خطب ومحاضرات
ذنوب العباد بين الكبائر والصغائر [2]
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بك اللهم من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه، ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فلا زلنا في الحديث عن هذه الكلمات الخيرات في فقه التربية -أو كما أحب أن أسميه فقه التزكية- لأن الله سبحانه وتعالى سماها تزكية حيث قال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9].
هذه الكلمات التي جاء بها الشارح رحمه الله تعالى، نحتاجها جميعاً، ونحن طلبة العلم قد نكون أحوج ما نكون إليها، ثم ننقلها ونعلمها إلى غيرنا من العامة، وهي من قوله: (ولكن ثمة أمر ينبغي التفطن له). وقد تعرضنا لشرحها، وقلنا: إن بعض الذنوب والمعاصي التي يقع فيها العبد ربما تكون سبباً في تغيير خط حياته بالكلية، وتحوله من طريق الضلالة والغواية والفجور إلى طريق السنة والهداية والتقوى.
وذكرنا على ذلك أمثلة ونماذج مما ثبت وصح، ومما ذكره العلماء -أيضاً- من أخبار التائبين من كتاب: التوابين للإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى في بيان فضل وأثر اقتران الذنب بالحياء والخوف إن وقع من العبد، كما ذكر الشيخ هنا، من أن الكبيرة قد يقترن بها من الحياء والخوف والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر، وبخلاف ذلك وضده تماماً، الصغيرة التي يقترن بها من قلة الحياء، وعدم المبالاة والاهتمام بها ما يلحقها بالكبائر. نسأل الله العفو والعافية.
ثم أن قال رحمه الله: (وهذا أمر مرجعه إلى ما يقوم بالقلب، وهو قدر زائد على مجرد الفعل). وهذه حقيقة عظمى من حقائق الإيمان؛ ولهذا يجب أن نعلم جميعاً أن أعمال القلوب هي الأفضل وهي الأساس، وهي أصل كل الأعمال، أما أعمال الجوارح فقد يشترك فيها الناس، ومع ذلك فهم متفاوتون في أعمال القلوب.
ومن أوضح الأمثلة على ذلك: الصلاة. حيث يقف الناس جميعاً خلف الإمام، ولكن بين هذا وهذا في الأجر والمنزلة والدرجة والثواب الشيء الكثير والبون الشاسع جداً؛ وذلك بأعمال القلوب، فأما أعمال الجوارح فقد يكونوا كرجل واحد في متابعة الإمام، لكن تجد هذا يصلي بخشوع وحضور قلب واطمئنان، وتأمل وتدبر، وتفكر في آيات الله تبارك وتعالى المقروءة، فهذا حاله غير حال ذلك الذي يصلي بلا حضور قلب وبلا خشوع واطمئنان، بل ربما كان أقل بكثير جداً.
وكذلك الحال في الجهاد، فليس الجهاد بكثرة الإبلاء في العدو، وكثرة القتل فيهم، ولكنه بالإخلاص وبصدق النية مع الله سبحانه وتعالى، وإن كان حال المرء كما قال صلوات الله وسلامه عليه: (إن كان في الساقة كان في الساقة، وإن كان في الحراسة كان في الحراسة) لا يبالي في أي موقع كان.
وكذلك الصدقة والنفقة، فليست العبرة بكثرتها ولا بمظهرها، ولكنها بحقيقة إيمان صحابها وصدق يقينه، وإخلاصه وتجرده عن الدنيا، وبذله ما أعطاه الله وجعله مستخلفاً فيه في سبيل الله، ولهذا قال صلوات الله وسلامه عليه: (سبق درهم ألف درهم) فدرهم يتصدق به الإنسان وهو صحيح شحيح يخشى الفقر ويرجو الغنى، وقد لا يكون لديه فضل مال غيره خير من ألف درهم، بل خير من آلاف الآلف إذا كانت تعطى من غير نية صادقة، خالصة لله، ومن غير هذه الصفات التي اجتمعت في الأول، والناس في ذلك متفاوتون على مراتب ودرجات.
