درجة الخوف من الله


الحلقة مفرغة

قال الإمام الطحاوي :

''ونرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم ويدخلهم الجنة برحمته، ولا نأمن عليهم، ولا نشهد لهم بالجنة، ونستغفر لمسيئهم، ونخاف عليهم، ولا نقنطهم''.

قال المصنف:-

"وعلى المؤمن أن يعتقد هذا الذي قاله الشيخ رحمه الله في حق نفسه وفي حق غيره، قال تعالى : أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً [الإسراء:57] وقال تعالى: فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]وقال تعالى: وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ [البقرة:41] وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة:40] فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْن [المائدة:44] ومدح أهل الخوف فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:57-61].

وفي المسند والترمذي عن عائشة رضي الله عنها، قالت:(قلت: يا رسول الله، وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَة [المؤمنون:60] أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق؟ قال: لا يا ابنة الصديق، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه ) قال الحسن رضي الله عنه: [[عملوا -والله- بالطاعات، واجتهدوا فيها، وخافوا أن ترد عليهم، إن المؤمن جمع إحساناً وخشيـة، والمنافق جمع إساءةً وأمناً]] انتهى.

وقد قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:218] فتأمل كيف جعل رجاءهم مع إتيانهم بهذه الطاعات، فالرجاء إنما يكون مع الإتيان بالأسباب التي اقتضتها حكمة الله تعالى وشرعه وقدره وثوابه وكرمه، ولو أن رجلاً له أرض يؤمل أن يعود عليه من مَغَلِّها ما ينفعه، فأهملها ولم يحرثها ولم يبذرها، ورجا أنه يأتي من مَغَلِّها مثل ما يأتي من حَرَثَ وزَرَع وتعاهد الأرض، لَعّده الناس من أسفه السفهاء، وكذا لو رجا وحسن ظنه أن يجيئه ولد من غير جماع! أو يصير أعلم أهل زمانه من غير طلب علم وحرص تام! وأمثال ذلك، فكذلك من حَسُن ظنه وقوي رجاؤه في الفوز بالدرجات العلى، والنعيم المقيم من غير طاعة ولا تقرب إلى الله تعالى بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه'' ا.هـ.

الشرح :

يقول المصنف رحمه الله تعالى: ''على المؤمن أن يعتقد هذا الذي قاله الشيخ في حق نفسه وفي حق غيره'' فذكر ما نعتقده في غيرنا من الناس، سواءً المؤمن منهم والمحسن، أم المسيء والفاجر، فيضيف المصنف ويقول: هذا ما نعتقده في حق أنفسنا وفي حق غيرنا، والإشارة ترجع إلى الخوف والرجاء وعدم الأمن وعدم القنوط، فنحن لأنفسنا نعتقد ذلك، فنخاف الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ونخاف ذنوبنا، ولكن نرجو رحمة الله ومغفرته، وإذا عملنا عملاً صالحاً نخاف أن لا يقبله، ولكن نرجو أن يتقبله؛ لأنه لا يضيع أجر من أحسن عملاً، فيكون حالنا بين الخوف والرجاء.

التوسل عند المشركين

ثم ذكر الشيخ هذه الآية العظيمة، وهي قوله تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ [الإسراء:57] وفي قراءة لـابن مسعود: أُولَئِكَ الَّذِينَ تَدْعُونَ فيكون الخطاب فيها للكفار والمشركين لأنهم هم الذين يدعون آلهة من دون الله، والخطاب فيها بصيغة الغائب، قال تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً [الاسراء:57] ويوضح معنى هذه الآية الآية التي قبلها، وهي قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً [الإسراء:56] فهي توضح أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قل لهؤلاء المشركين ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يستطيعون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً، ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، وهذه الأصنام والأرباب جميعاً -من حجارة أو من بشر- لا تملك رزقاً ولا أجلاً، بل لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، ولا يخلقون شيئاً وهم يخلقون، فهم من خلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ولا يملكون الحياة والممات وتدبير الأمور والتقديم والتأخير والعطاء والمنع؛ بل هو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ولا ينفع ذا الجد منه الجد، والنتيجة دعاء خاسر: وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ [الرعد:14] في الدنيا والآخرة ولكن تظهر عاقبته في الآخرة: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ [البقرة:166] وتَبَرَّأَ الكبراء من الضعفاء، والرؤساء من الأتباع، وكانوا بعبادتهم كافرين، وأصبحت المودة التي كانت بينهم في الحياة الدنيا عداوة يوم القيامة، ويتلاعنون في النار كما بين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في أكثر من موضع، فهذا هو حالهم مع أولئك، فلا يرجى من وراء دعوتهم ودعائهم وعبادتهم إلا الخيبة والندامة والحسرة والخسران في الدنيا والآخرة، ولذلك ضرب الله تبارك وتعالى المثل للمشركين الذين يدعون غير الله، سواءً أكانوا ملائكةً أم جناً أم عباداً صالحين أم حجارةً فقال: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31] فليس له من ينقذه أو ينجيه أو يتمسك به، فهذا هو حال أولئك المشركين.

