليوناني، فذاك على الإيمان والتوحيد كما ذكر الله تبارك وتعالى، وهذا مشرك ملحد- ثم جاء من بعدهم الكثير.

أما النموذج الثاني الذي هو موضوع حديثنا، وهو كيف نشأت القوانين الوضعية، وكيف نشأ الحكم بغير ما أنزل الله حتى أصبح الناس يتحاكمون إلى شرع غير شرع الله؟

فأما كيف وجدت هذه الشرائع فبحسب ترتيبها.

الاحتكام إلى الأعراف

أول ما وجد عند الناس من الانحراف هو الاحتكام إلى الأعراف والعادات والتقاليد وشيوخ القبائل والملوك المتسلطين المتألهين، فلم تكن القوانين مكتوبة.

فالمرحلة الأولى من مراحل الانحراف لم تكن القوانين مكتوبة، فلم يضاهوا فيها شرع الله، وهذه المرحلة موجودة في كثير من الأمم البدائية، وما تزال إلى هذه اللحظة عند الأمم البدائية التي لم تعرف الكتابة، فيحتكمون إلى هذه الأعراف والتقاليد والأوضاع المألوفة كما في البوادي، حتى في البلاد الإسلامية وجزيرة العرب.

بداية تدوين القانون

ومع ذلك فإن التاريخ القديم قد سجل لنا بعض الأحكام التي وجدت والتي ربما نقشت أو كتبت، ومن أشهرها قوانين الملك الآشوري القديم حمورابي، والتي يعتبرها القانونيون أساساً للتشريع الحديث، وأن هذا الرجل من تجديداته وإبداعاته أنه وضع شرائع، فالرجل إذا قتل رجلاً أو سرق ثوراً فله حكم كذا وكذا من العقوبة، ويجعلون هذا عصراً جديداً للتقنين ولمعرفة الأحكام، بينما نحن نعتقد أن هذه القوانين -على ضئلتها وقلتها- ما كان فيها من خير وحق فإنه يحتمل أن يكون أُخِذها عن شريعة نبي لم يذكر، وإما من بقايا كتب ورسالات أنزلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإما أن يكون اجتهاداً ووافق بعض الصواب، ثم جاء بالباقي من عند نفسه كأي طاغوت من الطواغيت يضع من عنده تشريعات، فنجد فيها ما يوافق الحق أحياناً اتفاقاً، وأما الباقي فهو مردود عليه، ولا يعد ذلك فتحاً ولا تجديداً، وإنما يعد انحرافاً واحتكاماً إلى الطاغوت، ولو أنهم رجعوا إلى دين الله وإلى شرعه لوجدوا خيراً كثيراً، فكل أمة أنزل الله تبارك وتعالى لها من الشرع والدين ما يكفل لها حياتها ونظامها.

ثم في التاريخ الوسيط -كما يسمونه- القرون الوسطى، نجد أن أشهر من وجدت عندهم من الأمم التشريعات والقوانين المكتوبة هم الرومان، ولذلك إلى الآن يقولون: إن القانون الروماني هو أفضل وأوسع وأشمل أنواع القوانين المعروفة في القرون الوسطى، لأنهم لا يعدون شريعة الإسلام ودين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شرعاً، ولا يعترفون به مع أنه كان يحكم الحياة جميعها، وهو تشريع مكتوب أيضاً.

فالمقصود أن المرحلة الثانية هي مرحلة تدوين القوانين، وأنها أول ما ابتدأت بشكلها القريب من المعاصر في عصر الامبراطورية البيزنطية أو الامبراطورية الرومانية، وأشهر هذه القوانين قوانين الامبراطور جوستنيان الذي ظهر في أوائل القرن السابع، أو في أواخر القرن السادس الميلادي، فهو معاصر لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تقريباً، وبلغت الامبراطورية الرومانية في عصره شأناً عظيماً، وكتبت القوانين المسماة قوانين جوستنيان.

وكان دينهم في ذلك الزمان هو النصرانية؛ لأن النصرانية دخلت إلى أوروبا عام (325م) والامبراطور الذي اعتنق النصرانية وأدخلها في بلاده هو قسطنطين، وهو الذي جمع الأساقفة واختار دين التثليث، وترك مذهب التوحيد. وأخذ هذا الدين المنحرف من المحرف الأكبر شاؤول الذي غير اسمه إلى بولس اليهودي.