فأعمال القلوب كما قال رحمه الله: (هذا قدر زائد على مجرد الفعل، والإنسان يعرف ذلك من نفسه وغيره).
ثم قال: (وأيضاً: فإنه قد يعفى لصاحب الإحسان العظيم ما لا يعفى لغيره).
وهذا أمر آخر فالقضية إذاً ليست قضية ذنوب أو معاصٍ ارتكبت، أو حرمات انتهكت -هذه تقع- لكن وقوعها من شخص غير وقوعها من آخر. وهذا أيضاً أمرٌ آخر، ومقامٌ آخر من المقامات التي نعرف بها اختلاف الناس في ذلك؛ فبعض الناس -كما أشرنا- ذنبه قد يكون سبباً لهدايته، ويكون حال التائب من هذا الذنب أفضل من حال ذلك المطيع المستقيم الذي قد يدل ويعجب بطاعته -هذه حالة-.
الحالة الأخرى: أن وقوع الذنب من هذا غير وقوعه من ذاك، وهذا كثيراً ما يغفل عنه بعض الناس، فإذا رأى أن أحداً من أئمة هذا الدين -قد يكون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من دونهم- يقول: أليس من الصحابة من فعل كذا وكذا، فأنا أفعل مثله، ونسي هذا المسكين أن البحر العظيم المتلاطم من الحسنات مهما ألقي فيه من النجاسات لا تضره، وأما ذلك المسكين الذي ليس لديه إلا إناء صغير، فإن أقل قذارة أو نجاسة تنجسه كله، فقارن حاله بحال غيره في المعصية فقط.
قال بعض الصحابة: إن الربا نوع واحد، وبعضهم يقول: إن بعض العلماء أباح الغناء، واستماع الصوت مثلاً، وقال الآخر: إن بعض العلماء أجاز النبيذ أو شيئاً من ذلك، فهذه رخص العلماء... التي هي مخالفة للدليل الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال العلماء: من تتبع رخص العلماء تزندق؛ لأنه يجمع الرخص من هنا ومن هنا فيخرج وقد أصبح زنديقاً والعياذ بالله.
فلو اتبع كل واحد من الناس ما ترخص فيه بعض الأكابر والفضلاء لما بقي له من الدين شيء، فكيف يقرن الضعيف المسكين -الذي لا فضل له ولا جهاد ولا سابقة- نفسه بعمل أولئك؟ بل حتى بين الأكابر والفضلاء أنفسهم يكون التفاوت بينهم، والعقوبة والمؤاخذة بحسب ودرجاتهم وفضلهم.
هذا الكلام بنصه من قوله: (ولكن... إلى: وغيره)، منقول من مدارج السالكين، الجزء الأول (صفحة 328)، وعقب هذا الكلام يأتي شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله بكلام لشيخه الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى؛ ليدلل به على كلامه المذكور؛ فيقول: (وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: انظر إلى موسى صلوات الله وسلامه عليه...) يدلل على أن الذنب من هذا غير الذنب من ذاك، وهذا بين الأنبياء فكيف بمن كان صحابياً أو تابعياً، أو كان له عند الله تعالى منزلة، ويأتي من لا قيمة له فيجعل نفسه مثله، فالتفاوت بين هذا وهذا أعظم.
من مواقف موسى عليه السلام
كيف لو بدرت هذه الأعمال من أحد؟! لو أن أحداً ألقى كلام الله، والله سبحانه وتعالى إنما أوحى إلى موسى أنه سيكرمه ويصطفيه: وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا [الأعراف:155] وذهب صلوات الله وسلامه عليه وعلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى حيث أراد الله سبحانه وتعالى، وصعد إلى الجبل، وكلمه الله تبارك وتعالى، وأوحى إليه الكتاب الذي هو التوراة، التي جعلها الله سبحانه وتعالى فاصلاً ومعلماً عظيماً بين عهدين كبيرين من عهود التاريخ الإنساني.