ثم جاء بهذا البرهان القاطع الجلي، وهو: أن هؤلاء القوم المدعوين والمعبودين سواءٌ أكانوا ملائكة أم جناً أم أمواتاً أم صالحين -وهذا التفسير كما فسرها عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه وغيره- الذين هم مؤمنون بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كالملائكة فإنه لا شك في إيمانهم، وأيضاً مؤمنو الجن، وعباد الله الصالحون، كما جاء في الحديث عن الرجال الصالحين من قوم نوح، ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، فكل من كان عبداً صالحاً لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فإنه لا يجوز أن يُعُبد؛ لأنه هو يعبد الله ويتقرب إلى ربه كما تتقرب أنت إلى ربك، فكيف تعبده وحاله حالك، وافتقاره افتقارك، وذُلّة ذلك، وخضوعه خضوعك، ورجاؤه رجاؤك؟! (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة).

وهذه الوسيلة قد ضل فيها من ضل من الناس، ولو قابلت من الروافض المشركين، أو عباد القبور الصوفية في كل البلاد لقال: نحن نعتقد أن الله هو الخالق الرازق، وهؤلاء لا ينفعون ولا يضرون، وإنما نحن نذهب إلى الحسين والبدوي وندعو يا عباس، أو يا علي، أو يا حسن، أو يا حسين، ويقولون: نقصد بذلك الوسيلة، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [المائدة:35] فيقول: إن الله أمرنا أن نتخذ وسيلة وواسطة إليه، أما أنتم أيها الوهابية فتنكرون كتاب الله، وتعادون أولياء الله، وتكرهون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتقولون: لا نتخذ وسيلة إلى الله، فنقول: يقول الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [المائدة:35]، فهذه الآية تبين معنى الوسيلة وأنه وليس المقصود بالوسيلة الأشخاص والذوات، ولو كانت كذلك لما كان لهذه الآية معنى؛ لأن هؤلاء الأشخاص أو الذوات يبتغون إلى ربهم الوسيلة، فهل هؤلاء الأشخاص ببتغون أشخاصاً آخرين، لا يمكن هذا؛ لأنهم هم الذين يُبْتغَون ويُعبَدون.

معنى الوسيلة

فالوسيلة هي: القُربة كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح 8/397؛ حيث يقول: ''والمراد بالوسيلة القربة أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة، وأخرجه الطبري من طريق أخرى عن قتادة، ومن طريق ابن عباس أيضاً''.

فالوسيلة هي: القربة قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [المائدة:35] أي: ابتغوا إليه القربة، وقال تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ [الإسراء:57] فكلمة أقرب توضح أن المراد هو: القربة، حيث إن كلاً منهم يريد القربة، فهم يتنافسون ويتسابقون أيهم أقرب إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ وأيهم أكثر ذلاً وخضوعاً وانقياداً واستسلاماً وعبوديةً ودعاءً وضراعةً ورغبةً ورهبةً وإنابةً، فهذا هو المعنى الصحيح.

ولهذا ذكر الإمام البخاري رحمه الله بالسند المتصل عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، قال: [[كان ناس من الإنس يعبدون ناساً من الجن، فأسلم الجن، وتمسك هؤلاء بدينهم]] فهم في الجاهلية كانوا يعبدون الجن ويوم القيامة تشهد عليهم الملائكة بذلك، كانوا يعبدون الجن وأكثرهم بهم مؤمنون، فلما بُعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستمع إليه نفرٌ من الجن ولَّوا إلى قومهم منذرين، كما أخبر الله تبارك وتعالى، وكما جاء في الأحاديث الأخرى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذهب إليهم وعلمهم فآمنت الجن وكان ممن آمن منهم جنٌ كان يعبدهم المشركون من الإنس، فآمن المعبودون وظل العابدون على شركهم يعبدون من قد أناب وتاب وآمن، وهو يعبد الله ويبتغي إليه الوسيلة يرجو رحمة الله ويخاف عذابه.

التوسل الممنوع

يقول الحافظ ابن حجر: ''وهناك رواية عن ابن عباس أن المقصود في هذه الآية هم: الملائكة والمسيح وعزير'' .

ولكن قال: إنها ضعيفة، والمعنى في هذه الآية واضح، وهو أن هؤلاء عباد صالحون الملائكة والمسيح وعزير منهم، وكذلك من ذكرهم عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، فهذه أمثلة وأنواع فيمن يُعْبد من دون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهو غير راضٍ بهذه العبادة.