وهنا نعرف قضية بني إسرائيل، فعيسى عليه السلام كان رسولاً إلى بني إسرائيل خاصة بنص القرآن، وكما في الأناجيل أيضاً يقول: ''إنما بعثت إلى خراف بيت إسرائيل الضالة'' .

ولهذا يذكرون قصة المرأة الفينيقية أو السورية التي ذكرت في الأناجيل المحرفة أنها جاءت إلى عيسى عليه السلام واشتكت أن فيها روحاً شريرة، أي بها مس من الجن وقالت: يا روح الله! عالجني أو أعطني مما أعطاك الله، فقال: يا امرأة من أين أنت؟

فقالت: فينيقية، أو قالت: سورية. فقال لها: ''إنما بعثت إلى خراف بيت إسرائيل الضالة'' فبكت وتضرعت، وقالت: إن لم تعطني الخير فمن أين أذهب؟

حتى آواها ورضي أن يعلمها وأن تكون من المدعوين.

فالشاهد أن عيسى عليه السلام أنزل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إليه الإنجيل مكملاً لما بين يديه من التوراة، وفيه زيادة أحكام مثل: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آل عمران:50] وفيه تخفيف من الآصار والأغلال التي كانت على اليهود، وفيه تحليل بعض ما كان محرماً في شريعة التوراة، فهو كتاب مكمل في حدود بني إسرائيل، هذه القضية الأولى.

والقضية الأخرى: أنه هل وصل هذا الكتاب نفسه -مع أنه لم يكن تشريعاً للعالم كله- إلى الرومان أو إلى غيرهم كما أنزله الله؟ فقد وقع التحريف والطمس والتبديل والتغيير على يد بولس وعلى يد أناس آخرين.

حتى أنه مرت مراحل كثيرة كان الامبراطور يأمر بكتابة الإنجيل من جديد وحذف ما لا يكون مناسباً، فيأتي الأحبار والرهبان الكبار ويكتبون ويحرفون الكلم عن مواضعه يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ [البقرة:79] كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عنهم، فلم يكن الإنجيل شرعاً عاماً، وما نراه اليوم من انتشار المنصرين في جيمع أنحاء العالم وطبع الإنجيل إلى أكثر من ألف ومائتي لغة، كل ذلك خارج عن الأصل الذي بعث الله تبارك وتعالى عيسى عليه السلام من أجله، حتى لو كانوا يدعون إلى الإنجيل الحقيقي، فهو لم يكن شرعاً عاماً، ولا ديناً للإنسانية عاماً هذا أولاً.

والأمر الآخر أنه لم يصل إلى تلك الأمم الإنجيل الحقيقي، إذ قد حرف وبدل، ومع ما فيه من تحريف، فلا يوجد فيه من التشريعات والتنظيمات ما يكفل الحياة؛ لأن الناس إذا حرفوا شيئاً وطمسوه وبدلوه لا يمكن أن تكون فيه الديمومة والمنفعة الكاملة، وعليه فإن الأناجيل الموجودة بالجملة ليس فيها تشريعات كافية، مع العلم أن هذه الكتب أنزلت محدودة في الزمان والمكان إلى بعثة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعندما أنزل الله القرآن وأرسل محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً [سبأ:28] وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] لم يعد يُعمل بكتاب غير القرآن الذي أنزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والاحتكام إنما يكون إليه فقط.

ولما لم تجد الدولة النصرانية الكفاية في تسيير شئون حياتها وتلبية احتياجات الناس بسبب النقص الحاصل في التوراة، ووجدت نفسها أنها في حاجة إلى تنظيمات وإلى تشريعات، ووجدوا أن لهم أعرافاً وقوانين وأنظمة فجاء جوستنيان وأمثاله فنظموها، ثم كتب بعد ذلك عدة قوانين وانتشرت حتى سمي القانون الروماني، وهذه قصة التاريخ أو التقنين في العصور الوسطى كما يسمونها.