هذان العهدان كما قال بعض الصحابة رضوان الله تعالى عليهم هما: العهد الأول: عهد إهلاك الأمم، وقد أهلكت الأمم، ولم يكن لله تبارك وتعالى كتاب باقٍ محفوظ، فقد أنزلت الصحف على إبراهيم عليه السلام ولكنها لم تبق -كما تعلمون- وأما ما أنزله الله تبارك وتعالى على داود، وهو الزبور: وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً [النساء:163] فإنما نزل بعد التوراة، لكن التوراة بنزولها: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى [القصص:43]، أي: القرون التي قبل التوراة، أما من بعد أن أنزل الله تبارك وتعالى التوراة فإنه لم يهلك أمة بأكملها من الأرض، وهذه مرحلة عظيمة جداً لهذا الكتاب؛ ولهذا فإن فرعون أهلك قبل نزول التوراة؛ لأنه أهلك أثناء خروج موسى عليه السلام وقومه من مصر ، فلما أن عبروا البحر إلى الصحراء، فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف:138] وكانت القصة.
ثم كانت دعوتهم إلى دخول الأرض المقدسة، ثم قولهم: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24] ثم ضرب عليهم التيه أربعين سنة يتيهون في الأرض -عياذاً بالله-، وفي جبل الطور أوحى الله تبارك وتعالى إلى موسى صلوات الله وسلامه عليه، وألقى إليه هذه الألواح -هذا الكتاب العظيم: التوراة-.
ومع ذلك لما عاد إلى بني إسرائيل، لم يكن يعلم أن الله قد فتن قومه من بعده، فلما علم بذلك ألقى الألواح من شدة الغضب، وأخذ برأس أخيه يجره إليه، ولا شيء في الدنيا أعظم وأفضل من تلك الألواح؛ لأنها كلام الله، وكتاب الله عز وجل الذي أعطاه.
محاجة آدم لموسى عليهما السلام
كل منهما يعرف قيمة الآخر، والكرام يعاتبون بما فيهم من خلال الخير، أنت يا فلان، أنت طالب العلم الذي كذا وكذا تفعل كذا، ويذكر ما يعلم من فضائله ومن محاسنه.
رمي الألواح ومعاقبة هارون عليه السلام
الشاهد: أن ذلك وقع من نبي الله صلوات الله وسلامه عليه، وأيضاً فإنه جر لحية نبي مثله، جعله الله وزيراً ونصيراً ومعيناً، وأفصح منه لساناً، وقام معه في الدعوة، وعادة الكرام وطبعهم أن من صحبك وعاشرك وأعانك أنك لا تسيء إليه، لكنه صلوات الله وسلامه عليه من أفضل الكرام، وما خالف طبعهم، لكنه في الغضب لله عز وجل هانت عنده هذه الأمور، نسي الألواح، ونسي قدر أخيه؛ غضباً لذات الله سبحانه وتعالى وجهاداً فيه.
وأما عين ملك الموت فإنما لطمها بناءً على هذا.
موقف موسى مع فرعون عليه السلام
له مقامات ومواقف، من الذي استطاع أن يقف أمام فرعون الذي ادعى الألوهية فقال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] وادعى الربوبية: أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى [النازعات:24] وقال: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف:51] أعوذ بالله، لم يتجرأ أحد على التلفظ بمثل هذا، وبهذه القوة والعناد؛ ولهذا ما تحدث الله تبارك وتعالى عن عدو من أعدائه كما أخبر وقص علينا من خبر فرعون، نسأل الله العفو والعافية.