وهناك الآن من يعبد علياً رضي الله تعالى عنه والحسن والحسين وأمثاله من الصالحين كـجعفر وعبد القادر الجيلاني، فهؤلاء كانوا يعبدون الله ويخافونه ويرجونه.

ولكن الناس في الحاضر قاموا بعبادتهم، وهذه الحجة القرآنية قائمة على كل هؤلاء، فمثلاً البدوي وأمثاله لم يعرف عنهم صلاح وما جاء من أحوالهم يدل على أنهم زنادقة، مما يدل على أن الناس يتوسلون إلى الله بمن لا يؤمن بالله، كما كان بعض شيوخ الطرق الصوفية.

فالناس يرونه يترك الجمعة والجماعات ويمشي وهو بادي العورة في الطرقات، ويفعل أقبح القبائح، ومع ذلك يعتقدون ولايته ويعبدونه، ويدعونه حياً وميتاً، فهؤلاء ليس لهم ولاية ولا مكانة عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فمن يتقرب ويظن أنه يتقرب إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بهم فهو واضح الخسارة والخيبة، وليس لديه عقل ولا فكر ولا رأي.

وأما الذي يتوسل إلى الله تبارك وتعالى بالملائكة، ويقول هؤلاء ملائكة الله نتقرب إلى الله بعباده المكرمين، أو يتوسل إلى الله بأنبيائه أو بعباد الله وأوليائه وأصفيائه، ويقول: نحن نتقرب إلى الله بهؤلاء، فالجواب عليه واضح في الحجة القرآنية، وهي أن هؤلاء أنفسهم إنما يعبدون ويدعون ويتقربون إلى الله، فالواجب التقرب إلى الله كتقربهم ولا نجعلهم هم الوسيلة.

أركان العبادة في آية الوسيلة

وقد ذكر الله في هذه الآية المراتب الثلاثة، وهي: أركان العبادة الثلاثة: الحب، والخوف، والرجاء، ونستطيع أن نستنبط الحب من قوله: (أيهم أقرب) فعندما تقول فلان أقرب إليك أي: أن محبته لك أكثر، فالقرب هو لازم المحبة.

وأساس كل الطاعات هي المحبة، وأساس الإيمان بالله تعالى هو محبته ومحبة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونستنبط الرجاء من قوله: (يرجون رحمته) والخوف من قوله: (يخافون عذابه) ولذلك حقيقة العبودية هي: كمال الذل والخضوع، مع كمال المحبة والإجلال.

فإذا جردنا العبودية من المحبة، فإنها تصبح خوفاً محضاً، ولذلك نوضح بالأمثلة عبودية الأقوام السابقة، فالطواغيت نوعان في جميع العصور:

إما طواغيت سلطان ورئاسة وعلو في الأرض، كما أخبرنا الله تبارك وتعالى، وهؤلاء هم الذين يريدون علواً في الأرض، فهؤلاء طواغيت الرئاسة والحكم والسلطة والعلو يجعلون أنفسهم أرباباً وآلهةً من دون الله، ومن المعلوم أن من كره هؤلاء ومقتهم أنه غير عابد لهم، وإن كان مطيعاً لهم، فقد يكون من جنودهم وأتباعهم لكن ليس من عبادهم؛ لأن أساس العبادة هو: المحبة.

والنوع الآخر من الطواغيت هم: طواغيت التدين والدين والخرافة والتبديل والتحريف، وهؤلاء لخطرهم ولضررهم هم الأكثر والتحذير منهم في القرآن أكثر، وأكثر شرك الناس بسببهم؛ لأنه لا يقترن بهم قوة ولا سلطان فإذا وجدت بين أهل مصر من يثني على فرعون، فيحتمل أنه يثني عليه خوفاً منه؛ لأنه الملك أو لمصلحة أو رابطة دنيوية ولا يكون عابداً له ولا مؤلهاً له، لكن من كان يحب البابا يوحنا أو شيخ الطريقة أو البدوي، فهذا لا سلطان له، وسبب محبته أنها محبة تَقَرُّب وتَنَسُّك وأنه يظن ذلك ديناً.

والطاغوت: هو كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع في غير طاعة الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فهؤلاء الذين ذكرهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من أول صفاتهم المحبة؛ لأنها الركن الأساس من أركان العبادة أو العبودية، والرجاء هو الركن الثاني، فبالإجلال والتقدير والمحبة تكون العبادة، فإذا اجتمع هذان أصبحت عبادة، وإذا انتفى أحد هذين لم تصبح عبادة.