قيام الثورة الفرنسية

المرحلة الثالثة: وهذه هي المعلم الفاصل في تاريخ أوروبا الذي يعتبرونه فجر العصر الحديث والإنسانية كلها، وهي الثورة الفرنسية التي قامت سنة (1789م)، فأقامت لأول مرة في تاريخ أوروبا النصرانية مبادئ لا تستند إلى الدين في شيء، وجعلت ارتكاز الحياة والاحتكام في الحياة إلى أهواء الناس، وكان شعارهم وهم يتظاهرون ويذبحون ويسفكون الدماء: اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس، أي: أنهم يقضون على الإقطاع الملكي من جهة وعلى الدين من جهة أخرى، لتقوم دولة علمانية لا تحتكم إلى الدين في شيء، كذلك نحيت التوراة والإنجيل وما فيها من أحكام، وابتدأ الناس في وضع الأحكام الوضعية والقوانين الوضعية، وأخذوا يفكرون في إنشاء دساتير.

طريقة الدساتير المكتوبة

وبعد الثورة الفرنسية ظهر نابليون الذي اجتاح معظم أوروبا، هذا الطاغوت الكبير عندما ظهر وضع لهم القانون الأول المكتوب في أوروبا وهو المعروف بقانون "نابليون" وضعه عام (1804 م)، وهو عبارة عن مدونة في الأحكام أغلبها يتعلق في المعاملات وما أشبه ذلك، فانقسم بعد ذلك التاريخ الأوروبي التشريعي -أي: التقنيني- على فرعين:

الفرع الذي أخذ بالاتجاه الفرنسي، وهذا يضع التقنينات التفصيلية في كل شيء، وفرنسا نموذج لذلك، فهناك قانون التجارة، وقانون القضاء، ودستور البلاد.

ثم القوانين الفرعية: القانون المدني، والقانون التجاري، والقانون الإداري، وكل ذلك نما مع الزمن وتطور وتتدرج إلى أن وصل إلى المرحلة التي نراها اليوم.

طريقة القوانين غير المكتوبة

وهذا الاتجاه قابله اتجاه آخر، وهو الاتجاه الذي ساد في بريطانيا ويمثله في الدرجة الأساسية الإنجليز، وهم لا يأخذون التقنين على أنه مواد مكتوبة، وإنما أخذوا طريقة العرف المتبع أو القوانين غير المكتوبة نظام السوابق، فيأتون إلى القضاء الإنجليزي، فإذا وقعت قضية إن كان لها سابقة رجع إلى ما كان قد عمل به وحكم به الأولون، وإن كانت قضية جديدة فهذه توضع وتكون سابقة، وهكذا، فيسمى نظام السوابق، وهو نظام غير مدون على الشكل الفرنسي.

والعالم الإسلامي نقل النموذجين فتجد هنالك دولاً أخذت الطريقة الفرنسية فتكتب الدستور مائة مادة أو مائتين مادة، ثم بعد ذلك تغيره، وكل أمر من أمورها ترجع فيه إلى مادة من مواد الدستور، وبعضهم جرى على الطريقة الإنجليزية -الأنجلو سكسونية- وهي طريقة الرجوع إلى الأعراف، فيقال: قد سبق أنه في عام كذا صدر مرسوم بكذا، وهكذا تدرس اللجنة القضائية القضية وتتخذ فيها حكماً، ثم يصبح سابقة، وتأتي قضية أخرى تدرسها كذلك، فيسمى نظام السوابق.

ففي الولايات المتحدة الأمريكية حصل فيها دمج بين النظامين، فمن جهة الدستور فمكتوب، وهو الذي يفخر به الأمريكيون؛ لأنهم وضعوه عند قيام اتحاد الولايات الأمريكية، وفي نفس الوقت نجد أن الأنظمة في أمريكا كالقانون المدني والتجاري وما أشبه ذلك على الطريقة الإنجليزية ليس مكتوباً، وإنما هو حسب السوابق، فهذا مجمل للكيفية التي يحتكم بها هؤلاء المتحاكمون إلى الطواغيت وإلى القوانين.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور سفر الحوالي - عنوان الحلقة اسٌتمع
المناهج 2597 استماع
(قاعدة أهل السنة في معاملة الأمة) لابن تيمية 2574 استماع
العبر من الحروب الصليبية 2508 استماع
محبة الرسول صلى الله عليه وسلم 2460 استماع
إبلاغ الأمة بكيفية محبة الرسول 2348 استماع
من أعمال القلوب: (الإخلاص) 2263 استماع
العبر من الحروب الصليبية [1، 2] 2260 استماع
الممتاز في شرح بيان ابن باز 2249 استماع
خصائص أهل السنة والجماعة 2197 استماع
الشباب مسئولية من؟ 2166 استماع