مع هذا الطغيان، فإن أمة القبط كانت خانعة وخاضعة له، وأما بنو إسرائيل فهم عبيد عند الأقباط، يستضعفونهم، ويستحيون نساءهم، ويذبحون ويقتلون أبناءهم، فليس لهم أي قيمة؛ فيأتي هذا الرجل -موسى عليه السلام- وهو وحده، إلا أن الله تعالى جعل معه أخاه هارون وزيراً، ويواجه هذا المجرم ويناظره ويجادله، ثم يبلغ به من قوة إيمانه ويقينه وتوكله على ربه، وثقته بما يوحي إليه أن يقول: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى [طه:59] يطلب أن يكون في يوم العيد، وأن يجتمع الناس جميعاً، وأن يروا أأنا على الحق أم أنت يا فرعون؟!
وهذه لا يصبر عليها ولا يطيقها إلا من كانت ثقته وقوة إيمانه بالله سبحانه وتعالى ويقينه قوياً، ثم تكون له الغلبة والنصر!
موسى عليه السلام مع أمته
يعطيهم الله سبحانه وتعالى من النعم، كما أعطاهم المن والسلوى، وكما أنجاهم من آل فرعون بعدما كانوا يفعلون بهم ما يفعلون، وقبل تبارك وتعالى توبتهم لما عبدوا العجل، ولما نتق فوقهم الجبل وتابوا رفع العذاب عنهم، وطلبوا ما هو أردأ، استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير؛ حتى بلغ بهم أنهم يقتلون الأنبياء بغير حق.
أي أمة أعتى وأشد في الكفر والجحود والعناد من هذه الأمة؟!
كتاب الله بين أيديهم، حرفوه وبدلوه، وافتروا على الله تبارك وتعالى الكذب، ويكتبون الكتاب بأيدهم ويقولون هذا من عند الله وما هو من عند الله، يأكلون بهذا الكتاب ثمناً قليلاً، يأكلون السحت والربا، قالوا في مريم وعيسى بهتاناً عظيما، قالوا في محمد صلى الله عليه وسلم إفكاً مبيناً.
ماذا تعدد من ذنوبهم؟!
إن الذي عالج هذا وتعب منه أشد التعب والمعاناة هو نبي الله تعالى موسى؛ فقد أخبر الله عنه فقال: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة:21] أي: أن النصر مضمون، ادخلوا، ولكنهم ردوا عليه: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24] أعوذ بالله أهذا يقوله مؤمن بالله سبحانه وتعالى؟!
كلما يأمرهم بأمر أو ينهاهم يبدلوه؛ حتى أنه لما قيل لهم: ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ [البقرة:58]، قالوا: حنطة، استهزاء وسخرية، فهذه الأمة عالج منها صلوات الله وسلامه عليه ما عالج، وتعب، وبذل ما بذل، من أجل أن تهتدي للحق.
فصبره مع فرعون، ومع هذه الأمة، ويقينه بالله الذي ما فارقه، لما أمره الله تبارك وتعالى وبني إسرائيل أن يخرجوا؛ فخرجوا وأتبعهم فرعون بجنوده، فلما رأوا الماء أمامهم، قالوا: ما الحل؟ الآن العدو بجيشه وجبروته من وراء والبحر من أمام.. أين المفر؟ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61] أمة لا يقين لها في الله: قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62] هذا اليقين لا يأتي لكل إنسان، فكثير من القلوب تهتز وتضعف، وتتزلزل وتنهزم، وتبدأ تفكر كيف تنسحب وتستسلم وتعتذر، ولكنه قال: كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62] ثقة بالله سبحانه وتعالى.
وغيرها من المواقف العظيمة لهذا النبي صلوات الله وسلامه عليه تذكرنا بمواقف أفضل رسل الله سبحانه وتعالى، وأكثرهم جهاداً في ذات الله محمد صلى الله عليه وسلم من بعده.
