واجب المسلم تجاه مجتمعه


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا إنك أنت العليم الحكيم.

إن الموضوع الذي نريد أن نتذاكر وإياكم حوله ما هو عليكم بجديد، وإن كان الناس في هذا الزمان قلَّ أن يتحدثوا عن الواجبات ولا سيما عما يجب عليهم هم.

فكما ترون الواقع اليوم: أكثر الناس إلا من رحم الله من أهل العدل -وقليل ما هم- هم الذين يتكلمون عما يجب عليهم، وعما يجب لهم، فإنما يتكلمون عما يجب لهم فقط ولا يتحدثون ولا يبحثون ولا يفكرون فيما يجب عليهم نحو أصحاب الحقوق الأخرى.

فمثلا: نجد أن الرجل أو الزوج كثيراً ما يتحدث عن حقوقه على الزوجة، ونجد الزوجة كثيراً ما تتحدث عن حقها على الزوج، ولكن قل من الرجال من يتحدث بإنصاف عن حق المرأة على الرجل، وكذلك قلَّ من النساء من يتحدثن بإنصاف عن حق الرجل أو الزوج على المرأة.

كما نجد أن الآباء أكثر ما يتحدثون عن حق الآباء على الأبناء، وقلَّ من الآباء من يتكلم عن حقوق الأبناء على الآباء.

ولو نظرنا إلى ما هو أكبر من ذلك، فإنا نجد أن الحكام أكثر ما يتحدثون أو يتكلمون عن حق الحاكم على المحكومين، ولكن يندر أن تجد من الحكام من يتكلم عن حق المحكومين على الحاكم.

وكذلك إذا نظرت إلى الرعية، فإنك أكثر ما تجد الناس يتكلمون دائماً عن حقهم على الحكام، ولكن هل تكلموا عن حق الحكام عليهم... هذا قليل.

وهكذا حال الناس إلا من رحم الله تبارك وتعالى، وذلك لما ركب في طبع الإنسان وخلقته من الظلم والجهل الذي لا يعصمه منه، إلا أن يستمسك بهدى الله -تبارك وتعالى- كما قال عز وجل: إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72].

ولذلك يجب على الإنسان المؤمن أن يعيد الأمر إلى نصابه، وأن يكون قواماً بالعدل قواماً بالقسط.

وإن تحدث فليكن أكثر ما يتحدث فيه عما يجب عليه؛ لأن الذي لك إن لم تأخذه في الدنيا فسوف تأخذه في الآخرة، لكن الذي يجب عليك، سوف تسأل عنه في الدنيا وفي الآخرة.

مجتمعات اليوم وأسلوب تعاملها مع الفرد والمجتمع

نحن نجد اليوم أن المجتمعات في هذه الأرض، وفي هذا العالم المزدحم بالأمواج من الفتن والآراء والأهواء والنظريات والفلسفات، على فريقين:

الفريق الأول: مجتمعات أو أمم تهضم حق الفرد، فلا ترى للفرد حقاً ولا تكاد تقيم له وزناً، وهي الدول العقائدية، أو الدول التي قامت على نظريات فلسفية منذ القدم، منذ أن نَظَّر أفلاطون لجمهوريته، وإلى الماركسيين المعاصرين في كثير من دول العالم، وكذلك الحكومات القومية في العالم الإسلامي وغيره، هذه كلها مجتمعات تجحف حق الفرد وتتناساه، وتربي الناس على حق الأمة وواجب الأمة وما ينبغي للأمة.

الفريق الثاني: المجتمعات الرأسمالية، وهي إنما تنزع إلى إحياء وبعث وتعميق النزعة الفردية، فالحق عندهم للفرد، ولا ينظرون إلى المجتمع إنما المهم هو الفرد والإنسان في ذاته.

وهذا -أصلاً- موجود في الفطرة فالإنسانية، الإنسان محببٌ إليه أن يسعى وأن يعمل لذاته وحدها، ولكنَّ ذلك أُصِّل وفق نظريات ومناهج في العالم الغربي الرأسمالي منذ أيام الرأسماليين الأوائل مثل آدم إلى ريكاردو وإلى الآن.