ثم ذكر الشيخ هذه الآية العظيمة، وهي قوله تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ [الإسراء:57] وفي قراءة لـابن مسعود: أُولَئِكَ الَّذِينَ تَدْعُونَ فيكون الخطاب فيها للكفار والمشركين لأنهم هم الذين يدعون آلهة من دون الله، والخطاب فيها بصيغة الغائب، قال تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً [الاسراء:57] ويوضح معنى هذه الآية الآية التي قبلها، وهي قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً [الإسراء:56] فهي توضح أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قل لهؤلاء المشركين ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يستطيعون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً، ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، وهذه الأصنام والأرباب جميعاً -من حجارة أو من بشر- لا تملك رزقاً ولا أجلاً، بل لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، ولا يخلقون شيئاً وهم يخلقون، فهم من خلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ولا يملكون الحياة والممات وتدبير الأمور والتقديم والتأخير والعطاء والمنع؛ بل هو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ولا ينفع ذا الجد منه الجد، والنتيجة دعاء خاسر: وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ [الرعد:14] في الدنيا والآخرة ولكن تظهر عاقبته في الآخرة: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ [البقرة:166] وتَبَرَّأَ الكبراء من الضعفاء، والرؤساء من الأتباع، وكانوا بعبادتهم كافرين، وأصبحت المودة التي كانت بينهم في الحياة الدنيا عداوة يوم القيامة، ويتلاعنون في النار كما بين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في أكثر من موضع، فهذا هو حالهم مع أولئك، فلا يرجى من وراء دعوتهم ودعائهم وعبادتهم إلا الخيبة والندامة والحسرة والخسران في الدنيا والآخرة، ولذلك ضرب الله تبارك وتعالى المثل للمشركين الذين يدعون غير الله، سواءً أكانوا ملائكةً أم جناً أم عباداً صالحين أم حجارةً فقال: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31] فليس له من ينقذه أو ينجيه أو يتمسك به، فهذا هو حال أولئك المشركين.

ثم جاء بهذا البرهان القاطع الجلي، وهو: أن هؤلاء القوم المدعوين والمعبودين سواءٌ أكانوا ملائكة أم جناً أم أمواتاً أم صالحين -وهذا التفسير كما فسرها عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه وغيره- الذين هم مؤمنون بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كالملائكة فإنه لا شك في إيمانهم، وأيضاً مؤمنو الجن، وعباد الله الصالحون، كما جاء في الحديث عن الرجال الصالحين من قوم نوح، ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، فكل من كان عبداً صالحاً لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فإنه لا يجوز أن يُعُبد؛ لأنه هو يعبد الله ويتقرب إلى ربه كما تتقرب أنت إلى ربك، فكيف تعبده وحاله حالك، وافتقاره افتقارك، وذُلّة ذلك، وخضوعه خضوعك، ورجاؤه رجاؤك؟! (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة).

وهذه الوسيلة قد ضل فيها من ضل من الناس، ولو قابلت من الروافض المشركين، أو عباد القبور الصوفية في كل البلاد لقال: نحن نعتقد أن الله هو الخالق الرازق، وهؤلاء لا ينفعون ولا يضرون، وإنما نحن نذهب إلى الحسين والبدوي وندعو يا عباس، أو يا علي، أو يا حسن، أو يا حسين، ويقولون: نقصد بذلك الوسيلة، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [المائدة:35] فيقول: إن الله أمرنا أن نتخذ وسيلة وواسطة إليه، أما أنتم أيها الوهابية فتنكرون كتاب الله، وتعادون أولياء الله، وتكرهون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتقولون: لا نتخذ وسيلة إلى الله، فنقول: يقول الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [المائدة:35]، فهذه الآية تبين معنى الوسيلة وأنه وليس المقصود بالوسيلة الأشخاص والذوات، ولو كانت كذلك لما كان لهذه الآية معنى؛ لأن هؤلاء الأشخاص أو الذوات يبتغون إلى ربهم الوسيلة، فهل هؤلاء الأشخاص ببتغون أشخاصاً آخرين، لا يمكن هذا؛ لأنهم هم الذين يُبْتغَون ويُعبَدون.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور سفر الحوالي - عنوان الحلقة اسٌتمع
المناهج 2599 استماع
(قاعدة أهل السنة في معاملة الأمة) لابن تيمية 2576 استماع
العبر من الحروب الصليبية 2509 استماع
محبة الرسول صلى الله عليه وسلم 2462 استماع
إبلاغ الأمة بكيفية محبة الرسول 2349 استماع
من أعمال القلوب: (الإخلاص) 2265 استماع
العبر من الحروب الصليبية [1، 2] 2261 استماع
الممتاز في شرح بيان ابن باز 2251 استماع
خصائص أهل السنة والجماعة 2199 استماع
الشباب مسئولية من؟ 2167 استماع