موسى عليه السلام يعاتب ربه
هذا شيء لا يقوله أحد إلا من كان لديه من القرب من الله عز وجل ما يجعله يقول مثل هذا الكلام ويعاتب ربه ويقول مثلما قال.
يقول: (ومع ذلك فإن ربه تبارك وتعالى يحتمل له ذلك كله، ويحبه ويكرمه ويدللـه). هذه العبارة التي علق عليها الشيخ، وهي بيان أن هذا الإكرام له منزلة خاصة عنده، ولم يصف الله سبحانه وتعالى، أو يجعل من أسماء الله سبحانه وتعالى اسماً زائداً، وإنما هو تعبير.
ويكفي أن نعلم أن الله سبحانه وتعالى يكرمه ويعطيه ما يريد، ويسارع في هواه، ولا يؤاخذه بهذه الأعمال رغم أنها مخالفة لما كان ينبغي أن يكون، كما وضحنا في حديث محاجته لأبيه آدم لما أن رآه وتقابلا.
الصحيح أنهما تقابلا ولكن... أين؟
أولاً: هل نقول إن القصة هذه إخبار عما سيقع، أو نقول وقعت؟ الصحيح أنها وقعت؛ لأن ظاهر اللفظ أنهما تحاجا، فالمحاجة قد وقعت.
والأمر الآخر أنهما التقيا في دار البرزخ، وهذا ليس بغريب؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم في معراجه قابلهما وسلم عليهما، وغيرهما من الأنبياء كيحيى وعيسى وإبراهيم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فهذا لا غرابة فيه، فلما حصل بينهما اللقاء عاتب موسى عليه السلام أباه آدم عليه السلام.
يا موسى! ما مضى مضى، أكل أبوك آدم من الشجرة، وغفر الله تبارك وتعالى له وتاب عليه، ثم جئت من بعده، وأنت الآن في جنة البرزخ، أنت الآن فيها، فما وجه المحاجة والمخاصمة؟
محاجته ومخاصمته كانت في ذات الله عز وجل، هو في عالم الآخرة -أو البرزخ- كما هو في عالم الدنيا، لا يقبل المخالفة أبداً؛ ولهذا قال له: خيبتنا، وأخرجتنا من الجنة، كيف يحصل هذا منك؟ مع أنه قد قضي؛ فكان الرد من الأب على الابن: (يا موسى! أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، وخط لك التوراة بيده، ألست تقرأ فيها أنه كتب علي أن يخرجني منها قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى، فحج آدم موسى، فحج آدم موسى -ثلاثاً-) حجه: أي: غلبه بالحجة، وهي قوله: كتب الله علي أني أخرج منها قبل أن أدخلها بأربعين سنة، وهذه -والله أعلم- هي الواردة في قوله تبارك وتعالى: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً [الإنسان:1] هذه الأربعين سنة، بين خلقه له وبين نفخ الروح فيه.
نعم الإخراج من الجنة بسبب الذنب له حكمة عظيمة عند الله سبحانه وتعالى؛ حتى يعرف بنو آدم خطر الذنوب والمعاصي وإن هانت أو قلَّت، وأن يعرف الإنسان عدوه الشيطان الرجيم فلا يطيعه أبداً، هذا عدوك الذي أخرجك من الجنة، وأخرج أبويك، إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6].
لا يقول الإنسان: هذه معصية صغيرة، وذنب بسيط، أحل الله له كل شجر الجنة إلا شجرة واحدة محرمة، فأكل منها طمعاً في الخلود وتغريراً من الشيطان، لاسيما إذا اقترن بذلك الإيمان المغلظة: وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف:21] .
وبعض الناس والعياذ بالله من أجل العافية، والراحة، وطول العمر، تجده يقول لك: هناك ولي -لا يقولون: كاهن- من السادة إذا ذهبت عنده أعطاك بعض الأعشاب فلا يصيبك سرطان ولا مرض... وطوّل العمر، ويجعل الشايب يعود شباباً.