فإن الواقع الذي تعيشه الامبراطوريات المالية -كما يسمونها في العالم الغربي- نجد أفراداً أو قلة قليلة تتحكم في أكثر من ثلثي أو ثلاثة أرباع ثروة المجتمع ومُقدراته وإعلامه ورأيه وفكره.

وهكذا نجد أن الظلم الذي نجده في أنفسنا نحن المسلمين أو الجانب الذي نحاول أن نحاربه في أنفسنا ونشعر به، نجد أنه على مستوى العالم الآخر يكون كأشد ما تكون حالات الظلم وضوحاً وتجلياً، وما ذلك إلا للانحراف عن هدى الله، ومنهجه -تبارك وتعالى- الذي أنزل علينا الكتاب مفصَلاً، والذي تمت كلماته صدقاً وعدلاً، والذي أعطى كل ذي حق حقه، فلا يجور الفرد على المجتمع، ولا يجور المجتمع على الفرد، وإنما لكل منهم حقه المشروع، فلا تتصادم الحقوق ولا تتعارض، ولكن تنسجم وتتلاءم، وكلها فيما يرضي الله -تبارك وتعالى- فينال كل ذي حق حقه بالقسط، دون أن يحيف أو يجور في حالة من الحالات.

الحقوق الواجبة علينا تجاه مجتمعنا

نرجع إلى أصل قضيتنا: وهو أنه لا بد للواحد منا -والمقصود بالمسلم عندما نقول: "واجب المسلم" نحن طلبة العلم خاصة- أن يتذكر دائماً أن لهذا المجتمع حقاً علينا، أن المجتمع الذي تعيش فيه سواء كان مجتمع الحي الذي تقطنه، أو القرية التي تسكن فيها، أو المدينة التي تعيش فيها، أو البلد أو الأمة بأكملها، فإن عليك حقوقاً وواجبات تجاهها لا بد أن تُفكِّر فيها، وأن تعمل على أدائها بما يعينك به الله تبارك وتعالى.

وهذه الحقوق لا نستطيع أن نستعرض كل ما جاء فيها من نصوص وأحكام، فهي كثيرة جداً، لكن لابد أن نعلم -جميعاً- القاعدة التي تعلَّمناها من خلال اطلاعنا ومعرفتنا بالمصطلحات والألفاظ في البيان القرآني، أو في البيان النبوي، أن هناك جملة من الألفاظ والمصطلحات والمفردات، وإن تنوعت دلالتها عند الاقتران، فإنها لا تختلف عند الإفراد، مثل: البر، والتقوى، والخير، والهدى، والصلاح وأشباه ذلك، فإنها تُؤدي -جميعاً- إلى حقيقة واحدة ومؤدى واحد، وهذا من بلاغة البيان القرآني والبيان النبوي، وسمو وجمال اللغة العربية التي اختارها الله تبارك وتعالى، لتكون أداة لحمل هذا الدين، ولله الحمد.

النصيحة

يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جانب المعاملة وجانب الحقوق: {الدين النصيحة} انظروا! كيف كانت الجملة! مبتدأ وخبر، مسند إليه ومسند، بأبلغ وأوجز ما يمكن من العبارات، ولكن ذلك يشمل الدين كله، والخير كله، والبر كله، ولهذا لما قال أصحابه صلوات الله وسلامه عليه وعليهم جميعاً: لمن يا رسول الله؟ قال: {لله ولرسوله ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم} أي: وكأن الدين كله تجمعه كلمة واحدة، وهي كلمة النصيحة، فلا بد أن يكون المسلم ناصحاً.

والنصيحة تجمع أمرين: تجمع الإخلاص، وتجمع الصدق، فكأنك بهذه الكلمة تقول: كن مخلصاً وكن صادقاً، فإن الرجل إذا نصحك، ولو كان كلامه، وتوجيهه وإرشاده لك حقاً، ولكن لم يكن عن إخلاص، فإنه لا يُسمى ناصحاً، وكذلك لو كان مخلصاً في قوله، ولكن لم يكن صادقاً فإنه لا يُسمَّى ناصحاً.