ما هي القضية وكيف يصنع؟! يكتب وحرزاً تحفظه، وحاجات تمحوها وتشربها.
هذا سببه حب الخلود، فهو شايب يريد أن يعود شباباً، ويتزوج امرأة شابة، فيقول: والله هذه فرصة، وما هذه إلا خدعة الشيطان اللعين، فأول الأمر يخدعك به، ثم تذهب إليه فتصدقه بما يقول، ثم تكون النتيجة: (من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد) النتيجة: الكفر والعياذ بالله.
يقول: (انظر إلى موسى صلوات الله وسلامه عليه، رمى الألواح التي فيها كلام الله الذي كتبه بيده فكسرها، وجر بلحية نبي مثله) وهو هارون، أخذ بلحية أخيه ولهذا قال: لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي [طه:94] إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي [الأعراف:150]، (ولطم عين ملك الموت ففقأها) والحديث في الصحيح، لطم عين ملك الموت وقد جاءه بالحق، والله سبحان وتعالى إنما يبعثه ويرسله بالحق، ولا مناص ولا فكاك لأحد من الموت، ولكن نبي الله تبارك وتعالى موسى يلطمه، يقول: (وعاتب ربه ليلة الإسراء في محمد صلى الله عليه وسلم ورفعه عليه).
كيف لو بدرت هذه الأعمال من أحد؟! لو أن أحداً ألقى كلام الله، والله سبحانه وتعالى إنما أوحى إلى موسى أنه سيكرمه ويصطفيه: وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا [الأعراف:155] وذهب صلوات الله وسلامه عليه وعلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى حيث أراد الله سبحانه وتعالى، وصعد إلى الجبل، وكلمه الله تبارك وتعالى، وأوحى إليه الكتاب الذي هو التوراة، التي جعلها الله سبحانه وتعالى فاصلاً ومعلماً عظيماً بين عهدين كبيرين من عهود التاريخ الإنساني.
هذان العهدان كما قال بعض الصحابة رضوان الله تعالى عليهم هما: العهد الأول: عهد إهلاك الأمم، وقد أهلكت الأمم، ولم يكن لله تبارك وتعالى كتاب باقٍ محفوظ، فقد أنزلت الصحف على إبراهيم عليه السلام ولكنها لم تبق -كما تعلمون- وأما ما أنزله الله تبارك وتعالى على داود، وهو الزبور: وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً [النساء:163] فإنما نزل بعد التوراة، لكن التوراة بنزولها: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى [القصص:43]، أي: القرون التي قبل التوراة، أما من بعد أن أنزل الله تبارك وتعالى التوراة فإنه لم يهلك أمة بأكملها من الأرض، وهذه مرحلة عظيمة جداً لهذا الكتاب؛ ولهذا فإن فرعون أهلك قبل نزول التوراة؛ لأنه أهلك أثناء خروج موسى عليه السلام وقومه من مصر ، فلما أن عبروا البحر إلى الصحراء، فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف:138] وكانت القصة.
ثم كانت دعوتهم إلى دخول الأرض المقدسة، ثم قولهم: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24] ثم ضرب عليهم التيه أربعين سنة يتيهون في الأرض -عياذاً بالله-، وفي جبل الطور أوحى الله تبارك وتعالى إلى موسى صلوات الله وسلامه عليه، وألقى إليه هذه الألواح -هذا الكتاب العظيم: التوراة-.
ومع ذلك لما عاد إلى بني إسرائيل، لم يكن يعلم أن الله قد فتن قومه من بعده، فلما علم بذلك ألقى الألواح من شدة الغضب، وأخذ برأس أخيه يجره إليه، ولا شيء في الدنيا أعظم وأفضل من تلك الألواح؛ لأنها كلام الله، وكتاب الله عز وجل الذي أعطاه.