فحقيقة النصيحة ما يجمع معنيين: الإخلاص والصدق، ولهذا قال الرسل الكرام: وَأَنْصَحُ لَكُمْ [الأعراف:62] وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ [الأعراف:68] فكأن عمل الدعاة يتلخص في أن الواحد منا يجب أن يكون ناصحاً أميناً، ينصح لهذه الأمة، كما بيَّن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ينصح لله أولاً، ولكتاب الله تبارك وتعالى، ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم للأمة خاصتها وعامتها، فلا بد أن يسأل الإنسان نفسه عن ذلك: هل أنا ناصح فعلاً؟

وهل نصحت؟

وهل قمت بهذا الواجب؟

هذه أسئلة لا بد للإنسان منا أن يتأملها مع نفسه ومع إخوانه في الله، لينظر ما موقعه من هذا الحديث الشريف العظيم، الذي هو من جوامع كلمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

أحب لأخيك المسلم ما تحبه لنفسك

ومثله وقريب منه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) هذا كلامه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونأخذ من الحديث أهمية المحبة، وهذه المحبة لا تتعارض مع النص بل تقتضيه ويقتضيها، أن أحب لأخي ما أحب لنفسي.

والمقصود هو: أخوك المسلم، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(المسلم أخو المسلم)، وكما قال: (وكونوا عباد الله إخواناً).

إذاً: لا بد أن تعلم أن أخاك المسلم يجب عليك أن تحب له من الخير مثل ما تحب لنفسك، فإن كنت تحب الجنة، فلابد أن تسعى لتجعل أخاك ممن ينالها ويسعى في طريقها، تريد أن تنجو من النار، فأحب لأخيك أن ينجو من النار، تحب أن تؤتى الخير، وأن تعطى من الدنيا أو من خير الدنيا أو خير الآخرة، فأحب ذلك لأخيك المسلم، تحب أن يُسمع لك، فاسمع لأخيك المسلم، تحب أن تُطاع فأطع أخاك المسلم، تحب أن تُحترم، فاحترم أخاك المسلم... وهكذا ضع نفسك مكانه وليكن ميزانك ميزان العدل والقسط.

فحينئذٍ تجد أنك تحقق -بإذن الله- هذا الواجب العظيم، الذي قلَّ من يرتقي إليه من المسلمين، وبذلك تصبح ممن يعيشون في درجة عالية، وعظيمة جداً، يغبطك عليها أكثر الخلق وأنت لا تشعر بها؛ لأنه ليس في هذه الدنيا من هو أكثر سعادة في حياته من الإنسان الذي سلم قلبه من الغل والحقد والحسد والغش لإخوانه المسلمين أبداً، هذا هو الإنسان الذي يعيش في اطمئنان.

إنْ كَثَّر الله خير إخوانه المسلمين وعافيتهم وأرزاقهم، فرح بذلك واطمأن، وإن ضاقت عليهم الدنيا ورأى من حالهم ما لا يرضى فإنه لا يشمت بهم، مهما آذوه، وإن كان بينهم أشد ما يكون من الخلاف، بل إنه يسأل الله تبارك وتعالى أن يعافيهم وألاَّ يبتليه، فيعيش مطمئن البال قرير العين مما وصل إليه من هذه الأمانة وهذا العدل، لأنه تحمل الأمانة حق التحمل، حتى أصبح يزن بميزان العدل الذي قلَّ من يتمسك به، ولا سيما في أواخر الزمان.

فالإنسان المسلم يستشعر هذا الواجب دائماً، الجار يشعر بواجبه الذي عليه لجاره، وكذلك الجار الآخر... وهكذا نجد جملة من الحقوق تنظم حال المسلم ودنياه.

الرسول صلى الله عليه وسلم والاهتمام بمن حوله

الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصحابته الكرام هم المثل والنموذج الأعلى في أداء الحقوق، فكيف كانت حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟

كان هو معلم الأمة، وكان هو الحاكم والوالي فيها، وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الزوج الذي قام بحقوق الزوجية كاملة، وكان هو القائد الذي يقود الجيوش في المعارك، وكان هو المربي، وكان هو الشفوق والعطوف الحنون على الفقير والمسكين والأرملة، وهكذا جملة عظيمة من الحقوق قام بها صلوات الله وسلامه عليه خير قيام، مع أنه صاحب الفضل على هذه الأمة جميعاً، فهو الذي أخرج الله تبارك وتعالى به الأمة من الظلمات إلى النور.

كيف كان أصحابه الكرام؟

هل تعلمون أحداً من الصحابة أو حتى من العلماء التابعين أو تابعي التابعين كان يعيش هو وطلابه وحدهم منعزلين، يجتهدون فيما ينفعهم وحدهم، ولا يفكرون في حال الأمة ولا ينصحون لها، ولا يحسنون إليها، ولا يشفقون عليها؟!

لا تجدون ذلك أبداً، بل هم أشفق وأرحم الناس بالناس، هم الذين إن وجدوا الضعيف، وإن وجدوا الأرملة، وإن رأوا المحتاج أو المعتوه أو الأسير أو الفقير، فهم أول من يبادر إلى بذل الخير له والإحسان إليه، وحث الخلق على ذلك.

هم الذين بلغ بهم ذلك الموقف الإنساني الرفيع حداً لا يصدق، حتى كان الواحد منهم إذا اكتسى حلة يكسو غلامه، ويقول: هكذا علمنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هكذا كان في عصر كانت الشعوب يستعبد بعضها بعضا، ويستذل بعضها بعضاً.

وأما اليوم فهل سمعنا عن بعض أرباب العمل وأصحاب الشركات والمؤسسات -مثلاً- من يشعر بالشفقة نحو عماله إلى حد أنه إن أكل أكلاً لذيذاً أو لبس لباساً نظيفاً، يتمنَّى مثل ذلك لعماله ولو أمنية بالقلب إلا من رحم الله؟!

هؤلاء قوم لم يكونوا يتخطون أقرباءهم ولا جيرانهم ولا من حولهم من المجتمع، إلى من ورائهم، وهم إنما يتخطونهم بالخير والهدى والنور، ولكن نورهم وعلمهم شمل تلامذتهم، وجيرانهم، ومجتمعاتهم، وشمل حكامهم ومحكوميهم، حتى أصبحت حياتهم كلها خيراً ويمناً وبركة...!

الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تستوقفه المرأة العجوز في الطريق فيتنحَّى لها، ويقف ويستمع حتى يقضي حاجتها، ثم ينصرف.

رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجلس، وتأتي إليه المرأة تجادله في زوجها، وينزل الوحي من السماء: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا [المجادلة:1].

انظروا! إلى هذا الاهتمام بأحوال الناس، وبواقع حياة الناس، لكي يأخذ بأيديهم صلوات الله وسلامه عليه إلى الطريق القويم، وربه تبارك وتعالى من فوق عرشه العظيم يوحي إليه ويسدده ويوجهه ويبارك خطواته وأعماله وأقواله، وهكذا كان أصحابه الكرام.

الصحابة والقيام بالحقوق

كيف عاش عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟

هل عاش عمر بن الخطاب لنفسه أو لأهله؟

لا! أمَّا ما بين العبد وربه، فقد قاموا بحق الله -تبارك وتعالى- خير قيام.

وحسبهم أن يثني الله -تبارك وتعالى- عليهم: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة:100]، وغير ذلك من الثناء: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29]

وهكذا أثنى الله تعالى عليهم، وزكَّاهم فيما بينهم وبينه، وما بينهم وبين غيرهم من الناس، لذلك نقول: عبادتهم لله قمة لم نصل إليها، لكن كيف كانوا في معاملتهم لعامة الخلق؟!

كيف كان عمر رضي الله عنه مع الأرملة؟!