ثبت في الصحيحين حديث محاجة ومخاصمة موسى وآدم عليهما السلام، وأول الخصومة من موسى، -وهذا مما يؤخذ ضمن الشواهد هنا- أن موسى صلوات الله وسلامه عليه قال: (أنت آدم الذي خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته؟ خيبتنا وأخرجتنا من الجنة -بهذه القوة يعاتب أباه-. فأجابه آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته، وبكلامه، وخط لك التوراة بيده؟!)
كل منهما يعرف قيمة الآخر، والكرام يعاتبون بما فيهم من خلال الخير، أنت يا فلان، أنت طالب العلم الذي كذا وكذا تفعل كذا، ويذكر ما يعلم من فضائله ومن محاسنه.
لو أن أحد الآن ألقى المصحف على سبيل الإهانة له لكان كفراً بلا ريب، لكن أين هذا الفعل من فعل نبي الله تبارك وتعالى موسى، فعله موسى صلوات الله وسلامه عليه غضباً لله، ألقاها لأنه لم يعد يملك نفسه؛ ألقاها ليعاقب أخاه توهماً أنه هو السبب الذي أتاح لهم ذلك، لم لم تلحقني وتخبرني وتقول لي، وبين هارون عليه السلام له عذره: إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [طه:94] كل له اجتهاد.
الشاهد: أن ذلك وقع من نبي الله صلوات الله وسلامه عليه، وأيضاً فإنه جر لحية نبي مثله، جعله الله وزيراً ونصيراً ومعيناً، وأفصح منه لساناً، وقام معه في الدعوة، وعادة الكرام وطبعهم أن من صحبك وعاشرك وأعانك أنك لا تسيء إليه، لكنه صلوات الله وسلامه عليه من أفضل الكرام، وما خالف طبعهم، لكنه في الغضب لله عز وجل هانت عنده هذه الأمور، نسي الألواح، ونسي قدر أخيه؛ غضباً لذات الله سبحانه وتعالى وجهاداً فيه.
وأما عين ملك الموت فإنما لطمها بناءً على هذا.
يقول الشيخ: (لأنه قام لله تلك المقامات العظيمة في مقابلة أعتى عدو له، وصدع بأمره، وعالج أمتي القبط وبني إسرائيل أشد المعالجة، فكانت هذه الأمور كالشعرة في البحر).
له مقامات ومواقف، من الذي استطاع أن يقف أمام فرعون الذي ادعى الألوهية فقال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] وادعى الربوبية: أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى [النازعات:24] وقال: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف:51] أعوذ بالله، لم يتجرأ أحد على التلفظ بمثل هذا، وبهذه القوة والعناد؛ ولهذا ما تحدث الله تبارك وتعالى عن عدو من أعدائه كما أخبر وقص علينا من خبر فرعون، نسأل الله العفو والعافية.
مع هذا الطغيان، فإن أمة القبط كانت خانعة وخاضعة له، وأما بنو إسرائيل فهم عبيد عند الأقباط، يستضعفونهم، ويستحيون نساءهم، ويذبحون ويقتلون أبناءهم، فليس لهم أي قيمة؛ فيأتي هذا الرجل -موسى عليه السلام- وهو وحده، إلا أن الله تعالى جعل معه أخاه هارون وزيراً، ويواجه هذا المجرم ويناظره ويجادله، ثم يبلغ به من قوة إيمانه ويقينه وتوكله على ربه، وثقته بما يوحي إليه أن يقول: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى [طه:59] يطلب أن يكون في يوم العيد، وأن يجتمع الناس جميعاً، وأن يروا أأنا على الحق أم أنت يا فرعون؟!
وهذه لا يصبر عليها ولا يطيقها إلا من كانت ثقته وقوة إيمانه بالله سبحانه وتعالى ويقينه قوياً، ثم تكون له الغلبة والنصر!