كيف كان مع العجوز؟!

كيف كان مع الذمي الذي يراه هرماً كبيراً؟

فيقول: [[ما أنصفناك أخذنا منك الجزية شاباً وتركناك كهلاً]] فيصرف له من بيت المال ما يكفيه..!

وحتى العلماء والصالحون كان تعاملهم بالبر، وكان الواحد منهم مع شدة حاجته وما يعتريه من العوز، يتصدق بالصدقة يعطيها أخاه، فيأخذها الأخ فيعطيها أخاه، فيأخذها الآخر فيعطيها أخاه،فلا يدري الأول إلا وقد رجعت إليه، ومن كثرة تعاونهم حققوا قول الله تبارك وتعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2].

حققوا معنى الأخوة الإيمانية، وكما كانت بعثته صلوات الله وسلامه عليه، ودينه رحمة للعالمين، كانت حياتهم وأخلاقهم وتعاملهم رحمة للعالمين!

نحن نجد اليوم أن المجتمعات في هذه الأرض، وفي هذا العالم المزدحم بالأمواج من الفتن والآراء والأهواء والنظريات والفلسفات، على فريقين:

الفريق الأول: مجتمعات أو أمم تهضم حق الفرد، فلا ترى للفرد حقاً ولا تكاد تقيم له وزناً، وهي الدول العقائدية، أو الدول التي قامت على نظريات فلسفية منذ القدم، منذ أن نَظَّر أفلاطون لجمهوريته، وإلى الماركسيين المعاصرين في كثير من دول العالم، وكذلك الحكومات القومية في العالم الإسلامي وغيره، هذه كلها مجتمعات تجحف حق الفرد وتتناساه، وتربي الناس على حق الأمة وواجب الأمة وما ينبغي للأمة.

الفريق الثاني: المجتمعات الرأسمالية، وهي إنما تنزع إلى إحياء وبعث وتعميق النزعة الفردية، فالحق عندهم للفرد، ولا ينظرون إلى المجتمع إنما المهم هو الفرد والإنسان في ذاته.

وهذا -أصلاً- موجود في الفطرة فالإنسانية، الإنسان محببٌ إليه أن يسعى وأن يعمل لذاته وحدها، ولكنَّ ذلك أُصِّل وفق نظريات ومناهج في العالم الغربي الرأسمالي منذ أيام الرأسماليين الأوائل مثل آدم إلى ريكاردو وإلى الآن.

فإن الواقع الذي تعيشه الامبراطوريات المالية -كما يسمونها في العالم الغربي- نجد أفراداً أو قلة قليلة تتحكم في أكثر من ثلثي أو ثلاثة أرباع ثروة المجتمع ومُقدراته وإعلامه ورأيه وفكره.

وهكذا نجد أن الظلم الذي نجده في أنفسنا نحن المسلمين أو الجانب الذي نحاول أن نحاربه في أنفسنا ونشعر به، نجد أنه على مستوى العالم الآخر يكون كأشد ما تكون حالات الظلم وضوحاً وتجلياً، وما ذلك إلا للانحراف عن هدى الله، ومنهجه -تبارك وتعالى- الذي أنزل علينا الكتاب مفصَلاً، والذي تمت كلماته صدقاً وعدلاً، والذي أعطى كل ذي حق حقه، فلا يجور الفرد على المجتمع، ولا يجور المجتمع على الفرد، وإنما لكل منهم حقه المشروع، فلا تتصادم الحقوق ولا تتعارض، ولكن تنسجم وتتلاءم، وكلها فيما يرضي الله -تبارك وتعالى- فينال كل ذي حق حقه بالقسط، دون أن يحيف أو يجور في حالة من الحالات.

نرجع إلى أصل قضيتنا: وهو أنه لا بد للواحد منا -والمقصود بالمسلم عندما نقول: "واجب المسلم" نحن طلبة العلم خاصة- أن يتذكر دائماً أن لهذا المجتمع حقاً علينا، أن المجتمع الذي تعيش فيه سواء كان مجتمع الحي الذي تقطنه، أو القرية التي تسكن فيها، أو المدينة التي تعيش فيها، أو البلد أو الأمة بأكملها، فإن عليك حقوقاً وواجبات تجاهها لا بد أن تُفكِّر فيها، وأن تعمل على أدائها بما يعينك به الله تبارك وتعالى.

وهذه الحقوق لا نستطيع أن نستعرض كل ما جاء فيها من نصوص وأحكام، فهي كثيرة جداً، لكن لابد أن نعلم -جميعاً- القاعدة التي تعلَّمناها من خلال اطلاعنا ومعرفتنا بالمصطلحات والألفاظ في البيان القرآني، أو في البيان النبوي، أن هناك جملة من الألفاظ والمصطلحات والمفردات، وإن تنوعت دلالتها عند الاقتران، فإنها لا تختلف عند الإفراد، مثل: البر، والتقوى، والخير، والهدى، والصلاح وأشباه ذلك، فإنها تُؤدي -جميعاً- إلى حقيقة واحدة ومؤدى واحد، وهذا من بلاغة البيان القرآني والبيان النبوي، وسمو وجمال اللغة العربية التي اختارها الله تبارك وتعالى، لتكون أداة لحمل هذا الدين، ولله الحمد.

يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جانب المعاملة وجانب الحقوق: {الدين النصيحة} انظروا! كيف كانت الجملة! مبتدأ وخبر، مسند إليه ومسند، بأبلغ وأوجز ما يمكن من العبارات، ولكن ذلك يشمل الدين كله، والخير كله، والبر كله، ولهذا لما قال أصحابه صلوات الله وسلامه عليه وعليهم جميعاً: لمن يا رسول الله؟ قال: {لله ولرسوله ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم} أي: وكأن الدين كله تجمعه كلمة واحدة، وهي كلمة النصيحة، فلا بد أن يكون المسلم ناصحاً.

والنصيحة تجمع أمرين: تجمع الإخلاص، وتجمع الصدق، فكأنك بهذه الكلمة تقول: كن مخلصاً وكن صادقاً، فإن الرجل إذا نصحك، ولو كان كلامه، وتوجيهه وإرشاده لك حقاً، ولكن لم يكن عن إخلاص، فإنه لا يُسمى ناصحاً، وكذلك لو كان مخلصاً في قوله، ولكن لم يكن صادقاً فإنه لا يُسمَّى ناصحاً.

فحقيقة النصيحة ما يجمع معنيين: الإخلاص والصدق، ولهذا قال الرسل الكرام: وَأَنْصَحُ لَكُمْ [الأعراف:62] وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ [الأعراف:68] فكأن عمل الدعاة يتلخص في أن الواحد منا يجب أن يكون ناصحاً أميناً، ينصح لهذه الأمة، كما بيَّن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ينصح لله أولاً، ولكتاب الله تبارك وتعالى، ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم للأمة خاصتها وعامتها، فلا بد أن يسأل الإنسان نفسه عن ذلك: هل أنا ناصح فعلاً؟

وهل نصحت؟

وهل قمت بهذا الواجب؟

هذه أسئلة لا بد للإنسان منا أن يتأملها مع نفسه ومع إخوانه في الله، لينظر ما موقعه من هذا الحديث الشريف العظيم، الذي هو من جوامع كلمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور سفر الحوالي - عنوان الحلقة اسٌتمع
المناهج 2599 استماع
(قاعدة أهل السنة في معاملة الأمة) لابن تيمية 2575 استماع
العبر من الحروب الصليبية 2508 استماع
محبة الرسول صلى الله عليه وسلم 2462 استماع
إبلاغ الأمة بكيفية محبة الرسول 2350 استماع
العبر من الحروب الصليبية [1، 2] 2276 استماع
من أعمال القلوب: (الإخلاص) 2265 استماع
الممتاز في شرح بيان ابن باز 2250 استماع
خصائص أهل السنة والجماعة 2197 استماع
الشباب مسئولية من؟ 2166 استماع