قد عالج عليه السلام ما عالج من أمر أولئك الأمة العتية الغضبية التي كتب الله سبحانه وتعالى عليها غضبه، وضرب عليها الخزي والذل أينما حلت وسارت، أمة بني إسرائيل العتاة، غلاظ الأكباد، عبدة الدرهم والدينار، هؤلاء الذين يرون آيات الله سبحانه وتعالى عياناً ثم ينكرونها، ويجحدون ويكابرون.
يعطيهم الله سبحانه وتعالى من النعم، كما أعطاهم المن والسلوى، وكما أنجاهم من آل فرعون بعدما كانوا يفعلون بهم ما يفعلون، وقبل تبارك وتعالى توبتهم لما عبدوا العجل، ولما نتق فوقهم الجبل وتابوا رفع العذاب عنهم، وطلبوا ما هو أردأ، استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير؛ حتى بلغ بهم أنهم يقتلون الأنبياء بغير حق.
أي أمة أعتى وأشد في الكفر والجحود والعناد من هذه الأمة؟!
كتاب الله بين أيديهم، حرفوه وبدلوه، وافتروا على الله تبارك وتعالى الكذب، ويكتبون الكتاب بأيدهم ويقولون هذا من عند الله وما هو من عند الله، يأكلون بهذا الكتاب ثمناً قليلاً، يأكلون السحت والربا، قالوا في مريم وعيسى بهتاناً عظيما، قالوا في محمد صلى الله عليه وسلم إفكاً مبيناً.
ماذا تعدد من ذنوبهم؟!
إن الذي عالج هذا وتعب منه أشد التعب والمعاناة هو نبي الله تعالى موسى؛ فقد أخبر الله عنه فقال: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة:21] أي: أن النصر مضمون، ادخلوا، ولكنهم ردوا عليه: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24] أعوذ بالله أهذا يقوله مؤمن بالله سبحانه وتعالى؟!
كلما يأمرهم بأمر أو ينهاهم يبدلوه؛ حتى أنه لما قيل لهم: ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ [البقرة:58]، قالوا: حنطة، استهزاء وسخرية، فهذه الأمة عالج منها صلوات الله وسلامه عليه ما عالج، وتعب، وبذل ما بذل، من أجل أن تهتدي للحق.
فصبره مع فرعون، ومع هذه الأمة، ويقينه بالله الذي ما فارقه، لما أمره الله تبارك وتعالى وبني إسرائيل أن يخرجوا؛ فخرجوا وأتبعهم فرعون بجنوده، فلما رأوا الماء أمامهم، قالوا: ما الحل؟ الآن العدو بجيشه وجبروته من وراء والبحر من أمام.. أين المفر؟ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61] أمة لا يقين لها في الله: قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62] هذا اليقين لا يأتي لكل إنسان، فكثير من القلوب تهتز وتضعف، وتتزلزل وتنهزم، وتبدأ تفكر كيف تنسحب وتستسلم وتعتذر، ولكنه قال: كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62] ثقة بالله سبحانه وتعالى.
وغيرها من المواقف العظيمة لهذا النبي صلوات الله وسلامه عليه تذكرنا بمواقف أفضل رسل الله سبحانه وتعالى، وأكثرهم جهاداً في ذات الله محمد صلى الله عليه وسلم من بعده.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور سفر الحوالي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
المناهج | 2598 استماع |
(قاعدة أهل السنة في معاملة الأمة) لابن تيمية | 2575 استماع |
العبر من الحروب الصليبية | 2509 استماع |
محبة الرسول صلى الله عليه وسلم | 2461 استماع |
إبلاغ الأمة بكيفية محبة الرسول | 2349 استماع |
من أعمال القلوب: (الإخلاص) | 2264 استماع |
العبر من الحروب الصليبية [1، 2] | 2261 استماع |
الممتاز في شرح بيان ابن باز | 2250 استماع |
خصائص أهل السنة والجماعة | 2198 استماع |
الشباب مسئولية من؟ | 2167 استماع |